الثلاثاء، 30 سبتمبر 2008

جماعة "السينما الثالثة" والتحليق فوق الواقع

لقطة من الفيلم الكوبي الذي كان يلهمنا "ذكريات التخلف"

* خصوصية النموذج الأمريكي في الحياة والسينما

* محاولة التأسيس لسينما ثورية في مناخ مضاد

بعد فشل محاولة العمل من خلال جماعة "سينما الغد"، جاءت في 1977- 1978 محاولة أخرى لتأسيس كيان سينمائي جديد تماما، يعتمد على أفكارنا ونظرتنا الخاصة في ذلك الوقت، للسينما والعالم. كانت تلك تجربة لم يقدر لها النجاح، مثل تجارب كثيرة خضناها معا في تلك السنوات الحبلى التي أجهضت، من أواخر السبعينيات، لكنها تستحق في تصوري، أن تروى لما لها من مغزى يصب في سياق عالم الثقافة السينمائية والسياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان سائدا في مصر في حقبة معينة. وقد أطلقنا على التجربة اسم "جماعة السينما الثالثة". وكانت متأثرة بفكرة "السينما الثالثة" التي اشتهرت في أوساط مثقفي اليسار في الستينيات في أوروبا وأمريكا.
وقد نشأت الفكرة والتجربة أصلا في أمريكا اللاتينية، وأنتجت تجاربها المبهرة التي وصل بعضها إلينا من خلال العروض التي كانت تنظم، إما داخل بعض المراكز الثقافية الأجنبية، أو خلال أسابيع الأفلام التي كانت تقام بالتعاون بين وزارة الثقافة، وبين دول كانت تعتبر "صديقة" مثل كوبا.
كانت الفكرة "الأصلية"، ثم فكرتنا التي تبنيناها بالكامل وعقدنا جلسات طويلة ومضنية لبحثها ودراستها والاختلاف حولها أيضا، تقوم ببساطة على أن هناك نوعين، أو مدرستين من السينما: هناك أولا السينما التقليدية التي تأتي من قلعة صناعة السينما في الولايات المتحدة أي هوليوود، وتنتشر وتسود وتسيطر على أذواق جمهور السينما في العالم. وهذه السينما تركت تأثيرها الكبير البارز على سينمات أخرى كثيرة في بلدان مختلفة رغم اختلاف الثقافات، مثل السينما الهندية في تيارها العريض مثلا، أو السينما المصرية (ربما حتى الوقت الحالي). فالنموذج الأمريكي مبهر في كل شئ: الصناعة والعلوم والتكنولوجيا والعمارة والاقتصاد، وبالتالي يجب أن تكون السينما الأمريكية (التقليدية) هي السينما الأكبر، والأعظم، والأهم، والنموذج الذي يجب ان يحتذى، وإلا فلن نحقق شيئا. وإذا كان الفيلم الأمريكي قد وصل إلى "العالمية" أي إلى أسواق العالم، فلن نصل مثله إلا إذا تبنينا فكره وأسسه.. هذه الأفكار تسيطر على الكثير من عقول المثقفين منذ بروز أمريكا ككقوة ضخمة بعد الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا.

النموذج الأمريكي
هذه النظرة تعكس انبهارا بالنموذج الأمريكي في الحضارة، رغم أنه نموذج شديد الخصوصية وغير قابل للتكرار في أي مكان آخر من العالم بحكم استحالة توفر نفس الشروط والمعطيات والظروف التاريخية والبشرية وغير ذلك من العوامل التي أدت إلى نشوء أمريكا كظاهرة أو كدولة حديثة "لها خصوصيتها الشديدة".
كان من الكتب المهمة التي تركت تأثيرها الكبير على تفكيري وأنا في مرحلة البحث والسعى إلى المعرفة، كتاب "العرب والنموذج الأمريكي" للدكتور فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس، ورئيس تحرير مجلة ثقافية مهمة قديمة هي مجلة "الفكر المعاصر". وكان الدكتور زكريا يشرح ويحدد بالتفصيل في كتابه هذا، وهو كتاب صغير الحجم، عظيم الفائدة، أسباب انبهار العرب تحديدا بالثقافة والحضارة الأمريكيتين، أو باختصار بالنموذج الأمريكي، ورغبتهم العنيدة بل والمستحيلة، في إعادة إنتاجه وتكراره. وكان يحلل استحالة تحقيق ذلك للأسباب العديدة التي قام بشرحها بإسهاب وقوة في كتابه هذا الذي لايزال يعد مرجعا لا غنى عنه في فهم "الظاهرة الأمريكية".
وكان الدكتور زكريا يشرح ويحلل ويدقق في تبيان كيف أن نشأة أمريكا نفسها، بثرواتها الطبيعة الهائلة، وتركيبتها السكانية، واعتمادها على الاحتكارات الهائلة والمشروع الفردي العملاق بديلا عن الدولة التقليدية، يجعلها نموذجا فريدا في العالم.
وقد عاد الكاتب محمد حسنين هيكل إلى شرح خصوصية أمريكا من زوايا أخرى في كتابه "الإمبراطورية الأمريكية" الذي يقول فيه بالحرف: إن "الولايات المتحدة حالة فريدة من نوعها من حيث النظام السياسي، فهي لم تتشكل كدولة مثل كل الدول، بل كمجموعة ولايات، الكثير منها كان عبارة عن شركات منذ القرن السابع عشر، تحولت الشركة إلى ولاية ووضعت لها قوانينها التي لا تختلف كثيراً عن قوانين الشركة، ثم اتحدت تلك الولايات لتشكل نظاما شق لنفسه تجربة جديدة ليعبر عن مصالح الولايات مجتمعة أو الشركات".
السينما الأولى
السينما الأولى إذن، أو النموذج الأمريكي في السينما هو نموذج له خصوصيته، لأنه يعتمد أولا على سوق هائلة متعددة الشركات، ترتبط معا بشبكة عملاقة من دور العرض السينمائي التي تشمل عددا من القاعات (أو الشاشات المستقلة المنفصلة) يبلغ في الوقت الحالي ما يقرب من أربعين ألف قاعة (38.794 قاعة عرض تحديدا) تمتلكها 10 شبكات كبرى، يبلغ معدل التردد عليها سنويا 1400 مليار تذكرة سينما، وبلغت حصيلة شباك التذاكر 9.629 مليار دولار (حسب إحصائيات عام 2007 التي نشرها الاتحاد الأمريكي لأصحاب دور العرض السينمائي، وهي متوفرة لمن يرغب في الاطلاع عليها).
ثانيا: سوق بهذا الحجم وهذه المداخيل المالية تتعامل مع الفيلم كما تتعامل مع منتج تجاري ضخم، ويمكنها الاستثمار فيه بميزانيات تصل إلى أكثر من 300 مليون دولار أحيانا للفيلم الواحد دون التخلي عن إنتاج أفلام أخرى موازية في خطة الشركات المنتجة، وتستطيع تحقيق النجاح التجاري الذي يكفل الاستمرار في الإنتاج. هذا الحجم من الاستثمارات لا يمكن لأي جهة أخرى في العالم أن تواكبه ناهيك عن أن تنافسه.
ثالثا: لا تكتفي السوق السينمائية الأمريكية فقط باستيعاب الأفلام، بل تستغل صناعة الأفلام لترويج للكثير من السلع الأخرى "الاستكمالية" أو الموازية، مثل الألعاب والدمي، وبرامج الكومبيوتر، وموسيقى الأفلام وأغانيها، والفانلات من نوع "تي شيرت"، والصور والملصقات، والمشروبات الخاصة.. وغير ذلك الكثير من السلع التي يدخل أيضا الإعلان التجاري فيها كاستثمار رئيسي.
رابعا: الفيلم الأمريكي يحقق مكاسبه أساسا من السوق الداخلي، أي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، سواء من التوزيع العام، أو من خلال المئات (إن لم يكن الآلاف حاليا) من محطات التليفزيون وشبكات "الكابل" والشبكات التي توزع عن طريق الانترنت، وبيع اسطوانات الديجيتال المعروفة بـ"الدي في دي" DVD التي حلت محل شرائط الفيديو. وقد أصبحت هذه السلع كلها أخيرا، صناعة ضخمة توازي بشكل ما، صناعة السينما نفسها، وكانت بالتالي أساس الإضراب الشهير للسينمائيين الأمريكيين وخصوصا كتاب السيناريو في أوائل عام 2008، الذين كانوا يطالبون بحصة من مداخيل العروض التي تتم من خلال هذه الوسائل الحديثة التي ظهرت مؤخرا ولم تنعكس في العقود الموقعة معهم بعد.
وأي مكاسب تتحقق للفيلم الأمريكي من الأسواق الخارجية، خاصة في اليابان وأوروبا وأمريكا الجنوبية، تمثل دخلا إضافيا، علما بأن حجم سوق الشرق الأوسط وشمال افريقيا بالنسبة للفيلم الأمريكي لا تتجاوز نسبة ضئيلة للغاية من حجم السوق العالمي، أساسا بسبب ندرة دور العرض السينمائي، وتدني قيمة العملات المحلية في البلدان غير النفطية، وهامشية سوق بلدان الخليج وضعفه الشديد بسبب بنيته السكانية الضعيفة والهجينة أيضا (نسبة كبيرة من الهنود الذين يفضلون مشاهدة الأفلام الهندية).
والسؤال هنا: أمام سوق أمريكية بهذه المواصفات، وبهذه المداخيل، وأمام آلية إنتاجية تتعامل مع الأفلام كما لو كانت تشيد مصانع للإنتاج بالجملة، هل من الممكن تكرار أو منافسة النموذج الأمريكي؟ ومن أين يمكن توفير المواد التي تكفل تحقيق تلك المواصفات؟ وهل يملك الرأسمال المصري، أو الأوروبي، أو حتى الياباني، إمكانيات هوليوود الضخمة: المالية والتكنولوجية والتسويقية التي تكفل له الاستمرار؟
فرناندو سولاناس في 2008

السينما الثانية
كان هذا عن "السينما الأولى" أو الأمريكية. أما "السينما الثانية" فهي السينما الأوروبية أو سينما الفن الرفيع التي تعتمد على رفض نظام النجوم الأمريكي، ورفض اعتبارالمخرج مجرد منفذ أو محرك لمجاميع من المنفذين، وبالتالي رفض فكرة أنه "حرفي" في ورشة، لا يملك ان يعكس على الفيلم "رؤيته" الخاصة، بل إن تجربته الشخصية لا قيمة لها طالما أن الفيلم أساسا، منتج تجاري يخضع لدراسات جدوى، ويراعى فيه تلبية أغراض ومتطلبات سوق ذي مواصفات معنية.

أما المخرج السينمائي في "السينما الثانية" فقد أصبح هو أساس الفيلم، عقله وروحه، واصبح الفيلم نتاجا لفكره ورؤيته مثل الرسام والموسيقار والشاعر، واصبح هو المسؤول عن معظم العمليات الفنية الأساسية: يتدخل في السيناريو إن لم يكتبه من الأصل، ولا يعتمد على أصل أدبي بل يكتب مباشرة للسينما، يتولى الإشراف على المونتاج على عكس ما يحدث في هوليوود حيث يسند المونتاج إلى "حرفيين منفذين" وتنتهي علاقة المخرج بالفيلم مع نهاية التصوير.
كانت هذه التقاليد سارية، على الأقل، عند ظهور فكرة "السينما الثالثة" في الستينيات. ولاشك أن هوليوود تطورت ولم تعد تعامل "كبار" مبدعيها طبقا للسياسة القديمة التي كانت تتبعها الاستديوهات الكبيرة، إلا أن نظام تقسيم العمل الصارم، ونظام "الأنواع" genres أي تقسيم الأفلام إلى أنواع لها مواصفات محددة يخضع الإنتاج لها ويلبيها ولا يمكن الخروج عنها في "شطحات" فلسفية وسرد غير مقولب لا يزال يحكم "فلسفة" هوليوود الإنتاجية. هذه التقيسمات أو التصنيفات تدور عادة حول تسميات مثل "الفيلم الحربي" و"الفيلم التاريخي" و"الفيلم العاطفي" وفيلم "الدراما الاجتماعية".. إلخ
بيان السينما الثالثة
استندت "السينما الثالثة" التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، في مناخ ثوري شديد الاختلاف عن المناخ السينمائي الشائع في الغرب، على رفض النموذجين السابقين: رفض النموذج الأول بدعوى أنه "نموذج للتسلية بهدف تحقيق الأرباح" يتوجه إلى جمهور سلبي من خلال قصص هروبية. وفي زاوية أخرى سياسية منه، نظر إليه باعتباره نموذجا للسينما "الكولونيالية" التي تكرس عبودية الإنسان للمال والكسب بأي ثمن ، وتبرر السيطرة والاستغلال والتوسع واستيلاء الكبير على ممتلكات الصغير. أما النموذج الثاني فقد رفضته السينما الثالثة باعتبار أنه يعلي من شأن التعبير الذاتي الفردي سعيا وراء خلق نموذج "بورجوازي" للسينما الفنية.

الصورة: فرناندو سولاناس في السيتنيات وكان وراء فكرة السينما الثالثة اثنان من السينمائيين من الأرجنتين هما فرناندو سولاناس وأوكتافيو جتينو. وهما اللذان نشرا ما اعتبر "مانيفستو" أو"بيان السينما الثالثة" في الستينيات تحت عنوان "نحو سينما ثالثة". وقد صدروه بعبارة مقتبسة من فرانز فانون تقول "يجب أن نناقش، يجب أن نبتكر". وقد رفضا في بيانهما كلا من السينما الهروبية (الأمريكية) وسينما الفن الأوروبية التي تقوم على التعبير الذاتي، وطرحا في مقابلهما سينما جديدة تقوم على تصوير تجارب الوعي الجمعي المشترك، وتعرية الحقائق والتحريض على رفض الواقع والسعي إلى تغييره.

الصورة: أوكتافيو جتينو
وقد دعا بيان "السينما الثالثة" أيضا إلى ضرورة خلق نظام جديد لتوزيع الأفلام وعرضها، يتخلص من الشبكات التقليدية في المدن، ويعتمد على المبادرات الجماعية وعلى البحث عن وسائل جديدة للعرض في الكنائس والمصانع والساحات الشعبية في القرى، وإشراك الجمهور في المخاطرة بحماية الأفلام التي يتم تهريبها خارج نظام الرقابة بإخراجها من دائرة العرض التقليدية.

(ملحوظة: بيان السينما الثالثة والبحث في جمالياتها منشور كاملا في كتاب "أفلام ومناهج" لبيل نيكولز الذي ترجمه حسين بيومي وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في 3 أجزاء).
ولكن ربما يكون مناسبا هنا أن أوضح ايضا أن السينما الثالثة ليس تعبيرا "جغرافيا" أي أنها ليست مرادفا لسينما العالم اللثلث، فقد توجد أفلام السينما الأولى في دول تنتمي إلى العالم الثالث، وقد توجد أفلام تنتمي للسنيما الثالثة في العالم الأول، والأمثلة كثيرة بالطبع. ولعل النموذج الأبرز الذي يأتي إلى ذهني الآن فيلما يتعلق بنماذج السينما الثالثة في مصر مثلا الأفلام التسجيلية الجريئة التي صنعتها عطيات الأبنودي. لكن يتعين الاستدراك بأن السينما الثالثة ليست سينما تسجيلية فقط بل وروائية بشكل أساسي.

السينما الجديدة
في مصر كانت "جماعة السينما الجديدة" التي تأسست في أواخر الستينيات، انعكاسا لمطالب أجيال من السينمائيين الذين درسوا السينما في معهد القاهرة للسينما وخرجوا لا يجدون فرصة للعمل. وكانت أيضا تلبية لطموحات عدد من هؤلاء ومن غيرهم الذين جاءوا من التليفزيون وغيره، يريدون تقديم أشكال جديدة وتجارب تتحرر من سطوة النجوم ومن تدخل المنتجين في الفيلم وتحديد عناصره. وكانت "السينما الجديدة" بهذا المعنى إلحاحا مهنيا من ناحية، ومحصلة، من ناحية أخرى، لعصر من الثقافة السينمائية انفتح كثيرا على التجارب السينمائية الجديدة في العالم مثل الموجة الجديدة في فرنسا، والسينما الحرة في بريطانيا، وسينما ألأندرجروند في الولايات المتحدة، وتجارب سينما أوروبا الشرقية.
وكانت تلك تجربتهم، وكان ذلك إسهامهم. أما نحن فلم نكن قد لحقنا بالسينما الجديدة التي حدث لها ما حدث للـ "الموجة الجديدة". فبعد التغيرات السياسية التي شهدتها مصر خلال السبعينيات، استوعب النظام السينمائي معظم فرسان السينما الجديدة الذي بدأوا بحماس في "تجديد" و"تلميع" السينما القديمة، فالتحق زعيم الجماعة محمد راضي مثلا بالآلية الإنتاجية للسينما "القديمة "، والتحق معه عدد كبير من فرسان الجماعة بعد أن تغير العصر ولم يعد على ما كان عليه، وانتهت تجربة مؤسسة السينما (الحكومية) التي كانت وراء تبني حركة السينما الجديدة.
أصبحت "السينما الجديدة" في أواخر السبعينيات "سينما قديمة" تبتكر في الأنماط والقوالب لكنها لا تهدمها، تماما كما كانت "الموجة الجديدة" قد أصبحت موجة قديمة جدا قبل أواخر السيتينيات بعد أن استوعبها النظام السينمائي في فرنسا ونجح في تقليص حجم طموحاتها واستخادمها في تجديد قوالب السنيما التقليدية نفسها. وكان لابد أن نفكر في شئ آخر.. حركة جديدة أخرى. وهنا جاءت فكرة "السينما الثالثة".
كان يقف وراء جماعة "السينما الثالثة" التي لم تكتب لها الولادة الطبيعية والحياة، أربعة اشخاص هم: فتحي فرج ومحمد كامل القليوبي، وأحمد قاسم، وأمير العمري (كاتب هذه السطور). ويستحق الثلاثة الأوائل أن أتوقف أمامهم وأقدمهم في عجالة سريعة للقارئ الصبور الذي يود أن يعرف، لأن لكل قصة شخصياتها، ولا يمكن فهم طبيعة أي حدث إلا بعد فهم طبيعة الأشخاص الذي اشتركوا فيه وسعوا لتحريكه.

فتحي فرج
كان فتحي فرج من جيل أسبق بكثير على جيلي، فقد ولد عام 1936، وبدأ نشاطه الثقافي في منتصف الخمسينيات، وخاض تجارب كثيرة في العمل السياسي والفكري. ورغم فارق السن والتجربة والخبرة إلا أنني ارتبطت معه بصداقة عمر. دخلت بيته وناقشته واختلفت واتفقت معه، وتحمل هو حدتي وغضبي أحيانا، وكان يترك لي الحرية كاملة في الإدلاء برأيي ويناقشني بهدوء، ويبدي إعجابه بـ"جنوني" كما كان يقول أي بجنوحي الحماسي لتحقيق شئ، وكنا نبحث معا كل شئ: كل ما يسمى بالمسلمات في الأدب والفن والسياسة والمجتمع والتاريخ، نمشي معا نذرع شوارع المنطقة التي كان يقطن بها في مصر الجديدة لساعات وساعات ونتناقش في كل شئ. وكنت معه في بيته في ذلك اليوم عندما توجه الرئيس أنور السادات بالطائرة إلى إسرائيل في زيارته التي وصفت بـ"التاريخية" وانتهت بتوقيع اتفاق سلام اعتبر ناقصا، مع إسرائيل. وكنا نتمزق وننفعل ونصرخ ونتشاجر معا ونحن لا نصدق أن ما نراه حقيقي، وأن السادات يصافح حقا جولدا مائير وشمعون بيريز ومناحيم بيجين وموشي ديان في مطار اللد!
درس فتحي فرج الفلسفة، وكان بالفعل مهموما بالفكر والتأمل الفلسفي ومستقبل مصر. وانضم في شبابه إلى الإخوان المسلمين أو بالأحرى حاول الاقتراب منهم، ولكنه سرعان ما وجد نفسه بعد ان نضج فكريا، يطرح تساؤلات خطيرة تسبب الارتباك للكثير من قيادات الإخوان، فيعجزون عن الرد عليها.

وقد روى لي أنه ذهب إلى المستشار الهضيبي ذات يوم لكي يناقشه، ولكن يبدو أنه ذهب في مناقشته معه أبعد مما كان يتصور الهضيبي فكان أن طُرد فتحي من مكتب المرشد العام بل ومن جمعية الإخوان المسلمين كلها! وقد وجد فتحي نفسه تدريجيا أقرب إلى اليسار، لكنه لم ينضم لتنظيمات يسارية لأنه كان قد اكتوى بفكرة التنظيم وضرورة "سماع كلام الكبار" فآثر أن يظل مستقلا، وقد ظل كذلك، يتقلب في أفكاره واهتماماته إلى حين وفاته المفاجئة في فبراير 2001.
ولعل من أغرب ما رواه فتحي فرج لي أنه اعتقل في الخمسنيات، في أعقاب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية في الاسكندرية على اعتبار أنه من الإخوان المسلمين. ولكن ضباط المباحث فشلوا في العثور على أي صلة تربطه بالإخوان، ثم اكتشفوا أن له ملفا آخر يصنفه على أنه من الشيوعيين. لكنه ايضا ليس عضوا في أي تنظيم شيوعي من التنظيمات السرية التي كان بعض أفرادها يضطرون تحت وطأة التعذيب للاعتراف على بعضهم البعض. وهنا وُضع فتحي فرج تحت بند "نشاط معادي" أي غير محدد الهوية ثم أفرج عنه!
مشبوه سياسي
وروى فتحي أنه كلما كان الرئيس جمال عبد الناصر يعتزم إلقاء خطاب في ميدان عابدين كانت المباحث تقبض عليه ويضعونه مع أمثاله، في الصفوف الأولى من السرادق المقام في الميدان، ويجلس بين كل "مشبوه سياسي" وزميله، عسكري أو مخبر لكي يتأكد أنهم يسمعون ويصفقون بحرارة. وبعد أن ينتهي الخطاب، كان ممنوعا أن يتحدث أحدهم إلى زميله، بل كان كل منهم يسير في اتجاه يحاول بقدر الإمكان أن يجعله متباعدا عن زميله.. فقد كانت العيون تتابعهم. وكان مطلوبا من فتحي لفترة ما في حياته، أن يوقع في قسم الشرطة مساء كل يوم لإثبات وجوده في الحي وأنه لم يهرب من بيته أو من المراقبة المفروضة عليه.
ولعل من مهازل النظام الإداري في مصر أن فتحي فرج الذي درس الفلسفة، انتهى يعمل موظفا في وزارة المالية. لكنه أبدى اهتماما كبيرا بالسينما كفن، فالتحق بندوة الفيلم المختار التي كان يشرف عليها الأديب يحيى حقي في الخمسينيات وتخرج منها عدد كبير من نقاد السينما والباحثين، والمخرجين فيما بعد منهم، مثل هاشم النحاس وفريد المزاوي وأحمد راشد وأحمد الحضري وغيرهم. وبدأ فتحي ينشر النقد السينمائي في صحيفة "المساء" القاهرية في الخمسينيات، ثم أصبح من أبرز اعضاء جماعة السينما الجديدة التي تأسست عام 1968 وأصبح رئيسا لتحرير مجلة "الغاضبين" لسان حال الجماعة التي كانت تصدر في 4 صفحات ضمن مجلة الكواكب وقت أن كان رجاء النقاش رئيسا لتحريرها في أواخر الستينيات.

بعد انقلاب شيلي واعتقال المعارضين السياسيين في ستاد سانتياجو قبل المذبحة

وقد كتب فتحي سلسلة من المقالات النارية في مجلة "الغاضبين" شن فيها حملات شديدة ضد من وصفهم بـ"أساطين السينما القديمة" وأخذ يعرض للنظريات الجديدة لسينما المخرج- المؤلف كبديل لسينما المخرج -الحرفي أو "الصنايعي"، وشبه هذا النوع بالصبي الذي يتعلم في ورشة ويتدرج إلى ان يصبح "أسطى". وقد أثارت مقالات فتحي فرج في تلك الفترة غضب الكثير من السينمائيين القدامى مثل حسن الإمام الذي أتذكر أنني قرأت له ردا عنيفا على مقالات فتحي وصف فيها أعضاء الجماعة بأنهم "الذين يريدون أن يحجبوا الشمس". وبعد أن أخرج علي عبد الخالق أول أفلام الجماعة "أغنية على الممر" أخذ الإمام يسخر منه في أحاديثه ويطلق على فيلمه "أغنية علي المر".
وبعد أن تأسس جهاز "الثقافة الجماهيرية" في الستينيات (الذي أصبح يعرف حاليا باسم الهيئة العامة لقصور الثقافة)، ورأسه في ذلك الوقت يساري معروف هو سعد كامل، أظن ان فتحي فرج بدأ يتبدى أمامه طريقا لتحقيق مشروعه الكبير، مشروع شبكة نوادي السينما في مصر. وكان سعد كامل من الشيوعيين الذين قضوا 5 سنوات في المعتقلات مع عدة مئات آخرين (قيل إن عددهم بلغ أكثر من ألفي شخص) إلى أن أطلق عبد الناصر سراحهم على شرط أن يحلوا حزبهم قبل الإفراج عنهم، ويتبرأوا من أفكارهم ومعتقداتهم، ويعلنوا ولاءهم للاشتراكية الناصرية وينضموا للاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الرسمي الوحيد) كأفراد وليس ككتلة أو كتنظيم، وعُين البعض منهم في أجهزة الإعلام والثقافة إلى أن طردهم السادات من وظائفهم بعد ما عرف بـ "انقلاب مايو" 1971 على التجربة الناصرية.
نوادي السينما
لا أعرف كيف بدأت بالضبط فكرة نوادي السينما في مصر في تلك الفترة فقد كنت صغيرا يافعا لا أطلع كثيرا على الشأن العام. ولكن ما أعرفه أن فتحي فرج هو الذي وضع خطة إنشاء 16 ناديا من نوادي السينما في محافظات مصر، ووضع ايضا آلية لإرسال الأفلام السينمائية الرفيعة من الشرق ومن الغرب، للعرض في تلك النوادي، وإيفاد ناقد سينمائي مع كل فيلم، يناقشه مع جمهور النادي في قصر ثقافة المحافظة، ووضع أيضا خطة إصدار مجلة "سينما النوادي" التي صدرت ورأس تحريرها وكانت مسؤولة، هي وتجربة النوادي بالتأكيد، عن ظهور وإبراز الكثير من نقاد السينما الجادين في مصر الذين تحول قسم كبير منهم فيما بعد، إلى كتاب للسيناريو ومخرجين.
لقطة من فيلم "مفقود" لكوستا جافراس

وقد بلغ عدد تلك النوادي 18 ناديا بعد ذلك، وأصبحت لها إدارة خاصة في الثقافة الجماهيرية يرأسها فتحي فرج الذي كان قد انتدب من وزارة المالية للعمل في وزارة الثقافة. وأصبحت نوادي السينما تستقطب كل المهتمين بالسينما، وتواصل عملها إلى أن طالتها التغييرات الجذرية في البنية الثقافية المصرية التي كانت قد بدأت منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973.

كانت "الثقافة الجماهيرية" قلعة ثقافة اليسار في وزارة الثقافة. ولكن يوسف السباعي الذي جاء به السادات وزيرا للثقافة عام 1974 كان يخطط لضربها. وقد بدأ أولا بضرب وإغلاق عدد من المنابر الثقافية المعروفة، بل وقبض على رموزها ووضعوا في السجون، ثم أغلق بعض المجلات الثقافية مثل "الكاتب" ثم "الطليعة" وطرد أعضاء مجالس تحريرها من كبار الكتاب والمفكرين والصحفيين. وقد اضطر الكثير من هؤلاء الكتاب إلى الهجرة خارج مصر لسنوات طويلة منهم غالي شكري وأمير اسكندر وأحمد عباس صالح والفريد فرج ومحمود أمين العالم ومحمود السعدني وبكر الشرقاوي وغيرهم.
وقد بدأت السلطات أيضا تتعامل مع الثقافة الجماهيرية بطريقة الإحلال والتبديل، فأقالت الوجوه اليسارية والوطنية التقدمية التي يمكن أن تكون معارضة بشكل ما لسياسة السادات ونواياه في التقارب من إسرائيل. ومع تزايد الضغوط بعد تغير الإدارة العامة للهيئة قدم فتحي فرج طلبا للعودة إلى وزارة المالية والغاء انتدابه. وقد عاد بالفعل إلى وزارة المالية، وتولى إدارة السينما بعده مساعده علي أبو شادي. لكن فتحي لم يستمر طويلا في العمل الوظيفي في مصر، فقد لحق بطابور المهاجرين خارج مصر حين ذهب للعمل بإحدى الدول العربية وظل هناك لأكثر من عشر سنوات في "منفاه" الاختياري.
وقد كان فتحي هو الذي شجعني على خوض تجربة "السينما الثالثة". وكان رأي الناقد سمير فريد أيضا مع فكرة أن تقوم جماعة أخرى، من جيل أكثر شبابا، بتكوين جمعيتها التي تعبر عن فكرها وتطلعاتها بعد فشل تجربة "سينما الغد" التي كانت تدور في إطار "السينما البورجوازية الجميلة". وقد استهوتنا فكرة السينما الثالثة، وبدأنا نقرأ ونناقش، ونشاهد أفلاما كان سمير فريد يأتينا بها في جمعية النقاد التي ضمني فتحي فرج إليها وأنا بعد طالب جامعي (وكان فتحي سكرتيرها العام في ذلك الوقت، وكان رئيسها هو المخرج والناقد المخضرم من جيل الأربعينيات أحمد كامل مرسي).

الصورة: المخرج الكوبي سانتياجو ألفاريز
كان سمير فريد يعرض أفلاما في إطار برامج سينمائية خاصة تنظمها الجمعية ويتعاون الأعضاء في إقامتها مثل "دراسات ووثائق".. الأسبوع الذي أقيم تضامنا مع شيلي التي كانت قد شهدت انقلابا عسكريا دمويا ضد الحكومة الاشتراكية بزعامة سلفادور ألليندي قتل خلاله أكثر من مائة الف شخص. وقد شاهدنا خلال ذلك الأسبوع الحافل الذي أقيم بـ "المركز القومي للثقافة السينمائية"، أفلاما مثل "النمر قفز وقتل لكنه حتما سيعود" للسينمائي الكوبي العظيم سانيتاجو ألفاريز.. أحد أعظم التسجيليين في تاريخ السينما. كما شاهدنا أفلاما صورت سرا للإنقلاب ووقائع ستاد سانتياجو الدموية، وهي الوقائع التي أعاد كوستا جافراس تصويرها دراميا في فيلمه الروائي الشهير "مفقود" (Missing (1981.
كان محمد كامل القليوبي يعمل مهندسا، بعد أن تخرج من هندسة عين شمس، ولكنه كان قد أكمل أيضا دراسته بمعهد السينما في القاهرة (حصل على الماجستير) ويرغب في الذهاب لتحضير رسالة الدكتوراه في السينما في معهد موسكو السينمائي.

وكان أحمد قاسم قد عاد للتو من باريس حيث درس السينما في جامعة فانسان المعروفة باتجاهها اليساري الراديكالي. وقد قضى أحمد، وهو ابن لأم فرنسية وأب مصري، سنوات طويلة في فرنسا، واعتقد أنه عاصر أيضا انتفاضة 68 في باريس وتأثر بها، وكان أحمد يميل إلى الفكر التروتسكي.
وقد اجتمعنا مع فتحي لفترة، ثم تركنا فتحي على أساس أنه ينتمي إلى جيل آخر وتجربة أخرى وأنه يتعين علينا أن نعثر على طريقنا بأنفسنا. وقضينا أشهر نتناقش ونختلف. وكان أساس الخلاف أن أحمد قاسم كان يرفض الالتزام بجدول عملي لبناء وتأسيس الجمعية، وكان يميل أكثر إلى الجانب التحريضي والنظري، ويعتقد أن بحث الجوانب العملية فيه نوع من البيروقراطية، وأن المسائل البيروقراطية يمكن حلها بسهولة، أما المسائل الايديولوجية فهي الأساس. وكنت أختلف معه تماما، فقد كنت أعتقد أن البناء والتأسيس لازمان لأن الخلافات الفرعية حول "النظرية" لن تحسم في يوم وليلة، بل يمكن أيضا أن تترك مفتوحة لكي يبحثها أعضاء الجمعية بعد أن ينضموا إليها، وأن من المهم أن نعثر على أساس عملي ونبدأ في ضم الأعضاء ووضع تصورات لبرنامج للعروض وللإنتاج السينمائي أيضا، أي إنتاج أفلام تسجيلية تعبر عن فكر الجمعية. وكنا نتناقش كثيرا في "البيان" الذي بدأت في كتابته لكنه لم يكن "ثوريا" بما فيه الكفاية من وجهة نظر أحمد قاسم، وكان القليوبي أيضا يميل إلى أنه يجب أن نكون أكثر راديكالية مقللا من شأن الجوانب العملية، وكان القليوبي أيضا عضوا في جماعة أدباء الغد التي ضمت لفيفا من الأدباء والكتاب والشعراء الشباب اليساريين.

محمد كامل القليوبي

ويبدو أنني كنت في عجلة من أمري، فقد كان القليوبي يعتذر كثيرا في آخر لحظة عن عدم حضور الاجتماعات، بحكم انشغاله في أعمال أخرى كثيرة منها أنه كان يواصل العمل كمهندس في كوبري 6 أكتوبر في منطقة تقع عند نهاية شارع الجلاء، وأظن أنه كان شاهدا على "اغتيال وتدمير" أثر تاريخي هائل هو" كنيسة كل القديسين" الرائعة البناء التي كانت كائنة في نهاية الشارع قرب نهر النيل، وكنا نجلس على المقاعد الخشبية الطويلة في انتظار "مترو" مصر الجديدة، لكي نتأمل في هذا المعمار الفريد الذي قرر المهندسون إزالته لتحميل الكوبري القبيح الشكل جدا مكانه.
وكان القليوبي أيضا مشغولا بالاستعداد للسفر إلى موسكو. أما أحمد قاسم فكان أيضا يبحث عن إطار ينطلق منه لعمل أفلام تسجيلية طبقا لمفهومه الخاص في سينما التحريض الثورية الملتهبة. وكان القليوبي لا يفصح في الكثير من الأحيان عن رأيه.

آفاق السينما
وجريا وراء فكرة التأصيل النظري فكرت مع فتحي فرج في نفس الفترة في إصدار مجلة سينمائية فصلية تتخلص تماما من مشكلة التوزيع، فقد قررنا أن نجعلها توزع على المشتركين فقط، على أن نؤمن لها مسبقا ألف اشتراك. وحسبنا حساباتنا على أساس أننا إذا تمكنا من جمع ألف اشتراك مضروبا في مبلغ معين (قيمة الاشتراك السنوي وقتها حددناها على ما أتذكر بجنيهين) فسوف يكفل لنا مبلغ الألفي جنيه أن نصدر مجلة محترمة.
وقمنا بطبع إيصالات للاشتراكات، وتعهد كل منا بحماس زائد، بالعمل على جمع عدد محدد طموح من الاشتراكات. وأخذنا نتصل بأصدقائنا، وبعدد من السينمائيين الشباب وأعضاء جماعة السينما الجديدة وجمعية الفيلم وبعض المثقفين والمهتمين وطلاب الجامعة. ولكننا عجزنا بعد ثلاثة أشهر، عن تجاوز ثلث الألف المطلوب اشتراكهم ضمانا لتوزيع المجلة بالبريد على كل المشتركين. وكنت قد اخترت لها اسم "آفاق السينما" (فوجئت بعد سنوات باختيار نفس الإسم لسلسلة كتب سينمائية تصدر من هيئة قصور الثقافة). ووافق فتحي فرج، وقام بحماس بطبع دفاتر خاصة بالمجلة يحمل اسمها، وخاتما مطاطيا لختم الإيصالات، ولم يدخر وسعا في الاتصال بأصدقائه وإقناعهم بالاشتراك مثل رأفت الميهي وماهر السيسي وعلي بدرخان ومدكور ثابت وغيرهم، وكان يوقف البعض منهم الذي نلتقيه في الشارع ويطلب منه دفع الاشتراك.
السادات مع كارتر وبيجين بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد

قفزة السياسة
زار السادات القدس في نوفمبر 1977، وأجرى محادثاته التي تعثرت لكنه أراد أن يجعلها تبدو وقد نجحت بأي ثمن، وأعلن أن "حرب أكتوبر هي آخر الحروب". وأصبحنا شهودا على نهاية عصر كامل من التاريخ المصري، وعلى هزيمة أحلام جيلنا الذي لم يحارب في 67 ولم يهزم في "الحرب"، كما لم يعبر القناة في 73 ولم يؤخذ رأيه في "السلام". وبدأت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تصبح شديدة الوطأة.
القليوبي أعلن في 1978 أنه ذاهب إلى موسكو لاستكمال دراسته السينمائية. وأحمد قاسم ذهب يبحث عن مشاريع جادة لعمل أفلام مع مركز الأفلام التسجيلية ثم مع شركة يوسف شاهين. وفتحي فرج قرر السفر إلى السعودية للعمل هناك في الصحافة والإعلام ودراسة "شكل التحولات القادمة إلى المنطقة انطلاقا من تلك الدولة التي لا نعرف عنها شيئا والتي أصبحت قوة مالية ضخمة لابد أن يكون لها دور سياسي مواز". وأنا.. أصبح مطلوبا مني العمل خارج القاهرة في أقاصي الصعيد المصري في منطقة نائية في محافظة أسيوط حيث حرمت من الكهرباء لمدة ستة أشهر (ربما على سبيل العقاب!).

وقمنا بتكليف الصديق التاريخي الراحل "نديم ميشيل" بمساعدتنا على إعادة الاشتراكات إلى أصحابها، وهي دورة عكسية مأساوية شاقة لا أظن أن لها سابقة في تاريخ الصحافة السينمائية وغير السينمائية في أي بلد من بلدان العالم!
نهاية الطريق
في تقديري، وأنا أكتب الآن في 2008، أن تجربة "السينما الثالثة" لم تفشل فقط بسبب إحباطاتنا الشخصية، بل أساسا لأنها كانت حركة تريد أن تزرع نفسها في مناخ معاكس تماما، فقد أحدثت المتغيرات السياسية في مصر زلزالا قلب كل القيم والمفاهيم، وبدأ تطبيق سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي تعني عمليا تخلي الدولة عن الإنتاج وتركه للرأسماليين، وأصبح الحصول على سلع من المنطقة الحرة في بورسعيد أهم من مليون قصر ثقافة، وأصبح المقابل الذي يحصل عليه الناقد من كتابة مقال طويل عريض في جريدة "المساء" (وهو 5 جنيهات) لا يكفي لتناول وجبة عشاء بعد أن كانت تكفي لعدة أيام.
وكانت تلك التجربة التي بدت "ثورية جدا" تريد أن تعثر لها على تربة في مناخ أبعد ما يكون عن البيئة الثورية، بل هو بحق، مناخ الثورة المضادة المتوحشة التي أخذت تطارد وتغلق وتحاصر، وتضرب بيد من حديد ومن صفيح، وبكل الطرق، وكان مجرد التجمع لسماع أغاني الشيخ إمام في بيت أحد الأصدقاء كفيلا بأن يخرج علينا العشرات من كلاب السلطة لمطاردتنا!
الفشل بهذا المعنى كان موضوعيا تماما، فقد كانت "السينما الثالثة" تجربة تتجاوز الواقع وتسعى بأي طريقة، وبحسن النوايا والاندفاع الشخصي وحماس الشباب وحده، إلى التحليق فوق الواقع، فكان أن سقطت قبل أن تحلق. لكن نهايتها كانت أيضا إعلانا عن غروب عهد، وبزوغ عهد آخر.. سنغترب فيه ونصبح بعيدين.. بعيدين.

الأحد، 28 سبتمبر 2008

"الغوريلا تستحم عند الظهر"


تحية لدوسان ماكافييف
(مع فيديو)

"الغوريلا تستحم عند الظهر" Gorilla Bathes at Noon ليس فيلما جديدا بل مضى عليه حتى الآن 15 عاما بالتمام والكمال. إنه الفيلم الذي أخرجه واحد من أهم السينمائيين في عالمنا المعاصر، وهو السينمائي المبدع دوسان ماكافييف Dusan Makavejev، الذي لم يعد بكل أسف، في استطاعتنا أن نقول عنه "اليوغسلافي" بعد ان تفككت يوغسلافيا، وتفككت معها مدرسة سينمائية مهمة.
ويمكن القول إن "الغوريلا تستحم عند الظهر" آخر الأعمال البارزة في مسيرة مخرجه الذي بدأ بداية قوية في الستينيات، في زمن بيروقراطية الحزب الشيوعي، وديكتاتورية زعيم يوغسلافيا القوي تيتو، لكنه أخرج أعظم أفلامه في تلك الفترة. فهل هذه مفارقة؟

لقطة من فيلم "الغاز الكائن البشري"

ماكافييف الذي تجرأ على انتقاد الحزب والجمود السياسي والمذهبي في أفلامه الثلاثة الأولى التي سخر فيها كما يشاء من النظام، بل ودعا في فيلمه الأشهر "ألغاز الكائن البشري" The Mysteries of the Organism إلى الحرية الجنسية كوسيلة لتحرير المجتمع استنادا إلى نظريات العالم الألماني الشهير فيلهلم رايخ، انتهى بأن هاجر إلى الولايات المتحدة حيث قام بتدريس السينما لسنوات في كاليفورنيا، ثم صنع عددا من الأفلام منها "مونتنجرو" و"طفل الكوكاكولا" و"فيلم حلو" قبل أن يقدم آخر أفلامه المهمة وهو "الغوريلا" الذي عرض عروضا محدودة عام 1993. ولا نعرف ما هو مصير ماكافييف حاليا بعد أن تقدم في العمر. ربما لايزال يدرس السينما ويعيش على الماضي الذي كان.

سينما التجريب
كان ماكافييف، الذي درس علم النفس قبل أن يدرس السينما والتليفزيون، مهتما بالتجريب، وبخلق لغة جديدة، بصرية، يستخدم فيها أسلوب "الكولاج" الشائع في الفن التشكيلي. وقد وصل سينمائيا إلى السيريالية، وفكريا إلى الفوضوية أي التمرد على كل المؤسسات الاجتماعية ورفضها.

أما "الغوريلا تستحم عند الظهر" فهو فيلم درامي- تسجيلي، فيه ملامح كثيرة من أسلوب ماكافييف المعروف: تداخل السرد، الكولاج، التعليق الصوتي، استخدام مواد من الأرشيف، المزج بين الخيال والواقع، الاعتماد على لامنطقية الأحلام التي يمزجها أيضا بالهواجس الشخصية بالواقع، وتوليد الضحك من الماساة. لكن الفيلم رغم ذلك، تشيع فيه لمسة من الحزن والرثاء لعصر كامل ولي، ومفاهيم زالت، ولم يبق منها سوى رأس لتمثال مقطوع للزعيم الشيوعي فلاديمير التيش (لينين) الذي ألهم الملايين في الماضي وحتى الماضي القريب. هل عاد ماكافييف بعد زوال العصر السوفيتي للترحم على ذلك العصر؟
يعتمد الفيلم على الممثل الواحد الذي يروي القصة في سياق أشبه بـ :المونولوج". إنه جندي في الجيش السوفيتي الأحمر السابق، كان متمركزا مع القوات السوفيتية في ألمانيا الشرقية السابقة، وقد ادخل المستشفى في وقت ما لتلقي العلاج. وعندما غادرها وجد أن جيشه قد رحل وتركه في الخلف، الأمر الذي اعتبره نوعا من "الخيانة" الشخصية له، هو المخلص كل الإخلاص للقيم والمبادئ الايديولوجية التي تربى عليها الجيش الأحمر. لقد هرب جيش كامل من الخدمة تاركا وراءه جنديا واحدا متمسكا بأداء الواجب.
يستمر الجندي، ويدعى فيكتور بورسيفيتش، في القيام بواجبه، محافظا على زيه العسكري الرسمي اللامع، رافضا قبول فكرة أن كل ما ناضل من أجله طيلة حياته قد انتهى. إنه ابن ذلك البطل القومي السوفيتي الذي كان أول من رفع العلم الأحمر فوق مبنى الريشتاغ الألماني (البرلمان) في قلب برلين بعد دخول القوات السوفيتية ودحر النازيين عام 1945.

التداعي والواقع
في النصف الأول من الفيلم يستخدم ماكافييف لقطات من الفيلم السوفيتي التسجيلي الشهير "سقوط برلين"، وهو من كلاسيكيات المرحلة الستالينية في السينما السوفيتية: لقطات للجموع في تحية القائد ستالين أمام الكرملين، لقطات لدخول الجنود السوفيت إلى برلين.. هذه اللقطات تتداعى دائما في مخيلة بطلنا الجندي وهو يواجه مصيرا آخر عبثيا تماما.

يقبضون عليه ويودعونه السجن لفترة، ثم يطلقون سراحه ويعطونه بطاقة سفر لكي يعود إلى بلاده، إلا أنه يبيعها مقابل حفنة من الماركات سرعان ما تنفد فيلجأ إلى سرقة بعض الفاكهة حتى لا يموت جوعا.
يستمر في التجوال حتى يصل إلى منطقة خرائب خارج المدينة، يتخذها المتسولون والهائمون على وجوههم منطقة تجمع لهم بعيدا عن عيون القانون. يقيم علاقة بفتاة ضائعة.. يعثر على طفل رضيع ماتت أمه بعد أن شب حريق في منزلها أتى عليه تماما، يلتقط الطفل، ويعطيه للفتاة التي ترغب في تبنيه، يأتي تاجر من تجار السوق السوداء في زمن الانهيار، يعرض عليه مبلغا مغريا مقابل الحصول على الطفل. يتردد صاحبنا طويلا، لكنه يضطر للرضوخ تحت وطأة الإحساس بالجوع.

يتسلق تمثال لينين الضخم في ساحة المدينة، إنه يشعر تجاه التمثال بنوع من الرثاء بعد أن تدهورت حالته واصبح في حاجة للطلاء.. يذهب ويعود بمواد الطلاء ويتسلق التمثال ويبدا في طلائه بنفسه.
يقبضون عليه مرة أخرى ثم يطلقون سراحه، يقوم أخيرا تحت ضغط الحاجة ببيع زيه العسكري نقابل بضعة ماركات. وفي اللقطة الأخيرة نرى شاحنة ضخمة تحمل جسد ورأس تمثال لينين المقطوع إلى مثواه الأخير بينما يقف بطلنا في الساحة العامة الرئيسية وقد تأهب لبدء رحلة جديدة نحو عالم جديد.
يمتلئ الفيلم بالكثير من اللقطات التسجيلية التي صورت في بدايات حركة الاحتجاج التي انتهت بسقوط سور برلين ثم انهيارالدولة في ألمانيا الشرقية.
الممثل الواحد
وتعتبر تجربة اخراج الفيلم والاستعانة بالممثل المجري العظيم الذي قام بدور الجندي تجربة جريئة وربما أيضا غير مسبوقة في السينما الروائية، فالبطل يكشف لنا حقيقته في نهاية الفيلم عندما يواجه الكاميرا ويقول إنه ليس ألمانيا، وليس جنديا بالطبع، لكنه مجرد ممثل قام بتقمص الشخصية، وبذلك يزيل أي وهم لدى المشاهدين يتعلق بمرحلة ساد فيها الكثير من الأوهام أيضا.
إننا أمام رحلة أوديسية عبثية تبدا من "الفانتازيا" وتنتهي إلى الواقع الذي يظل قابلا لشتى التأويلات.
ورغم ما يحتويه الفيلم من نقد شديد لفكرة التمسك الأعمى بالأيويولوجية وإغفال التغيرات التي طرأت على الواقع، والإشارة إلى دور الإعلام التقليدي القديم في ترسيخ قيم ومفاهيم أحادية معينة، إلا أن الفيلم يحمل، على نحو ما، نغمة رثاء لعالم مضى، كما يعكس مخاوف صانعه من عالم جديد قادم.
في اللقطة الأخيرة يودع فيكتور زيه القديم، ويرفع أمام الكاميرا لافتة تحمل كلمات عن الحرية الكبيرة التي أصبح يتمتع بها بعد ان ودع ماضيه، لكننا نراه وحيدا ضائعا لم يصل بعد إلى نهاية رحلته الأوديسية، وربما لن يصل أبدا.

شاهد مشهد العناوين من "ألغاز الكائن البشري"

الخميس، 25 سبتمبر 2008

كلاسيكيات حديثة: "اسكندرية ليه؟"

هذا المقال كتب ونشر عام 1978 أي منذ ثلاثين عاما، بعد عرض فيلم يوسف شاهين تجاريا في مصر. وهو بالتالي يعبر عن وعي وفكر صاحبه في ذلك الوقت ومنهجه في النقد والتحليل، بدون أي اضافة أو حذف.
منذ فيلم"الأرض" (1969).. ظل يوسف شاهين يقدم أفضل إنجازات ذلك الإتجاه الآخر المتقدم داخل السينما المصرية، أو الإتجاه نحو سينما تفكر أو سينما تسعى لتقديم الفكر والمتعة الفنية في آن، وتطمح الى تغيير الأذواق السائدة للمشاهدين ولو عن طريق الصدمة البصرية.
وقد قطع يوسف شاهين، شوطاً رائعاً على طريق تحرير أداته السينمائية وتحويلها الى وسيلة لتناول الواقع الذي يعايشه، من خلال رؤيته الذاتية الخاصة لهذا الواقع.
في فيلم"الإختيار" ـ الذي أخرجه عام 1970 ـ قدم شاهين نقداً ذاتياً مريراً كونه أحد المثقفين المصريين الذين شاركوا بسلبيتهم وعجزهم وإنعزالهم عن الواقع، فيما حدث عام 67. ثم عاد في" عودة الإبن الضال" (1976) لكي يعكس إجتهاده الخاص في فهم طبيعة التحولات داخل البنية السياسية والفكرية للطبقة الوسطى المصرية خلال فترة صعودها وحتى مرحلة التردي والإنهيار التي أعقبت هزيمة 67. أما في "اسكندرية ..ليه" ـ الذي أنتجه بالإشتراك مع هيئة الإذاعة والتليفزيون في الجزائر عام 1978ـ فإنه يتناول ما يمكننا أن نطلق عليه بدايات تكون وعي الفرد داخل الطبقة.. في علاقته بذاته وطموحاته وأحلامه وفي علاقة طبقته بالطبقات الأخرى وبالمجتمع ككل. ومن خلال ذكرياته الخاصة وإنطباعاته عن بدايات تفتح وعيه، يتأمل يوسف شاهين في الجوانب السياسية والإقتصادية والثقافية التي ساهمت في صنع التكوين الفكري لأبناء الجيل الذي ينتمي اليه، بكل تناقضاته وصراعاته وآماله وإحباطاته وتشوشه الفكري، وسعيه في الوقت نفسه، الى تجاوز ذلك التشوش نحو رؤية أوضح للواقع والمجتمع. لكن" اسكندرية.. ليه" من الناحية الأخرى، ليس بحثاً منهجياً حول صراع الطبقات في مصر في الأربعينات، أو تحليلاً سياسياً متكاملاً لوضع جيل الاربعينات ـ أي الجيل الذي كان يجتاز مرحلة الشباب في تلك الفترة ـ في علاقته بالتغيرات التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية والتي إنعكست بشدة على البنية الإقتصادية والسياسية. ان تناول "اسكندرية .. ليه" على هذا النحو، لن يؤدي فقط الى افساد مشاهدتنا له، وإنما سوف يصبح في نهاية الأمر، نوعاً من التعسف والقسر، الذي يلوي عنق الحقائق ويختزل العمل الفني الى معادلات ذهنية ساذجة.
الفيلم يمس كل هذه الجوانب بالطبع. ولكن "اسكندرية .. ليه"، على نحو ادق، يمكن إعتباره رؤية شاعرية لفنان.. أو "بورتريه" وضع خطوطه فنان يشعر بحب شديد واحساس دافق تجاه مدينته التي نشأ وتربى فيها، عاكساً من خلال خطوطه وألوانه، إنطباعاته الخاصة عنها في تلك الفترة، كمدينة للطموح والأحلام والحب والنضال والحرب والجشع والتمرد والثورة.
و"اسكندرية.. ليه" على هذا النحو اذن، يمكن اعتباره "رؤية ذاتية" .. ولكنها رؤية ذاتية تنبع من خيال موضوعي. أي أن الرؤية الذاتية هنا ليست مستمدة من مجرد إنطباعات عابرة أو مذكرات قديمة كتبت في فترة وقوع الأحداث، ولكنها رؤية تكونت خلال نمو الوعي لدى الفنان طوال أكثر من ثلاثين عاماً. وعندما أعاد هو صياغتها في أواخر السبعينات استعان بخبراته الفكرية التي ساعدته على هضم وإستيعاب كافة الجوانب الموضوعية التي أحاطت بواقعه وحكمت منطق حياته خلال تلك الفترة.
"اسكندرية .. ليه" هو أكثر أفلام يوسف شاهين نضجاً وتحقيقاً لفكرة المزاوجه بين الذات والواقع. وسوف يبقى هذا الفيلم باستمرار مفتاحاً لفهم مسيرة مخرجه حتى اليوم. و"اسكندرية .. ليه" أيضاً هو عودة الى الماضي على نحو ما، أو "فلاش باك" طويل يتأمل فيما وراء "الإختيار" و" الإبن الضال" . ولا تصدر العودة الى الماضي هنا عن رغبة في الهروب من مواجهة الحاضر، بقدر ما هي محاولة لفهم الحاضر وتفسيره في ضوء الماضي.
أحلام الهروب
داخل بورتريه " اسكندرية .. ليه" هناك "يحيى" الذي يعبر عن يوسف شاهين نفسه عندما كان شاباً في الثامنة عشرة من عمره، ينتمي الى أسرة من الطبقة التي تتملكها دائماً فكرة الترقي والصعود الى صفوف الشريحة العليا في المجتمع. ولكن لأن اسرة "يحيى" لم تكن تمتلك ذلك المشروع التجاري الحر الكبير الذي يكفل لها الصعود، كان يتعين عليها أن تواجه ظروفاً قاسية خلقتها الأوضاع المعقدة للحرب العالمية الثانية. ودفع تمسك الأسرة بالمظاهر الإجتماعية السائدة، الى التضحية بالكثير من أجل أن تلحق إبنها " يحيى" بكلية فيكتوريا.. حيث يدرس أبناء الباشوات والأرستقراطية المصرية. من أجل هذا، ترك والد يحيى المحاماة والتحق بوظيفة تضمن له دخلاً ثابتاً يقتطع اغلبه لدفع تكاليف الدراسة لإبنه.
لكن الأسرة لا تزال أيضاً تتمسك بالتقاليد المظهرية لحياة الطبقة الوسطى. افرادها مشغولون طوال الوقت باعداد الطعام واستقبال الزوار والثرثرة والتردد على محال البضائع الإستهلاكية ومحاولة نسيان الأزمة من خلال الإستغراق في لعب الورق. كما يسعون أيضاً الى العثور على بعض الحلول، فهم يدبرون لتزويج إبنتهم والتخلص من أعبائها، الأب "قدري" يسافر الى لبنان للبحث عن مخرج لأزمة الأسرة، وتؤجر الأسرة الشقة المطلة على البحر مقابل مبلغ من المال، ثم تنتقل الى مسكن متواضع في أحد الأحياء الشعبية. في نفس الوقت، تتمسك الأسرة بالقيم الوطنية التي تتمثل في رفض الإستفادة من الأوضاع الفاسدة الموجودة، حيث كان التعامل مع الإنكليز يمثل أحدى وسائل تحسين الوضع الخاص. فلا يزال عائلها ـ المحامي السابق ـ يستطيع الصمود في وجه الإغراءات، يتبنى الدفاع عن قضايا الرأي التي يعلم مقدما أنها خاسرة، فضلاً عن عدم تحقيقها أي مكسب مادي له!
وسط هذه "التركيبة" يهرب يحيى لتحقيق الذات عن طريق التمثيل والموسيقى، مثله الأعلى نجوم هوليوود في الأربعينات.. يتضح هذا في ادمانه على مشاهدة السينما الأمريكية الشائعة كما نزى في المشهد الأول.
الحلم الأمريكي
ويتميز " يحيى" عن زملائه وأصدقائه الأرستقراطيين من أبناء " كلية فيكتوريا" بحساسيته المفرطة التي تدفعه الى رفض ممارسة الجنس مع احدى العاهرات التي يلتقطها زملاؤه من الشارع ويمارسون معها الجنس في سيارتهم. كما يتفوق عليهم بذكائه الحاد وطموحاته.. ومحاولته التسامي على وضعيته عن طريق التعلق بحب المسرح والتمثيل والتصوير السينمائي أيضاً، كما نرى في مشهد أدائه لدور "هاملت" أمام زملائه في الفصل الدراسي، أو من خلال الفيلم السينمائي الذي يقوم بتصويره وعرضه على اصدقائه، وهو فيلم حقيقي من الأرشيف الخاص ليوسف شاهين، صوره عن فترة دراسته بكلية فيكتوريا وأدخله في الفيلم لكي يؤكد على عدم إنفصاله عن بطله الذي يمثل دوره.
وبينما يسعى والد يحيى لإعداده لتقبل فكرة دراسة الهندسة، كمهنة محترمة مضمونة النجاح، تستقر فكرة دراسة التمثيل داخل وعي يحيى الذي يرى أيضاً أنها مهنة لا تقل احتراماً.. ولم لا؟! وبالتدريج تكبر الفكرة عنده وتتحول الى حلم طاغ بالسفر الى أمريكا لدراسة التمثيل، فأمريكا هي القوة الجديدة الصاعدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ورمز الحرية بالنسبة لجيل يحيى.

وتتكشف مدى قوة ذلك الحلم، عند مقارنة تردد "يحيى" وخجله من حضور حفل بمنزل أحد أصدقائه الأرستقراطيين بسبب رداءة ملابسه، وبين جرأته التي تدفعه الى التوجه لمقابلة احدى أميرات العائلة المالكة في قصرها لكي يطلب منها مساعدته في تقديم حفل تمثيلي. في الحفل، وعند مواجهته الجمهور لأول مرة، يفشل بطلنا تماماً وتتهاوى مجهوداته. ولكن الفشل يدفعه الى التمسك أكثر، بفكرة السفر والدراسة. ويستقر الأمر أخيراً داخل أسرته، على احتضان فكرته.. تحقيقاً للحلم الذي يراود الأسرة أيضاً بأن يصبح يحيى " شيئاً كبيراً" .. كما تردد الأم.
من ناحية أخرى، هناك أسرة "محسن" .. صديق يحيى وأبن شاكر باشا (فريد شوقي) غني الحرب، الذي استطاع عن طريق عقد الصفقات مع الإنكليز، أن يحقق ثروة طائلة وان يمتلك شركة للنقل البحري يستغل عمالها الى أقصى حد. وهو ينظر باستعلاء الى أسرة يحيى، ويستنكر محاولتها تدبير المال اللازم لتغطية تكاليف رحلة يحيى الى أمريكا، حيث يعتبرها نوعاً من الجرأة والرغبة في مناطحته شخصياً. فهو يريد أن يرسل ابنه لدراسة الإقتصاد في انكلترا وينزعج كثيراً من تذكير ابنه له بأن ما يطلبه منه من مال للمدرسة لا يوازي جزءاً زهيداً مما يقتطعه "الباشا" من عمال شركته. ويعلق الرجل بقوله: " الولد بيتكلم زي الولاد الشيوعيين"!
شاكر "باشا" يشتري الباشوية بأمواله، ويسعى لحماية ثروته وحياته من انتقام الوطنيين الذين يهددون باغتيال كل من يتعاون مع المحتلين الإنكليز، فيشتري سيارة لا يخترق زجاجها الرصاص. ولكن كل ما حققه يصبح مهدداً بالضياع نتيجة للإنتصارات التي يحققها الألمان على سادته الإنكليز، واقترابهم من غزو مصر عن طريق الاسكندرية.
ويلعب التهديد النازي بالغزو، دوراً مصيرياً أيضاً في حياة أسرة اخرى، هي أسرة "دافيد" الصديق الثاني ليحيى وهي أسرة يهودية مثل كثير من الأسر اليهودية الثرية التي كانت تعيش في الاسكندرية ولكنها تبدو مختلفة على نحو ما. فوالد دافيد(الذي يلعب دوره يوسف وهبي) هو رجل يمتلك رؤية سياسية واعية، تجعله يربط بين ظهور البترول في السعودية وبين الدعم "الإمبريالي" الحتمي لقيام دولة اسرائيل في فلسطين. كما يتنبأ بأحداث عنيفة سوف تجتاح المنطقة بأسرها لسنوات طويلة قادمة. وهو احد اقطاب الحركة اليسارية المصرية في الأربعينات كما يتضح في مشهد الإجتماع السياسي الذي يعقده في منزله.
وترتبط "سارة" شقيقة دافيد، بعلاقة حب قوية مع ابراهيم (احمد زكي).. الشاب "المسلم" الذي يدرس الحقوق، وينتمي أيضاً لأحدى المنظمات الشيوعية التي تكونت في تلك الفترة كما يحضر الإجتماعات التي يعقدها والد سارة في منزله. وفي احد مشاهد الحب التي تجمع بين ابراهيم وسارة. يهمس لها معترفاً بأنها هي التي فتحت عينيه على الطريق الصحيح. والفيلم يشير هنا الى علاقة اليهود المصريين بنشأة التنظيمات الشيوعية في الأربعينات، وهي حقيقة تاريخية بلا شك ، لها أسبابها ومنطلقاتها وظروفها المعروفة.
ومع اقتراب الاختراق النازي من الحدود المصرية، تضطر أسرة دافيد الى الهجرة.. الى جنوب افريقيا أولاً، ثم الى حيفا في فلسطين بعد ذلك. وبينما يذهب دافيد الى امريكا للدراسة العسكرية لكي يصبح فيما بعد ـ في الغالب ـ جندياً في جيش الصهيونيين، تعود سارة الى الاسكندرية وتقوم بزيارة ابراهيم في السجن الذي يقضي فيه فترة عقوبة لمناهضة النظام، وتقص عليه ما شهدته في فلسطين من اعمال العنف والإرهاب التي يمارسها اصحاب "الجنسية الجديدة" كما تقول. ولا نعرف كثيراً عن نشاط ابراهيم ـ قبل دخوله السجن ـ سوى انه يناصر العمال في صراعهم الاقتصادي ضد شاكر باشا.
تخلف الطبقة العاملة
ينتقد الفيلم ايضاً تخلف الوعي عند الطبقة العاملة المصرية في تلك الفترة، عندما يجعل العمال بعد حصولهم على حقوقهم من الباشا، يذهبون لارتياد احدى الحانات حيث ينفقون النقود في احتساء الخمر والثرثرة ثم الغياب عن الوعي! ويشير كذلك، الى عزلة المثقفين الثوريين عن العمال، عندما يجعل احدهم يعبر عن عدم فهمه لما يقول له ابراهيم، ثم يعبر عن سخريته من طريقته في الحديث معه .. فيقول انه لا يجد اختلافاً بين طريقته وبين الطريقة المتعالية الجوفاء التي يتحدث بها شاكر باشا معهم!
يركز الفيلم على العلاقة الشاذة التي تنشأ بين عادل بك (شقيق زوجة شكار باشا)، وهو ارستقراطي عاطل بالوراثة يحيا على اموال شقيقته وزوجها، وبين جندي بريطاني من جنود الإحتلال الذين يترددون على صالات اللهو المنتشرة في الإسكندرية. يقول عادل بك عن نفسه انه "ارستقراطي شريف".. وطني يمارس الوطنية على طريقته الخاصة. فهو يشتري الضباط والجنود الانكليز السكارى، يقوم بتوريدهم له احد "البلطجية" المحترفين "مرسي" (عزت العلايلي) ويتولى عادل بك الفتك بهم، من اجل ان يصبح بامكانه ان ينام مطمئناً الى وطنيته!
ولكن عادل بك يرثى لحال جندي بريطاني شاب اتاه به "مرسي"، ويلتقطه، وتنشأ بينهما علاقة حب مبهمة، يحيطها يوسف شاهين بجو شاعري، ويقدمها برقة بالغة، للإشارة الى موقفه الإنساني الذي يتمثل في ضرورة التعايش بين البشر جميعاً، وعن حاجة البشرية الى الحب والسلام.
ويتدعم هذا الموقف ، في مشاهد أخرى يزدحم بها الثلث الأخير من الفيلم ، حيث نرى محاولة للربط بين حزن عادل بك على سقوط صديقه الإنكليزي قتيلاً في المعارك، والمشاهد التسجيلية للدمار الذي خلفته الحرب في المدن الأوروبية والألمانية، واللقطات الطويلة لمقابر العلمين وضحايا الحرب.. الخ.
ولا يخلو الفيلم ـ على أية حال ـ من وجود حس عام واضح، حول فكرة التعايش بين الأديان وبين البشر عموماً. وهي فكرة لا غبار عليها في حد ذاتها غير ان تناولها على نحو مجرد، يمكن ان يقود الى بعض المنزلقات الفكرية. فشاهين يتعامل مع اغلب شخصياته، بإعتبارها ضحايا يتعاطف معها، ويلتمس لها الأعذار كما يتحسس الجوانب الإنسانية والإيجابية الكامنة في ضحاياه، ويسعى لإبرازها.. ابتداء من الضباط الأرهابين وأسرة البطل والباشا والبلطجي، الى عادل بك والأسرة اليهودية والجندي البريطاني، وأيضاً ذلك النموذج الذي يقدمه بسرعة لأحد المتعاونين مع الفاشيين الإيطاليين حيث نرى جنود الحكومة يسحبونه في الشارع وسط صراخ زوجته!
"عادل بك" ـ رغم وطنيته ذات الطابع الفاشي، هو انسان يمتلك الإحساس الرقيق بالإنسان والحياة. ويدعم طموحات" يحيى" ويساعده في التدريب على الحفل الإستعراضي، وهو الذي يدافع عن حق أسرة يحيى في تحسين مستواها امام استنكار شاكر باشا. وعندما يتطلع صديقه الجندي البريطاني الى القصر الذي يعيش فيه ويعلق قائلاً ان هناك من يعيشون في رفاهية رغم التخلف الحضاري العام للبلد، يذكره "عادل بك" في وطنية نادرة، بأن أجداده المصريين كانوا يبنون الأهرامات في الوقت الذي كانت جدته تتناول افطارها بقضم ذراع جده!

الطابع الفردي

ويتمتع شاكر باشا نفسه بطيبة القلب التي تجعله يساعد ـ بطريقة غير مباشرة ـ ابنه وصديقه يحيى في اقامة حفلهما التمثيلي، عن طريق نقوده واتصالاته مع اصحاب الفرق الإستعراضية. وهناك ايضاً الأميرة الاستقراطية التي تدعم نشاط يحيى وزملائه.. وهكذا.
ويرصد الفيلم، منذ بدايته، تفجر النزعة الوطنية لدى الضباط المصريين، ومحاولتهم البحث عن طريق للخلاص في ذلك الوقت. ويتتبع الفيلم سلوكهم طريق الإرهاب وتنظيمهم الاغتيالات ضد المتعاونين مع الانكليز، ويدين رؤيتهم القاصرة التي صورت لهم مثلاً ان اغتيال تشرشل عند زيارته مصر، يمكن ان ينهى الحرب لصالح الالمان، ويفتح امامهم الطريق لتخليص البلاد من الانكليز، وهي النظرة التي انتقدها جمال عبد الناصر بشدة في كتابه "فلسفة الثورة" فيما بعد.
ينتقد الفيلم ذلك الطابع الفردي والمغامر والنظرة المراهقة في حل قضايا الواقع، التي كانت تسيطر على الضباط الوطنيين "الأحرار" من خلال المشهد الذي نرى فيه احدهم وهو يمسك بمسدسه ويشير تجاه قصر رأس التين بالإسكندرية حيث ينزل الملك فاروق، ويقول ان رصاصة واحدة كفيلة بالقضاء على الطغيان. كما يشير الفيلم الى افتقاد هؤلاء الضباط الى خلفية ثقافية وايديولوجية والى الطابع التجريبي الذي كان يحكم نظرتهم. يقول احدهم لزميله ان "حليف اليوم عدو الغد" .. وعندما يسأله زميله متعجباً عن المصدر الذي قرأ العبارة فيه، يقول انه لم يقرأها في اي مصدر بل فكر فيها لتوه.
ويشير الفيلم ايضاً الى اتصال الضباط بالاخوان المسلمين للحصول على تأييدهم واتصالهم بتنظيمات اليسار.. فأحدهم يقوم بتكليف والد يحيى المحامي بالدفاع عن "ابراهيم" الشيوعي بعد اعتقاله.
ومن الحقائق التاريخية التي يوليها الفيلم عنايته ويتتبعها، اتصال الضباط الوطنيين بالألمان النازيين قبل معركة العلمين، اشارة الى الاتجاه الذي كان يرى ان خلاص مصر من الاحتلال البريطاني يكمن في التعامل مع اعدائهم الالمان.
ويربط شاهين في الكثير من اجزاء فيلمه بين المشاهد التسجيلية لمعارك الحرب العالمية الثانية، كما يدخل مشهداً لاضطهاد اليهود ومطاردتهم في شوارع المدن التي يحتلها النازيون، لكي يخلق مقارنة بين وضع اليهود الأوروبيين واضطهادهم على ايدي النازي، وبين وضع يهود الاسكندرية الذين كانوا يعيشون في سلام ورفاهية، حيث يجيء رحيلهم ـ أسرة دافيد مثالاً ـ هرباً من اقتراب الخطر النازي وليس نتيجة لاضطهاد من اي نوع.
ويعتني الفيلم عناية خاصة بتقديم شخصياته من خلال مشاهد اللقاء والوداع. فالاسكندرية هي ايضاً مدينة اللقاءات والافتراقات. هناك اللقاء بين سارة وابراهيم في احد الاجتماعات السياسية، وهناك اللقاء الاول بين عادل بك والجندي البريطاني الشاب، وهناك مشهد الفراق بين ابراهيم وسارة بسبب رحيل الأسرة اليهودية، ثم لقاؤهما في السجن بعد عودة سارة. وهناك مشهد الوداع بين عادل بك وتومي بعد ذلك. وبينما كان محتماً ان تلتقي سارة وابراهيم وتستمر علاقتهما التي اثمرت طفلاً، تنتهي العلاقة الشاذة والمستحيلة بين عادل بك وتومي.. لانها علاقة بين مصري وجندي من جنود الإحتلال، رغم احتمال كونه ضحية اخرى من ضحايا الاحتلال نفسه. وفي هذا المشهد يقوم" تومي" بادانة وطنية عادل بك ورؤيته المريضة عندما يقول له ان قتل سكير ان سكيرين من جنود الانكليز لن يؤثر في وجود الاحتلال البريطاني.

شاعرية حزينة
وهناك ايضاً مشهد مغادرة العائلة اليهودية للاسكندرية، الذي صوره شاهين بشاعرية حزينة، ومشهد وداع يحيى صديقه محسن عند سفره الى انكلترا بعد انتهاء الحرب، ثم وداع اسرة يحيى له عند سفره الى امريكا في النهاية. ويستخدم شاهين اسلوب "الفلاش باك" مرتين خلال الفيلم. المرة الاولى عندما يتذكر " يحيى" طفولته وحادثة اسقاطه شمعة عيد الميلاد التي احرقت جزءاً من تمثال المسيح وصراخ جدته العجوز التي تتهمه بحرق المسيح، ثم وفاة شقيقه الأكبر، وتمنيات الجدة بوفاة الأصغر "يحيى" بدلاً من الأكبر.. وهو المشهد الذي يترك تأثيره الحزين على نفسية "يحيى" الشاب ويرسم احساسه المأسوي تجاه العالم. وقد صوره يوسف شاهين بكاميرا حرة مهتزة وباستخدام عدسة مشوهة للمنظور تأكيداً لإبراز طابعه الكابوسي.
المرة الثانية التي يستخدم فيها " الفلاس باك" عندما تحكي سارة لأبراهيم عن الإرهاب الصهيوني في فلسطين.. حيث نرى احد اعمال العنف الذي يمارسه اليهود ضد العرب، كسبب مباشر لفرارها وعودتها الى الاسكندرية. في نفس المشهد. الذي لم تكن هناك ضرورة له في رأينا. نرى الاب اليهودي جالساً في سيارته يعلن بصوت قوي وبنفس طريقة الاداء المسرحي الشهير ليوسف وهبي، ادانته للارهاب" تحت اي عذر ومهما كانت الدوافع" . لكن الفيلم مع ذلك يتركنا دون ان نعرف على وجه التحديد ما اذا كان الرجل عاد الى مصر ام فضل البقاء في اسرائيل.
ومن بين العناصر المثيرة والمتميزة في الفيلم، تحول النجوم الذين استعان بهم يوسف شاهين، الى ادوات في يد المخرج يستعين بهم في صياغة افكاره ورؤيته، دون ان ينفرد احدهم باحتلال مساحة كبيرة من الاداء التمثيلي باستثناء الممثل " محسن محيي الدين" الذي قام بدور "يحيى" .. وبذل في ادائه مجهوداً كبيراً لكن دون الارتفاع الى المستوى المطلوب في اداء شخصية بمثل هذه الخصوصية والتعقيد.. مما اسقط اداءه في الميلودرامية والمبالغة في لحظات كثيرة.
وعلى الرغم من كل التحفظات الممكنة حول البناء الفكري او المعالجة السينمائية، الا ان "اسكندرية .. ليه" يظل تجربة طموح لمخرج معطاء يتطور على نحو مدهش ممتلكاً القدرة على اثارة خواطر مشاهدية ، طارحاً نماذج جريئة لسينما الفكر.
المشهد الأخير الذي نرى فيه بطلنا يواجه تمثال الحرية الشهير القائم على مشارف نيويورك، وفي عينيه يبدو فزع غامض، ثم تتحول لقطة التمثال الى لقطة لامرأة عجوز قبيحة تدوي بضحكات هستيرية مجنونة وتغمز بعينيها في تهتك واضح، يشير الى سخرية يوسف شاهين من ذلك الحلم الزائف الذي راوده في شبابه وراود ابناء جيله جميعاً في الاتجاه غرباً.. الى رمز العالم الحر.

الأربعاء، 24 سبتمبر 2008

بدون رقابة: خزعبلات صحافة النفط

* بعض الذين يكتبون في السينما، ولا أقول نقاد السينما لأنهم ليسوا نقادا، لا يعرفون من السينما إلا السينما الأمريكية، بل ولا يعرفون من السينما الأمريكية إلا أكثرها تفاهة وأدناها مستوى، أي الأفلام الشائعة الرائجة، ولا يكلفون أنفسهم ولو مرة واحدة، بالكتابة عن الأفلام الأمريكية "المستقلة" مثلا، أو التي تطور شيئا حقيقيا في لغة السينما نفسها مثل أفلام ديفيد لينش مثلا.
الذين يكتبون لجمهور من قراء بعض صحافة النفط، لا يستطيعون ابتلاع أو هضم هذه الأفلام لأنها "ثقيلة" على المعدة التي اعتادت على أفلام "الأكشن" والمغامرات السطحية الفارغة، والتقنيات البهلوانية في تنفيذ المشاهد. فالسنيما عند هؤلاء لا تختلف عن عروض "الأراجوز".. أي مجرد حركات تدغدغ الحواس ثم ينساها المرء، تماما مثل الكتابة عنها، حيث يلوك كاتبها الكلمات، وينتهك الحروف، ويحاول إخفاء الجهل بالتفاصح، وعندما يلجأ إلى التفلسف يبدو مثل "كابوي" يتفلسف!
* كانت هناك في وقت ما صحيفة دولية تصدر في لندن وتعلن عن نفسها باعتبارها جريدة العرب الدولية، وكانت تخصص صفحة سينمائية اسبوعية يكتبها ناقد سينمائي، هو قصي صالح الدرويش، الذي مهما اختلفنا معه، يظل رجلا مثقفا يتعامل مع السينما ليس كصنعة مغلقة كالنجارة أو الحدادة مثلا، بل كفكر انساني مفتوح يمكنه أن يساهم فيه بقدر ما يستطيع. ولذا كان يمكن أن نقرأ ما يكتبه قصي وأن نتجادل ونختلف حوله.
أما ما انتهت إليه هذه الصحيفة فبئس المصير حقا. فهناك "كتابة" عن السينما تظهر أسبوعيا أيضا حتى الآن، لكنها لا تجد ما تكتب عنه إلا ألاعيب السينما التجارية "الأمريكانية" جدا، أي الاستهلاكية الشائعة، وتركز على نجومها، بلوعلى ترجمة بعض المقابلات السريعة من الانترنت، والمضحك أيضا أنها تهتم بما يسمى بـ"التوب تن" أي الأفلام العشرة على قمة الإيرادات في السوق الأمريكية، كما لو كان أهل شبه الجزيرة الذين يكتب لهم هؤلاء قد اصبحوا بقدرة قادر، من مرتادي دور السينما في منهاتن في حين أن شبه الجزيرة تحظر العروض السينمائية، وإذا سمحت بتوزيع بعض اسطوانات الديجيتال فيشترط أن يكون من النوع "المجفف"، أي بعد تجفيفه من المناظر "الطبيعية" التي خلقها الله، لكي يصبح مثل نبات الصبار أي أقرب إلى النبت الشيطاني، والعياذ بالله!

* هؤلاء يذكرونني بما قاله ذات مرة محمد حسنين هيكل في وصفه لتدهور ما يسميه بـ"ألأمة"، حين قال "إننا نتصور أننا نكتب بينما نحن نترجم، ونترجم بينما نعتقد أننا نكتب"!
"جماعة تدمير السينما في العالم العربي" أصبحت تكتفي الآن بترجمة المعلومات والتحقيقات السريعة الاستهلاكية المبتورة من أدنى مواقع الانترنت الأمريكية، بدعوى أن هذا هو النقد السينمائي، والثقافة السينمائية، ويسوقونها لقراء لم يعد يشغلهم في الحياة إلا مطالعة باب الحظ والنجوم، وممارسة ألعاب الكومبيوتر التي تصيب بالتخلف العقلي، ومشاهدة قنوات الفضاء المعلبة بالفضائح المتحركة في صورة مغنيات للفيديو كليب "الثوري جدا" المقصود منه شئ واحد فقط هو "استفزاز أسامة بن لادن"!

جريدة العرب الدولية عموما، أصبحت حاليا تصلح لشئ واحد فقط: مسح زجاج السيارة.

* دائما ما نتكلم فنقول "السينما العربية" في حين أن أربعة أخماس الدول العربية لا تعرف السينما أو بمعنى أصح، إنتاج الأفلام الروائية، التي تعد من وجهة نظري "الدالة" الثقافية الأساسية على وجود فكر وفن سينمائي، فهي مثل الرواية، تعبر أفضل تعبير عن ثقافة مجتمع وخياله وفكره وتاريخه، مع كل الاحترام والتقدير للفيلم التسجيلي أو الوثائقي، لكنه شئ آخر.
من ناحية أخرى: "سينما عربية" بأي معنى؟ فهل هناك مثلا تشابه في الظروف أو آليات الإنتاج أو حتى طرق التعبير باستخدام اللغة السينمائية، بل وهل تحمل هذه الأفلام نفس السمات الفكرية والجمالية التي تجعلها تختلف مثلا عن "السينما التركية" أو "السينما البرازيلية"ّ؟
انا شخصيا أصبحت أحاول تجنب استخدام هذا التعبير، وأفضل بدلا منه وصف "الأفلام الناطقة بالعربية" خصوصا وأن عددا كبيرا من تلك الأفلام ينتج ويمول بالكامل في أوروبا، وتحديدا في فرنسا. فكيف يمكن أن نصف فيلما فرنسيا يدور بالكامل في فرنسا باعتباره فيلما عربيا حتى ولو كان موضوعه وأبطاله من العرب ويتكلمون بعض العربية. وأمامنا الايطاليين الذين لا يطلقون على الأفلام التي يصنعها مخرجون من أصل إيطالي في أمريكا أفلاما إيطالية.

* الطريف أيضا أن الكثير من النقاد العرب الذين تحدثت معهم أخيرا أجمعوا على أن تعبير "السينما العربية" يضر كثيرا بتمثيل أفلام العرب في مهرجانات السينما العالمية، فالقائمين على المهرجانات – كما يقولون- يكتفون عادة بفيلم واحد، من هذه الدولة أو تلك، لاختزال تمثيل "السينما العربية" فيه، في حين أن إيران، وهي دولة واحدة، يمثلها عادة أكثر من فيلم واحد، وكذلك أمريكا اللاتينية، فيقال مثلا هناك فيلم برازيلي وآخر أرجنتيني، وليس فيلما لاتينيا.
وجهة نظر جديرة بالتفكير، لكنها ربما كانت تنسف من الأساس دعوى العروبيين.. فهي على نحو ما، دعوة إلى "تفكيك" العالم العربي إلى دول مختلفة، أي ثقافات تمثل كل منها نفسها.. ولكن هذا طبعا أمام الغرباء أصحاب المهرجانات الكبيرة فقط.. حتى نضحك عليهم.. أليس كذلك!

عيد سعيد ومسلسلات مديدة

كل عام وأنتم بألف خير.. والسينما في العالم، وليس فقط في العالم العربي، بخير. وأتمنى ألا تكون السينما في العام القادم قد "تحجبت"، أو احتجبت في بلادي التي تشهد تغيرات شديدة الوطأة، بفعل الرياح الصحراوية الجافة الغاشمة التي ظلت تهب عليها من الشرق طيلة عقود فأحالت خضرة الروح فيها إلى جفاف مر وواقع مرير.كثير من مسلسلات رمضان ستمتد غالبا خلال العيد وربما إلى ما بعده.
لكن هذا ليس هو الموضوع. فما أردت أن اكتب عنه بشكل مختصر اليوم يتعلق بجانب في المسلسلات التليفزيونية التاريخية التي تتناول حياة شخصيات بارزة مثل "ناصر"، ظل دائما يلفت نظري منذ سنوات طويلة.
ولاشك أن الملايين تابعت هذا المسلسل لكي يتعرفوا على شخصية الرئيس جمال عبد الناصر الذي لاشك أيضا في قيمته التاريخية وزعامته ودوره البارز في تاريخ بلاده والمنطقة.
وتحية خاصة للصديق القديم باسل الخطيب الذي أخرج المسلسل باجتهاد وجهد كبيرين، ونجح في جوانب كثيرة.إلا أن الموضوع له علاقة أكثر بطريقة كتابة السيناريو، فهو شأن كل المسلسلات من هذا النوع (مسلسل "أم كلثوم" مثالا)، ومن خلال ما أتيح لي أن أشاهده من حلقات، يتبع نفس الطريقة المتخلفة التي تتلخص في وضع أحداث التاريخ التي قرأ عنها كاتب السيناريو (في الصحف والكتب والشهادات) على لسان الشخصيات وهي تتحاور.
انت مثلا بدلا من أن ترى حوارا "حقيقيا" يدور بشكل طبيعي بين شخصين لكي يكشف لك عن تأثير ما أو مغزى لحدث أو لقرار أو لموقف، تجد الشخصيات تواجه بعضها بعضا، ولكن ليس لكي تتحاور في "ديالوج"، بل لكي تحاور نفسها في "مونولوج" يقصد من خلاله عادة، رواية جزء من الأحداث التاريخية التي قرأ عنها المؤلف وقام بتجميعها.
ويصبح الحوار بالتالي مضحكا جدا وغير مقنع بالمرة عندما ترى شخصية ما تقول لأخرى: هل تتذكر ما فعلناه سنة كذا وكذا.. عندما كان الانجليز يرفضون كذا وكذا.. وجاء الاخوان وفعلوا كذا وكذا..؟؟
فترد الشخصية الأخرى لكي تستكمل المحاضرة السخيفة المملة والحوار المونولوجي المفتعل على النحو التالي: نعم.. وأتذكر فعلا أنهم فعلوا كذا وكذا.. ثم عندما اتفقوا مع فلان ضد الثورة، وأرسلوا "الحلواني" (مثلا) في مهمة ثبت أنها كانت مؤامرة خطيرة!
مثل هذا الحوار بل وأكثر فداحة منه يسيطر بالكامل على شخصيات مسلسل "ناصر" وغيره من المسلسلات المشابهة.
وليس من الممكن مثلا تصور أن عبد الناصر يمكن أن يتحاور بهذا الشكل الذي رأيناه، مع حسن الهضيبي (المرشد العام للاخوان المسلمين) ورفاقه عندما استقبلهم في بيته.. أو يوجه حديثه بمثل هذه الحدة والخشونة لهم مذكرا إياهم بما فعلوه وما فعله هو في محاضرة طويلة مباشرة، ثم يهددهم بشكل مباشر ثم يتركهم ويدخل إلى داخل البيت.
لقد كان عبد الناصر اكثر قدرة بكثير على المناورة .. ولم يكن ليتحدث بكل ما يفكر فيه أمام الآخرين هكذا، وهو شئ معروف عنه تماما.. ولكن المشكلة الأكبر أن هناك نقصا في الخيال كما يبدو من السيناريو.. وآسف أن أقول هذا لصديق آخر أعتز به هو الكاتب المثقف يسري الجندي. لكن يسري يرتبط ايضا بتقاليد سوق ذي مواصفات محددة.وربما يتساءل البعض: وما المطلوب إذن لكي تكون الدراما حقيقية وليست مفتعلة ومصنوعة على هذا النحو؟
الإجابة ليست سهلة، فليست هناك وصفة محددة، لكن الافضل كثيرا هو أن يلجأ الكاتب إلى خياله الخاص، يستدعي منه ومن خبرته الإنسانية، لكي يتصور كيف يمكن مثلا أن يدور حوار بين عبد الناصر وزوجته على مائدة الطعام، أو كيف يمكن أن يتحاور ناصر وعامر دون أن يوجها حديثهما إلينا في "حكي" مستمد من الأحداث التاريخية التي وقعت وانتهت فعلا، يستدعيها كاتب الدراما استدعاء لكي يسمعها علينا!
إن تحرير الخيال، والابتكار في بناء المشاهد، و"أنسنة" الشخصية المحورية، أي ردها إلى صفاتها الإنسانية، بأخطائها ومشاكلها واشكالياتها والتباسات المواقف عليها أحيانا ايضا، هو ما يجعلها أكثر مصداقية وقربا من الناس ومن الحقيقة ومن التاريخ، بدلا من تبني رؤية أحادية مصمتة لا ترى من الشخصية التاريخية سوى انتصاراتها وقوتها وزعامتها و...
ليست هكذا تكتب الدراما التاريخية، بل وليست هكذا تبني الدراما من الأصل ومن الأساس.

رسائل الأصدقاء

رسائل الأصدقاء هي ما يجعل لما يفعله المرء قيمة ومعنى، وهي التي تدفع إلى الاستمرار في العمل رغم كل المعوقات والعقبات، ولذا أحب دائما أن أحتفي بها وأخصص لها مكانا في هذه المدونة كما يليق بها.وأشير إلى أن أول تلك العقبات التي تواجهني هي ضيق الوقت، علما بأن هذه "المدونة"، وأنا سعيد بأن أصفها باسمها الحقيقي، ولا أزعم أنها "مجلة" كما لا أطلق على نفسي "رئيس التحرير"، لا تنشر إلا كتاباتي الشخصية التزاما بما قطعته على نفسي، وبالعنوان الذي اخترته لها أي "كتابات شخصية حرة...إلخ" حتى لا ألزم أحدا بتحمل "وزر" آرائي وأفكاري، ولا أحرج أحدا إذا ما طلبت منه الكتابة معي، على أنني مع ذلك، أرحب دائما بأي أفكار أو مناقشات لما أنشره فيها من آراء.

لكن هذا الالتزام يرتب علي بذل جهد مضاعف، وكتابة الكثير مما يكتب خصيصا للنشر في هذه المدونة، وليس إعادة نشر ما سبق نشره في الصحف السيارة وغير السيارة.أما تحويل المدونة إلى موقع شامل يتجدد يوميا ولا يعتمد على جمع مقالات لنقاد سبق نشرها، أو الحصول على مقالات الآخرين بموافقتهم أو بدونها، فأمر تتم دراسته حاليا بشكل عملي، على أن يحترم النقد السينمائي ونقاد السينما ويدفع لهم مكافآت مالية جيدة مقابل مساهماتهم، تقديرا لقيمة النقد وليس استغلالا للنقاد واستهتارا بهم.


رسائل الأصدقاء اليوم تشمل التالي:


* الصديق المخرج ابراهيم البطوط بعث رسالة يقول فيها "رجاء أن تعرف أن ما تفعله وتعرضه في مدونتك هو شئ شديد الأهمية. إنها المرة الأولى في التاريخ التي يمكننا أن نقرأ مقالا ثم نشاهد مقطعا من فيلم بشكل سهل للغاية ووقتما نشاء. إذن فالأمر يشبه محاضرة مستمرة نستطيع أن نحضرها في أي وقت نشاء. إن ما تفعله مهم، وأرجو أن تواصله لأطول وقت ممكن، وكن مطمئنا أنه يصل إلى الناس وأنه مهم. مع أطيب تمنياتي".

كل الشكر لابراهيم وأعده أن أستمر طالما أمدني الله بالصحة والقدرة.


*تلقيت رسالة من الصديق القديم الدكتور محمد حسن خليل يقول فيها:"عزيزى أمير: سينما جيلنا هى وعينا ومرآتنا وخلاصنا، وأحس بحميمية شديدة عندما أقرأ نقدك للأفلام التى ساهمت فى صنع وعينا وإضاءة وجداننا وإحساسنا بالجمال وسنين شبابنا التى صارت الآن بعيدة، فهل هو الحنين إلى تلك الأيام أم الإعجاب بتحليلك أم التأمل الفكرى فى قصة تكون وجداننا الفكر- فنى؟ لا يهم، أيا ما كان أو لو كان خليطا من كل ذلك، أردت أن أعبر لك عن الأحاسيس المركبة التى تجتاحنى عند قراءة مقالك عن "الإسكندرية ليه" كما اجتاحتنى عند قراءتى لرثائك ليوسف شاهين".

الدكتور محمد حسن كان زميلا أساسيا في إدارة العمل معي في "نادي السينما" في كلية الطب بجامعة عين شمس في السبعينيات، وظل يتابع كتاباتي.


* الصديق الناقد والصحفي ضياء حسني بعث إلي بما كتبه عن هذه المدونة ونشره في عدد شهر أكتوبر من مجلة "لغة العصر" وجاء فيها ما يلي:"الكتابة عن السينما عبر النقد السينمائي العميق أصبحت نادرة، كما أصبح إصدار مجلة سينمائية جادة ضربا من الجنون حيث تحول اهتمام الجمهور نحو أخبار نجوم الفن سواء كان غناء أو تليفزيون أو سينما، وبالتالي تحولت الكتابة عن السينما إلى نوع من النميمة. وفي ظل هذا الجو من الموت المعلن للنقد الحقيقي، امتنع النقاد السينمائيون عن الكتابة أو انخرطوا فيما هو سائد. أما أمير العمري، أحد أفراد الرعيل الأول من نقاد السينما المصريين فوجد في الانترنت متنفسا لنشر النقد السينمائي الجاد والحقيقي، بل ورأى أن الانترنت هو الحل العبقري لمواجهة هذا الطوفان من الكتابات السينمائية الغثة، فأسس مدونة "حياة في السينما". وأهمية هذه المدونة أن أمير من الذين أسسوا لمفهوم النقد السينمائي في مصر والعالم العربي".

كل الشكر لضياء طبعا على الثناء والتنويه. فقط أود أن أصحح للعزيز ضياء أنني لا أنتمي إلى "الرعيل الأول" من نقاد السينما المصريين فقد بدأ النقد في مصر في العشرينيات، كما أنني لست أيضا من الرعيل الأول الذي أسس لنقد علمي جاد، فربما كان هذا فضل جيل الخمسينيات و الستينيات (أي جيل سعد الدين توفيق وصبحي شفيق وفتحي فرج وسامي السلاموني وسمير فريد)، لكنني أنتمي كما يعرف ضياء، إلى جيل السبعينيات الذي ربما يكون قد حاول أن يطور تجربة الجيل السابق، ويجعل الكتابة عن السينما "أدبا" خاصا قائما بذاته، ولا أعرف ما إذا كنت قد نجحت في هذا.


* لازلت أحتفظ وأفكر برسالة الصديق الناقد حسين بيومي التي يقول فيها:"مقالك عن فيلم "جنينة الاسماك" هو الرد العملى عن السؤال الذى وجهته لك ذات يوم فيما يتعلق بدور الناقد عموما، والناقد المصرى الذى يعيش فى الغرب خصوصا، فالمقال يوجد حالة من الجدل النقدى، وليس الجدال بالطبع، بين الجمالى والاجتماعي والسياسي والتاريخى وبين السينما فى مصر، لا كما يتصورها الجمهور فقط، بل كما يراها أغلب من يكتبون عنها من النقاد بين قوسين، إذ ينظرون اليها من منظور أخلاقى يختلط فيه الدينى بالاجتماعى، ولذا ينبذون الإيروتيكى الذى يشكل جانبا إنسانيا من الجمالى، ويتحدثون عن الفنى بمعزل عن تقدم وتطور الفن فى العالم. انهم باختصار تقليديون ومحافظون ومقالك بالطبع يمكن، إذا أرادوا، أن يتعلموا منه قراءة الأفلام من منظور أكثر رحابة وعمقا".

رسالة حسين بيومي وسام على صدري وربما تكون أكثر مما أستحق، لكنها رسالة تحيرني أيضا، فهل استطعت حقا الإجابة عن السؤال الذي طرحه علي منذ سنوات؟ أم أنني قدمت مجرد محاولة للسباحة عكس التيار عند تناولي لفيلم "جنينة الأسماك" الذي لا يعد عملا كلاسيكيا بأي مقياس، ولذا رأيت أنه لا يصلح معه بالتالي، تناوله من زاوية النقد الكلاسيكي، بل يتعين التحرر من الكتابة عن السينما عموما في تركيبها المنهجي المتسلسل، وجعلتها سباحة حرة تطرح أفكارا. هل نجحت؟ مرة أخرى لا أعرف.

الثلاثاء، 23 سبتمبر 2008

من فيلم "إمبراطورية الحواس"

قبل فترة نشرت هنا مقالا تحليليا نقديا عن فيلم "امبراطورية الحواس" للمخرج الياباني ناجيزا أوشيما الذي اعتبرته واحدا مما يمكن أن نطلق عليه "الكلاسيكيات الحديثة" أو modern classics وهي الأعمال التي ربما لا يكون قد مضى عليها زمن طويل إلا أنها اعتبرت من الناحية الفنية، أعمالا ستدخل تاريخ السينما وتصبح من الكلاسيكيات المشهودة.
يقول الناقد رونالد بيرجان في "قاموس الأفلام الأجنبية" إن الفيلم "كان بالنسبة لكثيرين معالجة للعلاقة بين الإيروتيكية والموت (وهي تيمة سبق أن تناولها برتولوتشي في فيلم "التانجو الأخير في باريس" وفتحا فنيا في مجال تصوير الجنس الصريح على الشاشة"."امبراطورية الحواس" بالتأكيد من الكلاسيكيات الحديثة. وعلى العكس من الانطباع الذي قد يكون قد وصل إلى بعض القراء عن مدى عنف الفيلم وقسوته، هناك بعض المشاهد في هذا الفيلم شديدة الرقة والشفافية والسخرية المحببة أيضا.. منها مشهد أو اثنان عثرت عليهما وأردت أن يشاركني قراء هذه المدونة في تأملهما والاستمتاع بهما، وتأمل العلاقة بين شريط الصوت وشريط الصورة، والتناقض بين الرغبة في التحرر والانطلاق، والقمع الذي يمارسه الأقوى على الأضعف في اليابان الفاشية في الثلاثينيات.
ليس هناك جنس من ذلك الجرئ جدا الذي يصوره الفيلم بوفرة، لكن إيحاءات جنسية واضحة. والأفضل أن يشاهد القارئ بنفسه لنفسه بدون وصاية أو شروح.
اضغط هنا لقراءة مقالي عن "امبراطورية الحواس"
شاهد بالفيديو عبر هذه الوصلة

عن النقد السينمائي ونقاد السينما: أفكار وشجون

لا أعتقد أن وظيفة الناقد أن ينقد النقاد، وأن يقيم عملهم ويوجههم أو يعطي نصائح لمن يرى أنهم أصغر منه سنا، أي يعتقد أنهم اقل منه معرفة وخبرة بالسينما، ويوجههم إلى كيفية كتابة النقد، ويحدد لهم مواصفات خاصة أو إرشادات معينة يتصور أنها قد تساعدهم في الوصول إلى الصيغة المثلى في الكتابة عن السينما، فلعل أفضل وسيلة لتطوير الكتابة عن السينما، هي الاهتمام بمناقشة قضايا السينما نفسها، وتناول الأفلام بعمق، وتحليلها من زواياها المختلفة، ودراسة وتحليل تاريخ السينما وتطور الفيلم. وهذه الجوانب كلها تستدعي قيام الناقد بعمله، أي الانشغال بهذه القضايا والأفكار بدلا من الانشغال بكيف يكتب الآخرون، وتحديد من الذي يمكن اعتباره ناقدا ومن لا يمكن اعتباره كذلك، في حين أننا كلنا نجتهد ونحاول في ظروف بالغة الصعوبة.
لاشك أن هناك متطفلين ودخلاء وغير ذوي خبرة أو معرفة، ولاشك أيضا في وجود خلط كبير بين الناقد المتخصص الذي يتعمق في تحليل قضايا السينما، وبين الصحفي الفني الذي يهتم أكثر بالجوانب العامة في صناعة السينما، وبأخبار النجوم وبالجوانب المثيرة في العمل السينمائي، وغير ذلك مما تنشغل به الصحافة السائدة وتشغل بها قراءها. لكن هذه كلها من الأمور المعروفة منذ زمن طويل، تفرضها الحالة الثقافية العامة، والأمية السينمائية المنتشرة بشدة حتى بين قطاعات كبيرة من المثقفين أو من يعتبرون كذلك، الذين لاتزال نظرتهم للسينما أدنى كثيرا من نظرتهم للفنون الأخرى.
وهناك أيضا خلط آخر قائم بين كتابة العرض السينمائي أو ما يسمى film review وبين كتابة النقد السينمائي film criticism. النوع الأول تفرضه الصحافة اليومية والأسبوعية عادة على كل من الناقد والقراء، تحت تصور أن العصر الحالي لم يعد يسمح بقراءة مقال طويل قد تتجاوز عدد كلماته الألف كلمة مثلا، ويشمل تحليل العناصر الفنية والدرامية في الفيلم السينمائي، ويفضلون العرض الصحفي السريع للفيلم (في 300 كلمة) الذي يتناول القصة ومغزاها وطريقة تنفيذها والتعليق على أداء الممثلين.
وهذا العرض الصحفي للأفلام موجود أيضا وشائع في الصحف الغربية التي أصبحت تهتم حتى بالعرض المختصر الذي قد لا تزيد عدد كلماته عن 60 كلمة والذي يستخدم في إعداد الدليل الأسبوعي للأفلام الجديدة التي تنزل إلى دور العرض.
وقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة ظهور مجلات أسبوعية مصقولة لامعة تصدر عن بعض شركات الإنتاج والتوزيع العربية، تخلط بين الترويج والنقد الصحفي، وبين الإعلان المدفوع والإعلان المبطن. ولا مانع من وجود هذا النوع من المطبوعات أيضا لكي يواكب صناعة السينما ويروج لمنتجاتها، لكن اعتباره نوعا من النقد السينمائي أمر مضلل للغاية بل عبثي تماما، ففاقد الشئ لا يعطيه.
أما النقد العميق التفصيلي فمكانه الطبيعي مجلات السينما المتخصصة سواء الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية. وأي "اختراق" لصحيفة يومية أو مجلة أسبوعية غير متخصصة من جانب نقاد يكتبون النقد العميق التحليلي المطول هو أمر استثنائي يتم عادة بمجهود فردي خاص، وربما أيضا بالمصادفة، حينما يتواجد رئيس تحرير يحب السينما أو يؤمن بهذا النوع من الكتابة، وهو أمر نادر.
المطبوعات المتخصصة أصبحت شبه غائبة عن الساحة في العالم العربي، وما وجد منها، لايزال يمتلئ بكتابات مترجمة تتناول مواضيع أرشيفية قديمة تواصل الدوران في نفس الحلقة المفرغة منذ 40 عاما، أي تحدثك عن الواقعية الجديدة، ودور سيزار زفاتيني أو روبرتو روسيلليني في تطوير السينما، غافلة عما لحق من تطور كبير في تاريخ السينما وفي العلاقة بين المبدع والفيلم، والذي بلغ حدودا شديدة الجرأة حقا.
ويلاحظ أن فكرة "التثقيف الاولي" لاتزال هي الغالبة على كل ما يصدر من مجلات سينمائية تصدر بالصدفة، مع تجاهل وإهمال الجدل والاشتباك النقدي مع ما ينتج من أفلام ومع الظواهر والاتجاهات الجديدة، السلبية منها والإيجابية، التي تظهر في واقع السينما العربية، بل لقد أصبحت هناك خشية من تناول الشأن الثقافي العام وانعكاسه المؤثر والمباشر على السنيما وقضاياها. والسبب: شيوع ثقافة الخوف والرعب والتهديد ورفض نقد المؤسسات بل وارتباط بعض النقاد بهذه المؤسسات، التي تكرمهم فيما تقيمه من مهرجانات، وتمنحهم الجوائز، وتكلف البعض بتأليف الكتب عن عبقرياتهم وتاريخهم.

أما المقصود بالتثقيف هنا فيعني النظر من أعلى إلى القارئ، وافتراض أنه لا يعرف شيئا عن مشاهير الإخراج في السينما الأمريكية مثلا، أو نجومها المشاهير. وحتى عندما يتم الالتفات بعيدا عن السينما الأمريكية يتوقف نقاد هذه المطبوعات عند تجربة مخرج ما مثل الروسي "العظيم طبعا" تاركوفسكي، في حين توقفت مسيرته الإبداعية بوفاته منذ أكثر من عشرين عاما، بينما تغيب أي دراسة حقيقية عن مخرج بأهمية وحجم ديفيد لينش أو راول رويز مثلا.
غير أن هذا هو الواقع الذي نعيشه، والذي لا يمكن تغييره بكتابة مقال، بل بالعمل على تأسيس ثقافة أخرى مختلفة، وهو أمر يستغرق سنوات طويلة للتغلب على ما حدث من هدم وتمييع.
وإذا كنت أقول إن هناك نوعا من الكسل الشخصي من جانب النقاد فيما يتعلق بالكتابة والتعريف بالنماذج السينمائية الجديدة في الداخل والخارج، بسبب انشغالهم بما تطلبه الصحف التي يكتبون لها (والتي تميل عادة إلى السائد والمشهور، والأمريكي، والحاصل على جوائز الأوسكار!) فهناك أيضا سلاح الرقابة: على السينما وعلى النشر، فكيف يمكن الكتابة بحرية عن أفلام لا يراها الجمهور بل.. حتى الشريحة المثقفة منه؟ وكيف يمكن البحث في قضايا ذهنية قد يعتبرها البعض "المتشنج جدا" نوعا من التجديف أو الدعوة إلى الباطل.. وغير ذلك من مفردات متخلفة أصبحت بكل أسف منتشرة كالوباء في المجتمعات العربية حاليا نتيجة عوامل كثيرة.
وأخيرا.. كيف يمكن الفصل بين مسؤولية الناقد ودوره، وبين ضلوعه في العمل في خدمة مهرجانات معينة معروفة بأنها بعيدة كل البعد عن "الثقافة" و"التنوير"، أو لحساب مؤسسات عربية تروج لقيم وأفكار مشبوهة متميعة بهدف ضرب وتشويه كل تجاربنا الإيجابية السابقة، والانتقام لماض كانت فيه مجرد قطيع أجرب في صحراء قاحلة، لم تنجح سوى في تصدير التصحر والتخلف الفكري والتطرف والإرهاب والدعوة إلى استقالة المرأة من التاريخ، وهروب الرجل إلى خارج العقل. هذا الحصاد المعادي للإنسان لايزال قائما يهدننا في وجودنا رغم كل حفلات الطبل والزمر التي تقام على قشرة خارجية من الحداثة الكاذبة المستوردة بإغراء البترودولار، ومن خلال قنوات فضائية أصبحت تتاجر بكل شئ حتى بجسد مذيعة تنتظر أن تضع مولودها.. وهو موضوع طويل.. طويل.

الاثنين، 22 سبتمبر 2008

سينمائيون يتجسسون على زملائهم

لقطة من فيلم "حياة الآخرين"
ايستفان زابو

من غرائب عالم السينما أن يكتشف الممثل الذي قام ببطولة الفيلم الألماني الشهير "حياة الآخرين" والذي رحل عن الحياة بعد فترة قصيرة من نجاح الفيلم عالميا، أن زوجته الممثلة كانت عميلة لجهاز الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية (ستازي)، وأنها كانت تتجسس عليه، وقد كتبت تقارير عنه وقدمت تقارير وصورا ونصوص محادثات استغرقت 500 صفحة اطلع عليها بنفسه بعد أن أتاحت السلطات الألمانية الإطلاع على ملفات الستازي.
ولا أعرف ما الذي انتهت إليه هذه القصة الغريبة التي وقعت بين اثنين كانا من أشهر الممثلين في عالم المسرح في برلين الشرقية. ولكن ما أعرفه ويعرفه الجميع أن الزوج الذي انفصل عن زوجته بعد 6 سنوات من الزواج الذي جاء بعد قصة حب عنيفة، قام ببطولة "حياة الآخرين" الذي يروي تحديدا قصة مشابهة تماما، غير أنه لا يلعب فيها دور الممثل- الزوج- المخدوع، بل دور ضابط البوليس السري المكلف بالتنصت على كل ما يدور في بيت الممثل وزوجته لحساب رئيسه الذي يريد توريط الزوجة الحسناء في علاقة غرامية معه.
أظن أن القضية التي رفعتها الزوجة ضد زوجها لمنعه من نشر هذه المعلومات في كتاب عن سيرة حياته انتهت بموت الممثل- الزوج العام الماضي.
وكان الستار قد رفع قبل سنوات عن فضيحة أخرى بطلها المخرج المجري الشهير ستيفان زابو الذي يعد أحد أهم السينمائيين في أوروبا الشرقية والذي حصل فيلمه "ميفستو" على الأوسكار في الثمانينيات.
والفضيحة تتلخص في أن المخرج زابو كان عميلا لجهاز الأمن المجري، وكان يتجسس على زميل له من المنشقين السياسيين اثناء فترة الدراسة الجامعية في الخمسينيات لحساب السلطات، وقد يكون بالتالي قد حصل على مكاسب عديدة من وراء ما قدمه من خدمات للسلطات الشيوعية.
والطريف أن فيلمه الأشهر "ميفستو" كان يتناول العلاقة بين الفنان والسلطة الشمولية، ويصور كيف باع ممثل مسرحي روحه للنظام النازي في ألمانيا في الثلاثينيات مقابل الصعود إلى قمة المجد، وعندما استنفذ أغراضه تخلى النظام عنه واسقطه من مجده.
وقد أنكر زابو اتهمة وقال إنه أوهم جهاز الأمن في بلاده بأنه قبل العمل لحسابهم غير أنه كان في الحقيقة، يحمي زميله بتقاريره التي لم تكن تتعرض لما كان يقوم به الزميل من الواقع.
ترى كم لدينا من جواسيس في عالم التمثيل والسينما في العالم العربي؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.

شاهد بالفيديو المشهد الحاسم في فيلم "حياة الآخرين"

السبت، 20 سبتمبر 2008

جماعة "سينما الغد" في زمن الصراع (3 من 3)

جدارية للرئيس الراحل أنور السادات

نظام السادات منع فيلم "اغتيال تروتسكي" في نادي السينما

وأوقف عرض فيلم "زد" خشية من انتقال الثورة للشارع!

كان صديقنا الراحل الكبير نديم ميشيل من أوائل وأكثر المتحمسين لجماعة "سينما الغد". وكان لا يهدأ ولا يكل أو يمل، يرتب الأمور، وينسق ويستقبلنا في بيته الذي كان قريبا جدا من بيت مصطفى درويش، وقد تكفل مشكورا بطباعة أول نشرة تصدر عن تلك الجمعية. وكان مجلس الإدارة التأسيسي (أي المؤقت الذي يُحل فور انتخاب مجلس جديد عند انعقاد الجمعية العمومية) قد أسند إلي (وكنت طالبا بالجامعة) مهمة تحرير وإصدار نشرة الجمعية.
وقد كتبت افتتاحية النشرة البسيطة التي كانت مكونة من عدة وريقات، ووضعت فيها ما تصورت وقتها أنه أمور اتفق عليها بين الجميع، لتوجه الجمعية وهدفها وما تعتزم تقديمه. وأشرت في أحد الأعمدة إلى أن الجمعية ستحتفل بذكرى مرور 50 عاما على ظهور فيلم "المدمرة بوتمكين" للمخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين (المؤكد أنني استخدمت كلمة السوفيتي وقتذاك). وعندما جاء نديم بالنشرة وذهبنا بها إلى بيت مصطفى درويش فرحين بانجازنا الكبير، وجدناه مع صديقه القديم توفيق حنا، وكان هناك أيضا على ما أتذكر، الصديق حسين بيومي وآخرون. وبعد ما قرأ درويش الافتتاحية استشاط غضبا وأخذ يهاجمني بعنف وضراوة ويتهمنا جميعا بأننا "شلة" من المراهقين اليساريين" أو من اليسار المتطرف الذي يرغب في تحقيق "الثورة الشاملة دفعة واحدة" وأننا لا نفهم سياسة، وقال إنه لا يرغب في الاحتفاء بأيزنشتاين وفيلمه لأن هذا فيه "استفزاز للأمن والسلطات"، وأنه يتفق مع الافتتاحية التي تفرض إطارا معينا لعمل الجمعية لا يمكنه الالتزام به.
وقعت مناقشة طويلة وحادة بالطبع، شارك فيها الآخرون، وانتهت بانسحابي من الجلسة بعد أن قرر مصطفى درويش ممارسة دور الرقيب وحظر توزيع النشرة، ثم أصدر نشرة أخرى، من تحريره تحتوي على نص يشير إلى شئ أقرب ما يكون إلى أننا "مجموعة من محبي السينما الجميلة اللذيذة" وما إلى ذلك. وأنا أكتب الآن اعتمادا على الذاكرة وحدها، فقد ضاعت وثائق تلك الفترة وتلاشت بكل أسف.
الاجتماعات التالية في مقر الجمعية كان يشوبها التوتر الشديد، والخلافات العميقة، بين اتجاه يرغب في أن يجعل الجمعية جزءا من الحركة الثقافية المصرية التي كانت كلها تنضوي ضمن حركة الوعي والغضب الموجه ضد نظام السادات، وكان هذا الاتجاه يضم معظم أسماء الشباب، واتجاه آخر يقوده مصطفى درويش ومعه توفيق حنا، وحضرت معهما ذات مرة ماجدة واصف، وأظن أنها لم تكن قد هاجرت بعد إلى باريس.
لكن مصطفى كان يتمتع بثقة القائمين على المركز الايطالي، فهو قاض ومستشار ورجل ذو منصب وشأن في المجتمع، بينما كنا نحن مجموعة معظمها من الطلاب الجامعيين والناشطين اليساريين المحاصرين أصلا.
وبعد تفاقم الصدامات امتنعت عن حضور الاجتماعات. ولكن حسن بيومي (شقيق حسين) ظل يلح علي إلحاحا شديدا بضرورة الحضور معتبرا المسألة قضية سياسية ومعركة كبرى كانت تهمه باعتباره حزبيا منظما وقتها، بينما لم أكن أنا عضوا في أي تنظيم سياسي علني أو سري، ولم يسبق لي أن كنت كذلك. فأنا من النوع الذي ينفر عموما من العمل داخل التنظيمات السياسية التي تخضع لقيادة عليا لا يحق لأحد انتقادها، بل يتعين على الجميع اطاعة أوامرها وتنفيذها دون مناقشة. ينطبق هذا على كل التنظيمات والأحزاب من اليمين ومن اليسار، بل إنني أميل إلى أن المشتغلين بالفكر عموما يتعين عليهم الاحتفاظ باستقلالهم، لأن الخضوع التنظيمي ضد حرية الفكر بالضرورة. كانت هذه قناعتي ولاتزال.

سنوات الرعب
كانت تسيطر على مصطفى درويش ما يمكن أن نطلق عليه "عقدة جمعية الفيلم". فقد انتهى الصراع "الدموي" فيها على رئاسة مجلس الإدارة إلى انتصار الطرف الآخر، طرف أحمد الحضري وسامي السلاموني وخيرية البشلاوي ويوسف شريف رزق الله وآخرين. وانتخب السلاموني رئيسا للجمعية، فانسحب درويش ليس فقط من مجلسها، بل من الجمعية كلها. وأخذ يتندر على سامي بوصفه "بالسلاموكا" حينا، وبـ "الزلاموكا" حينا آخر. وكان يرغب في أن يجعل من "سينما الغد" (التي سيطلق عليها "سينما الغدر" على اعتبار أننا كنا نسعى للاستيلاء عليها منه والغدر به كما حدث في جمعية الفيلم!) صالونا خاصا يدردش فيه مع أصدقائه ويستعرض معارفه السينمائية. ولم يكن شئ من هذا في بال أحد منا. لكن المناخ العام أيضا كان مناخ رعب ومطاردة وتعقب وتهديدات، فقد كان نظام السادات يسعى بشتى الطرق لتصفية كل الكيانات القائمة من المرحلة السابقة، وكانت مرحلة تصفية المجلات الثقافية الشهيرة مثل "الكاتب" و"الفكر المعاصر" ثم "الطليعة" قد بدأت مع تولي الكاتب وضابط الجيش السابق يوسف السباعي منصب وزير الثقافة. وبدأ السباعي منذ اليوم الأول في مطاردة عناصر اليسار وإغلاق منابرهم مثل جماعة "أدباء الغد" التي كونها عدد من الكتاب والنقاد والشعراء الموهوبين.
الناقد الراحل سامي السلاموني

ويمكن القول بكل ثقة إن نظام السادات في تلك الفترة كان مرعوبا من المثقفين. وكان الإعلان عن عرض فيلم "اغتيال تروتسكي" لجوزيف لوزي (بطولة ريتشارد بيرتون) في نادي سينما القاهرة كفيلا بقلب الدنيا رأسا على عقب، وصدور قرار من أعلى المستويات بمنع الفيلم، ولفت نظر أحمد الحضري الذي كان مديرا للنادي، وكان رئيسه الفعلي المعين من طرف الدولة هو وكيل أول وزارة الثقافة حسن عبد المنعم. وعندما بدأ عرض فيلم "زد" في سينما كايرو وقت الاضطرابات الطلابية تصور السادات أنه يمكن ان يساهم في اشعال المظاهرات وخروجها للشارع فأصدر أمرا بوقف عرض الفيلم الذي كان يصور اشتراك عملاء من أجهزة الأمن في نظام العسكر في اليونان بالاشتراك مع عناصر من اليمين المتطرف في اغتيال نائب يساري أو شيوعي تحديدا (يقوم بدوره إيف مونتان). كان هناك رعب شديد من اليسار، ومن الطلبة، ومن العمال، ومن المثقفين عموما. ولكن يجب أن نعرف أن تلك الفترة انتجت فيلما سياسيا ينسج على منوال فيلم "زد" هو فيلم "زائر الفجر" لممدوح شكري، كان الأول من نوعه في تاريخ السينما المصرية (وربما الأخير أيضا!). وقد منع على الفور من العرض وظل ممنوعا لمدة 3 سنوات ثم عرض بعد استبعاد أكثر من 20 لقطة منه.

ملصق فيلم "زد" الشهير

لم يعرض مصطفى درويش أفلاما "ثورية" بالطبع مثل "المدمرة بوتمكين" أكثر الأفلام الثورية في تاريخ السينما جمالا. وقد ظل هذا الفيلم منذ أن بدأت استطلاعات الرأي بين النقاد والسينمائيين، أي منذ أكثر من نصف قرن، في قائمة أحسن عشرة أفلام في تاريخ السينما في العالم، واختير عام 1958 أحسن فيلم ظهر في التاريخ. والمفارقة أنه فيلم صامت. وقد كتب الموسيقى المصاحبة للفيلم إدموند مايزل Edmund Meisel أحد أعظم مؤلفي موسيقى الأفلام في تاريخ السينما، وهو نمساوي الأصل كان يعمل في ألمانيا. وقد منع عرض الفيلم في ألمانيا عام 1926 بعد أن اعتبرت السلطات أن موسيقى الفيلم "لها تأثير تحريضي شديد على الجمهور". وجاء ذلك بعد أن فشلت محاولة منع الرقابة الفيلم بدعوى أنه يحمل دعاية شيوعية. وقد طعن موزع الفيلم في قرار الرقابة قائلا- بإقناع- إن الفيلم لا علاقة له بالشيوعية على الإطلاق، وإن ثورة البحارة على السفينة جاء كرد فعل مباشر على سوء المعاملة، "وبدون تخطيط مسبق من الحزب الشيوعي" وهو شرط لأي عمل ثوري حسب ما كتبه لينين!

وقد أتيحت لي فرصة لا تنسى لمشاهدة الفيلم في قاعة "كوين إليزابيث هول" على الضفة الجنوبية لنهر التايمز في لندن عام 1984، في عرض نادر بمصاحبة أوركسترا أمستردام الفيلهارموني التي قامت بعزف موسيقى مايزل المذهلة في قوتها وتركيبها ورونقها، وقد استولت تماما على مشاعري. وقد خرجت آنذاك بانطباع بأن الرقابة الألمانية "ربما كانت على حق" فتأثير الموسيقى أقوى من كل الأسلحة!

وأرجو أن يعذرني القارئ وأنا أتعمد أحيانا الخروج على سياق الموضوع الرئيسي أحيانا. والهدف الأساسي هو أن ألفت أنظار عشاق السينما من الأجيال الجديدة (الذين أكتب لهم بشكل أساسي) إلى هذه الروائع العالمية، وأدفعهم إلى البحث والدراسة والمشاهدة والاستماع. وبالمناسبة الأعمال الموسيقية الكاملة لإدموند مايزل متوفرة حاليا في المكتبات العالمية.

وأعود إلى "سينما الغد" التي كان مصطفى درويش يعرض فيها (بالتعاون المتحفظ معنا) أفلاما من رومانيا ومن المجر، وأفلاما فرنسية أيضا. وكان مغرما بوجه خاص، بأفلام لوي مال وشابرول الفرنسيين. وأتذكر أيضا أنه جاء بالمخرج شادي عبد السلام لعرض فيلمه التسجيلي الطويل الذي صنعه عن حرب أكتوبر بعنوان "جيوش الشمس" وقد قمت بتقديمه في الجمعية في حضور شادي ونادية لطفي.

غير أنه كان هناك تخوف قائم من طريقة مناقشة الأفلام بين الطرفين. كان طرف مجموعة الشباب التي كنت أنتمي إليها (ومازلت دائما!) ترى أن الجمعية صحيح أنها لمحبي السينما، لكن السينما هنا أداة للمعرفة الشاملة، وليست فقط لمجرد "الحب" العذري الرومانتيكي، فهي إذن ينبغي أن تدفعنا إلى البحث في أشياء أخرى من أجل تغيير الدنيا من حولنا. وكانت وجهة النظر الأخرى (العواجيز المحافظين!) أن الأفلام في حد ذاتها كافية للاستمتاع، وأن الخلط بين السينما والفلسفة والسياسة و الفكر المعاصر أمر سلبي بالضرورة، بل، والأهم في نظرهم، أنه يحمل الكثير من المخاطر!

الشرطة في الزمالك

وعندما حل موعد انعقاد الجمعية العمومية للجمعية التي ستنتخب مجلس ادارة يدير الجمعية بشكل رسمي، قررت ان أمكث في بيتي، حتى لا يعتقد مصطفى درويش أنني طامع في شئ، او أنني أريد أن ألعب دورا بأي ثمن كما كان التصور السائد. وذهب زملائي إلى مقر المركز الثقافي الإيطالي لكي يفاجأوا في ليلة من ليالي الشتاء الباردة بأن الشرطة تطوق المبنى، وبدأت عناصر الأمن في مطاردتهم. لقد أبلغ مصطفى درويش، كما علمنا فيما بعد، القائمين على المركز الإيطالي، بأن مجموعة من الشيوعيين توشك أن تقتحمه وتستولي على جمعية سينما الغد وعلى المركز بالقوة، فما كان من مدير المركز إلا أن أبلغ الشرطة ومباحث أمن النظام. وقد الغي اجتماع الجمعية العمومية بالطبع في تلك الليلة المشهودة.

هذه الواقعة بالطبع ضمنت لمصطفى درويش بعد ذلك، الانفراد بالجمعية العمومية بعد أن عقدها في أجواء أخرى شبه سرية، ودعا إليها اصدقاءه من "الأرستقراطية الثقافية" الذين انتخبوا مجلسا برئاسته شأن كل المجالس والمنابر والكيانات القائمة في مصر منذ خمسين عاما على الأقل.. أي مجالس الشخص الواحد: الزعيم، الفرد، القائد، الرئيس، المفكر الأول، والأخ الأكبر، بل و"كبير العائلة".

الرعب الذي اصاب مصطفى درويش ودفعه إلى أن يفعل ما فعل، أدى إلى مواجهة حادة بينه وبين صديقه القديم وجاره التاريخي شحاتة هارون. فلم يكن من الممكن أن يقبل هارون كيساري مناضل أن تصبح الشرطة طرفا في حل خلاف فكري حول جمعية سينمائية. وقد أعلن هارون أنه لن يدخل بيت مصطفى درويش بعد ذلك طيلة حياته. وأنا أعرف أنه التزم بذلك إلى حين وفاته عام 2001.

نهاية القصة
وفي عام 2001 تحديدا كنت قد انتخبت رئيسا لجمعية نقاد السينما المصريين، وقررنا في الجمعية أن أسافر للمشاركة في الاجتماع العام للاتحاد الدولي لنقاد السينما (المعروف بالفيربيسي) وكان سيقام في بلدة قريبة من ميلانو في إيطاليا. ولكن لظروف تكليفي بتولي إدارة مهرجان الاسماعيلية السينمائي في تلك الفترة، وكان المهرجان متوقفا لسنوات وأراد محمد كامل القليوبي أن يعيده إلى الحياة وقتما كان رئيسا للمركز القومي للسينما، قبل أن يطيح وزير الثقافة بالقليوبي ويأتي بعلي أبو شادي الذي قرر السير في طريق إقامة المهرجان خوفا من أن يتهم بأنه جاء لشطب مشاريع القليوبي.
فكرة ذهابي إلى إيطاليا لتمثيل الجمعية لم تعد إذن ممكنة، وفكرت في إسناد المهمة إلى مصطفى درويش كشخصية تتمتع بالمصداقية والقدرة واللباقة، وانتهاز الفرصة أيضا لرأب الصدع، وتضميد الجراح القديمة، فقد كان مطلوبا مني توحيد الجمعية، بكل توجهاتها وتياراتها لبدء مرحلة جديدة نتعاون فيها جميعا معا، لإصدار مجلة وتنظيم أسابيع أفلام وربما أيضا إقامة مهرجان للسينما العربية (كان من ضمن مشروعنا المكتوب والمعلن وجاء ناقد معروف بعد ذلك لينسب الدعوة لنفسه في عموده اليومي).
وعندما عرضت فكرة تكليف مصطفى درويش بالمهمة على حسين بيومي أيدها وساندها بقوة، بل وأبدى استعداده للاتصال بمصطفى درويش وقام بذلك بالفعل، وحدد له موعدا، وجاء الرجل لمقابلتنا نحن الاثنين في مقر الجمعية.
جلس مصطفى درويش الذي لم أكن قد رأيته من سنوات أمامي. وأظن أننا كنا قد التقينا في مهرجان قرطاج مرة أو مرتين. وتساءل الرجل: ما الأمر؟ بالضبط؟ فقلت له: ماذا لو عرض عليك الذهاب إلى بقعة في الريف الإيطالي مشهورة بجمالها وحلاوة ما تنتجه من نبيذ فاخر لمدة ثلاثة أيام، يكون مطلوبا منك خلالها تمثيل الجمعية في الاجتماع السنوي الذي توقفت جمعيتنا عن حضوره منذ السبعينيات؟
أبدى هو سعادة وترحيبا كبيرين، بل وأبدى استعداد أيضا لدفع تكاليف السفر بالطائرة. لكنه تحفظ على أمر واحد فقط يتعلق بعدم إلمامه بدرجة كافية بنشاط الجمعية خلال الفترة الأخيرة.
طمأنته أنا وحسين، وقنا له إننا سنعطيه ملفا شاملا يفيده في إعداد تقريره أمام الجمعية العامة، وأما مسألة بطاقة السفر فقد استطعنا تدبيرها من قسم العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة بدون أي معوقات، وذهبنا إلى بيته وسلمناها له، كما سلمناه الملف الذي وعدنا به، ووسائل الاتصال بمندوبة الفيربيسي التي داومت الاتصال به إلى أن سافر.
وعندما عاد كتب لنا تقريرا موجزا عن رحلته، قمنا بنشره والاحتفاء به في العدد الأول من مجلة "السينما الجديدة" (فبراير 2002).
أسدل الستار أخيرا على جراح الماضي مع مصطفى درويش بشكل نهائي عام 2001. وقد حضر بعد ذلك إلى الجمعية، وأدلى بشهادته: كتابة وشفاهية عن فترة عمله كرقيب، بل وقدم أفلاما من اختياره أيضا. لكنه لايزال بالطبع يحتفظ بجمعيته الخاصة في الزمالك ويحرص كثيرا على الذهاب إليها في الموعد المحدد من كل أسبوع، دون أن يعرف أحد منا من أعضاؤها وكم عددهم، وماذا يقولون وماذا يشاهدون وكيف.. وتظل"سينما الغد" حاليا مجرد لغز كبير لا أحد يريد أن يسعى أبدا إلى حل طلاسمه! (تمت)

مصطفى درويش

الجمعة، 19 سبتمبر 2008

"القاهرة" بوق فاروق حسني


وزير الثقافة المصري فاروق حسني رجل يؤمن بالحلول العملية، ولا يكتفي بتقريب حفنة من الصحفيين منه لنشر أخباره وإجراء المقابلات معه، أو بتعيين مستشار إعلامي له يرد على أجهزة الإعلام، ويصادق رؤساء التحرير، ويدعو هذا أو ذاك على الغذاء أو العشاء (لزوم الشغل). وفي حالة وجود أزمة ما قد تؤثر على صورة الوزير، وهيبة الوزير أمام الرأي العام، يقوم هذا المستشار الإعلامي الذي هو في حقيقة الأمر، عبارة عن "منظفاتي" لصورة الوزير، بجمع أصدقائه من الإعلاميين الذين يعتمد عليهم الوزير (مقابل حصولهم على مزايا وخدمات خاصة بالطبع وليس لجمال عينيه) ويضع الجميع خطة المواجهة الأزمة.هذه التفاصيل ليست من وحي الخيال كما قد يتصور البعض بل كلها منشورة في كتاب "مثقفون تحت الطلب" الذي كتبه ونشره على نفقته الخاصة المستشار الاعلامي السابق لفاروق حسني طيلة 15 عاما محمد عبد الواحد.
أقول إن الوزير لم يكتف بهذا كله، بل فعل ما لم يفعله أي وزير آخر، وكأنه امتلك جزءا من تركة الدولة، آل إليه في غياب أي محاسبة أو حساب، فقد اصدر قبل أكثر من 8 سنوات جريدة خاصة أسبوعية هي جريدة "القاهرة" التي أطلق عليها أستاذنا الناقد الكبير فاروق عبد القادر لفظا آخر مناسبا لاداع لذكره هنا.هذه الجريدة صدرت بصبغة "يسارجية" جدا، بعد أن اختار الوزير بفراسته المعهودة، "يسارجيا" سابقا انتحر في أحضان نظام فاسد من أجل حفنة جنيهات ملوثة. هذا الصحفي الشاطر هو صلاح عيسى الذي عرف في زمن السادات بمشاغباته الطفولية للسلطة.
صلاح عيسى تولى إعداد واخراج صحيفة "القاهرة" لكي تصبح بوق الوزير، ولكن في صورة عصرية، فهي تستكتب كل إخواننا المظاليم من الكتاب والصحفيين الباحثين عن النشر بأي طريقة كانت بعد أن فسد سوق الصحافة وأصبح خاضعا بالكامل لتوجيهات الأمن من ناحية، ومصالح رجال "البيزنس" من ناحية أخرى.العدد 437 من الجريدة المذكورة (بتاريخ 2 سبتمبر) ينشر مثلا صفحة كاملة تحت عنوان "الوزير الفنان فاروق حسني في زيارة لأكاديمية الفنون". وكأن الفنان قام بغزو عكا، ولم يزر أحد المباني التابعة لوزارته. والأكاديمية الآن يسيطر عليها الأخ يحيي سومثنج، (أو سومثنج يحيي لا فرق) العميد الذي حولها بدوره إلى اقطاعية خاصة ورثها عن السيد والده، واخذ يعيث فيها فسادا مشهودا أصبح خلال العام الأخير حديث الصحافة المصرية حتى الحكومية منها، دون أن أي رد فعل من "الفنان" سوى إخراج لسانه للأكاديميين والطلاب المضطرين للتعامل مع تلك الأكاديمية.وفي العدد نفسه أيضا أخبار أخرى بارزة عن الوزير (وزير غالبا من الوزر حسب ما علمنا الشاعر نجيب سرور!) وأعماله الكثيرة الاستعراضية مثل: "فاروق حسني في الملتقى الثقافي باتحاد الكتاب".
وطبعا محظور تماما نشر أي مقال ينتقد الوزير أو سياسات الوزارة، بل وكان هناك عمود ثابت في وقت ما يكتبه "صحفجي" معروف باسم مستعار يهاجم فيه كل من ينتقد الوزير أو وزارته، ويشن حملات تشويه شخصية مباشرة ضد منتقديه.لكن الأكثر مدعاة للسخرية هو أن جريدة الوزارة تستغل الصحفيين والنقاد والكتاب أبشع استغلال، فهي لا تدفع لهم أجورا أو مكافآت، وإذا دفعت فإنها تدفع مبالغ أقل ما يقال عنها إنها أقرب ما تكون إلى "إعانة تسول"، مبالغ هزيلة مهينة تصل إلى ما يوازي سعر زجاجة من زيت الطعام، بينما يحصل رئيس تحريرها على مبلغ فلكي شهريا من عرق الصحفيين البؤساء.
وتتبع "القاهرة" خطى مدرسة صحفية عفا عليها الدهر، نستطيع أن نطلق عليها "صحافة اللطع" أي أن صفحاتها تمتلئ باللطع (نسبة إلى لطع دودة القطن) أو المقالات والمواضيع والأخبار المتناثرة المتكاثرة التي تزحم الصفحة من أعلاها ومن أسفلها وفي منتصفها، وتمتلئ بالأسماء والأعمدة والشبابيك والأبواب في شكل متنافر يجعلك تعجز عن متابعة أي شئ فيها بأي درجة من درجات التركيز.
وعلى رأي المثل: أبو بلاش كتر منه، فالمناضل السابق المنتحر في أحضان الدولة لا يتابع الصحافة العالمية، فضلا عن أنه لا يتابع حتى الصحافة العربية المتطورة التي تصدر خارج مصر، والتي أصبحت صفحاتها الثقافية مثالا على الاحترام والرصانة والرونق بعيدا عن تلك "الزغللة البصرية" المؤذية والملوثة للعين.غير أن السؤال الأهم هو: وهل من حق الوزير، فنانا كان أم غير فنان، أن يستهلك أموال الدولة في تلك الترهات أو الدعاية لنفسه وإنجازاته الباهرة، ومن أجل ضمان تركيع "المناضل" السابق واستغلاله كـ"مقاول انفار" يجلب المقالات من النقاد والكتاب المحاصرين الذين لا يجدون مكانا ينشرون فيه كتاباتهم، باسم الثقافة، وباسم الحرية. وياأيتها الحرية.. كم من الجرائم ترتكب باسمك!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger