الثلاثاء، 30 سبتمبر 2008

جماعة "السينما الثالثة" والتحليق فوق الواقع

لقطة من الفيلم الكوبي الذي كان يلهمنا "ذكريات التخلف"

* خصوصية النموذج الأمريكي في الحياة والسينما

* محاولة التأسيس لسينما ثورية في مناخ مضاد

بعد فشل محاولة العمل من خلال جماعة "سينما الغد"، جاءت في 1977- 1978 محاولة أخرى لتأسيس كيان سينمائي جديد تماما، يعتمد على أفكارنا ونظرتنا الخاصة في ذلك الوقت، للسينما والعالم. كانت تلك تجربة لم يقدر لها النجاح، مثل تجارب كثيرة خضناها معا في تلك السنوات الحبلى التي أجهضت، من أواخر السبعينيات، لكنها تستحق في تصوري، أن تروى لما لها من مغزى يصب في سياق عالم الثقافة السينمائية والسياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان سائدا في مصر في حقبة معينة. وقد أطلقنا على التجربة اسم "جماعة السينما الثالثة". وكانت متأثرة بفكرة "السينما الثالثة" التي اشتهرت في أوساط مثقفي اليسار في الستينيات في أوروبا وأمريكا.
وقد نشأت الفكرة والتجربة أصلا في أمريكا اللاتينية، وأنتجت تجاربها المبهرة التي وصل بعضها إلينا من خلال العروض التي كانت تنظم، إما داخل بعض المراكز الثقافية الأجنبية، أو خلال أسابيع الأفلام التي كانت تقام بالتعاون بين وزارة الثقافة، وبين دول كانت تعتبر "صديقة" مثل كوبا.
كانت الفكرة "الأصلية"، ثم فكرتنا التي تبنيناها بالكامل وعقدنا جلسات طويلة ومضنية لبحثها ودراستها والاختلاف حولها أيضا، تقوم ببساطة على أن هناك نوعين، أو مدرستين من السينما: هناك أولا السينما التقليدية التي تأتي من قلعة صناعة السينما في الولايات المتحدة أي هوليوود، وتنتشر وتسود وتسيطر على أذواق جمهور السينما في العالم. وهذه السينما تركت تأثيرها الكبير البارز على سينمات أخرى كثيرة في بلدان مختلفة رغم اختلاف الثقافات، مثل السينما الهندية في تيارها العريض مثلا، أو السينما المصرية (ربما حتى الوقت الحالي). فالنموذج الأمريكي مبهر في كل شئ: الصناعة والعلوم والتكنولوجيا والعمارة والاقتصاد، وبالتالي يجب أن تكون السينما الأمريكية (التقليدية) هي السينما الأكبر، والأعظم، والأهم، والنموذج الذي يجب ان يحتذى، وإلا فلن نحقق شيئا. وإذا كان الفيلم الأمريكي قد وصل إلى "العالمية" أي إلى أسواق العالم، فلن نصل مثله إلا إذا تبنينا فكره وأسسه.. هذه الأفكار تسيطر على الكثير من عقول المثقفين منذ بروز أمريكا ككقوة ضخمة بعد الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا.

النموذج الأمريكي
هذه النظرة تعكس انبهارا بالنموذج الأمريكي في الحضارة، رغم أنه نموذج شديد الخصوصية وغير قابل للتكرار في أي مكان آخر من العالم بحكم استحالة توفر نفس الشروط والمعطيات والظروف التاريخية والبشرية وغير ذلك من العوامل التي أدت إلى نشوء أمريكا كظاهرة أو كدولة حديثة "لها خصوصيتها الشديدة".
كان من الكتب المهمة التي تركت تأثيرها الكبير على تفكيري وأنا في مرحلة البحث والسعى إلى المعرفة، كتاب "العرب والنموذج الأمريكي" للدكتور فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس، ورئيس تحرير مجلة ثقافية مهمة قديمة هي مجلة "الفكر المعاصر". وكان الدكتور زكريا يشرح ويحدد بالتفصيل في كتابه هذا، وهو كتاب صغير الحجم، عظيم الفائدة، أسباب انبهار العرب تحديدا بالثقافة والحضارة الأمريكيتين، أو باختصار بالنموذج الأمريكي، ورغبتهم العنيدة بل والمستحيلة، في إعادة إنتاجه وتكراره. وكان يحلل استحالة تحقيق ذلك للأسباب العديدة التي قام بشرحها بإسهاب وقوة في كتابه هذا الذي لايزال يعد مرجعا لا غنى عنه في فهم "الظاهرة الأمريكية".
وكان الدكتور زكريا يشرح ويحلل ويدقق في تبيان كيف أن نشأة أمريكا نفسها، بثرواتها الطبيعة الهائلة، وتركيبتها السكانية، واعتمادها على الاحتكارات الهائلة والمشروع الفردي العملاق بديلا عن الدولة التقليدية، يجعلها نموذجا فريدا في العالم.
وقد عاد الكاتب محمد حسنين هيكل إلى شرح خصوصية أمريكا من زوايا أخرى في كتابه "الإمبراطورية الأمريكية" الذي يقول فيه بالحرف: إن "الولايات المتحدة حالة فريدة من نوعها من حيث النظام السياسي، فهي لم تتشكل كدولة مثل كل الدول، بل كمجموعة ولايات، الكثير منها كان عبارة عن شركات منذ القرن السابع عشر، تحولت الشركة إلى ولاية ووضعت لها قوانينها التي لا تختلف كثيراً عن قوانين الشركة، ثم اتحدت تلك الولايات لتشكل نظاما شق لنفسه تجربة جديدة ليعبر عن مصالح الولايات مجتمعة أو الشركات".
السينما الأولى
السينما الأولى إذن، أو النموذج الأمريكي في السينما هو نموذج له خصوصيته، لأنه يعتمد أولا على سوق هائلة متعددة الشركات، ترتبط معا بشبكة عملاقة من دور العرض السينمائي التي تشمل عددا من القاعات (أو الشاشات المستقلة المنفصلة) يبلغ في الوقت الحالي ما يقرب من أربعين ألف قاعة (38.794 قاعة عرض تحديدا) تمتلكها 10 شبكات كبرى، يبلغ معدل التردد عليها سنويا 1400 مليار تذكرة سينما، وبلغت حصيلة شباك التذاكر 9.629 مليار دولار (حسب إحصائيات عام 2007 التي نشرها الاتحاد الأمريكي لأصحاب دور العرض السينمائي، وهي متوفرة لمن يرغب في الاطلاع عليها).
ثانيا: سوق بهذا الحجم وهذه المداخيل المالية تتعامل مع الفيلم كما تتعامل مع منتج تجاري ضخم، ويمكنها الاستثمار فيه بميزانيات تصل إلى أكثر من 300 مليون دولار أحيانا للفيلم الواحد دون التخلي عن إنتاج أفلام أخرى موازية في خطة الشركات المنتجة، وتستطيع تحقيق النجاح التجاري الذي يكفل الاستمرار في الإنتاج. هذا الحجم من الاستثمارات لا يمكن لأي جهة أخرى في العالم أن تواكبه ناهيك عن أن تنافسه.
ثالثا: لا تكتفي السوق السينمائية الأمريكية فقط باستيعاب الأفلام، بل تستغل صناعة الأفلام لترويج للكثير من السلع الأخرى "الاستكمالية" أو الموازية، مثل الألعاب والدمي، وبرامج الكومبيوتر، وموسيقى الأفلام وأغانيها، والفانلات من نوع "تي شيرت"، والصور والملصقات، والمشروبات الخاصة.. وغير ذلك الكثير من السلع التي يدخل أيضا الإعلان التجاري فيها كاستثمار رئيسي.
رابعا: الفيلم الأمريكي يحقق مكاسبه أساسا من السوق الداخلي، أي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، سواء من التوزيع العام، أو من خلال المئات (إن لم يكن الآلاف حاليا) من محطات التليفزيون وشبكات "الكابل" والشبكات التي توزع عن طريق الانترنت، وبيع اسطوانات الديجيتال المعروفة بـ"الدي في دي" DVD التي حلت محل شرائط الفيديو. وقد أصبحت هذه السلع كلها أخيرا، صناعة ضخمة توازي بشكل ما، صناعة السينما نفسها، وكانت بالتالي أساس الإضراب الشهير للسينمائيين الأمريكيين وخصوصا كتاب السيناريو في أوائل عام 2008، الذين كانوا يطالبون بحصة من مداخيل العروض التي تتم من خلال هذه الوسائل الحديثة التي ظهرت مؤخرا ولم تنعكس في العقود الموقعة معهم بعد.
وأي مكاسب تتحقق للفيلم الأمريكي من الأسواق الخارجية، خاصة في اليابان وأوروبا وأمريكا الجنوبية، تمثل دخلا إضافيا، علما بأن حجم سوق الشرق الأوسط وشمال افريقيا بالنسبة للفيلم الأمريكي لا تتجاوز نسبة ضئيلة للغاية من حجم السوق العالمي، أساسا بسبب ندرة دور العرض السينمائي، وتدني قيمة العملات المحلية في البلدان غير النفطية، وهامشية سوق بلدان الخليج وضعفه الشديد بسبب بنيته السكانية الضعيفة والهجينة أيضا (نسبة كبيرة من الهنود الذين يفضلون مشاهدة الأفلام الهندية).
والسؤال هنا: أمام سوق أمريكية بهذه المواصفات، وبهذه المداخيل، وأمام آلية إنتاجية تتعامل مع الأفلام كما لو كانت تشيد مصانع للإنتاج بالجملة، هل من الممكن تكرار أو منافسة النموذج الأمريكي؟ ومن أين يمكن توفير المواد التي تكفل تحقيق تلك المواصفات؟ وهل يملك الرأسمال المصري، أو الأوروبي، أو حتى الياباني، إمكانيات هوليوود الضخمة: المالية والتكنولوجية والتسويقية التي تكفل له الاستمرار؟
فرناندو سولاناس في 2008

السينما الثانية
كان هذا عن "السينما الأولى" أو الأمريكية. أما "السينما الثانية" فهي السينما الأوروبية أو سينما الفن الرفيع التي تعتمد على رفض نظام النجوم الأمريكي، ورفض اعتبارالمخرج مجرد منفذ أو محرك لمجاميع من المنفذين، وبالتالي رفض فكرة أنه "حرفي" في ورشة، لا يملك ان يعكس على الفيلم "رؤيته" الخاصة، بل إن تجربته الشخصية لا قيمة لها طالما أن الفيلم أساسا، منتج تجاري يخضع لدراسات جدوى، ويراعى فيه تلبية أغراض ومتطلبات سوق ذي مواصفات معنية.

أما المخرج السينمائي في "السينما الثانية" فقد أصبح هو أساس الفيلم، عقله وروحه، واصبح الفيلم نتاجا لفكره ورؤيته مثل الرسام والموسيقار والشاعر، واصبح هو المسؤول عن معظم العمليات الفنية الأساسية: يتدخل في السيناريو إن لم يكتبه من الأصل، ولا يعتمد على أصل أدبي بل يكتب مباشرة للسينما، يتولى الإشراف على المونتاج على عكس ما يحدث في هوليوود حيث يسند المونتاج إلى "حرفيين منفذين" وتنتهي علاقة المخرج بالفيلم مع نهاية التصوير.
كانت هذه التقاليد سارية، على الأقل، عند ظهور فكرة "السينما الثالثة" في الستينيات. ولاشك أن هوليوود تطورت ولم تعد تعامل "كبار" مبدعيها طبقا للسياسة القديمة التي كانت تتبعها الاستديوهات الكبيرة، إلا أن نظام تقسيم العمل الصارم، ونظام "الأنواع" genres أي تقسيم الأفلام إلى أنواع لها مواصفات محددة يخضع الإنتاج لها ويلبيها ولا يمكن الخروج عنها في "شطحات" فلسفية وسرد غير مقولب لا يزال يحكم "فلسفة" هوليوود الإنتاجية. هذه التقيسمات أو التصنيفات تدور عادة حول تسميات مثل "الفيلم الحربي" و"الفيلم التاريخي" و"الفيلم العاطفي" وفيلم "الدراما الاجتماعية".. إلخ
بيان السينما الثالثة
استندت "السينما الثالثة" التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، في مناخ ثوري شديد الاختلاف عن المناخ السينمائي الشائع في الغرب، على رفض النموذجين السابقين: رفض النموذج الأول بدعوى أنه "نموذج للتسلية بهدف تحقيق الأرباح" يتوجه إلى جمهور سلبي من خلال قصص هروبية. وفي زاوية أخرى سياسية منه، نظر إليه باعتباره نموذجا للسينما "الكولونيالية" التي تكرس عبودية الإنسان للمال والكسب بأي ثمن ، وتبرر السيطرة والاستغلال والتوسع واستيلاء الكبير على ممتلكات الصغير. أما النموذج الثاني فقد رفضته السينما الثالثة باعتبار أنه يعلي من شأن التعبير الذاتي الفردي سعيا وراء خلق نموذج "بورجوازي" للسينما الفنية.

الصورة: فرناندو سولاناس في السيتنيات وكان وراء فكرة السينما الثالثة اثنان من السينمائيين من الأرجنتين هما فرناندو سولاناس وأوكتافيو جتينو. وهما اللذان نشرا ما اعتبر "مانيفستو" أو"بيان السينما الثالثة" في الستينيات تحت عنوان "نحو سينما ثالثة". وقد صدروه بعبارة مقتبسة من فرانز فانون تقول "يجب أن نناقش، يجب أن نبتكر". وقد رفضا في بيانهما كلا من السينما الهروبية (الأمريكية) وسينما الفن الأوروبية التي تقوم على التعبير الذاتي، وطرحا في مقابلهما سينما جديدة تقوم على تصوير تجارب الوعي الجمعي المشترك، وتعرية الحقائق والتحريض على رفض الواقع والسعي إلى تغييره.

الصورة: أوكتافيو جتينو
وقد دعا بيان "السينما الثالثة" أيضا إلى ضرورة خلق نظام جديد لتوزيع الأفلام وعرضها، يتخلص من الشبكات التقليدية في المدن، ويعتمد على المبادرات الجماعية وعلى البحث عن وسائل جديدة للعرض في الكنائس والمصانع والساحات الشعبية في القرى، وإشراك الجمهور في المخاطرة بحماية الأفلام التي يتم تهريبها خارج نظام الرقابة بإخراجها من دائرة العرض التقليدية.

(ملحوظة: بيان السينما الثالثة والبحث في جمالياتها منشور كاملا في كتاب "أفلام ومناهج" لبيل نيكولز الذي ترجمه حسين بيومي وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في 3 أجزاء).
ولكن ربما يكون مناسبا هنا أن أوضح ايضا أن السينما الثالثة ليس تعبيرا "جغرافيا" أي أنها ليست مرادفا لسينما العالم اللثلث، فقد توجد أفلام السينما الأولى في دول تنتمي إلى العالم الثالث، وقد توجد أفلام تنتمي للسنيما الثالثة في العالم الأول، والأمثلة كثيرة بالطبع. ولعل النموذج الأبرز الذي يأتي إلى ذهني الآن فيلما يتعلق بنماذج السينما الثالثة في مصر مثلا الأفلام التسجيلية الجريئة التي صنعتها عطيات الأبنودي. لكن يتعين الاستدراك بأن السينما الثالثة ليست سينما تسجيلية فقط بل وروائية بشكل أساسي.

السينما الجديدة
في مصر كانت "جماعة السينما الجديدة" التي تأسست في أواخر الستينيات، انعكاسا لمطالب أجيال من السينمائيين الذين درسوا السينما في معهد القاهرة للسينما وخرجوا لا يجدون فرصة للعمل. وكانت أيضا تلبية لطموحات عدد من هؤلاء ومن غيرهم الذين جاءوا من التليفزيون وغيره، يريدون تقديم أشكال جديدة وتجارب تتحرر من سطوة النجوم ومن تدخل المنتجين في الفيلم وتحديد عناصره. وكانت "السينما الجديدة" بهذا المعنى إلحاحا مهنيا من ناحية، ومحصلة، من ناحية أخرى، لعصر من الثقافة السينمائية انفتح كثيرا على التجارب السينمائية الجديدة في العالم مثل الموجة الجديدة في فرنسا، والسينما الحرة في بريطانيا، وسينما ألأندرجروند في الولايات المتحدة، وتجارب سينما أوروبا الشرقية.
وكانت تلك تجربتهم، وكان ذلك إسهامهم. أما نحن فلم نكن قد لحقنا بالسينما الجديدة التي حدث لها ما حدث للـ "الموجة الجديدة". فبعد التغيرات السياسية التي شهدتها مصر خلال السبعينيات، استوعب النظام السينمائي معظم فرسان السينما الجديدة الذي بدأوا بحماس في "تجديد" و"تلميع" السينما القديمة، فالتحق زعيم الجماعة محمد راضي مثلا بالآلية الإنتاجية للسينما "القديمة "، والتحق معه عدد كبير من فرسان الجماعة بعد أن تغير العصر ولم يعد على ما كان عليه، وانتهت تجربة مؤسسة السينما (الحكومية) التي كانت وراء تبني حركة السينما الجديدة.
أصبحت "السينما الجديدة" في أواخر السبعينيات "سينما قديمة" تبتكر في الأنماط والقوالب لكنها لا تهدمها، تماما كما كانت "الموجة الجديدة" قد أصبحت موجة قديمة جدا قبل أواخر السيتينيات بعد أن استوعبها النظام السينمائي في فرنسا ونجح في تقليص حجم طموحاتها واستخادمها في تجديد قوالب السنيما التقليدية نفسها. وكان لابد أن نفكر في شئ آخر.. حركة جديدة أخرى. وهنا جاءت فكرة "السينما الثالثة".
كان يقف وراء جماعة "السينما الثالثة" التي لم تكتب لها الولادة الطبيعية والحياة، أربعة اشخاص هم: فتحي فرج ومحمد كامل القليوبي، وأحمد قاسم، وأمير العمري (كاتب هذه السطور). ويستحق الثلاثة الأوائل أن أتوقف أمامهم وأقدمهم في عجالة سريعة للقارئ الصبور الذي يود أن يعرف، لأن لكل قصة شخصياتها، ولا يمكن فهم طبيعة أي حدث إلا بعد فهم طبيعة الأشخاص الذي اشتركوا فيه وسعوا لتحريكه.

فتحي فرج
كان فتحي فرج من جيل أسبق بكثير على جيلي، فقد ولد عام 1936، وبدأ نشاطه الثقافي في منتصف الخمسينيات، وخاض تجارب كثيرة في العمل السياسي والفكري. ورغم فارق السن والتجربة والخبرة إلا أنني ارتبطت معه بصداقة عمر. دخلت بيته وناقشته واختلفت واتفقت معه، وتحمل هو حدتي وغضبي أحيانا، وكان يترك لي الحرية كاملة في الإدلاء برأيي ويناقشني بهدوء، ويبدي إعجابه بـ"جنوني" كما كان يقول أي بجنوحي الحماسي لتحقيق شئ، وكنا نبحث معا كل شئ: كل ما يسمى بالمسلمات في الأدب والفن والسياسة والمجتمع والتاريخ، نمشي معا نذرع شوارع المنطقة التي كان يقطن بها في مصر الجديدة لساعات وساعات ونتناقش في كل شئ. وكنت معه في بيته في ذلك اليوم عندما توجه الرئيس أنور السادات بالطائرة إلى إسرائيل في زيارته التي وصفت بـ"التاريخية" وانتهت بتوقيع اتفاق سلام اعتبر ناقصا، مع إسرائيل. وكنا نتمزق وننفعل ونصرخ ونتشاجر معا ونحن لا نصدق أن ما نراه حقيقي، وأن السادات يصافح حقا جولدا مائير وشمعون بيريز ومناحيم بيجين وموشي ديان في مطار اللد!
درس فتحي فرج الفلسفة، وكان بالفعل مهموما بالفكر والتأمل الفلسفي ومستقبل مصر. وانضم في شبابه إلى الإخوان المسلمين أو بالأحرى حاول الاقتراب منهم، ولكنه سرعان ما وجد نفسه بعد ان نضج فكريا، يطرح تساؤلات خطيرة تسبب الارتباك للكثير من قيادات الإخوان، فيعجزون عن الرد عليها.

وقد روى لي أنه ذهب إلى المستشار الهضيبي ذات يوم لكي يناقشه، ولكن يبدو أنه ذهب في مناقشته معه أبعد مما كان يتصور الهضيبي فكان أن طُرد فتحي من مكتب المرشد العام بل ومن جمعية الإخوان المسلمين كلها! وقد وجد فتحي نفسه تدريجيا أقرب إلى اليسار، لكنه لم ينضم لتنظيمات يسارية لأنه كان قد اكتوى بفكرة التنظيم وضرورة "سماع كلام الكبار" فآثر أن يظل مستقلا، وقد ظل كذلك، يتقلب في أفكاره واهتماماته إلى حين وفاته المفاجئة في فبراير 2001.
ولعل من أغرب ما رواه فتحي فرج لي أنه اعتقل في الخمسنيات، في أعقاب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية في الاسكندرية على اعتبار أنه من الإخوان المسلمين. ولكن ضباط المباحث فشلوا في العثور على أي صلة تربطه بالإخوان، ثم اكتشفوا أن له ملفا آخر يصنفه على أنه من الشيوعيين. لكنه ايضا ليس عضوا في أي تنظيم شيوعي من التنظيمات السرية التي كان بعض أفرادها يضطرون تحت وطأة التعذيب للاعتراف على بعضهم البعض. وهنا وُضع فتحي فرج تحت بند "نشاط معادي" أي غير محدد الهوية ثم أفرج عنه!
مشبوه سياسي
وروى فتحي أنه كلما كان الرئيس جمال عبد الناصر يعتزم إلقاء خطاب في ميدان عابدين كانت المباحث تقبض عليه ويضعونه مع أمثاله، في الصفوف الأولى من السرادق المقام في الميدان، ويجلس بين كل "مشبوه سياسي" وزميله، عسكري أو مخبر لكي يتأكد أنهم يسمعون ويصفقون بحرارة. وبعد أن ينتهي الخطاب، كان ممنوعا أن يتحدث أحدهم إلى زميله، بل كان كل منهم يسير في اتجاه يحاول بقدر الإمكان أن يجعله متباعدا عن زميله.. فقد كانت العيون تتابعهم. وكان مطلوبا من فتحي لفترة ما في حياته، أن يوقع في قسم الشرطة مساء كل يوم لإثبات وجوده في الحي وأنه لم يهرب من بيته أو من المراقبة المفروضة عليه.
ولعل من مهازل النظام الإداري في مصر أن فتحي فرج الذي درس الفلسفة، انتهى يعمل موظفا في وزارة المالية. لكنه أبدى اهتماما كبيرا بالسينما كفن، فالتحق بندوة الفيلم المختار التي كان يشرف عليها الأديب يحيى حقي في الخمسينيات وتخرج منها عدد كبير من نقاد السينما والباحثين، والمخرجين فيما بعد منهم، مثل هاشم النحاس وفريد المزاوي وأحمد راشد وأحمد الحضري وغيرهم. وبدأ فتحي ينشر النقد السينمائي في صحيفة "المساء" القاهرية في الخمسينيات، ثم أصبح من أبرز اعضاء جماعة السينما الجديدة التي تأسست عام 1968 وأصبح رئيسا لتحرير مجلة "الغاضبين" لسان حال الجماعة التي كانت تصدر في 4 صفحات ضمن مجلة الكواكب وقت أن كان رجاء النقاش رئيسا لتحريرها في أواخر الستينيات.

بعد انقلاب شيلي واعتقال المعارضين السياسيين في ستاد سانتياجو قبل المذبحة

وقد كتب فتحي سلسلة من المقالات النارية في مجلة "الغاضبين" شن فيها حملات شديدة ضد من وصفهم بـ"أساطين السينما القديمة" وأخذ يعرض للنظريات الجديدة لسينما المخرج- المؤلف كبديل لسينما المخرج -الحرفي أو "الصنايعي"، وشبه هذا النوع بالصبي الذي يتعلم في ورشة ويتدرج إلى ان يصبح "أسطى". وقد أثارت مقالات فتحي فرج في تلك الفترة غضب الكثير من السينمائيين القدامى مثل حسن الإمام الذي أتذكر أنني قرأت له ردا عنيفا على مقالات فتحي وصف فيها أعضاء الجماعة بأنهم "الذين يريدون أن يحجبوا الشمس". وبعد أن أخرج علي عبد الخالق أول أفلام الجماعة "أغنية على الممر" أخذ الإمام يسخر منه في أحاديثه ويطلق على فيلمه "أغنية علي المر".
وبعد أن تأسس جهاز "الثقافة الجماهيرية" في الستينيات (الذي أصبح يعرف حاليا باسم الهيئة العامة لقصور الثقافة)، ورأسه في ذلك الوقت يساري معروف هو سعد كامل، أظن ان فتحي فرج بدأ يتبدى أمامه طريقا لتحقيق مشروعه الكبير، مشروع شبكة نوادي السينما في مصر. وكان سعد كامل من الشيوعيين الذين قضوا 5 سنوات في المعتقلات مع عدة مئات آخرين (قيل إن عددهم بلغ أكثر من ألفي شخص) إلى أن أطلق عبد الناصر سراحهم على شرط أن يحلوا حزبهم قبل الإفراج عنهم، ويتبرأوا من أفكارهم ومعتقداتهم، ويعلنوا ولاءهم للاشتراكية الناصرية وينضموا للاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الرسمي الوحيد) كأفراد وليس ككتلة أو كتنظيم، وعُين البعض منهم في أجهزة الإعلام والثقافة إلى أن طردهم السادات من وظائفهم بعد ما عرف بـ "انقلاب مايو" 1971 على التجربة الناصرية.
نوادي السينما
لا أعرف كيف بدأت بالضبط فكرة نوادي السينما في مصر في تلك الفترة فقد كنت صغيرا يافعا لا أطلع كثيرا على الشأن العام. ولكن ما أعرفه أن فتحي فرج هو الذي وضع خطة إنشاء 16 ناديا من نوادي السينما في محافظات مصر، ووضع ايضا آلية لإرسال الأفلام السينمائية الرفيعة من الشرق ومن الغرب، للعرض في تلك النوادي، وإيفاد ناقد سينمائي مع كل فيلم، يناقشه مع جمهور النادي في قصر ثقافة المحافظة، ووضع أيضا خطة إصدار مجلة "سينما النوادي" التي صدرت ورأس تحريرها وكانت مسؤولة، هي وتجربة النوادي بالتأكيد، عن ظهور وإبراز الكثير من نقاد السينما الجادين في مصر الذين تحول قسم كبير منهم فيما بعد، إلى كتاب للسيناريو ومخرجين.
لقطة من فيلم "مفقود" لكوستا جافراس

وقد بلغ عدد تلك النوادي 18 ناديا بعد ذلك، وأصبحت لها إدارة خاصة في الثقافة الجماهيرية يرأسها فتحي فرج الذي كان قد انتدب من وزارة المالية للعمل في وزارة الثقافة. وأصبحت نوادي السينما تستقطب كل المهتمين بالسينما، وتواصل عملها إلى أن طالتها التغييرات الجذرية في البنية الثقافية المصرية التي كانت قد بدأت منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973.

كانت "الثقافة الجماهيرية" قلعة ثقافة اليسار في وزارة الثقافة. ولكن يوسف السباعي الذي جاء به السادات وزيرا للثقافة عام 1974 كان يخطط لضربها. وقد بدأ أولا بضرب وإغلاق عدد من المنابر الثقافية المعروفة، بل وقبض على رموزها ووضعوا في السجون، ثم أغلق بعض المجلات الثقافية مثل "الكاتب" ثم "الطليعة" وطرد أعضاء مجالس تحريرها من كبار الكتاب والمفكرين والصحفيين. وقد اضطر الكثير من هؤلاء الكتاب إلى الهجرة خارج مصر لسنوات طويلة منهم غالي شكري وأمير اسكندر وأحمد عباس صالح والفريد فرج ومحمود أمين العالم ومحمود السعدني وبكر الشرقاوي وغيرهم.
وقد بدأت السلطات أيضا تتعامل مع الثقافة الجماهيرية بطريقة الإحلال والتبديل، فأقالت الوجوه اليسارية والوطنية التقدمية التي يمكن أن تكون معارضة بشكل ما لسياسة السادات ونواياه في التقارب من إسرائيل. ومع تزايد الضغوط بعد تغير الإدارة العامة للهيئة قدم فتحي فرج طلبا للعودة إلى وزارة المالية والغاء انتدابه. وقد عاد بالفعل إلى وزارة المالية، وتولى إدارة السينما بعده مساعده علي أبو شادي. لكن فتحي لم يستمر طويلا في العمل الوظيفي في مصر، فقد لحق بطابور المهاجرين خارج مصر حين ذهب للعمل بإحدى الدول العربية وظل هناك لأكثر من عشر سنوات في "منفاه" الاختياري.
وقد كان فتحي هو الذي شجعني على خوض تجربة "السينما الثالثة". وكان رأي الناقد سمير فريد أيضا مع فكرة أن تقوم جماعة أخرى، من جيل أكثر شبابا، بتكوين جمعيتها التي تعبر عن فكرها وتطلعاتها بعد فشل تجربة "سينما الغد" التي كانت تدور في إطار "السينما البورجوازية الجميلة". وقد استهوتنا فكرة السينما الثالثة، وبدأنا نقرأ ونناقش، ونشاهد أفلاما كان سمير فريد يأتينا بها في جمعية النقاد التي ضمني فتحي فرج إليها وأنا بعد طالب جامعي (وكان فتحي سكرتيرها العام في ذلك الوقت، وكان رئيسها هو المخرج والناقد المخضرم من جيل الأربعينيات أحمد كامل مرسي).

الصورة: المخرج الكوبي سانتياجو ألفاريز
كان سمير فريد يعرض أفلاما في إطار برامج سينمائية خاصة تنظمها الجمعية ويتعاون الأعضاء في إقامتها مثل "دراسات ووثائق".. الأسبوع الذي أقيم تضامنا مع شيلي التي كانت قد شهدت انقلابا عسكريا دمويا ضد الحكومة الاشتراكية بزعامة سلفادور ألليندي قتل خلاله أكثر من مائة الف شخص. وقد شاهدنا خلال ذلك الأسبوع الحافل الذي أقيم بـ "المركز القومي للثقافة السينمائية"، أفلاما مثل "النمر قفز وقتل لكنه حتما سيعود" للسينمائي الكوبي العظيم سانيتاجو ألفاريز.. أحد أعظم التسجيليين في تاريخ السينما. كما شاهدنا أفلاما صورت سرا للإنقلاب ووقائع ستاد سانتياجو الدموية، وهي الوقائع التي أعاد كوستا جافراس تصويرها دراميا في فيلمه الروائي الشهير "مفقود" (Missing (1981.
كان محمد كامل القليوبي يعمل مهندسا، بعد أن تخرج من هندسة عين شمس، ولكنه كان قد أكمل أيضا دراسته بمعهد السينما في القاهرة (حصل على الماجستير) ويرغب في الذهاب لتحضير رسالة الدكتوراه في السينما في معهد موسكو السينمائي.

وكان أحمد قاسم قد عاد للتو من باريس حيث درس السينما في جامعة فانسان المعروفة باتجاهها اليساري الراديكالي. وقد قضى أحمد، وهو ابن لأم فرنسية وأب مصري، سنوات طويلة في فرنسا، واعتقد أنه عاصر أيضا انتفاضة 68 في باريس وتأثر بها، وكان أحمد يميل إلى الفكر التروتسكي.
وقد اجتمعنا مع فتحي لفترة، ثم تركنا فتحي على أساس أنه ينتمي إلى جيل آخر وتجربة أخرى وأنه يتعين علينا أن نعثر على طريقنا بأنفسنا. وقضينا أشهر نتناقش ونختلف. وكان أساس الخلاف أن أحمد قاسم كان يرفض الالتزام بجدول عملي لبناء وتأسيس الجمعية، وكان يميل أكثر إلى الجانب التحريضي والنظري، ويعتقد أن بحث الجوانب العملية فيه نوع من البيروقراطية، وأن المسائل البيروقراطية يمكن حلها بسهولة، أما المسائل الايديولوجية فهي الأساس. وكنت أختلف معه تماما، فقد كنت أعتقد أن البناء والتأسيس لازمان لأن الخلافات الفرعية حول "النظرية" لن تحسم في يوم وليلة، بل يمكن أيضا أن تترك مفتوحة لكي يبحثها أعضاء الجمعية بعد أن ينضموا إليها، وأن من المهم أن نعثر على أساس عملي ونبدأ في ضم الأعضاء ووضع تصورات لبرنامج للعروض وللإنتاج السينمائي أيضا، أي إنتاج أفلام تسجيلية تعبر عن فكر الجمعية. وكنا نتناقش كثيرا في "البيان" الذي بدأت في كتابته لكنه لم يكن "ثوريا" بما فيه الكفاية من وجهة نظر أحمد قاسم، وكان القليوبي أيضا يميل إلى أنه يجب أن نكون أكثر راديكالية مقللا من شأن الجوانب العملية، وكان القليوبي أيضا عضوا في جماعة أدباء الغد التي ضمت لفيفا من الأدباء والكتاب والشعراء الشباب اليساريين.

محمد كامل القليوبي

ويبدو أنني كنت في عجلة من أمري، فقد كان القليوبي يعتذر كثيرا في آخر لحظة عن عدم حضور الاجتماعات، بحكم انشغاله في أعمال أخرى كثيرة منها أنه كان يواصل العمل كمهندس في كوبري 6 أكتوبر في منطقة تقع عند نهاية شارع الجلاء، وأظن أنه كان شاهدا على "اغتيال وتدمير" أثر تاريخي هائل هو" كنيسة كل القديسين" الرائعة البناء التي كانت كائنة في نهاية الشارع قرب نهر النيل، وكنا نجلس على المقاعد الخشبية الطويلة في انتظار "مترو" مصر الجديدة، لكي نتأمل في هذا المعمار الفريد الذي قرر المهندسون إزالته لتحميل الكوبري القبيح الشكل جدا مكانه.
وكان القليوبي أيضا مشغولا بالاستعداد للسفر إلى موسكو. أما أحمد قاسم فكان أيضا يبحث عن إطار ينطلق منه لعمل أفلام تسجيلية طبقا لمفهومه الخاص في سينما التحريض الثورية الملتهبة. وكان القليوبي لا يفصح في الكثير من الأحيان عن رأيه.

آفاق السينما
وجريا وراء فكرة التأصيل النظري فكرت مع فتحي فرج في نفس الفترة في إصدار مجلة سينمائية فصلية تتخلص تماما من مشكلة التوزيع، فقد قررنا أن نجعلها توزع على المشتركين فقط، على أن نؤمن لها مسبقا ألف اشتراك. وحسبنا حساباتنا على أساس أننا إذا تمكنا من جمع ألف اشتراك مضروبا في مبلغ معين (قيمة الاشتراك السنوي وقتها حددناها على ما أتذكر بجنيهين) فسوف يكفل لنا مبلغ الألفي جنيه أن نصدر مجلة محترمة.
وقمنا بطبع إيصالات للاشتراكات، وتعهد كل منا بحماس زائد، بالعمل على جمع عدد محدد طموح من الاشتراكات. وأخذنا نتصل بأصدقائنا، وبعدد من السينمائيين الشباب وأعضاء جماعة السينما الجديدة وجمعية الفيلم وبعض المثقفين والمهتمين وطلاب الجامعة. ولكننا عجزنا بعد ثلاثة أشهر، عن تجاوز ثلث الألف المطلوب اشتراكهم ضمانا لتوزيع المجلة بالبريد على كل المشتركين. وكنت قد اخترت لها اسم "آفاق السينما" (فوجئت بعد سنوات باختيار نفس الإسم لسلسلة كتب سينمائية تصدر من هيئة قصور الثقافة). ووافق فتحي فرج، وقام بحماس بطبع دفاتر خاصة بالمجلة يحمل اسمها، وخاتما مطاطيا لختم الإيصالات، ولم يدخر وسعا في الاتصال بأصدقائه وإقناعهم بالاشتراك مثل رأفت الميهي وماهر السيسي وعلي بدرخان ومدكور ثابت وغيرهم، وكان يوقف البعض منهم الذي نلتقيه في الشارع ويطلب منه دفع الاشتراك.
السادات مع كارتر وبيجين بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد

قفزة السياسة
زار السادات القدس في نوفمبر 1977، وأجرى محادثاته التي تعثرت لكنه أراد أن يجعلها تبدو وقد نجحت بأي ثمن، وأعلن أن "حرب أكتوبر هي آخر الحروب". وأصبحنا شهودا على نهاية عصر كامل من التاريخ المصري، وعلى هزيمة أحلام جيلنا الذي لم يحارب في 67 ولم يهزم في "الحرب"، كما لم يعبر القناة في 73 ولم يؤخذ رأيه في "السلام". وبدأت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تصبح شديدة الوطأة.
القليوبي أعلن في 1978 أنه ذاهب إلى موسكو لاستكمال دراسته السينمائية. وأحمد قاسم ذهب يبحث عن مشاريع جادة لعمل أفلام مع مركز الأفلام التسجيلية ثم مع شركة يوسف شاهين. وفتحي فرج قرر السفر إلى السعودية للعمل هناك في الصحافة والإعلام ودراسة "شكل التحولات القادمة إلى المنطقة انطلاقا من تلك الدولة التي لا نعرف عنها شيئا والتي أصبحت قوة مالية ضخمة لابد أن يكون لها دور سياسي مواز". وأنا.. أصبح مطلوبا مني العمل خارج القاهرة في أقاصي الصعيد المصري في منطقة نائية في محافظة أسيوط حيث حرمت من الكهرباء لمدة ستة أشهر (ربما على سبيل العقاب!).

وقمنا بتكليف الصديق التاريخي الراحل "نديم ميشيل" بمساعدتنا على إعادة الاشتراكات إلى أصحابها، وهي دورة عكسية مأساوية شاقة لا أظن أن لها سابقة في تاريخ الصحافة السينمائية وغير السينمائية في أي بلد من بلدان العالم!
نهاية الطريق
في تقديري، وأنا أكتب الآن في 2008، أن تجربة "السينما الثالثة" لم تفشل فقط بسبب إحباطاتنا الشخصية، بل أساسا لأنها كانت حركة تريد أن تزرع نفسها في مناخ معاكس تماما، فقد أحدثت المتغيرات السياسية في مصر زلزالا قلب كل القيم والمفاهيم، وبدأ تطبيق سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي تعني عمليا تخلي الدولة عن الإنتاج وتركه للرأسماليين، وأصبح الحصول على سلع من المنطقة الحرة في بورسعيد أهم من مليون قصر ثقافة، وأصبح المقابل الذي يحصل عليه الناقد من كتابة مقال طويل عريض في جريدة "المساء" (وهو 5 جنيهات) لا يكفي لتناول وجبة عشاء بعد أن كانت تكفي لعدة أيام.
وكانت تلك التجربة التي بدت "ثورية جدا" تريد أن تعثر لها على تربة في مناخ أبعد ما يكون عن البيئة الثورية، بل هو بحق، مناخ الثورة المضادة المتوحشة التي أخذت تطارد وتغلق وتحاصر، وتضرب بيد من حديد ومن صفيح، وبكل الطرق، وكان مجرد التجمع لسماع أغاني الشيخ إمام في بيت أحد الأصدقاء كفيلا بأن يخرج علينا العشرات من كلاب السلطة لمطاردتنا!
الفشل بهذا المعنى كان موضوعيا تماما، فقد كانت "السينما الثالثة" تجربة تتجاوز الواقع وتسعى بأي طريقة، وبحسن النوايا والاندفاع الشخصي وحماس الشباب وحده، إلى التحليق فوق الواقع، فكان أن سقطت قبل أن تحلق. لكن نهايتها كانت أيضا إعلانا عن غروب عهد، وبزوغ عهد آخر.. سنغترب فيه ونصبح بعيدين.. بعيدين.

1 comments:

غير معرف يقول...

جميل يا أمير نكشكرك كل الشكر على تأريخ ذكريات تلك الفترة التي لا يعرف عنها أحد شيئا ، و لكن الأهم تحليلك الموضوعي لسلبيات و ايجابيات تلك التجارب بشكل موضوعي ليس فيه أنجياز لفترة عشتها و كنت عنصر فعال فيها
ضياء حسني

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger