وقد اقتضت العودة إلى أحداث الحرب الأهلية الإسبانية في فيلم "الأرض والحرية" من كن لوتش المخرج، وجيم ألن كاتب السيناريو، القيام بدراسة موسعة شملت الانتقال بين العديد من القرى الإسبانية التي شهدت أعنف المواجهات بين أنصار الفاشية، وأنصار الجمهورية من شتى الأطراف، كما اقتضت الاستعانة بعشرات الوثائق والشهادات الحية وقصاصات الصحف والمذكرات.
والنتيجة أننا أمام عمل كبير بكل المقاييس، عمل متماسك صارم يتشرب بالواقعية، ولا يخلو مع ذلك، من اللحظات الشاعرية الرقيقة والمواقف المرحة، شأن الأعمال الكبيرة في الفن عموما.
"الأرض والحرية" هو أكثر أفلام كن لوتش (مخرج "حياة عائلية" و"نظرات وابتسامات" و"المفكرة السرية" و"ريف راف" و"تمطر حجارة" و"الريح التي تهز الشعير") تعبيرا عن موقفه الأيديولوجي الرافض منذ ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، للاشتراكية الستالينية بطابعها الشمولي، فهو ثائر على النظام الرأسمالي في الغرب ولكن دون رفض العمل في أطره القائمة، وهو يعبر في كل أفلامه عن نقده الشديد لمقومات القمع الكامنة داخل هذا النظام.
تعود بدايات التفكير في مشروع فيلم "الأرض والحرية" إلى أوائل التسعينيات بعد سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، فمنذ ذلك الوقت بدأ جيم الن وكن لوتش البحث المكثف في خلفيات الفترة، واطلعا على الكثير من الوثائق الشخصية ومنها مذكرات العامل البريطاني من ليفربول الذي يبدأ الفيلم بوفاته في الزمن المضارع، وتبدأ ابنته الشابة الاطلاع على المذكرات التي تركها، وعلى قصاصات الصحف التي ظل يحتفظ بها طوال تلك السنوات.
ومن وجهة نظر العامل الراحل يروي الفيلم قصة الحرب الأهلية الإسبانية من زاوية نقدية لها بالتأكيد اسقاطاتها المعاصرة.
يقول كن لوتش: لقد تم قمع الثورة الإسبانية في ذلك الوقت عبر السياسة الدولية للحزب الشيوعي الروسي بمساعدة الغرب الذي تضامن مع الفاشية في إسبانيا. ومن خلال فيلمه يكشف لوتش للمشاهدين في الحاضر أنه كان هناك طريق آخر بديل للاشتراكية يختلف عن طريق الشيوعية الروسية الستالينية في ذلك الوقت. ويصبح الفيلم في الكثير من أبعاده معبرا بدرجة كبيرة عن الواقع الأوروبي الحالي كونه يجيء بعد عودة النزاعات القومية المتعصبة إلى الظهور في زمن انتشار البطالة وانفجار الحروب في أوروبا الوسطى خاصة في البوسنه التي شهدت للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، ما عرف بعمليات "التطهير العرقي". العودة إلى الماضي
تدور أحداث الفيلم حول "ديفيد" الشاب العاطل عن العمل الذي ينضم للحزب الشيوعي البريطاني باعتباره البديل المتاح أمام الطبقة العاملة. ويذهب ديفيد من مدينته ليفربول، إلى برشلونة في بدايات الحرب الأهلية عام 1936 لكي يلتحق بحركة النضال ضد الفاشية تحت راية الحزب الشيوعي. ومن برشلونة إلى جبهة الأراجون حيث ينضم ديفيد إلى مجموعة تنتمي للميليشيات الجمهورية تضم 16 مناضلا من بلدان مختلفة.
ومن خلال تجربة الحرب ينمو وعي ديفيد، ويتفتح على حقيقة الموقف السوفيتي الرسمي من الحرب، وحقيقة التحالف غير المعلن، بين شيوعيي موسكو، وبين الأنظمة الرأسمالية الغربية بغرض احتواء الجمهوريين أولا، ثم التآمر لضربهم والإجهاز عليهم في النهاية لحساب الفاشية.
هنا تسقط كل المبادئ "الديمقراطية" المعلنة، وكل الشعارات "الاشتراكية" الأممية أمام تطور الحرب المناهضة للفاشية في اسبانيا والتي تتجه بالفعل في ذلك الوقت، إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، وسيطرة العمال على المصانع، وتسليح الجماهير من أجل حماية أنفسهم بعد رفض الحكومة الجمهورية تسليحهم خشية من تجذر الحركة وتجاوزها الإطار الستاليني من ناحية، وخوفا من رد فعل الأنظمة الغربية من ناحية اخرى.
لكن هذا التردد، أو بالأحرى التواطؤ غير المباشر الذي يصل، كما نرى في الفيلم، إلى حد خيانة الشيوعيين الرسميين للأجنحة الاشتراكية في حركة المقاومة ضد الفاشية، وهو الذي يؤدي بعد ذلك إلى النهاية التراجيدية الدامية التي تنتهي إليها تجربة الجمهورية الإسبانية.
البناء الدرامي
يتخذ الفيلم، دراميا، من شخصية "ديفيد" الشيوعي التقليدي، مدخلا لتناول الصراع السياسي تفصيلا بقدر كبير من الصدق في تصوير الأحداث وتحليل التناقضات بين الفصائل المختلفة داخل حركة المقاومة: الفوضويون والاشتراكيون الراديكاليون من ناحية، والشيوعيون التقليديون المحافظون من ناحية أخرى.
وخلال تجربته في النضال المشترك مع زملائه المتطوعين في فصيل الميليشيا، يرتبط ديفيد بالحب مع فتاة تدعى "روزانا" تصبح هي الطرف الآخر المحرك للأحداث، فهي شخصية مليئة بالرومانسية العاطفية والثورية معا. إنها تشهد كيف يموت حبيبها الأول غدرا، وتمر بفترة من الحزن والغضب، ثم ترتبط بصداقة مع ديفيد، تتحول فيما بعد إلى علاقة عاطفية مشوبة بالحذر في البداية بسبب موقف ديفيد السياسي، ثم تصبح الفتاة بمثابة المفجر للتساؤلات عنده حول حقيقة ما يجري في الواقع من حوله.
يترك ديفيد المجموعة التي ينتمي إليها تنظيميا، ويعود إلى برشلونة بناء على تعليمات من قيادة الحزب، ويقضي فترة هناك مع فصيل الحزب الشيوعي الذي يرضخ للاوامر الصادرة من موسكو فيحجم عن الاشتراك في النضال المسلح، وهو ما يجعل ديفيد يتمرد ويقرر العودة بقرار شخصي منه، على خط المواجهة مدفوعا بالحب وبالرغبة في المعرفة الحقيقية بعد ان يصبح على يقين من صدق ما حدثته عنه روزانا.
ويصور كن لوتش مناقشات طويلة عديدة تدور بين افراد الميليشيا، كما يصور ما ينشأ بينهم من خلافات، ومغامراتهم الطريفة، ومشاجراتهم ومشاركتهم بالسلاح في الدفاع عن المنطقة الريفية التي يسيطرون عليها، بل إنه يصور أيضا صعوبة التفاهم فيما بينهم من الناحية اللغوية بدافع اختلاف اللغات والثقافات التي ينتمون إليها، وينجح بإقناعنا تماما بواقعية الأحداث وفي إعادة تجسيد أجواء إسبانيا في الثلاثينيات.
في أحد المشاهد الكبيرة في الفيلم يصور لوتش هجوم الفاشيين على إحدى الكنائس واحتجازهم امرأة عجوز رهينة قبل أن يقضي عليهم رجال المقاومة. ويصور في مشهد آخر طويل ينضح بالمأساة قيام الشيوعيين الجمهوريين بنزع سلاح مجموعة الميليشيا.
ويعتبر الفيلم بأسره درسا في أهمية الوعي بالتاريخ، والاستفادة من الأخطاء التي ارتبكت وقابلية تكرارها في أماكن أخرى من عالمنا ولو بطرق وأشكال مختلفة.
يقول جيم ألن كاتب سيناريو الفيلم: "لو كان فرانكو قد هُزم ربما لم تكن الحرب العالمية الثانية قد قامت. لقد استخدم هتلر وموسوليني إسبانيا كحقل تجارب لقواتهم ومعداتهم العسكرية. وعندما طلبت الحكومة الجمهورية المنتخبة في إسبانيا ديمقراطيا من فرنسا وبريطانيا تزويدها بالسلاح للدفاع عن نفسها رفضت الدولتان طلبها، وفضلا عن ذلك فقد تركوها فريسة للذبح. كان السيناريو سيختلف لو كان فرانكو قد هُزم"!
يستخدم كن لوتش في تصوير فيلمه طريقته المعهودة في التصوير حسب تسلسل السيناريو، مانحا بذلك الممثلين مساحة كبيرة للإجادة والتجويد. وهو ينجح كثيرا في السيطرة على مجموعة الممثلين الستة عشر الذين ينتمون إلى بلدان مختلفة، ويوحد بينهم في تجربة فريدة مثيرة، جعلت الكثيرين منهم يندمجون في أدوارهم إلى حد التقمص التام.
ويضفي لوتش على فيلمه اللون البني القاتم تعبيرا عن أجواء التراجيديا، كما يستخدم الموسيقى الملحمية التي كتبها جورج فينتون، للتعليق على الأحداث والمشاهد، والتمهيد لظهور الشخصيات. ويعتمد لوتش على المشهد كوحدة بناء في الفيلم وليس على اللقطات المتداعية المنفردة، ويصوغ فيلمه في بناء كلاسيكي يتقدم إلى الأمام دون انتقالات إلى الماضي باستثناء العودة الطويلة، بطول الفيلم كله، إلى الماضي، بعد البداية المعاصرة التي تدور في التسعينيات.
وقد استعان لوتش بعدد كبير من الخبراء والمتخصصين، سواء في تاريخ الفترة التاريخية، أو الخبراء في المنطقة التي أدار فيها التصوير في جبال قطالونيا أي في الاماكن الحقيقية التي شهدت الكثير من المعارك الدامية، كما استعان بعدد من خبراء المتفجرات واستخدام الأسلحة لتدريب الممثلين على أساليب استخدام الأسلحة العتيقة. ويستخدم لوتش حركة الكاميرا في فيلمه بحيث تتناسب مع الطابع التسجيلي للفيلم فهي تبدو كما لو كانت تتابع تحركات أبطاله "الحقيقيين" في تجربتهم المثيرة، وربما لا توجد سوى مشاهد قليلة في الفيلم صورت في الاستديو، وفيما عدا ذلك قدمت وزارة الثقافة الإسبانية وغيرها من المؤسسات المعنية بالتراث مساعدات هامة لإنجاز الفيلم.
وقد جاء الفيلم نموذجا للإنتاج السينمائي "الأوروبي" بمعنى الكلمة، فهو من الإنتاج المشترك بين شركات بريطانية واسبانية وفرنسية وايطالية والمانية، كما تلقى دعما مباشرا من مؤسسة دعم الإنتاج السينمائي التابعة للاتحاد الأوروبي.
ويعد الفيلم نموذجا بارزا للسينما الواقعية التي عرف بها لوتش في معظم أعماله، مع مسحة شاعرية رومانسية. ورغم قوته التعبيرية الهائلة، يعاني الفيلم من بعض نقاط الضعف مثل الإطالة واللقطات الزائدة في بعض المشاهد، والتكرار، والاعتماد معظم الوقت، على اللقطات العامة (البعيدة) على حساب المتوسطة والقريبة (كلوز اب) التي تقل كثيرا في الفيلم، وذلك رغبة منه في إضفاء الواقعية التسجيلية على الفيلم، وتأكيد العلاقة الوثيقة بين الشخصيات والمكان، إضافة إلى النزعة "النوستالجية" الواضحة في الكثير من مشاهد الفيلم مما يجعله يخرج عن السياق أحيانا ويستطرد.
ولكن على الرغم من أي ملاحظات سلبية على الفيلم وهي قليلة، يظل "الأرض والحرية" أحد أهم أفلام مخرجه، وأحد أكثر الأفلام شجاعة في عصرنا، وتجربة جديرة بالمشاهدة والاهتمام كونها تدفع إلى إعمال العقل وإلى التأمل فيما يدور في عالمنا اليوم.
0 comments:
إرسال تعليق