‏إظهار الرسائل ذات التسميات كلاسيكيات حديثة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كلاسيكيات حديثة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 13 فبراير 2010

كلاسيكيات حديثة: تأملات من وحي فيلم "خلف السحب" لأنطونيوني

كان فيلم "حلف السحب" Beyond the Clouds هو الفيلم الروائي الطويل الأخير الذي يقدمه المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني Antonioni قبل رحيله عن الحياة. وكان الفيلم حدثا منتظرا عندما عرض في مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1995 وكان أنطونيوني وقتها في الثالثة والثمانين من عمره، وقد أقعده المرض العضال قبلها بسنوات، ولم يستطع أن يخرج أفلاما منذ فيلم "التعرف على امراة" Identification of a Woman في 1982. وكان أنطونيوني أيضا آخر من بقى، على قيد الحياة من جيل السينمائيين الإيطاليين العظام الذين صنعوا اسم السينما الإيطالية في العالم عبر سنوات، أي جيل روسيلليني ودي سيكا وفيلليني وفيسكونتي. وقد توفي بعد ساعات من وفاة العبقري السويدي العظيم انجمار برجمان في أواخر يوليو 2007.
ولم يكن ممكنا أن يتحقق هذا الفيلم إلا بفضل قوة إرادته، ورغبته المدهشة في قول كلمته التي ربما تكون الأخيرة قبل ان يغادر دنيانا، وبفضل المساعدة الهائلة التي قدمتها له زوجته إنريكا، التي وقفت بجواره طوال فترة مرضه الطويل الذي افقده القدرة على الحركة والكلام، دون أن تسلبه قدرته على التفكير والتأمل. وكان وراء تحقيق مشروع أنطونيوني أيضا المخرج الألماني فيم فيندرز، الذي كان دائما يكن لأنطونيوني إعجابا كبيرا خاصا جعله يتأثر بأسلوبه في عدد من أفلامه، ولم يبادر فيندرز فقط إلى تمويل مشروع فيلم أنطونيوني، بل ساعده في تنفيذ بعض المشاهد منها المقاطع النهائية في الفيلم التي يظهر فيها مارشيللو ماستروياني وجين مورو.
يلخص أنطونيوني في فيلمه هذا حكمته وفلسفته الخاصة التي كان يعبر عنها بأسلوبه البصري المتميز في كل أفلامه، عاكسا تجربته الثرية في الحياة، طارحا، كعادته، أفكاره الخاصة المثيرة للتساؤل حول لغز السعادة الإنسانية، كيف ينظر الرجل للمرأة، وما الذي يجذبه فيها، وكيف أصبحت هي تتعامل معه بعد أن فقدت الكثير من عذوبة روحها في عالم جديد أصبحت تسيطر عليه أفكار تتعلق بالترويج والسلعية والمظاهر السطحية البراقة التي تغفل الجوهر، وكيف يمكن أن يوجد الحب الجسدي بمعزل عن الروح، وهل يتحقق التواصل من خلال الحب، وما طبيعة هذا الحب ومكنونه وجوهره، وهل يكبر الإنسان حقا، أم يظل يخفي في داخله طفلا يتشبث في عناد بأفكاره الملحة، وهل تستطيع الفكرة أن تهزم الواقع، أم أن ما يجري على سطح الواقع أكبر من الأفكار واسبق.
كل هذه الأفكار والتساؤلات، يجسدها أنطونيوني من خلال تناوله السينمائي لأربع من قصصه القصيرة التي كتبها قبل أكثر منذ ثلاثين عاما، ونشرت ضمن مجموعته القصصية التي صدرت عام 1983.
أنطونيوني في فيلمه هذا، يتحدث بضمير المتكلم. إنه يصف مشاعره كفنان من خلال المعادل السينمائي له في الفيلم، أي شخصية البطل الذي يظهر في القصص الأربع، يخوض التجربة تلو الأخرى، يلقي بنفسه في أتون النفس البشرية، ويطرح الكثير من التساؤلات التي لا يملك في معظم الأحيان، أن يقدم إجابات شافية عنها.
هذا فيلم "مثالي" من عالم أفلام أنطونيوني، عن تلك العلاقة الغامضة التي تشد الرجل إلى المرأة، وتجعل المرأة تستسلم إلى الرجل، دون أن تدرك ما يدور من عجائب داخل نفس الرجل، عن استحالة التواصل، ليس على مستوى الخلفية الاجتماعية في مجتمعات الغرب الصناعية الاستهلاكية وهي الخلفية الرئيسية في أفلام أنطونيوني خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بل على المستوى الروحي. إنها علاقات داخلية تتكثف في تصرفات وسلوكيات خارجية، يطبعها المكان بسحره الأخاذ في قصص الفيلم الأربع التي ينتقل خلالها أنطونيوني عبر عدد من البلدات الأوروبية الصغيرة الشديدة الجمال، في الريف الفرنسي والإيطالي، من كوماتشينو وفيرارا (موطن انطونيوني)، إلى بورتوفينو، ومن ايس أون بروفيس، وصولا إلى المرآة الكبيرة لمعرض النفوس البشرية في باريس.
الرجل، البطل، مخرج سينمائي ، وهو بمثابة مرآة ترى فيها المرأة- محور القصص الأربع- نفسها.
في القصة الأولى وهي بعنوان "يوميات حب لم يولد" علاقة حب غريبة بين شاب وفتاة يلتقيان مصادفة ثم يفترقان، وبعد مرور زمن، يلتقيان مجددا ويتذكران بعضهما البعض، يتشبث الشاب باللقاء، ويريد أن يمده على استقامته، يذهب مع الفتاة إلى مسكنها في البلدة، يتأمل فيها كما لو كان يرغب في النفاذ إلى أعماق أعماقها ويسبر أغوارها، لكنها تعرض عليه "السطح".. الخارج، أي جسدها، فتكون هذه هي لحظة النهاية والفراق. يغادر الشاب ولا يعود أبدا. فقد أراد أن يبقي على اللحظة نقية صافية، أبدية كزهرة يتأملها دون أن يستطيع أن يقطفها. يقول أنطونيوني من خلال بطله إن علاقة الحب الغريبة هذه استمرت اثنتي عشرة سنة دون أن تتحول إلى علاقة حب حقيقية، فما هذا اللغز الإنساني، وكيف يمكن أن ينتظر رجل اثنتي عشرة سنة ثم عندما يحين اللحظة، يفقدها!
تتركنا القصة الأولى في الفيلم ونحن نعيش مع لوحاتها التي تنتمي إلى عصر النهضة، وكأنها لوحات من ريميني تلك المنطقة التي استمد منها الكثير من الرسامين لوحاتهم المليئة بالأفكار التي تدور فيما وراء الطبيعة.
في القصة الثانية، التي تدور في بورتفينو، نرى فتاة فرنسية (صوفي مارسو) تشد بطلنا إليها من النظرة الأولى. إنها عاملة في حانوت لبيع الملابس، يصفها هو في قصته بأنها تتحرك حركات محسوبة كانها تدربت عليها طويلا، أو كأنها ممثلة مدربة على عدم لفت انظار الزبائن لكي تتيح لهم الفرصة كاملة للتركيز في السلع المعروضة في الحانوت. وهي تبدو كأنها إحدى قطع الديكور الموجودة في لامكان. لكنها تصبح في نظر بطلنا هذا، العنصر الوحيد الذي يجذب انتباهه حتى من قبل أن تطأ قدماه الحانوت، بل عندما يلمحها من الخارج عبر فتحة الباب في الصباح الباكر والضباب لايزال يلف الأفق وكاننا بين الحلم واليقظة.
ابتسامة وكلمتان أو ثلاث كلمات ثم لقاء، والرجل لا يعرف ما الذي يجذبه إليها بالضبط. تريد هي أن تفضي إليه بأمر خطير الشأن في الغالب، ويعرف هو أن في داخلها سر تحتفظ به لكن نظراتها تشي بذلك. لقد قتلت أباها قبل فترة. وهي تشير إليه بينما هو يسيران على شاطيء البحر، إلى حيث ارتكبت جريمتها التي لم تكتشف أبدا. لكنها تعيش مع الجريمة، إنها إذن ليست على ما تبدو عليه من الخارج، من حلاوة ووداعة وسحر وجاذبية، فهي قادرة أيضا على ارتكاب فعل القتل. لكنه لا يستطيع رغم ذلك أن يقاوم رغبته فيها، بل لعل هذه الرغبة تشتد وتلح عليه إلحاحا. ويتحقق التواصل الجسدي في مشهد يحيطه أنطونيوني بكل برودته التي تدعونا دوما، إلى التأمل، وليس إلى الاندماج أو التأثر العاطفي أو الإثارة الجنسية. وبعد أن ينتهي الاثنان من تبادلا الحب عى هذا النحو البارد الذي قد لا يبدو لنا مفهوما.
يجلس بطلنا على أرجوحة للاطفال، ويترك نفسه يتأرجح وهو يفكر فيما جرى، وفيما كان. من هذه المرأة، وماذا تريد، وماذا وراءها، وماذا يريد هو منها؟ لقد قضى الليلة معها، لكنه خرج أكثر جهلا بها عما كان قبل أن يلتقيها، أن أن هذا هو ما نشعر به ونحن نشاهد هذه القطعة السينمائية الرائعة من الفنان الكبير.
ودائما هناك البحر ومياه البحر، في القصص الأربع من الفيلم، لكنه لا يكثف هنا معادلا للحرية كما في أفلام العبقري الآخر فيلليني، بل يوحي بالغموض الكبير الذي يلف النفس البشرية، مما لا قبل للمرء بفهمه أو الإحاطة به.
في القصة الثالثة التي تدور في باريس زوجان يعانيان من عدم القدرة على التكيف مع بعضهما البعض. المرأة توهم نفسها بالحب، أو لعلها تحب زوجها فعلا على طريقتها الخاصة. لكنه مشغول عنها، يحادثها من مخدع امرأة أخرى، ثم يصارحها برغبته في الانفصال عنها. وتدرك هي الأمر وتستوعبه، وتبدا في البحث عن سلوى لها، وتلتقي برجل انهارت علاقته بحبيبته حديثا. وفوق انهاير العلاقيتين تنشا علاقة جديدة بين هذا الرجل وهذه المرأة، لكننا لا نعرف ما اذا كانت هذه العلاقة الجديدة ستستمر أم لا، ولا نعرف هل هي علاقة حب أم علاقة احتياج في ظرف ما، أم تراها وهما بالحب، فأنطونيوني هنا يتأمل ويطرح التساؤلات، لكنه لا يجيب.
وفي القصة الرابعة نحن في بلدة ايطالية صغيرة مليئة بالكنائس والأبراج القديمة والشوارع والأرقة الحجرية الضيقة، وكأننا في إحدى قرى العصور الوسطى. الريفيون يستيقظون مبكرا يوم الأحد للذهاب إلى الكنائس، ومن بين هؤلاء فتاة جميلة كالزهرة المتألقة، تمتليء بالرونق وقد تفتحت ملامحها الحسية. وبينما هي في طريقها إلى الكنيسة، يلتقي بها شاب ينجذب إليها، ويصاحبها دون أن يدري السبب، وعندما يكتشف أنها ذاهبة إلى الكنيسة التي لا يتردد عليها أبدا، يدخل معها، ويراها تشارك في الأناشيد والتراتيل الدينية الكنسية الطويلة ضمن قداس الأحد الذي يستمر ساعات وساعات حتى يحل المساء. وصاحبنا يشعر بالإرهاق فيرقد ويستسلم للنعاس على إحدى الأرائك الخشبية داخل الكنيسة. ولا يدري إلا والفتاة توقظه كي يصحبها إذا كان يرغب، في طريق عودتها إلىالمنزل. وهي مشدودة إليه، ترغب فيه وتريد صحبته، ولكنها في نصف عقلها وروحها مشدودة إلى عالم الكنيسة، إلى حب من نوع آخر ينتهي قبل أن يبدأ. ويأتي السؤال الطبيعي من جانب الشاب: هل يمكن أن أراك غدا؟ تبتسم هي لعدة ثوان قبل أن تمنحه الجواب اللغز الذي لا يمكنه استيعابه أبدا: غدا سألتحق بالديرن ثم تدلف من باب المنزل وتختفي.
ما هذا اللغز المحير، كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم رغباته العاطفية والحسية وأن يقمعها هكذا في حسم وهو لايزال بعد في عمر الزهور، وكيف يكون ذلك الانفصال بين العقل والعاطفة، وبين الروح والجسد، وهل يمكن أن يكون ذلك الحب "الإلهي" بديلا عن الحب الإنساني؟
وكالعادة، هي تساؤلات تدعونا إلى التأمل لكنها لا تنتهي بإجابات تشفي غليلنا إلى معرفة الحقيقة، فالطريق غلى الحقيقة شاق ومعذب.
إنه لغز الوجود ذاته ما يتناوله أنطونيوني في آخر أفلامه، محيطا إياه بكل ما يميز هذا الوجود من جمال في الصورة، وعذوبة ورقة في حركة الكاميرا، التي تتسلل في رصانة بين الشخصيات، تصنع بينها وبين الأماكن علاقة تبدو وكأنها الدهر.
ربما يكون هذا هو العالم المتخيل لأنطونيوني نفسه: قرى ذات شوارع ضيقة مبلطة، كنائس قديمة تمارس الطقوس نفسها منذ مئات السنين، شوارع مهجورة، شاطيء البحر السرمدي الممتد بلا نهاية، أنا قليلون، ينتمون إلى طبقة واحدة، لكنهم يبدون كما لو كانوا يقفون على خشبة مسرح، أو داخل فضاء يمثل عالم أنطونيوني نفسه الذي لا يكشف أبدا سوى عن سحطه الخارجي، فالداخل يظل لغزا.. ربما لأن أنطونيوني نفسه لا يعرف حتى بعد تقدمه في العمر، كيف يصف لنا الداخل.. بل هو ينهي مسيرته الفنية كطفل مندهش أمام العالم.. كما يراه بالطبع.
يقطع أنطونيوني سياق القصة الثانية بمشهد غريب خارج عن الحكاية، حينما نرى فنانا يرسم منظرا طبيعيا في البلدة، تقترب منه امرأة وتطرح عليه في استفزاز واستنكار تساؤلات عن مغزى ما يرسمه وقيمته مقارنة مع الطبيعة نفسها التي يصورها في رسومه، وتسأله في حدة: ما هذا؟ هل تسمى ما ترسمه هذا فنا، وهل يمكنك حقا أن تحاكي الطبيعة وأن تحيط بها في لوحتك؟ وما فائدة إضاعة الوقت في شيء لا يمكن أن يصل أبدا إلى مستوى الأصل؟
وتأتي إجابات الرجل، دفاعا بسيطا وتلقائيا عن قيمة الرسم، وعن معنى الفن والتعبير الفني. هذا هو المشهد الذي يشترك في تمثيله مارشيللو ماستروياني وجين مورو، وهو المشهد الذي اخرجه فيم فيندرز لكي يكثف خلاصة رؤيته، ومعنى تساؤلات أنطونيوني، وقيمة عمله الفني أيضا.
إلى جانب ماستروياني ومورو، شارك بالتمثيل في "خلف السحب" عدد من ألمع نجوم السينما الأوروبية منهم صوفي مارسو وأيرين جاكوب وكيارا كسيللي وبيتر ويللر وفاني أردان، والممثل الأمريكي جون مالكوفيتش.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة للناشر ويحظر النقل والاقتباس بدون إذن مكتوب))

السبت، 14 مارس 2009

كلاسيكيات حديثة: "الأرض والحرية" رؤية معاصرة للحرب الأهلية الإسبانية



يعتبر فيلم "الأرض والحرية" Land and Freedom - 1995 أكبر المشاريع السينمائية للمخرج البريطاني الكبير كن لوتش، سواء من حيث الميزانية، أم الطموح الفني لتحقيق فيلم "أوروبي" متكامل يعيد فتح ملف أحد أهم الأحداث الأوروبية والعالمية في القرن العشرين، أي ملف الحرب الأهلية الإسبانية 36- 1939 من خلال منظور يسعى إلى اكتشاف حقيقة ما حدث في ضوء ما يزال يحدث اليوم في قلب القارة الأوروبية من تغليب المصلحة السياسية المحدودة على المبادئ، واعتماد النفاق وازدواجية المعايير منهاجا في التعامل مع القضايا الكبرى التي تمس مستقبل الإنسان، وعلى حساب الإنسان نفسه الذي يدفع الثمن في كل العصور.
وقد اقتضت العودة إلى أحداث الحرب الأهلية الإسبانية في فيلم "الأرض والحرية" من كن لوتش المخرج، وجيم ألن كاتب السيناريو، القيام بدراسة موسعة شملت الانتقال بين العديد من القرى الإسبانية التي شهدت أعنف المواجهات بين أنصار الفاشية، وأنصار الجمهورية من شتى الأطراف، كما اقتضت الاستعانة بعشرات الوثائق والشهادات الحية وقصاصات الصحف والمذكرات.
والنتيجة أننا أمام عمل كبير بكل المقاييس، عمل متماسك صارم يتشرب بالواقعية، ولا يخلو مع ذلك، من اللحظات الشاعرية الرقيقة والمواقف المرحة، شأن الأعمال الكبيرة في الفن عموما.
"الأرض والحرية" هو أكثر أفلام كن لوتش (مخرج "حياة عائلية" و"نظرات وابتسامات" و"المفكرة السرية" و"ريف راف" و"تمطر حجارة" و"الريح التي تهز الشعير") تعبيرا عن موقفه الأيديولوجي الرافض منذ ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، للاشتراكية الستالينية بطابعها الشمولي، فهو ثائر على النظام الرأسمالي في الغرب ولكن دون رفض العمل في أطره القائمة، وهو يعبر في كل أفلامه عن نقده الشديد لمقومات القمع الكامنة داخل هذا النظام.

خلفية الفيلم
تعود بدايات التفكير في مشروع فيلم "الأرض والحرية" إلى أوائل التسعينيات بعد سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، فمنذ ذلك الوقت بدأ جيم الن وكن لوتش البحث المكثف في خلفيات الفترة، واطلعا على الكثير من الوثائق الشخصية ومنها مذكرات العامل البريطاني من ليفربول الذي يبدأ الفيلم بوفاته في الزمن المضارع، وتبدأ ابنته الشابة الاطلاع على المذكرات التي تركها، وعلى قصاصات الصحف التي ظل يحتفظ بها طوال تلك السنوات.
ومن وجهة نظر العامل الراحل يروي الفيلم قصة الحرب الأهلية الإسبانية من زاوية نقدية لها بالتأكيد اسقاطاتها المعاصرة.
يقول كن لوتش: لقد تم قمع الثورة الإسبانية في ذلك الوقت عبر السياسة الدولية للحزب الشيوعي الروسي بمساعدة الغرب الذي تضامن مع الفاشية في إسبانيا. ومن خلال فيلمه يكشف لوتش للمشاهدين في الحاضر أنه كان هناك طريق آخر بديل للاشتراكية يختلف عن طريق الشيوعية الروسية الستالينية في ذلك الوقت. ويصبح الفيلم في الكثير من أبعاده معبرا بدرجة كبيرة عن الواقع الأوروبي الحالي كونه يجيء بعد عودة النزاعات القومية المتعصبة إلى الظهور في زمن انتشار البطالة وانفجار الحروب في أوروبا الوسطى خاصة في البوسنه التي شهدت للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، ما عرف بعمليات "التطهير العرقي". العودة إلى الماضي
تدور أحداث الفيلم حول "ديفيد" الشاب العاطل عن العمل الذي ينضم للحزب الشيوعي البريطاني باعتباره البديل المتاح أمام الطبقة العاملة. ويذهب ديفيد من مدينته ليفربول، إلى برشلونة في بدايات الحرب الأهلية عام 1936 لكي يلتحق بحركة النضال ضد الفاشية تحت راية الحزب الشيوعي. ومن برشلونة إلى جبهة الأراجون حيث ينضم ديفيد إلى مجموعة تنتمي للميليشيات الجمهورية تضم 16 مناضلا من بلدان مختلفة.
ومن خلال تجربة الحرب ينمو وعي ديفيد، ويتفتح على حقيقة الموقف السوفيتي الرسمي من الحرب، وحقيقة التحالف غير المعلن، بين شيوعيي موسكو، وبين الأنظمة الرأسمالية الغربية بغرض احتواء الجمهوريين أولا، ثم التآمر لضربهم والإجهاز عليهم في النهاية لحساب الفاشية.
هنا تسقط كل المبادئ "الديمقراطية" المعلنة، وكل الشعارات "الاشتراكية" الأممية أمام تطور الحرب المناهضة للفاشية في اسبانيا والتي تتجه بالفعل في ذلك الوقت، إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، وسيطرة العمال على المصانع، وتسليح الجماهير من أجل حماية أنفسهم بعد رفض الحكومة الجمهورية تسليحهم خشية من تجذر الحركة وتجاوزها الإطار الستاليني من ناحية، وخوفا من رد فعل الأنظمة الغربية من ناحية اخرى.
لكن هذا التردد، أو بالأحرى التواطؤ غير المباشر الذي يصل، كما نرى في الفيلم، إلى حد خيانة الشيوعيين الرسميين للأجنحة الاشتراكية في حركة المقاومة ضد الفاشية، وهو الذي يؤدي بعد ذلك إلى النهاية التراجيدية الدامية التي تنتهي إليها تجربة الجمهورية الإسبانية.

البناء الدرامي
يتخذ الفيلم، دراميا، من شخصية "ديفيد" الشيوعي التقليدي، مدخلا لتناول الصراع السياسي تفصيلا بقدر كبير من الصدق في تصوير الأحداث وتحليل التناقضات بين الفصائل المختلفة داخل حركة المقاومة: الفوضويون والاشتراكيون الراديكاليون من ناحية، والشيوعيون التقليديون المحافظون من ناحية أخرى.
وخلال تجربته في النضال المشترك مع زملائه المتطوعين في فصيل الميليشيا، يرتبط ديفيد بالحب مع فتاة تدعى "روزانا" تصبح هي الطرف الآخر المحرك للأحداث، فهي شخصية مليئة بالرومانسية العاطفية والثورية معا. إنها تشهد كيف يموت حبيبها الأول غدرا، وتمر بفترة من الحزن والغضب، ثم ترتبط بصداقة مع ديفيد، تتحول فيما بعد إلى علاقة عاطفية مشوبة بالحذر في البداية بسبب موقف ديفيد السياسي، ثم تصبح الفتاة بمثابة المفجر للتساؤلات عنده حول حقيقة ما يجري في الواقع من حوله.
يترك ديفيد المجموعة التي ينتمي إليها تنظيميا، ويعود إلى برشلونة بناء على تعليمات من قيادة الحزب، ويقضي فترة هناك مع فصيل الحزب الشيوعي الذي يرضخ للاوامر الصادرة من موسكو فيحجم عن الاشتراك في النضال المسلح، وهو ما يجعل ديفيد يتمرد ويقرر العودة بقرار شخصي منه، على خط المواجهة مدفوعا بالحب وبالرغبة في المعرفة الحقيقية بعد ان يصبح على يقين من صدق ما حدثته عنه روزانا.
ويصور كن لوتش مناقشات طويلة عديدة تدور بين افراد الميليشيا، كما يصور ما ينشأ بينهم من خلافات، ومغامراتهم الطريفة، ومشاجراتهم ومشاركتهم بالسلاح في الدفاع عن المنطقة الريفية التي يسيطرون عليها، بل إنه يصور أيضا صعوبة التفاهم فيما بينهم من الناحية اللغوية بدافع اختلاف اللغات والثقافات التي ينتمون إليها، وينجح بإقناعنا تماما بواقعية الأحداث وفي إعادة تجسيد أجواء إسبانيا في الثلاثينيات.
في أحد المشاهد الكبيرة في الفيلم يصور لوتش هجوم الفاشيين على إحدى الكنائس واحتجازهم امرأة عجوز رهينة قبل أن يقضي عليهم رجال المقاومة. ويصور في مشهد آخر طويل ينضح بالمأساة قيام الشيوعيين الجمهوريين بنزع سلاح مجموعة الميليشيا.
ويعتبر الفيلم بأسره درسا في أهمية الوعي بالتاريخ، والاستفادة من الأخطاء التي ارتبكت وقابلية تكرارها في أماكن أخرى من عالمنا ولو بطرق وأشكال مختلفة.
يقول جيم ألن كاتب سيناريو الفيلم: "لو كان فرانكو قد هُزم ربما لم تكن الحرب العالمية الثانية قد قامت. لقد استخدم هتلر وموسوليني إسبانيا كحقل تجارب لقواتهم ومعداتهم العسكرية. وعندما طلبت الحكومة الجمهورية المنتخبة في إسبانيا ديمقراطيا من فرنسا وبريطانيا تزويدها بالسلاح للدفاع عن نفسها رفضت الدولتان طلبها، وفضلا عن ذلك فقد تركوها فريسة للذبح. كان السيناريو سيختلف لو كان فرانكو قد هُزم"!

أسلوب الإخراج
يستخدم كن لوتش في تصوير فيلمه طريقته المعهودة في التصوير حسب تسلسل السيناريو، مانحا بذلك الممثلين مساحة كبيرة للإجادة والتجويد. وهو ينجح كثيرا في السيطرة على مجموعة الممثلين الستة عشر الذين ينتمون إلى بلدان مختلفة، ويوحد بينهم في تجربة فريدة مثيرة، جعلت الكثيرين منهم يندمجون في أدوارهم إلى حد التقمص التام.
ويضفي لوتش على فيلمه اللون البني القاتم تعبيرا عن أجواء التراجيديا، كما يستخدم الموسيقى الملحمية التي كتبها جورج فينتون، للتعليق على الأحداث والمشاهد، والتمهيد لظهور الشخصيات. ويعتمد لوتش على المشهد كوحدة بناء في الفيلم وليس على اللقطات المتداعية المنفردة، ويصوغ فيلمه في بناء كلاسيكي يتقدم إلى الأمام دون انتقالات إلى الماضي باستثناء العودة الطويلة، بطول الفيلم كله، إلى الماضي، بعد البداية المعاصرة التي تدور في التسعينيات.
وقد استعان لوتش بعدد كبير من الخبراء والمتخصصين، سواء في تاريخ الفترة التاريخية، أو الخبراء في المنطقة التي أدار فيها التصوير في جبال قطالونيا أي في الاماكن الحقيقية التي شهدت الكثير من المعارك الدامية، كما استعان بعدد من خبراء المتفجرات واستخدام الأسلحة لتدريب الممثلين على أساليب استخدام الأسلحة العتيقة. ويستخدم لوتش حركة الكاميرا في فيلمه بحيث تتناسب مع الطابع التسجيلي للفيلم فهي تبدو كما لو كانت تتابع تحركات أبطاله "الحقيقيين" في تجربتهم المثيرة، وربما لا توجد سوى مشاهد قليلة في الفيلم صورت في الاستديو، وفيما عدا ذلك قدمت وزارة الثقافة الإسبانية وغيرها من المؤسسات المعنية بالتراث مساعدات هامة لإنجاز الفيلم.
وقد جاء الفيلم نموذجا للإنتاج السينمائي "الأوروبي" بمعنى الكلمة، فهو من الإنتاج المشترك بين شركات بريطانية واسبانية وفرنسية وايطالية والمانية، كما تلقى دعما مباشرا من مؤسسة دعم الإنتاج السينمائي التابعة للاتحاد الأوروبي.
ويعد الفيلم نموذجا بارزا للسينما الواقعية التي عرف بها لوتش في معظم أعماله، مع مسحة شاعرية رومانسية. ورغم قوته التعبيرية الهائلة، يعاني الفيلم من بعض نقاط الضعف مثل الإطالة واللقطات الزائدة في بعض المشاهد، والتكرار، والاعتماد معظم الوقت، على اللقطات العامة (البعيدة) على حساب المتوسطة والقريبة (كلوز اب) التي تقل كثيرا في الفيلم، وذلك رغبة منه في إضفاء الواقعية التسجيلية على الفيلم، وتأكيد العلاقة الوثيقة بين الشخصيات والمكان، إضافة إلى النزعة "النوستالجية" الواضحة في الكثير من مشاهد الفيلم مما يجعله يخرج عن السياق أحيانا ويستطرد.
ولكن على الرغم من أي ملاحظات سلبية على الفيلم وهي قليلة، يظل "الأرض والحرية" أحد أهم أفلام مخرجه، وأحد أكثر الأفلام شجاعة في عصرنا، وتجربة جديرة بالمشاهدة والاهتمام كونها تدفع إلى إعمال العقل وإلى التأمل فيما يدور في عالمنا اليوم.

الثلاثاء، 6 يناير 2009

كلاسيكيات حديثة: لغز كاسبار هاوزر.. لغز الوجود

يعد الفيلم الألماني "لغز كاسبار هاوزر" The Enigma of Kaspar Hauser للمخرج الشهير فيرنر هيرتزوج – أحد أهم أفلام بحركة السينما الألمانية الجديدة في السبعينيات، تلك الحركة التي قدمت أسماء لمخرجين موهوبين أصبحوا فيما بعد من كبار السينمائيين في العالم، مثل فيم فيندرز وفولكر شولوندورف ومرجريتا فون تروتا وراينر فيرنر فاسبندر.
أخرج هيرتزوج فيلمه "لغز كاسبار هاوزر" عام 1975 استنادا إلى حادثة حقيقية، ففي عام 1828، عثر في الساحة الرئيسية بمدينة نورمبرج على شاب في السادسة عشرة من عمره، لا يقوي على الكلام، يقف بصعوبة وفي يده خطاب.
حاول المارة التحدث معه، لكنهم فشلوا تماما في فهم الغمغمة التي صدرت عنه، اعتقد البعض أنه قد يكون مخبولا أو ثملا، فاقتادوه إلى ضابط الشرطة، فأخذ الفتى يردد أمامه عبارة واحدة هي"أريد أن أصبح فارسا مثل أبي".
مستوى معرفة الصبي وطريقته في الحديث توحي بأن تكوينه العقلي متوقف عند عمر ثلاث أو أربع سنوات فقط.الخطاب الذي يحمله موجه لصانع أحذية في المدينة من عامل قال إنه ظل يحتفظ بالولد منذ أن كان عمره 3 سنوات داخل غرفة لم يغادرها قط.
يقول العامل إنه نظرا لفقره الشديد ولأنه يعول عشرة أطفال فلم يد قادرا على تحمل كفالة الصبي لذا فقد أرسله إلى صاحبنا. وينصح الرجل بالإبقاء عليه أو ضربه حتى الموت أو شنقه في المدخنة!
دروس في التحضر
ينتقل كاسبار هاوزر إلى كفالة رجل دين، يؤويه ويقدم له ثيابا نظيفة مهندمة، ويقدم له الطعام، ويبدأ في تعليمه اللغة، والأهم- تلقينه مبادئ "الحضارة" حسب المفهوم الشائع.
بعد عامين يتمكن كاسبار من الحديث، معبرا عن أحاسيسه واستجاباته لأسئلة الآخرين: إنجاز كبير دون شك لراعيه الذي يشعر بالفخر بإنجازه!يقوم بتقديمه إلى المجتمع الراقي، فيبدي أرستقراطي انجليزي الرغبة في استضافته ورعايته. يقوم بتعليمه الموسيقى، وخاصة العزف على البيانو، والتصرف بطريقة "متحضرة".
يبدي الفتى اهتماما لا بأس به بتعلم الموسيقى والعلوم والمنطق ومعانى الأشياء، إلا أنه يفهم الأمور والمعاني بطريقته الخاصة، بقدر كبير من البراءة في مواجهة محاولات صارمة من الطرف الآخر لفرض مفاهيم خاصة متزمتة تنتمي للثقافة السائدة في ذلك الوقت، في عصر التقسيم الفكري: ما بين متفوق وأدنى.
كاسبار هاوزر يبدو وحيدا كأنه خرج لتوه من رحم أمه وألقي به في العالم الرحب، لكي يصطد بقوانينه وقوالبه الخاصة.
يسأله معلمه وراعيه عن الفرق بين ثمار الطماطم التي كانت حمراء ناضجة في العام الماضي، والثمار الجديدة الخضراء الصغيرة الحالية، فيقول إن الثمار تعبت وتحتاج للراحة، فيقول له معلمه إن الثمار لا تتعب وليست لها استقلالية خاصة عن الإنسان بل هي رهن مشيئته، فيرفض كاسبار تصديق ذلك ويصر على أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء بعيدا عن سيطرة الإنسان.

لغز الوجود
جوهر الفكرة التي تتجسد في مشهد شديد الحيوية والقوة، يدور حول ماهية الوجود نفسه: هل الكينونة منفصلة عن الخالق أو مرتبطة بمصير يتحدد سلفا.
لذلك فإن كاسبار هاوزر يقبل على تعلم معظم المعارف إلا أنه يجد التلقين الديني داخل الكنيسة صعبا على أفهامه، ويشكو من أن الغناء الجماعي داخل الكنيسة يعوي في أذنيه، فيفر خارج المكان.
هناك تعارضات مقصودة في هذا الفيلم البديع بين البراءة والكهولة الفكرية، بين التعلم الحر المفتوح، والقوالب الجاهزة التي يريد البعض أن يفرضها علينا فرضا باسم العلم والمعرفة الإنسانية بل والحضارة، بين الطفولة البشرية التي تتعرض للاعتداء الفظ عليها من جانب المجتمع، وبين مجتمع لا يجد غضاضة حتى في استخدام تلك "الطفولة"- أو ذلك "الرجل/ الطفل" كسلعة في جذب المتفرجين داخل خيمة الاستعراض الذي يقترب من عالم السيرك.

إن هذا المشهد الذي يدور داخل الخيمة، حيث يستعرض المشرف على العرض كل عجائب القرن التاسع عشر بما فيها "كاسبار هاوزر" نفسه، يذكرنا على نحو ما بمشهد آخر شديد الدلالة في فيلم ألماني آخر ينتمي لنفس المدرسة، هو فيلم "الخوف يأكل الروح: أو كل الآخرين اسمهم علي" للمخرج الكبير الراحل فاسبندر.
هذا الفيلم الذي كان أساسه العلاقة بين الشرق والغرب، بين الأوروبي (المتحضر) والآخر (العربي) من خلال العلاقة العاطفية بين المهاجر العربي "علي" وامرأة ألمانية تجاوزها الشباب، تشعر بالاحتياج إليه، إلا أنها تريد أن تحوله إلى نموذج متحضر.

وهي تستعرض في مشهد طريف أمام صديقاتها عضلات علي وتطلب منه أن يفتح فمه لكي تريهن كيف يعتني بنظافة أسنانه!

نحن والآخر
عودة إلى "لغز كاسبار هاوزر"، نرى أن الفيلم رغم ما فيه من سحر خاص يرتبط بالغموض المحيط بالشخصية، هو في حقيقة الأمر ليس فيلما عن كاسبار هاوزر بقدر ما هو عن أنفسنا، عن نظرتنا للآخر "المختلف"، عن شئ ما داخل النفس البشرية المقولبة يرفض ويتعالى ويحتج ويتعصب ويريد أن يفرض مفهومه هو، وعندما يفشل يلجأ إلى العنف.

النبيل الإنجليزي الذي يتبنى كاسبار هاوزر يكتشف ذات يوم- بعد أن تصور أنه قطع شوطا طويلا في "تحضير" كاسبار- أي منحه دفعة حضارية إلى الأمام خاصة بعد أن يقدمه وهو يعزف على البيانو لضيوفه إحدى مقطوعات موتسارت، قد ارتد إلى تخلفه مجددا.
إنه يراه وقد تخلى عن سترته الأنيقة وعاد سيرته الأولى أي غير قادر على ترديد الكلمات المنمقة التي علموه اياها، وأصبح يفضل العزلة عن المجتمع.
ربما يكون كاسبار قد أدرك وحشية المجتمع وفضل الابتعاد عنه باتخاذ مثل هذا الموقف الرافض للتواصل معه.جزاء كاسبار على أي حال، يكون الضرب والاستبعاد والنبذ، أما مصيره فينتهي قتلا داخل زنزانته في جريمة تظل مجهولة حتى اليوم.
من الذي قتل كاسبار هاوزر ولماذا وما هو الخطر الذي كان يمثله هذا الشخص المسكين على المجتمع حتى يتم التخلص منه؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة على شتى الاحتمالات. ولكن دون حقيقة "يقينية" بعد أن أضحت كل الحقائق نسبية على أي حال!

الجمعة، 19 ديسمبر 2008

كلاسيكيات حديثة: الوصية الأخيرة للمعلم



"كلا.. ليس بعد أيها الموت"


تقديم: كتبت هذا المقال عام 1993 بعد أن شاهدت فيلم "مادادايو" للمخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا مع الجمهور العام، وشاهدت كيروساوا نفسه يدخل إلى قاعة لوميير بقصر المهرجان قبل بدء عرض الفيلم يصحبه بمديرالمهرجان جيل جاكوب، وكان المهرجان قد أعلن من قبل أن كيروساوا لن يحضر إلى كان، وكان حضوره مفاجأة سارة للجميع. وقد وقف الجمهور يحييه ويصفقون لمدة عشر دقائق والشيخ العجوز كيروساوا يرد التحية. وبعد أن انتهى عرض الفيلم أدركت وقتئذ أن الفيلم سيكون الأخير في حياة هذا المخرج العظيم، وأنه يلخص فيه ببساطة شديدة، فلسفته ويرتد إلى براءة الطفل كيروساوا بينما هو يتأهب لعبور عتبات الموت. وكان كيروساوا وقت عرض الفيلم قد أكمل 82 عاما من عمره، ولم يخرج بالفعل أي فيلم بعد "مادادايو"، وتوفي عن 87 عاما عام 1998. وقد ذكرني ما نشره أخيرا الصديق المخرج الكبير محمد خان عن فيلم "مادادايو" بهذا المقال الذي نشر وقتها في صحيفة "القدس العربي". وأعيد نشره هنا بنفس عنوانه الأصلي وكما نشر.

يعود المخرج الياباني الكبير (82 عاما) حامل السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمه التحفة "كاجيموشا" (1980) إلى المهرجان هذا العام حاملا معه فيلمه الجديد "مادادايو" الذي يعرض خارج المسابقة والتسابق على جوائز الذهب والفضة، لكي يلقننا درسا في بساطة وسمو اللغة السينمائية التي تولد منها عشرات الأفكار والتأملات والمشاعر، بعيدا عن سينما التقعر والحذلقة واستعراض العضلات.
و"مادادايو" هو التعبير الذي يستخدمه الأطفال في اليابان وهم يلعبون ما يطلق عليه لعبة "الاستغماية" التي تتطلب من الأطفال تغطية عيونهم بأيديهم بينما يختفي واحد منهم في مكان ما، ويصبح مطلوبا من الآخرين العثور عليه. غير أن كيروساوا يستخدم التعبير في الفيلم في مواجة الموت، فإذا كان الأطفال ينادون على الطفل القابع في مكمنه بالتساؤل: هل أنت مستعد؟ لكي يجيئ جوابه: "مادادايو" أو كلا ليس بعد، فإن كيروساوا يجعل الكلمة في فيلمه على لسان الأستاذ الشيخ هازئا من الموت، معبرا عن مقاومته له ورفضه الاستسلام له قبل أن ينتهي من إنجاز ما يتعين عليه إنجازه في الحياة الدنيا، فتلاميذه الذين يحتفلون بعيد ميلاده سنويا يسألونه في صوت واحد: هل أنت مستعد" فيرد هو: مادادايو.. أي كلا.. ليس بعد أيها الموت.
هذا فيلم عن الحياة، وليس عن الموت، وعن الزمن وما نعتقد نحن أنه يفعل بالإنسان من تقدم وهرم واختلال، بينما يجعله في الحقيقة وهو في أواخر العمر، يرتد إلى الطفولة. إنه أيضا فيلم عن العرفان بالجميل، وعن وفاء التلاميذ لأستاذهم الذي أخلص لهم فأخلصوا له بعد أن تخلى الصبا والشباب عنه.. عن الصداقة بين الرجال، وعن العلاقة الدافئة بين الإنسان والإنسان، كما بين الإنسان والحيوان الأليف الجميل، رمز البراءة بل ورمز طفولتنا جميعا.
و"مادادايو" من ناحية أخرى، فيلم عن مأساة اليابان الحديثة، عن الحرب والقنبلة والاحتلال الأمريكي، الذي كان لايزال، عن النفاق الاجتماعي والطموح السياسي الذي يفسد الإنسان.

وفي معظم لقطات هذا الفيلم المصنوع بدقة شديدة من ناحية حساب الزمن اللازم لكل لقطة، ترى عمق المأساة من دون تشاؤم بل على العكس، هناك روح من التفاؤل والمرح والأمل في التجدد والاستمرار واجتياز كل الصعاب. هناك البسمة والأغنية والموسيقى والرقص الجماعي الياباني، ولكن من دون إفراط أو مجانية، فكل شئ موظف – دون أن يكون وظيفيا- للتعبير عن (وليس لخدمة رسالة محددة) أحاسيس وأفكار فنان السينما الكبير الذي يدرك أن الموت كامن يمكنه أن يناله في أي لحظة، غير أن استمراره في العطاء والإبداع أقوى رد على الموت الكامن بالقرب منه: كلا.. ليس بعد أيها الموت.. فعندي لايزال ما أقوله!
في "مادادايو" يقدم كيروساوا لوحة بليغة لشخصية البروفيسور الياباني "هايكن أوشيدا".. أستاذ الجامعة الذي هجر التدريس الجامعي لكي يتفرغ للكتابة، وأصبح من كتاب الأدب المعروفين في اليابان، كما يعرف بحسه الساخر ومرحه واستمتاعه بالحياة (وعلى الأخص، بإفراطه في تناول الشراب).. وإضافة إلى هذا كله، يعرف عنه أيضا إفلاسه الدائم.
يبدأ الفيلم من زمن الحرب العالمية الثانية والبروفيسور يمارس التدريس الجامعي، يقيم علاقة صداقة وطيدة مع طلابه وتلاميذه، يتسامر معهم خارج الجامعة، يدعوهم إلى بيته حيث يتناولون الشراب ويتبادلون الرأي في شتى المواضيع، ثم يترك الجامعة لكي يتفرغ لكتابة المقالات والكتب.
وفي عيد ميلاده الستين يقيم طلابه السابقون حفلا كبيرا يغني هو فيه ويمرح معهم، ثم يبوح لهم بوصيته الأخيرة التي تتلخص في كلمة "مادادايو" التي يحولها إلى أنشودة عذبة قوية يرددها ويرددونها معه: كلا.. ليس بعد أيها الموت.
يقول له طلابه الذين أصبحوا الآن رجالا من ذوي الشأن في المجتمع إنهم يرغبون في تقديم هدية له بمناسبة عيد ميلاده لكي تساعده على التقاعد الكريم. لقد اشتروا له قطعة أرض وشرعوا في تشييد منزل متواضع لكي يقيم فيه مع زوجته التي لم تنجب أطفالا.

وسرعان ما ينتهي تشييد المنزل، وينتقل الرجل للإقامة فيه مع زوجته وهو يشعر بالسعادة الكبيرة بسبب تقدير تلاميذه السابقين له، ويدعوهم ليلة بعد ليلة، لتناول العشاء في منزله، ويقدم لهم ذات مرة، لدهشتهم الشديدة، حساء لحم الحصان الذي يجدونه شهيا، ويروي لهم كيف أنه بينما كان يشتري لحم الحصان توقف أمامه حصان يجره رجل، عرف فيه على الفور حصانا كان يخدم في الجيش أثناء الحرب، وصوب الحصان نظراته عليه وكأنه يسأله: ماذا تفعل أنت في هذا المكان؟
وتستمر مسامرات المجموعة، وتكون الحرب بالطبع قد وضعت أوزارها، لكن الرجل يشعر بغصة في حلقه مما يدور في مجتمع اليابان فيما بعد الحرب العالمية الثانية. وذات أمسية ينشد لهم الرجل أنشودة يسخر فيها من الحديث المتواصل عن الديمقراطية بينما ينتشر الفساد السياسي في البلاد، ويسخر من الحديث عن الحرية بينما اليابان أصبحت دولة واقعة تحت الاحتلال. ونرى مثلا كيف يهرع رجال الشرطة العسكرية الأمريكيين إلى مكان حفل عيد الميلاد لتقصي الأحوال، ظانين أن هناك اجتماعا سياسيا من الاجتماعات المحظورة. كذلك نلاحظ مظاهر البؤس والفقر المنتشرة في اليابان بعد الحرب. لكن ليس هذا هو الموضوع فالموضوع أكثر خصوصية من ذلك، فالرجل لديه قط قام بتربيه صغيرا، وأشرف عليه مع زوجته حتى أصبح لا يطيق فراقه أبدا، بل وظل دائم الحديث عنه مع أصدقائه، يلاعبه ويلاطفه أمامهم، ممتدحا كثيرا مظهره وشكله وشعره المميز وحركاته، بينما يندهش الأصدقاء من انشغال أستاذ وأديب كبير بقط.
وذات يوم يوزر الأصدقاء أستاذهم الكبير فيجدونه حزينا باكيا موشكا على الانهيار النفسي، والسبب في كل هذا الكرب، أن القط خرج في الليلة السابقة ثم هبت عاصفة هوجاء- كما نرى في لقطات العودة للماضي، أعقبها سقوط المطر الغزير فاختفى القط ولم يعد للظهور في المنزل منذ تلك اللحظة. ومن شدة تأثر الرجل يبدأ في البكاء وهو يروي لأصدقائه مدى علاقته الحميمة بالقط الذي يريد استعادته بأي ثمن. ويأخذ في تخيله وهو وسط العواصف والأحجار وفي الأماكن المقفرة البائسة، عديم الحيلة، ضالا جائعا لا يجد من يشفق عليه، والأصدقاء في حيرة من أمرهم أمام الأستاذ الكبير وعواطفه الجياشة تجاه القط الضال.
يحضر فجأة رجل يقول إنه اشترى قطعة الأرض المجاورة لمنزل الأستاذ، وإنه يعتزم تشييد منزل عليها، وينذره بضرورة إغلاق أبواب منزله المطلة على ذلك الجانب. ويحاول الأستاذ استثارة عطف الرجل واستدعاء مروؤته قائلا له إنه يرغب في الاستمتاع بالضوء الذي يأتي من تلك الناحية في سنوات تقاعده. لكن الرجل يتمادى في الوعيد والتهديد رافضا الاستجابة لتضرع صاحبنا. وعندما يعلم مالك الأرض الواقعة في ضواحي المدينة بالأمر، يتراجع عن بيع قطعة الأرض للرجل الشرير تعاطفا مع الأستاذ النبيل الطيب القلب وإرضاء له رغم حاجته الشديدة للمال لكي يشتري منزلا بسيطا في المدينة.
ويتفق الأصدقاء على شراء قطعة الأرض المجاورة تقديرا للرجل الذي قدم كل تلك التضحية ورغبة في تكريم أستاذهم المتواضع، لكن صاحبنا يبدو مهموما أكثر بالقط الذي لم يعد للمنزل. ويسعى الأصدقاء للعثور على القط، ويقنعون الأستاذ بنشر إعلان في الصحيفة المحلية، غير أنه لا يتلقى إلا بعض مكالمات هاتفية تسخر منه ومن تشبثه الطفولي بالقط الضال، كما يتكاثر الأدعياء والكاذبون الذين يزعمون العثور على القط طمعا في الحصول على المكافأة السخية.
ويلجأ الرجل إلى حيلة أخرى، فيقوم بطبع مئات الأوراق التي تحمل أوصاف القط ويذهب بنفسه لكي يوزعها على تلاميذ المدرسة القريبة من منزله. لكن هذا كله لا يجدي فالقط لا يظهر ولا يعثر عليه أحد، ويفقد الأستاذ مرحه تماما، ويظل الأصدقاء يتداولون فيما بينهم في كيفية مساعدته على الخروج من حالة الاكتئاب هذه. وذات يوم، يموء قط في حديقة المنزل، قط آخر جاء بنفسه يطلب الطعام، تناوله زوجة الأستاذ بعض الطعام، يربت الأستاذ على ظهره، ويقرر أن يطلق عليه اسما. لقد جاء هذا القط لكي يبقى، لكي يصبح بديلا عن القط الضائع.
وتنتهي الأزمة التي لم يستطع تلاميذ الرجل وأصدقاؤه فهمها أبدا. ويشرح هو الأمر لهم فيقول: "إن هذا القط بمثابة ابن لي، أرتبط به ولا أقوى على فراقه".
وتمر السنون، ولكن.. "كلا.. ليس بعد أيها الموت". يتجمع الأصدقاء، يحتفلون ببلوغه الثمانين وقد نال الشيب ما ناله من رؤوسهم جميعا، وتهدجت أصواتهم بمرور الزمن، لكنهم ينشدون "مادادايو".. تماما كما يطلب منا كيروساوا الذي يقول في تقديمه لفيلمه هذا: "آمل أن كل من يشاهد هذا الفيلم سوف يغادر قاعة العرض وهو يشعر بالانتعاش، وقد ارتسمت البسمة على شفتيه".
إنها الوصية الأخيرة للمعلم الكبير كيروساوا، يصوغها ببساطة في فيلمه رقم ثلاثين، مبتعدا فيه عن أسلوبه الذي ارتبط به في أفلام مثل "الساموراي السبعة" و"كاجيموشا" و"ران"، لكنه ليس بعيدا تماما عن الأفلام الأقدم له مثل "أن تحيا".
يقوم بالدور الرئيسي هنا الممثل الياباني الكبير تاتسو ماتسومورا الذي قام ببطولة عدد كبير من أفلام كيروساوا، مجسدا شخصية البروفيسور أوشيدا ببراعة مذهلة، منتقلا بين شتى المشاعر والتعبيرات: الأداء الصامت الرصين، المرح، السخرية، الود، الحزن، الحيوية الشديدة المتدفقة، وبراعة اللفظ والكلمات.
أما كيروساوا فيلجأ إلى طريقة سرد قصص الأطفال بل إنه يبدأ الفيلم فعلا بلعبة "الاستغماية" أو "مادادايو" يلعبها الأطفال في الشارع قبل أن يدخل بنا إلى موضوع الفيلم.
لا توجد في هذا الفيلم معارك مبهرة، ولا سيوف ولا مناظر تاريخية أو ملابس وتصميمات معقدة في حركتها كما في "ران" مثلا أو "عرض الدم"، بل عمق في الديكور وبساطة في الخطوط، وإيقاع هادئ رصين يساهم في تعميق إحساسنا بتعاقب الزمن، وهو ما يساعد عليه أيضا اللجوء إلى استخدام المزج، والإظلام التدريجي والظهور التدريجي كوسيلة للانتقال بين اللقطات والمشاهد.
كيروساوا يبدو في هذا الفيلم وقد عاد من حيث بدأ، أي إلى جوهر السينما كفن، وعلى مستوى الفكر، بدا وكأنه يوجه لنا وصيته الأخيرة التي تتلخص في ضرورة التمسك بالأمل والتفاؤل والاستمتاع بالحياة دون أن يغيب عن بالنا أبدا ضرورة العطاء والبذل لمن نحب.
لقد أراد هو تكريم الأديب الذي يحبه، وهو رجل ينتمي لأبناء جيله، لكنه، قام في الوقت نفسه، بتكريم الإنسان في كل مكان.

الاثنين، 6 أكتوبر 2008

كلاسيكيات حديثة: "سيكون هناك دم"


الواقعية والرمز ونظرة موحشة إلى أمريكا

عدم حصول الفيلم الأمريكي "سيكون هناك دم" There Will Be Blood إلا على جائزة أحسن ممثل، التي حصل عليها بطله الانجليزي دانييل داي لويس، وجائزة أحسن تصوير، لا يقلل من شأنه، بل على العكس، يقلل من مصداقية نتائج "الأوسكار"، فلاشك أن الفيلم كان يستحق عن جدارة جائزتي أحسن فيلم وأحسن إخراج.
غير أن جوائز مسابقة الأوسكار تحديدا ليست دائما معيارا للقيمة الفنية، فمن المعروف أنها تخضع لاعتبارات عديدة تدخل في حساب القائمين عليها خاصة وأنها تمنح من طرف ممثلي صناعة السينما وهم ستة آلاف عضو هم أعضاء "الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية"، وهي عبارة عن تجمع كبير لنقابات العاملين في هوليوود. ويتم التوصل لنتائج المسابقة من خلال نظام للاقتراع السري، دون عروض منظمة للأفلام، ودون مناقشات، علنية أو سرية، بل ودون مسوغات لمنح الجوائز.
"سيكون هناك دم" فيلم أمريكي ذو مذاق مختلف كثيرا عما هو سائد في أفلام أمريكية أخرى، فهو يتمرد على الكثير من طرقها واساليبها، ويعتبر على نحو ما، مغامرة فنية، تفضل شركات هوليوود التقليدية الكبيرة عادة الابتعاد عن خوضها، مفضلة ما هو "مضمون" من أفلام تروي قصصا مثيرة للخيال والمشاعر.
اما هذا الفيلم الذي أخرجه بول توماس أندرسون (38 عاما) فهو يتجه وجهة جديدة، تعتمد على التجريد والمزج بين الواقعية والرمزية، مع تجاهل التبريرات الدرامية سواء في ابعادها النفسية أو الاجتماعية، وهو ما يجعل الفيلم عملا مركبا ذا مستويات متعددة أيضا للفهم والاستقبال.

ظهور النفط
يعتمد الفيلم- وإن بتحرر- على رواية بعنوان "نفط" Oil للكاتب الأمريكي ابتون سنكلير صدرت في عام 1927، وتبدأ الأحداث في عام 1898 ونحن نرى رجلا بمفرده، هو بطلنا دانييل بلانفيو، وهو يقوم بالتنقيب عن الذهب في نفق في صحراء جنوب كاليفورنيا. وهو يعثر أولا على الفضة بدلا من الذهب، ثم وبمحض المصادفة، يعثر على الذهب الأسود أو النفط.
بعد ذلك تتسع أعمال الرجل فيستعين بمساعدين للعمل معه في البئر الأولى التي يمتلكها، ويتمكن من إقامة حفار للنفط بوسائل بدائية مما يؤدي أولا إلى وفاة أحد العاملين، وترك ابنه الطفل الذي يتبناه فلانفيو ويستخدمه بعد أن يصبح صبيا في التاسعة، يقدمه كشريك له حتى يستدر العطف ويضفي على نفسه مسحة من الاحترام.
ويسعى بلانفيو للتوسع ومد أعمال حفر الآبار إلى مناطق أخرى، ويأتيه ذات يوم شاب يدعى "بول صنداي" يعرض عليه شراء أراض تابعة لأسرته يؤكد له أنها ترقد على كميات هائلة من النفط. ويتجه بلانفيو مع ابنه بالتبني إلى منطقة "بوسطون الصغيرة" حيث توجد أراضي الأسرة، وهناك يلتقي برب الأسرة وابنها الثاني "إيلي صنداي" وشقيقته ماري.
وتوافق الأسرة على بيع الأراضي، لكن إيلي يطلب مزيدا من المال كدعم لكنيسة تابعة له يقوم من خلالها بأعمال التبشير لمذهبه الديني المتطرف، ولا يجد دانييل مفرا من الرضوخ على مضض.
مع تدفق النفط من البئر يشتعل حريق ويقع انفجار ضخم يؤدي إلى إصابة الطفل الذي لا نعرف اسمه ويطلق عليه بلانفيو "إتش دبليو" بالصمم بعد أن أدى الانفجار إلى اتلاف طبلتي أذنيه.
تكون هذه العقبة الأولى التي يواجهها بلانفيو ويتعين عليه التعامل معها بصرامة، فالصبي الذي يجد نفسه وحيدا عاجزا عن السمع، يتمرد بسبب المعاملة الخشنة التي يلقاها ويشعل النار ذات ليلة في المسكن المؤقت الذي يرقد فيه مع والده بالتبني.
ومع اتساع نطاق آبار النفط وزيادة ثروة دانييل بلانفيو وتطلعه للسيطرة على مزيد من الأراضي التي تكفل له الوصول بخط أنابيب يعتزم مده إلى ساحل البحر، سرعان ما يواجه العقبة الثانية مع وصول رجل يدعى "هنري" يقول إنه أخ له من أم أخرى، وإنه يرغب في الحصول على عمل يقيه شر الحاجة.
في البداية يلحقه بلانفيو بالعمل كمساعد له، ثم يبدأ في التشكك في صحة روايته، كما يضيق بالمتاعب التي يسببها له ابنه بالتبني، فتخلص من الفتى عنوة ويلحقه بمدرسة داخلية للصم. ثم ينفرد بهنري في الغابة ليلا ويهدده بالقتل إذا لم يعترف له بحقيقته، فيعترف الرجل بأنه اخترع القصة لحاجته للعمل، ويؤكد له إخلاصه، لكن بلانفيو، يقتله ثم يدفنه.
أما العقبة الثالثة التي يواجهها فهي تتمثل في "إيلي صنداي" الذي يواصل ابتزازه مقابل تسهيل حصوله على مزيد من الأراضي التي يمد فيها احتكاره النفطي. "إيلي" يريد أن يطوع بلانفيل ويدخله ضمن زمرة المنخرطين في مذهبه الديني ولو بتحريض الناس ضده بدعوى استغلاله لهم، أو ابتعاده عن الدين. والهدف بالطبع ليس دينيا، بل كنوع من الابتزاز للحصول على اكبر مكاسب ممكنة. وفي واحد من أهم مشاهد الفيلم، يوافق بلانفيل، خدمة لمآربه الخاصة، بالامتثال للقس الشاب الذي يعرف حقيقة أنه مزيف، وأنه لا يختلف عنه في جشعه وسعيه لتحقيق مآربه الخاصة، ويقوم بالاعتراف علانية أمام رواد الكنيسة بارتكاب الإثم والخطيئة وبأنه تخلص من ابنه بطريقة شريرة، ويتعهد باستعادته وبعدم التخلى عنه مستقبلا، والأهم بالطبع، أنه يوافق علىالتبرع بمزيد من الأموال للطائفة الدينية وبناء كنيسة كبيرة لأتباعها الذين تسحرهم قوة شخصية "إيلي" وقدرته على التمثيل والتقمص وادعاء القدرة على الإتيان بالمعجزات.
الصراع في الفيلم يمتد إلى النهاية، إلى حين يقضي بلانفيو على خصمه الدود ويتخلص منه إلى الأبد بعد أن يجعله يعترف بغشه وكذبه واحتياله. لكنه في الوقت نفسه يكون قد بلغ ذروة سقوطه.

فيلم خارج النوع
السينما الأمريكية عرفت بالتزامها بـ"وصفات" محددة للأفلام يطلق عليها النقاد ، أنواع الأفلام أو genres ويتبعها عادة المنتجون في تحديد طبيعة مواصفات موضوع الفيلم الذي يراد إنتاجه، فهناك أفلام الويسترن أو الغرب الأمريكي، كما أن هناك أفلام الرعب والكوميديا والمغامرات البوليسية والدراما التاريخية والدراما الاجتماعية.. وغيرها.
أما هذا الفيلم فلا يخضع لمواصفات "النوع"، فهو ينتقل بين الويسترن أو الغرب الأمريكي، والرعب والدراما النفسية ولكن بعيدا عن التحليل النفسي، فلا توجد هنا دوافع ولا مبررات. وربما يتمثل أسلوب أفلام "الويسترن" في أبعاده العامة: بطل فردي غامض مغامر يجرب حظه في اكتشاف الذهب فيكتشف الذهب الأسود ويتصارع عليه مع خصوم آخرين (الشركات المنافسة التي تحاول أن تشتري منه آباره المكتشفة وتزيحه عن الساحة)، أو مع خصم يريد أن يشاركه في الملكية، وإن كان هنا من نوع مختلف، فهو يعتمد على إثارة الناس ضده بوحي ادعاءات أخلاقية ودينية. لكن الفيلم لا يحتوي على مطاردات بالجياد ومبارزات وتبادل لإطلاق النار، كما لا يتضمن صراعا بين الأخيار من المكتشفين البيض والأشرار من الهنود الحمر.
وبدلا من المبارزات التقليدية المباشرة هناك مبارزة طويلة ممتدة تدور بين شريرين هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة: دانييل بلانفيو وإيلي صنداي. الأول يخدر الناس بزعم أنه سيحيل حياتهم من البؤس إلى الثراء إذا ما ساعدوه في المضي قدما في استخراج "الذهب الأسود" وتحقيق الثراء، تحت وهم فكرة "الثراء للجميع". والثاني يوهم الناس بقدرته على الشفاء وعمل المعجزات ويبتز الأول استنادا على قدرته على تحريض الناس للوقوف ضد مشاريعه التجارية.
تجريد متعمد
ورغبة في تحميل الفيلم طابعا رمزيا، يحيط السيناريو الشخصيتين الرئيسيتين بالكثير من التجريد: فدانييل بلانفيو رجل غامض، يبدو بلا ماض، مقطوع الصلة بالأسرة، بل إنه يرفض حتى قبول أي شئ يذكره بالماضي الذي تركه خلفه، يبدو مدفوعا بفكرة واحدة فقط هي جمع المال والملكية. وهو يخشى من المنافسة ولا يطيق أن ينافسه أحد حتى لو كان ولده بالتبني، ويجد أن الآخرين هم الجحيم بعينه، ولكن ليس على مستوى سارتر الوجودي الذي كان يعلي كثيرا من شأن الحرية الفردي، بل لتبرير أنانيته ورغبته في الاستحواذ بأي ثمن.
إن فيلم "سيكون هناك" دم، بتكوينه الدرامي من أكثر الأفلام تعبيرا عن الشخصية الأمريكية التقليدية، عن نشأة وتطور أمريكا: الشركة الكبيرة التي تحسب مصالحها ببرود، وتتطلع دوما إلى التفوق على غيرها بكل طريقة. إنه عمل فني بديع عن الجشع والرغبة المرضية في الاستحواذ عندما تصل إلى ذروتها، عن اغتيال الطبيعة وتلويثها دون حساب سوى للقيمة النفعية المباشرة، عن بيع وهم "الجنة الأرضية" للآخرين، والاتجاه إلى التحالف المشبوه مع أتباع المذاهب المتطرفة لضمان تحقيق السيطرة، وعدم التورع عن ارتكاب جرائم القتل في أبشع صورها، وتصفية الخصوم على طريقة عصابات المافيا حتى النهاية الدموية.

نقيض البطل
لا يقف أي شئ في طريق دانييل بلانفيو. وهو كما يقدمه الفيلم، نموذج لنقيض البطل anti-hero ، فهو رجل وحيد، حياته جافة مثل ملامح وجهه المتغضنة، يغيب الحب وتغيب العلاقة مع المرأة من حياته (لا وجود للمرأة في الفيلم بشكل عام، وهو بهذا المعنى فيلم ذكوري تماما إمعانا في تأكيد مستوه الرمزي)، كما يعاني بطلنا من القطيعة مع الماضي، وفقدان التاريخ، والتخلي عن الأخلاق، واستخدام التدين الظاهري ستارا لأعمال استغلالية، والاستعلاء بالمال والقناعة بأنه كفيل وحده بالاستغناء عن الآخرين.
خلال الحوار بين دانييل وأخيه المزيف هنري، يعترف دانييل بكراهيته للآخرين عندما يقول له: "لقد كنت دائما أجد ان الناس غير مثيرين للاهتمام. بل إنني لا أحبهم.. وهدفي في الحياة هو أكن أجمع من المال ما يمكنني من الاستغناء عنهم". وبعد الاعتراف يأتي القتل، كما لو كان بلانفيو لا يمكنه أن يتعايش مع شخص اعترف له بنقطة ضعفه.
أما إيلي صنداي، فهو أيضا شخصية فيها من التجريد الذي يجعلها رمزا أكثر مما فيها من الواقع، فهو الوجه الآخر للانتهازية والجشع والرغبة في الصعود والتملك والسيطرة والنفوذ بأي ثمن. إنه يستخدم ذكاءه وفطنته وسهولة الترويج للأسطورة، من أجل السيطرة على مشاعر الناس، وبالتالي استخدامهم لتحقيق مآربه في التملك والامتلاك: تملك الناس، وامتلاك المال والسلطة. والعلاقة المشوبة بالتوتر بين الاثنين هي العلاقة الأمريكية بين المال والسلطة والفكر المزيف.
ويستخدم الفيلم الممثل نفسه (بول دانو) لأداء دوري الشقيقين: بول الخير، وإيلي الشرير، بطريقة توحي بأنهما يمكن أن يكونا الشخص نفسه، ويجعل الأول يختفي بعد ظهور الثاني مباشرة، دلالة على فكرة حلول الشر مكان الخير.
أسلوب الفيلم
لا يعتمد أسلوب البناء في الفيلم على "حبكة" مشوقة تصعد إلى ذروة حتى تنفرج الأحداث بالتطهير أو بالنهاية السعيدة، بل تسير في خطوط متعرجة، أي على عكس البناء السائد في السينما الأمريكية التقليدية، مما يجعل الفيلم يقترب كثيرا من اعمال الفن الرفيع ذات النفس الملحمي، بلقطاته الطويلة وايقاعه البطئ الهادئ، وموسيقاه التي تستوحي قرقعات قطع الحديد واصطكاك تروس آلات الحفر، وصوت احتكاك العملات المعدنية.
يبدأ الفيلم تحت الأرض وبطلنا ينقب عن الذهب داخل نفق مظلم في منطقة معزولة في كاليفورنيا، ويستغرق الفيلم حوالي 15 دقيقة في سرد مشاهد صامتة، تركز على استماتة البطل (المناقض للبطل) في تحقيق حلمه. وتتناقض الصورة بعد ذلك بين الظلمة والنور، وبين باطن الأرض وسطحها، كما لو كانت تجسد الصراع بين الخير والشر، الجمال والقبح، براءة الطبيعة وجشع الإنسان. ويصور المخرج بطله، وهو يسقط في قاع الحفرة واصابته بعد ارتطامه بالأرض واصابته بعاهة تظل معه حتى النهاية. ويصوره الفيلم في المشاهده الأولى وقد غطي وجهه وجسده وملابسه بأوساخ النفط ونفايات الطبيعة.
وينتهي الفيلم في عام 1927، وبعد أن يكون بلانفيو قد اصبح من كبار الأثرياء في بلده وأصبح يعيش في قصر شيده كما كان يحلم، لكنه كالسجن، يعيش فيه وحيدا كما كان دوما، عاجزا عن الإحساس بالسعادة، ساعيا إلى الانتقام من خصمه الأبدي وإذلاله، ولا يهم كيف ينتهي الأمر بعد ذلك.
وفي واحد من أفضل مشاهد الفيلم قبل النهاية، يواجه دانييل ولده بالتبني بعد أن كبر وتزوج. هنا يعلن الشاب، من خلال لغة الإشارات، أنه يريد أن يرحل بعيدا لكي يكون شركته الخاصة، وإنه يرغب في التحرر من سيطرة دانييل والعيش كظل له.
ويستشيط دانييل غضبا، فما معنى أن يرغب الولد في الاستقلال وتكوين شركته الخاصة؟ معناها أنه سيصبح منافسا له، كما يقول، وهو لا يسمح بأي منافسة، بل سيسعى للقضاء على أي منافس محتمل له. ويأخذ في صب اللعنات عليه، ويعترف له بأنه ليس ابنه، بل مجرد ابن زنا عثروا عليه في كيس يتدلى من شجرة في الصحراء!

ولعل الجانب الأكثر بروزا في الفيلم يتمثل في ذلك الأداء العبقري الفذ للممثل الانجليزي دانييل داي لويس في الدور الرئيسي. ويمكن القول إنه لا يقوم فقط بدور البطولة في الفيلم أي دور دانييل بلانفيو، بل يحمل الفيلم بأكمله على كتفيه، موظفا كل خبرته وقدرته على الحركة والأداء والتعبير بالعينين وارتجافة الشارب ورمشة العين التي قد لا يلحظها أحد، يسير متثاقلا كأنه يخرج من الجحيم، ويبدو بصوته الأجش المتسلط كما لو كان نذيرا باجتياح الشر للعالم بعد أن فقد روحانياته.
إنه لا يتقمص فقط الشخصية ويؤديها بكل خشونتها وانعزاليتها وضراوتها في التعامل مع الآخرين من الخارج، بل ينجح في التسلل تحت جلد الشخصية، وتجسيد إحساسها الداخلي الميت بالناس وبالدنيا، كيف أصبحت هكذا، شخصية فاقدة للروح والجوهر. ومع فقدان الأخلاق العليا يفقد الإنسان إنسانيته مهما حقق من الثروة والجاه، ولعل هذا هو المفهوم الفلسفي الأكثر عمقا، الذي يسوقه إلينا هذا الفيلم البديع.
"سيكون هناك دم" عمل غير مسبوق في السينما الأمريكية سيبقى في الذاكرة، وسيكون هناك كثير من الأفلام قبل أن نرى عملا مشابها له في الروح والجوهر والرونق الفني.

الخميس، 25 سبتمبر 2008

كلاسيكيات حديثة: "اسكندرية ليه؟"

هذا المقال كتب ونشر عام 1978 أي منذ ثلاثين عاما، بعد عرض فيلم يوسف شاهين تجاريا في مصر. وهو بالتالي يعبر عن وعي وفكر صاحبه في ذلك الوقت ومنهجه في النقد والتحليل، بدون أي اضافة أو حذف.
منذ فيلم"الأرض" (1969).. ظل يوسف شاهين يقدم أفضل إنجازات ذلك الإتجاه الآخر المتقدم داخل السينما المصرية، أو الإتجاه نحو سينما تفكر أو سينما تسعى لتقديم الفكر والمتعة الفنية في آن، وتطمح الى تغيير الأذواق السائدة للمشاهدين ولو عن طريق الصدمة البصرية.
وقد قطع يوسف شاهين، شوطاً رائعاً على طريق تحرير أداته السينمائية وتحويلها الى وسيلة لتناول الواقع الذي يعايشه، من خلال رؤيته الذاتية الخاصة لهذا الواقع.
في فيلم"الإختيار" ـ الذي أخرجه عام 1970 ـ قدم شاهين نقداً ذاتياً مريراً كونه أحد المثقفين المصريين الذين شاركوا بسلبيتهم وعجزهم وإنعزالهم عن الواقع، فيما حدث عام 67. ثم عاد في" عودة الإبن الضال" (1976) لكي يعكس إجتهاده الخاص في فهم طبيعة التحولات داخل البنية السياسية والفكرية للطبقة الوسطى المصرية خلال فترة صعودها وحتى مرحلة التردي والإنهيار التي أعقبت هزيمة 67. أما في "اسكندرية ..ليه" ـ الذي أنتجه بالإشتراك مع هيئة الإذاعة والتليفزيون في الجزائر عام 1978ـ فإنه يتناول ما يمكننا أن نطلق عليه بدايات تكون وعي الفرد داخل الطبقة.. في علاقته بذاته وطموحاته وأحلامه وفي علاقة طبقته بالطبقات الأخرى وبالمجتمع ككل. ومن خلال ذكرياته الخاصة وإنطباعاته عن بدايات تفتح وعيه، يتأمل يوسف شاهين في الجوانب السياسية والإقتصادية والثقافية التي ساهمت في صنع التكوين الفكري لأبناء الجيل الذي ينتمي اليه، بكل تناقضاته وصراعاته وآماله وإحباطاته وتشوشه الفكري، وسعيه في الوقت نفسه، الى تجاوز ذلك التشوش نحو رؤية أوضح للواقع والمجتمع. لكن" اسكندرية.. ليه" من الناحية الأخرى، ليس بحثاً منهجياً حول صراع الطبقات في مصر في الأربعينات، أو تحليلاً سياسياً متكاملاً لوضع جيل الاربعينات ـ أي الجيل الذي كان يجتاز مرحلة الشباب في تلك الفترة ـ في علاقته بالتغيرات التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية والتي إنعكست بشدة على البنية الإقتصادية والسياسية. ان تناول "اسكندرية .. ليه" على هذا النحو، لن يؤدي فقط الى افساد مشاهدتنا له، وإنما سوف يصبح في نهاية الأمر، نوعاً من التعسف والقسر، الذي يلوي عنق الحقائق ويختزل العمل الفني الى معادلات ذهنية ساذجة.
الفيلم يمس كل هذه الجوانب بالطبع. ولكن "اسكندرية .. ليه"، على نحو ادق، يمكن إعتباره رؤية شاعرية لفنان.. أو "بورتريه" وضع خطوطه فنان يشعر بحب شديد واحساس دافق تجاه مدينته التي نشأ وتربى فيها، عاكساً من خلال خطوطه وألوانه، إنطباعاته الخاصة عنها في تلك الفترة، كمدينة للطموح والأحلام والحب والنضال والحرب والجشع والتمرد والثورة.
و"اسكندرية.. ليه" على هذا النحو اذن، يمكن اعتباره "رؤية ذاتية" .. ولكنها رؤية ذاتية تنبع من خيال موضوعي. أي أن الرؤية الذاتية هنا ليست مستمدة من مجرد إنطباعات عابرة أو مذكرات قديمة كتبت في فترة وقوع الأحداث، ولكنها رؤية تكونت خلال نمو الوعي لدى الفنان طوال أكثر من ثلاثين عاماً. وعندما أعاد هو صياغتها في أواخر السبعينات استعان بخبراته الفكرية التي ساعدته على هضم وإستيعاب كافة الجوانب الموضوعية التي أحاطت بواقعه وحكمت منطق حياته خلال تلك الفترة.
"اسكندرية .. ليه" هو أكثر أفلام يوسف شاهين نضجاً وتحقيقاً لفكرة المزاوجه بين الذات والواقع. وسوف يبقى هذا الفيلم باستمرار مفتاحاً لفهم مسيرة مخرجه حتى اليوم. و"اسكندرية .. ليه" أيضاً هو عودة الى الماضي على نحو ما، أو "فلاش باك" طويل يتأمل فيما وراء "الإختيار" و" الإبن الضال" . ولا تصدر العودة الى الماضي هنا عن رغبة في الهروب من مواجهة الحاضر، بقدر ما هي محاولة لفهم الحاضر وتفسيره في ضوء الماضي.
أحلام الهروب
داخل بورتريه " اسكندرية .. ليه" هناك "يحيى" الذي يعبر عن يوسف شاهين نفسه عندما كان شاباً في الثامنة عشرة من عمره، ينتمي الى أسرة من الطبقة التي تتملكها دائماً فكرة الترقي والصعود الى صفوف الشريحة العليا في المجتمع. ولكن لأن اسرة "يحيى" لم تكن تمتلك ذلك المشروع التجاري الحر الكبير الذي يكفل لها الصعود، كان يتعين عليها أن تواجه ظروفاً قاسية خلقتها الأوضاع المعقدة للحرب العالمية الثانية. ودفع تمسك الأسرة بالمظاهر الإجتماعية السائدة، الى التضحية بالكثير من أجل أن تلحق إبنها " يحيى" بكلية فيكتوريا.. حيث يدرس أبناء الباشوات والأرستقراطية المصرية. من أجل هذا، ترك والد يحيى المحاماة والتحق بوظيفة تضمن له دخلاً ثابتاً يقتطع اغلبه لدفع تكاليف الدراسة لإبنه.
لكن الأسرة لا تزال أيضاً تتمسك بالتقاليد المظهرية لحياة الطبقة الوسطى. افرادها مشغولون طوال الوقت باعداد الطعام واستقبال الزوار والثرثرة والتردد على محال البضائع الإستهلاكية ومحاولة نسيان الأزمة من خلال الإستغراق في لعب الورق. كما يسعون أيضاً الى العثور على بعض الحلول، فهم يدبرون لتزويج إبنتهم والتخلص من أعبائها، الأب "قدري" يسافر الى لبنان للبحث عن مخرج لأزمة الأسرة، وتؤجر الأسرة الشقة المطلة على البحر مقابل مبلغ من المال، ثم تنتقل الى مسكن متواضع في أحد الأحياء الشعبية. في نفس الوقت، تتمسك الأسرة بالقيم الوطنية التي تتمثل في رفض الإستفادة من الأوضاع الفاسدة الموجودة، حيث كان التعامل مع الإنكليز يمثل أحدى وسائل تحسين الوضع الخاص. فلا يزال عائلها ـ المحامي السابق ـ يستطيع الصمود في وجه الإغراءات، يتبنى الدفاع عن قضايا الرأي التي يعلم مقدما أنها خاسرة، فضلاً عن عدم تحقيقها أي مكسب مادي له!
وسط هذه "التركيبة" يهرب يحيى لتحقيق الذات عن طريق التمثيل والموسيقى، مثله الأعلى نجوم هوليوود في الأربعينات.. يتضح هذا في ادمانه على مشاهدة السينما الأمريكية الشائعة كما نزى في المشهد الأول.
الحلم الأمريكي
ويتميز " يحيى" عن زملائه وأصدقائه الأرستقراطيين من أبناء " كلية فيكتوريا" بحساسيته المفرطة التي تدفعه الى رفض ممارسة الجنس مع احدى العاهرات التي يلتقطها زملاؤه من الشارع ويمارسون معها الجنس في سيارتهم. كما يتفوق عليهم بذكائه الحاد وطموحاته.. ومحاولته التسامي على وضعيته عن طريق التعلق بحب المسرح والتمثيل والتصوير السينمائي أيضاً، كما نرى في مشهد أدائه لدور "هاملت" أمام زملائه في الفصل الدراسي، أو من خلال الفيلم السينمائي الذي يقوم بتصويره وعرضه على اصدقائه، وهو فيلم حقيقي من الأرشيف الخاص ليوسف شاهين، صوره عن فترة دراسته بكلية فيكتوريا وأدخله في الفيلم لكي يؤكد على عدم إنفصاله عن بطله الذي يمثل دوره.
وبينما يسعى والد يحيى لإعداده لتقبل فكرة دراسة الهندسة، كمهنة محترمة مضمونة النجاح، تستقر فكرة دراسة التمثيل داخل وعي يحيى الذي يرى أيضاً أنها مهنة لا تقل احتراماً.. ولم لا؟! وبالتدريج تكبر الفكرة عنده وتتحول الى حلم طاغ بالسفر الى أمريكا لدراسة التمثيل، فأمريكا هي القوة الجديدة الصاعدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ورمز الحرية بالنسبة لجيل يحيى.

وتتكشف مدى قوة ذلك الحلم، عند مقارنة تردد "يحيى" وخجله من حضور حفل بمنزل أحد أصدقائه الأرستقراطيين بسبب رداءة ملابسه، وبين جرأته التي تدفعه الى التوجه لمقابلة احدى أميرات العائلة المالكة في قصرها لكي يطلب منها مساعدته في تقديم حفل تمثيلي. في الحفل، وعند مواجهته الجمهور لأول مرة، يفشل بطلنا تماماً وتتهاوى مجهوداته. ولكن الفشل يدفعه الى التمسك أكثر، بفكرة السفر والدراسة. ويستقر الأمر أخيراً داخل أسرته، على احتضان فكرته.. تحقيقاً للحلم الذي يراود الأسرة أيضاً بأن يصبح يحيى " شيئاً كبيراً" .. كما تردد الأم.
من ناحية أخرى، هناك أسرة "محسن" .. صديق يحيى وأبن شاكر باشا (فريد شوقي) غني الحرب، الذي استطاع عن طريق عقد الصفقات مع الإنكليز، أن يحقق ثروة طائلة وان يمتلك شركة للنقل البحري يستغل عمالها الى أقصى حد. وهو ينظر باستعلاء الى أسرة يحيى، ويستنكر محاولتها تدبير المال اللازم لتغطية تكاليف رحلة يحيى الى أمريكا، حيث يعتبرها نوعاً من الجرأة والرغبة في مناطحته شخصياً. فهو يريد أن يرسل ابنه لدراسة الإقتصاد في انكلترا وينزعج كثيراً من تذكير ابنه له بأن ما يطلبه منه من مال للمدرسة لا يوازي جزءاً زهيداً مما يقتطعه "الباشا" من عمال شركته. ويعلق الرجل بقوله: " الولد بيتكلم زي الولاد الشيوعيين"!
شاكر "باشا" يشتري الباشوية بأمواله، ويسعى لحماية ثروته وحياته من انتقام الوطنيين الذين يهددون باغتيال كل من يتعاون مع المحتلين الإنكليز، فيشتري سيارة لا يخترق زجاجها الرصاص. ولكن كل ما حققه يصبح مهدداً بالضياع نتيجة للإنتصارات التي يحققها الألمان على سادته الإنكليز، واقترابهم من غزو مصر عن طريق الاسكندرية.
ويلعب التهديد النازي بالغزو، دوراً مصيرياً أيضاً في حياة أسرة اخرى، هي أسرة "دافيد" الصديق الثاني ليحيى وهي أسرة يهودية مثل كثير من الأسر اليهودية الثرية التي كانت تعيش في الاسكندرية ولكنها تبدو مختلفة على نحو ما. فوالد دافيد(الذي يلعب دوره يوسف وهبي) هو رجل يمتلك رؤية سياسية واعية، تجعله يربط بين ظهور البترول في السعودية وبين الدعم "الإمبريالي" الحتمي لقيام دولة اسرائيل في فلسطين. كما يتنبأ بأحداث عنيفة سوف تجتاح المنطقة بأسرها لسنوات طويلة قادمة. وهو احد اقطاب الحركة اليسارية المصرية في الأربعينات كما يتضح في مشهد الإجتماع السياسي الذي يعقده في منزله.
وترتبط "سارة" شقيقة دافيد، بعلاقة حب قوية مع ابراهيم (احمد زكي).. الشاب "المسلم" الذي يدرس الحقوق، وينتمي أيضاً لأحدى المنظمات الشيوعية التي تكونت في تلك الفترة كما يحضر الإجتماعات التي يعقدها والد سارة في منزله. وفي احد مشاهد الحب التي تجمع بين ابراهيم وسارة. يهمس لها معترفاً بأنها هي التي فتحت عينيه على الطريق الصحيح. والفيلم يشير هنا الى علاقة اليهود المصريين بنشأة التنظيمات الشيوعية في الأربعينات، وهي حقيقة تاريخية بلا شك ، لها أسبابها ومنطلقاتها وظروفها المعروفة.
ومع اقتراب الاختراق النازي من الحدود المصرية، تضطر أسرة دافيد الى الهجرة.. الى جنوب افريقيا أولاً، ثم الى حيفا في فلسطين بعد ذلك. وبينما يذهب دافيد الى امريكا للدراسة العسكرية لكي يصبح فيما بعد ـ في الغالب ـ جندياً في جيش الصهيونيين، تعود سارة الى الاسكندرية وتقوم بزيارة ابراهيم في السجن الذي يقضي فيه فترة عقوبة لمناهضة النظام، وتقص عليه ما شهدته في فلسطين من اعمال العنف والإرهاب التي يمارسها اصحاب "الجنسية الجديدة" كما تقول. ولا نعرف كثيراً عن نشاط ابراهيم ـ قبل دخوله السجن ـ سوى انه يناصر العمال في صراعهم الاقتصادي ضد شاكر باشا.
تخلف الطبقة العاملة
ينتقد الفيلم ايضاً تخلف الوعي عند الطبقة العاملة المصرية في تلك الفترة، عندما يجعل العمال بعد حصولهم على حقوقهم من الباشا، يذهبون لارتياد احدى الحانات حيث ينفقون النقود في احتساء الخمر والثرثرة ثم الغياب عن الوعي! ويشير كذلك، الى عزلة المثقفين الثوريين عن العمال، عندما يجعل احدهم يعبر عن عدم فهمه لما يقول له ابراهيم، ثم يعبر عن سخريته من طريقته في الحديث معه .. فيقول انه لا يجد اختلافاً بين طريقته وبين الطريقة المتعالية الجوفاء التي يتحدث بها شاكر باشا معهم!
يركز الفيلم على العلاقة الشاذة التي تنشأ بين عادل بك (شقيق زوجة شكار باشا)، وهو ارستقراطي عاطل بالوراثة يحيا على اموال شقيقته وزوجها، وبين جندي بريطاني من جنود الإحتلال الذين يترددون على صالات اللهو المنتشرة في الإسكندرية. يقول عادل بك عن نفسه انه "ارستقراطي شريف".. وطني يمارس الوطنية على طريقته الخاصة. فهو يشتري الضباط والجنود الانكليز السكارى، يقوم بتوريدهم له احد "البلطجية" المحترفين "مرسي" (عزت العلايلي) ويتولى عادل بك الفتك بهم، من اجل ان يصبح بامكانه ان ينام مطمئناً الى وطنيته!
ولكن عادل بك يرثى لحال جندي بريطاني شاب اتاه به "مرسي"، ويلتقطه، وتنشأ بينهما علاقة حب مبهمة، يحيطها يوسف شاهين بجو شاعري، ويقدمها برقة بالغة، للإشارة الى موقفه الإنساني الذي يتمثل في ضرورة التعايش بين البشر جميعاً، وعن حاجة البشرية الى الحب والسلام.
ويتدعم هذا الموقف ، في مشاهد أخرى يزدحم بها الثلث الأخير من الفيلم ، حيث نرى محاولة للربط بين حزن عادل بك على سقوط صديقه الإنكليزي قتيلاً في المعارك، والمشاهد التسجيلية للدمار الذي خلفته الحرب في المدن الأوروبية والألمانية، واللقطات الطويلة لمقابر العلمين وضحايا الحرب.. الخ.
ولا يخلو الفيلم ـ على أية حال ـ من وجود حس عام واضح، حول فكرة التعايش بين الأديان وبين البشر عموماً. وهي فكرة لا غبار عليها في حد ذاتها غير ان تناولها على نحو مجرد، يمكن ان يقود الى بعض المنزلقات الفكرية. فشاهين يتعامل مع اغلب شخصياته، بإعتبارها ضحايا يتعاطف معها، ويلتمس لها الأعذار كما يتحسس الجوانب الإنسانية والإيجابية الكامنة في ضحاياه، ويسعى لإبرازها.. ابتداء من الضباط الأرهابين وأسرة البطل والباشا والبلطجي، الى عادل بك والأسرة اليهودية والجندي البريطاني، وأيضاً ذلك النموذج الذي يقدمه بسرعة لأحد المتعاونين مع الفاشيين الإيطاليين حيث نرى جنود الحكومة يسحبونه في الشارع وسط صراخ زوجته!
"عادل بك" ـ رغم وطنيته ذات الطابع الفاشي، هو انسان يمتلك الإحساس الرقيق بالإنسان والحياة. ويدعم طموحات" يحيى" ويساعده في التدريب على الحفل الإستعراضي، وهو الذي يدافع عن حق أسرة يحيى في تحسين مستواها امام استنكار شاكر باشا. وعندما يتطلع صديقه الجندي البريطاني الى القصر الذي يعيش فيه ويعلق قائلاً ان هناك من يعيشون في رفاهية رغم التخلف الحضاري العام للبلد، يذكره "عادل بك" في وطنية نادرة، بأن أجداده المصريين كانوا يبنون الأهرامات في الوقت الذي كانت جدته تتناول افطارها بقضم ذراع جده!

الطابع الفردي

ويتمتع شاكر باشا نفسه بطيبة القلب التي تجعله يساعد ـ بطريقة غير مباشرة ـ ابنه وصديقه يحيى في اقامة حفلهما التمثيلي، عن طريق نقوده واتصالاته مع اصحاب الفرق الإستعراضية. وهناك ايضاً الأميرة الاستقراطية التي تدعم نشاط يحيى وزملائه.. وهكذا.
ويرصد الفيلم، منذ بدايته، تفجر النزعة الوطنية لدى الضباط المصريين، ومحاولتهم البحث عن طريق للخلاص في ذلك الوقت. ويتتبع الفيلم سلوكهم طريق الإرهاب وتنظيمهم الاغتيالات ضد المتعاونين مع الانكليز، ويدين رؤيتهم القاصرة التي صورت لهم مثلاً ان اغتيال تشرشل عند زيارته مصر، يمكن ان ينهى الحرب لصالح الالمان، ويفتح امامهم الطريق لتخليص البلاد من الانكليز، وهي النظرة التي انتقدها جمال عبد الناصر بشدة في كتابه "فلسفة الثورة" فيما بعد.
ينتقد الفيلم ذلك الطابع الفردي والمغامر والنظرة المراهقة في حل قضايا الواقع، التي كانت تسيطر على الضباط الوطنيين "الأحرار" من خلال المشهد الذي نرى فيه احدهم وهو يمسك بمسدسه ويشير تجاه قصر رأس التين بالإسكندرية حيث ينزل الملك فاروق، ويقول ان رصاصة واحدة كفيلة بالقضاء على الطغيان. كما يشير الفيلم الى افتقاد هؤلاء الضباط الى خلفية ثقافية وايديولوجية والى الطابع التجريبي الذي كان يحكم نظرتهم. يقول احدهم لزميله ان "حليف اليوم عدو الغد" .. وعندما يسأله زميله متعجباً عن المصدر الذي قرأ العبارة فيه، يقول انه لم يقرأها في اي مصدر بل فكر فيها لتوه.
ويشير الفيلم ايضاً الى اتصال الضباط بالاخوان المسلمين للحصول على تأييدهم واتصالهم بتنظيمات اليسار.. فأحدهم يقوم بتكليف والد يحيى المحامي بالدفاع عن "ابراهيم" الشيوعي بعد اعتقاله.
ومن الحقائق التاريخية التي يوليها الفيلم عنايته ويتتبعها، اتصال الضباط الوطنيين بالألمان النازيين قبل معركة العلمين، اشارة الى الاتجاه الذي كان يرى ان خلاص مصر من الاحتلال البريطاني يكمن في التعامل مع اعدائهم الالمان.
ويربط شاهين في الكثير من اجزاء فيلمه بين المشاهد التسجيلية لمعارك الحرب العالمية الثانية، كما يدخل مشهداً لاضطهاد اليهود ومطاردتهم في شوارع المدن التي يحتلها النازيون، لكي يخلق مقارنة بين وضع اليهود الأوروبيين واضطهادهم على ايدي النازي، وبين وضع يهود الاسكندرية الذين كانوا يعيشون في سلام ورفاهية، حيث يجيء رحيلهم ـ أسرة دافيد مثالاً ـ هرباً من اقتراب الخطر النازي وليس نتيجة لاضطهاد من اي نوع.
ويعتني الفيلم عناية خاصة بتقديم شخصياته من خلال مشاهد اللقاء والوداع. فالاسكندرية هي ايضاً مدينة اللقاءات والافتراقات. هناك اللقاء بين سارة وابراهيم في احد الاجتماعات السياسية، وهناك اللقاء الاول بين عادل بك والجندي البريطاني الشاب، وهناك مشهد الفراق بين ابراهيم وسارة بسبب رحيل الأسرة اليهودية، ثم لقاؤهما في السجن بعد عودة سارة. وهناك مشهد الوداع بين عادل بك وتومي بعد ذلك. وبينما كان محتماً ان تلتقي سارة وابراهيم وتستمر علاقتهما التي اثمرت طفلاً، تنتهي العلاقة الشاذة والمستحيلة بين عادل بك وتومي.. لانها علاقة بين مصري وجندي من جنود الإحتلال، رغم احتمال كونه ضحية اخرى من ضحايا الاحتلال نفسه. وفي هذا المشهد يقوم" تومي" بادانة وطنية عادل بك ورؤيته المريضة عندما يقول له ان قتل سكير ان سكيرين من جنود الانكليز لن يؤثر في وجود الاحتلال البريطاني.

شاعرية حزينة
وهناك ايضاً مشهد مغادرة العائلة اليهودية للاسكندرية، الذي صوره شاهين بشاعرية حزينة، ومشهد وداع يحيى صديقه محسن عند سفره الى انكلترا بعد انتهاء الحرب، ثم وداع اسرة يحيى له عند سفره الى امريكا في النهاية. ويستخدم شاهين اسلوب "الفلاش باك" مرتين خلال الفيلم. المرة الاولى عندما يتذكر " يحيى" طفولته وحادثة اسقاطه شمعة عيد الميلاد التي احرقت جزءاً من تمثال المسيح وصراخ جدته العجوز التي تتهمه بحرق المسيح، ثم وفاة شقيقه الأكبر، وتمنيات الجدة بوفاة الأصغر "يحيى" بدلاً من الأكبر.. وهو المشهد الذي يترك تأثيره الحزين على نفسية "يحيى" الشاب ويرسم احساسه المأسوي تجاه العالم. وقد صوره يوسف شاهين بكاميرا حرة مهتزة وباستخدام عدسة مشوهة للمنظور تأكيداً لإبراز طابعه الكابوسي.
المرة الثانية التي يستخدم فيها " الفلاس باك" عندما تحكي سارة لأبراهيم عن الإرهاب الصهيوني في فلسطين.. حيث نرى احد اعمال العنف الذي يمارسه اليهود ضد العرب، كسبب مباشر لفرارها وعودتها الى الاسكندرية. في نفس المشهد. الذي لم تكن هناك ضرورة له في رأينا. نرى الاب اليهودي جالساً في سيارته يعلن بصوت قوي وبنفس طريقة الاداء المسرحي الشهير ليوسف وهبي، ادانته للارهاب" تحت اي عذر ومهما كانت الدوافع" . لكن الفيلم مع ذلك يتركنا دون ان نعرف على وجه التحديد ما اذا كان الرجل عاد الى مصر ام فضل البقاء في اسرائيل.
ومن بين العناصر المثيرة والمتميزة في الفيلم، تحول النجوم الذين استعان بهم يوسف شاهين، الى ادوات في يد المخرج يستعين بهم في صياغة افكاره ورؤيته، دون ان ينفرد احدهم باحتلال مساحة كبيرة من الاداء التمثيلي باستثناء الممثل " محسن محيي الدين" الذي قام بدور "يحيى" .. وبذل في ادائه مجهوداً كبيراً لكن دون الارتفاع الى المستوى المطلوب في اداء شخصية بمثل هذه الخصوصية والتعقيد.. مما اسقط اداءه في الميلودرامية والمبالغة في لحظات كثيرة.
وعلى الرغم من كل التحفظات الممكنة حول البناء الفكري او المعالجة السينمائية، الا ان "اسكندرية .. ليه" يظل تجربة طموح لمخرج معطاء يتطور على نحو مدهش ممتلكاً القدرة على اثارة خواطر مشاهدية ، طارحاً نماذج جريئة لسينما الفكر.
المشهد الأخير الذي نرى فيه بطلنا يواجه تمثال الحرية الشهير القائم على مشارف نيويورك، وفي عينيه يبدو فزع غامض، ثم تتحول لقطة التمثال الى لقطة لامرأة عجوز قبيحة تدوي بضحكات هستيرية مجنونة وتغمز بعينيها في تهتك واضح، يشير الى سخرية يوسف شاهين من ذلك الحلم الزائف الذي راوده في شبابه وراود ابناء جيله جميعاً في الاتجاه غرباً.. الى رمز العالم الحر.

الثلاثاء، 23 سبتمبر 2008

من فيلم "إمبراطورية الحواس"

قبل فترة نشرت هنا مقالا تحليليا نقديا عن فيلم "امبراطورية الحواس" للمخرج الياباني ناجيزا أوشيما الذي اعتبرته واحدا مما يمكن أن نطلق عليه "الكلاسيكيات الحديثة" أو modern classics وهي الأعمال التي ربما لا يكون قد مضى عليها زمن طويل إلا أنها اعتبرت من الناحية الفنية، أعمالا ستدخل تاريخ السينما وتصبح من الكلاسيكيات المشهودة.
يقول الناقد رونالد بيرجان في "قاموس الأفلام الأجنبية" إن الفيلم "كان بالنسبة لكثيرين معالجة للعلاقة بين الإيروتيكية والموت (وهي تيمة سبق أن تناولها برتولوتشي في فيلم "التانجو الأخير في باريس" وفتحا فنيا في مجال تصوير الجنس الصريح على الشاشة"."امبراطورية الحواس" بالتأكيد من الكلاسيكيات الحديثة. وعلى العكس من الانطباع الذي قد يكون قد وصل إلى بعض القراء عن مدى عنف الفيلم وقسوته، هناك بعض المشاهد في هذا الفيلم شديدة الرقة والشفافية والسخرية المحببة أيضا.. منها مشهد أو اثنان عثرت عليهما وأردت أن يشاركني قراء هذه المدونة في تأملهما والاستمتاع بهما، وتأمل العلاقة بين شريط الصوت وشريط الصورة، والتناقض بين الرغبة في التحرر والانطلاق، والقمع الذي يمارسه الأقوى على الأضعف في اليابان الفاشية في الثلاثينيات.
ليس هناك جنس من ذلك الجرئ جدا الذي يصوره الفيلم بوفرة، لكن إيحاءات جنسية واضحة. والأفضل أن يشاهد القارئ بنفسه لنفسه بدون وصاية أو شروح.
اضغط هنا لقراءة مقالي عن "امبراطورية الحواس"
شاهد بالفيديو عبر هذه الوصلة

الأحد، 24 أغسطس 2008

كلاسيكيات معاصرة: "إمبراطورية الحواس"


الجنس كتعبير عن رفض الواقع


عندما عرض فيلم "إمبراطورية الحواس" للمخرج الياباني ناجيزا أوشيما Oshima للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي عام 1976، انقسمت الآراء حوله كما لم يحدث من قبل بالنسبة لأي فيلم. البعض اعتبره مجرد عمل مثير للغرائز وبالتالي للاشمئزاز والنفور والغضب، وفيلما من الأفلام الجنسية الإباحية أو ما يعرف بـ "الأفلام الزرقاء" (أو البورنوجرافيا) pornography. والبعض الآخر اعتبره تحفة سينمائية وقصيدة بصرية بليغة حول البحث المطلق في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، والتأمل في جوهر وطبيعة العلاقة الحميمية الحسية كمعادل للوجود الإنساني نفسه أو ربما كتجسيد له.
منذ ذلك الحين برز اسم المخرج ناجيزا أوشيما على خريطة السينما العالمية، واعتبر أكثر السينمائيين اليابانيين تحررا في الفكر والصياغة الدرامية والقدرة على اقتحام المواضيع الصعبة وسبر أغوار الجوانب المسكوت عنها.
إلا أن "إمبراطورية الحواس" The Empire of Senses واجه مصاعب عدة مع الرقابة في الولايات المتحدة وبريطانيا رغم التصريح بعرضه دون مشاكل في فرنسا. وبمجرد وصول نسخة الفيلم إلى الولايات المتحدة، قام ضباط الجمارك بمصادرتها على الفور باعتبار أن الفيلم يتضمن تصويرا فاحشا اعتبر – على نحو ما- عملا منافيا للآداب العامة. وتكرر الأمر نفسه في بريطانيا.

في مملكة الحواس
هنا قام الطرف الفرنسي في الإنتاج بإعادة تصدير الفيلم إلى بريطانيا مرة أخرى بعد تغيير اسمه إلى "في مملكة الحواس" In the Realm of the Senses
ومنحت الرقابة البريطانية الفيلم تصريحا مقيدا يقضي بقصر عرض الفيلم على نوادي السينما ودور الفن والتجربة بعد أن حصل على علامة "إكس" المزدوجة التي لا تمنح عادة إلا لأفلام "البورنوجرافيا". ولم يعرض الفيلم بالتالي إلا في دارين لعروض الفن والتجربة في العاصمة البريطانية هما "سكالا" و"جيت نوتنج هيل". وكلاهما اليوم لم يعد له وجود مع زحف قيم أخرى ومفاهيم أخرى في السينما.
وبعد نحو خمسة عشر عاما من ظهوره سمحت الرقابة البريطانية (أي عام 1991) بعرض الفيلم عروضا عامة في دور العرض التجارية على نطاق واسع، ولكن نسخة الفيديو من هذا الفيلم ثم الدي في دي أو الاسطوانات الرقمية كان عليها أن تنتظر إلى ما بعد بداية األفية الثالثة لكي تصل إلى البيوت.
شاهدت هذا الفيلم للمرة الأولى في العاصمة الفرنسية عام 1981، وبهرني الفيلم، ليس فقط بجرأته الشديدة واقتحامه لخفايا وأسرار عالم قائم بذاته هو عالم الجسد، بل أيضا لأسباب تعود إلى التقنية العالية لمخرجه، وللأداء التمثيلي المقنع بشكل مدهش لبطليه، وكأنهما ارتبطا معا بالفعل بعلاقة عاطفية مشبوبة، خاصة أن الفيلم يعتمد اعتمادا رئيسيا على أداء البطلين ومناجاتهما الحارة وظهورهما معا في لقطات حب طويلة وتفصيلية.
وعدت لمشاهدة الفيلم مرة أخرى في عرض خاص نظمته الشركة البريطانية التي اشترت حقوق توزيعه في بريطانيا وهي معهد الفيلم البريطاني أو مؤسسة السينما البريطانية British Film Institute المدعومة من مجلس الفنون أي من المؤسسة الرسمية التي تعنى بشؤون التنشيط السينمائي من الناحية الثقافية. إذن فقد حصل الفيلم على اعتراف مؤكد من قبل أرقى هيئة سينمائية بريطانية، واعتبر عملا فنيا ذا قيمة طليعية وتجريبية.. ثم عدت لمشاهدته بعد ان صدر قبل سنوات في اسطوانة رقمية. ولكن ما الذي حدث أصلا وسبب كل ما سببه من متاعب للفيلم وصاحبه؟

عودة إلى الماضي
ربما يكون مناسبا العودة إلى الفترة التي شهدت ظهور الفيلم للمرة الأولى لكي نضعه في السياق التاريخي الصحيح لتطور التعبير السينمائي البصري في حينه.

كانت فترة منتصف السبعينيات فترة حافلة بأعمال فنية قطعت شوطا طويلا في استخدام الجنس صراحة، فقد اعتبرته محورا رئيسيا للعمل الفني، وصورته بجرأة تجاوزت كل ما كان مسموحا به من قبل. وكان هذا بالطبع محصلة للطفرة التي تحققت بفضل ما عرف في الستينيات بـ"الثورة الجنسية".
ولازلت أذكر الدراسة التي نشرها د. لويس عوض في صحيفة "الأهرام" وتحديدا في ملحقها الأدبي، عن مسرحية "هير" أي الشعر، وقت أن كانت للملاحق الأدبية سمعة محترمة، وقبل انهيار الأهرام نفسه مع انهيار الفكر السياسي على صعيد النخبة المستاثرة على الساحة وليس على صعيد النخب المهمشة التي تحتفظ بحيويتها طيلة الوقت.
وكانت تلك المسرحية تعتمد على ما يطلق عليه البعض الآن "مسرح الكباريه السياسي". وكانت تعبر – على نحو ما – عن غضب واحتجاج الشباب الأمريكي وإحساسه بالاغتراب، على خلفية الحرب التي كانت لا تزال مشتعلة في فيتنام. وكان التحرر قد وصل إلى أقصاه في تلك المسرحية: ممثلون يؤدون لأول مرة ربما في تاريخ المسرح- رقصات وهم عراة تماما، ويتخذون أوضاعا جنسية مباشرة. بعدها ظهرت مسرحية أخرى على خشبة المسرح الإنجليزي يمارس فيها البطلان – الممثل والممثلة – وهما هنا يلعبان دوري زوج وزوجة- الجنس صراحة كل ليلة على خشبة المسرح أمام الجمهور مباشرة.
ثم كان ظهور فيلم "التانجو الأخير في باريس" Last Tango in Paris للمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي عام 1973 بمثابة صدمة كبرى للأوساط الرقابية والسينمائية. وقد ثارت حول هذا الفيلم ضجة هائلة، وأثار عروضه أصداء واسعة وقضايا متشابكة، فقد منع لفترة في معظم العواصم الأوروبية، بل ووصل الأمر إلى حد صدور حكم قضائي في روما بسجن مخرجه بتهمة المشاركة في صنع عمل يدعو إلى الانحلال.
وعادت الضجة مرة أخرى عندما قدم الإيطالي بيير باولو بازوليني فيلم "سالو" Salo (أو 120 يوما في حياة سادوم) الذي كان بالمناسبة آخر ما يخرجه من أفلام. وجاء "سالو" متجاوزا كل الحدود المعروفة والمألوفة، فقد كان بازوليني يصور فيه بجرأة وبأسلوب فني متميز وخلاق، العلاقة بين العنف الفاشي المجنون والشذوذ الجنسي، ليس بمعناه المثلي البسيط، بل بمعنى الإغراق في أكثر أنواع الجنس سادية ودموية عنيفة تصل إلى الحيوانية والبدائية المطلقة التي تذكرنا بفترة الانحطاط الأخيرة في عصر الإمبراطورية الرومانية. كان هناك بالطبع ربط مباشر وواضح – لمن يريد أن يقرأ بصريا ويدرك- بين دموية المنهج السياسي المعادي للإنسان، وبين الممارسات السلوكية الفردية التي يتحول خلالها الفرد إلى عضة في قطيع همجي يمارس كل ما يمكن تخيله من جرائم وبشاعات: من اغتصاب وقتل وقطع للأثداء وتمثيل بالأعضاء الجنسية وإرغام الآخرين الضحايا على أكل البراز وغير ذلك.
الفاشيون في إيطاليا – وهم ما زالوا موجودين حتى يومنا هذا – فهموا الرسالة بالطبع. ولم يكن غريبا أن يتربصوا بالفيلم ومخرجه، يقيمون الدنيا من حوله حتى قبل أن ينتهي مخرجه من إخراجه. وعلى إثر ذلك فقد بازوليني حياته في حادث بشع لا يزال البعض يرى من وراءه أصابع الفاشية.
كان "سالو" يعتمد على إعادة تجسيد أحداث حقيقية وقعت في الشمال الإيطالي قبيل اكتمال عملية تحرير البلاد في نهاية الحرب العالمية الثانية، في آخر معاقل الفاشية الإيطالية المهزومة.
ناجيزا أزشيما ومساعده وبطلا فيلمه "جوباتو"

أجواء الفاشية
أجواء الحرب وصعود الفاشية في اليابان ربما كان أيضا وراء ظهور فيلم "إمبراطورية الحواس" الذي يعتمد – شأن "سالو" – على حادثة حقيقية وقعت في طوكيو عام 1936 قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة.
تبدأ تلك الحادثة بقيام رجال الشرطة بالقبض على بائعة هوى قتلت عشيقها بطريقة وحشية عن طريق تجريده بقسوة من عضوه التناسلي، ثم هامت على وجهها في الشوارع وهي تحمل عضو الرجل الذكري. ووراء المرأة قصة هي التي يرويها أوشيما في فيلمه برصانة كبيرة، ويجعل عشرات المشاعر والتساؤلات تجول بخاطرك وأنت تشاهد فصولها المتعاقبة.
يبدأ الفيلم بامرأة شابة من بائعات الهوى تدعى "سادا" تهجر مهنتها وتلتحق بالخدمة في أحد منازل السادة في طوكيو. المنزل يملكه رجل متزوج حديثا، والخادمة واحدة من خادمات مثيرات غيرها يسهرن على شؤون المنزل وخدمة سيده الذي يعشق فيما يبدو، حياة اللهو الاسترخاء والكسل.
تقوم زوجته كل صباح بمساعدته على الاستحمام، ويمارس الإثنان الحب معا، برغم النظرات المتلصصة للخادمات الفضوليات من فرجة الباب ومعهن "سادا" التي تتفتح شهيتها الجنسية تجاه سيدها الشاب القوي، إلا أنه لا يبدو مدركا لوجودها. وذات يوم تقع مشاجرة عنيفة في المطبخ بين ربة البيت وسادا التي تصل في تهورها وحنقها إلى حد تهديد سيدتها بالسكين. ف يتلك اللحظة يصل الزوج وتلفت سادا نظره، بتوحشها وجمالها الفائق وفورانها الطبيعي، وسرعان ما تبدأ بين الاثنين علاقة حسية أو علاقة عشق ملتهب لا يعرف قيودا، تصبح علاقة شبه معلنة يعرف بها كل سكان المنزل.
الرجل – ويدعى "كيشي" – يكاد يصبح متفرغا لشؤون الحب والهوى، والمرأة من ناحيتها ترغب في الاستيلاء عليه استيلاء تاما كاملا غير منقوص، فهي تحظر عليه أن يقرب زوجته، تريد أن يكون معها ليلا ونهارا.

مفهوم الحب
ويستمر الإثنان في ممارسة الحب الحسي الجارف بكل صنوفه وأشكاله الممكنة وغير الممكنة. وأثناء ذلك يدور حوار طويل ممتد عبر الفيلم بأكمله، عن مغزى الرغبة وعن مفهوم الحب، عن معنى الألم وعلاقته باللذة، وعن الجاذبية الطبيعية بين الرجل والمرأة. تتفنن المرأة في ابتكار صور وأشكال الحب والجنس، وتكتشف باستمتاع خاص العلاقة بين اللذة والألم، وبين الجنس والسيطرة القدرة على تحطيم الحاجز القائم تاريخيا بين الطبقات.
يقضي العشيقان ليلة معا في أحد بيوت المتعة حيث تلحق بهما إحدى فتيات الجيشا، ثم تحضر مغنية عجوز تجلس أمام العشيقين، تغني وتعزف على آلة وترية شبيهة بالعود فيما العشيقان يمارسان الجنس أمامها، ثم يدور حوار غريب بين سادا والمغنية:
- كيف ترين هذا الرجل؟
- أجده جذابا شابا وسيما.
- كم عمرك؟
- ثمانية وستون عاما.
- هل تشعرين بالرغبة وأنت في هذه السن؟
- مشاهدة الشباب تغوي المرء!
- هل تريدين مضاجعته؟
- نعم.. ولكن...

من المشهد الأخير في "امبراطورية الحواس"

تتردد المرأة برهة، تتطلع بنوع من الاشتهاء إلى جسد الرجل العاري، وعلى الفور ينهض الرجل يجذبها ويمارس معها الجنس أمام سادا التي تراقب بانبهار ما يحدث، تكتشف على ما يبدو ألغازا كانت خافية عليها من خفايا عالم الجسد.تبتكر سادا فيما بعد طريقة شاذة للحصول على أقصى إحساس بالمتعة عن طريق المزج بين الجنس والألم، فهي تستخدم حبلا رقيقا تخنق به رقبة حبيبها أثناء ممارسة الجنس. يقول الرجل لها إنه لا يمانع طالما أن هذا يدخل السعادة على نفسها، لكنها تغضب وتلح عليه أن يغمض عينيه ويندمج مع الفكرة ومع الإحساس بها وأن يشعر بما تشعر به من لذة. يوافقها الرجل الذي يشعر بالانجذاب الشديد إليها ولا يمانع في إرضائها بأي شكل.
تدريجيا تتسلل إلى نفس سادا رغبة واضحة في الامتلاك.. امتلاك الرجل والسيطرة المطلقة عليه. إنها تغار من مجرد أنه يفكر في الرغبة في الحصول على قسط من الراحة بين أشواط المطارحات الجسدية التي لا تنتهي ولا تتوقف إلا لكي تبدأ مجددا. يريد هو أن يذهب لقضاء حاجته، لكنها لا تريد أن تمكنه من ذلك، فقد سيطرت عليها الرغبة سيطرة كاملة وأصبحت أسيرة لفكرة الانتحار في الآخر ومع الآخر، تريده أن يمتلكها كما تريد امتلاكه، ليس تحقيقا لتطلعات مادية أو شخصية بل فقط من أجل استمرار اللذة حتى النهاية.. نهاية الحياة المرتبطة بنهاية اللذة!
يسقط الرجل في النهاية فريسة للإرهاق الطبيعي. يسترخي يحاول أن ينال قسطا من الراحة. إلا أن سادا تواصل خنقه بالحبل لعلها توقظ فيه الرغبة مرة أخرى. تكاد تخنقه وهي تشدد من ضغطها على الحبل في إلحاح لإعادة الرغبة إليه. إلا أن الرجل يصل إلى ذروة الإجهاد فيستغرق في النوم. ينتهي الأمر بقيامها بتنفيذ رغبتها الراسخة المبيتة في امتلاكه إلى الأبد، فتقوم بطريقة وحشية بإخصائه باستخدام سكين، في مشهد صادم للعين.

الخوف من الموت
الموضوع الذي يطرحه أوشيما في "إمبراطورية الحواس" هو موضوع الجنس، ليس في حد ذاته، بل في ارتباط الحب بالجنس، اللذة بالألم، الألم بالسيطرة وبشهوة تحقيق التسيد إخفاء لضعف طبيعي يرتبط بالخوف من المستقبل، من النهاية أي من لحظة تنتهي فيها اللذة إلى الأبد ولا يمكن استعادتها كمعادل الموت. إنه الخوف من الموت، هو الموضوع الذي يشغل مخرجنا هنا. إنه نوع من البحث الصوفي المعذب عن الخلود، عن تخليد اللحظة، وعن مغزى الوجود من خلال العلاقة الحميمية اللصيقة مع الآخر.
أما على المستوى الأكثر شمولية يتعامل الفيلم مع الشخصية اليابانية لكي يجسد من خلالها حالة الفراغ المطلق والخوف من المجهول التي كانت تسيطر عليها قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، أي خلال فترة القلق فيما بين الحربين، وهي نفسها فترة قمع: اجتماعي ونفسي وجسدي مع صعود الفاشية التي تلغي الفرد لحساب الكتلة الصماء للمجموع.
إنه يعكس بوضوح رغبة عارمة في إغماض العين عما يحدث في الخارج (نحن مثلا لا نعرف اي شئ عما يجري خارج المنزل)، في الهروب من الواقع الكئيب الذي يتجه حثيثا نحو الحرب، ويجعلنا نتساءل: كيف يمكن لتلك التركيبة الرقيقة المعذبة بفكرة البحث عن اللذة أن تتجه إلى انكار الفرد تماما ودفعه دفعا إلى الذوبان وسط المجموع حسب الأفكار الفاشية التي لا ترى إلا أن الفرد ترس صغير في آلة الدولة، ولا تبالي بالتضحية به في سبيل بقاء الدولة.
إن الجنس في "امبراطورية الحواس" معادل موضوعي للتمرد، لرفض القيم السائدة الجامدة المتشنجة، والعاوى القومية الفاشية التي تطالب المرء بل ترغمه، على الذوبان في المجموع، أي ان يتحول إلى جزء من "قطيع" مدفوع بهاجس واحد فقط: خدمة الامبراطور الذي يعتبر إلها في اليابان، والامبراطور رمز لا يراه أحد، أماالمقصود فهو خدمة مؤسسة الدولة: التي ترغب في السيطرة والقهر والتوسع والتمدد الخارجي وإعادة صياغة إنسان جديد يتخلص من المشاعر الفردية، ويذوب في "الخف" الأكبر من جسده كثيرا، أي في جسد الأمة.
ولعل هذه النغمة حول العلاقة المعقدة بين الفرد وتطلعاته الذاتية ومشاعره من ناحية، وبين كونه جزءا من قطيع يمارس وظيفة "مبرمجة" هو الموضوع الذي مده أوشيما على استقامته في فيلمه المهم "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس" (1982).
ورغم الصدمة والقسوة إلا أن الفيلم يبدو عملا شاعريا يذوب فيه المجازي مع الواقعي، المتخيل مع المعاد تجسيده من الخيال، في بناء شديد التركيب رغم بساطته الظاهرية، وهذه هي عظمة العمل الفني الأصيل.

الهرب إلى الطبيعة
الهرب إلى الجسد هو ما يميز "إمبراطورية الحواس"، والاعتداء القاسي على العين، أي صدم المشاهدين بمشاهد لم يكن يمكن تخيل أن توجد في فيلم "جاد" من قبل ربما يذكرنا بفيلم آخر مثير للشجن كان أيضا نتاجا لثقافة الستينيات هو الفيلم السويدي الجميل "إلفيرا ماديغان" Elvira Madigan (1967) للمخرج بو فيدربرغ الذي يصور كيف يهجر ضابط في زوجته وأبناءه والخدمة العسكرية ويهرب مع فتاة سيرك، يتركان العالم الحديث في المدينة بأسره ويندمجان وسط الطبيعة في الريف، يمارسان الحب ويأكلان ما تجود به الطبيعة احتجاجا على القيم المتزمتة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر.

من فيلم "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس"

"موضوع "إمبراطورية الحواس" حاول أوشيما أن يمده على استقامته فيما بعد في فيلمه التالي "إمبراطورية العواطف" (1978) إلا أنه لم ينجح تماما شأن كل صناع "الاستكمالات الفنية"، ثم اتجه إلى محاولة سبر أغوار العلاقة المستحيلة المستغلقة بين التكوين النفسي الياباني، بعنفه الكامن وهواجسه الجنسية الخفية التي قد تتحول إلى طاقة مدمرة وولعه بالعمل وسط المجموع، والتكوين الغربي بحساسيته الخاصة: برودته وفرديته واعتزازه بنفسه، وذلك في فيلمه الأهم "كريسماس سعيد يا مستر لورنس" Merry Christmas Mr Lawrance.
والجنس في "امبراطورية الحواس" ايضا معادل للهروب من مواجهة ما يحدث في الخارج: خارج المنزل، وخارج الحي، بل وخارج اليابان. ففيلم أوشيما الجرئ هو نتاج مباشر أيضا – على الصعيد الياباني – لثقافة وفكر الستينيات، ثقافة التمرد على المجتمع بشتى أشكاله وصوره. هذا التمرد يتمثل هنا في الهرب والعزلة عن المجتمع، الإثنان يغلقان الباب عليهما بعيدا عن الخارج الذي لا نراه كثيرا، ويندمجان في لعبة اللذة والبحث عن مغزى لوجودهما الفردي من خلال إغماض العين عما يقع في العالم. إنه التمرد في أجلى معانيه.
"إمبراطورية الحواس" أخيرا فيلم قد يصدم الكثيرين من الذين لم يعتادوا ذلك النوع من التصوير الصريح الظاهر مع رسالة باطنية تحت جلد الصورة، من خلال خطاب بصري شديد الاقتحام والجرأة، إلا أنه يظل أحد الأفلام الأساسية التي يتعين على كل عشاق السينما مشاهدتها لمعرفة كيف تطور هذا الفن واكتسب لنفسه مساحة حيث يستطيع أن يجترئ على المحظور!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger