السبت، 28 ديسمبر 2013

عن الحرامي والعبيط والضحك على الذقون!




حرام أن يتورط إثنان من أهم وأفضل الممثلين في السينما المصرية هما خالد الصاوي وخالد صالح، ويقبلان القيام بهذين الدورين في فيلم ساذج وبدائي مثل "الحرامي والعبيط" لمخرج يدعى محمد مصطفى (أوقات فراغ والماجيك). هذا فيلم من تلك الأفلام التجارية الشائعة التي ينتجها السبكي. وفكرة أن تكون هناك أفلام تجارية فكرة مقبولة بالطبع بل ولابد ان توجد الأفلام التجارية لكي تستمر الصناعة وتسير إلى الأمام. لكن فيلم "الحرامي والعبيط" عودة إلى الوراء، إلى ما يمكن وصفه بـ"أفلام الاستهبال" أي الأفلام التي تفترض في المتفرج البلاهة والتخلف العقلي، فمطلوب منك أن تجلس لنحو ساعتين تشاهد كيف يستغل "بلطجي" هو (خالد الصاوي) ضعف الحالة العقلية لرجل يصور لنا الفيلم كيف أن صدمته في خيانة زوجته له قد أدت به إلى حالة من الجنون، لكنه ليس مجنونا بل يفهم ويستوعب كما هو واضح بل أصبح اقرب إلى البلاهة، بحيث يضحك عليه البلطجي ويستغله لكي ينقل له قرنية عينه فيصبح هو سليما العينين، يمكنه الرؤية بهما، في حين يفقد الىخر عينا، ويتمادى صاحبنا في غيه أمام إغراء الحصول على المال السهل من عصابات نقل الأعضاء لكي يبيع لهم العبيط يحصلون من ا‘ضائه على ما يشاءون.. ولن أستطرد كثيرا في رواية تفاصيل القصة فليس للقصة أي مغزى، ولا لذلك السيناريو المتهافت الذي لم أصدق أن كاتبا مثل أحمد عبد الله صاحب الفيلم الممتاز "ساعة ونص" يمكن ان "يتورط" في كتابته!
المهم أن "الحرامي والعبيط" الذي يبدأ بداية جيدة تذكرنا بفيلم "الفي" Alfie البريطاني من عام 1966 (إخراج لويس جيلبرت)، وأيضا بالفيلم الجزائري الأول للمخرج مرزاق علواش "عمر قتلاتو" (1973) حينما نرى بطله خالد الصاوي ينتقل في الحي العشوائي الذي يقيم فيه يواجه الكاميرا من حين إلى آخر، لكي يصف لنا الشخصيات التي يقابلها ويعلق على ما يجري من أحداث في الحي يوميا.. سرعان ما يتحول إلى مجرد هزلية ميلودرامية تتخفى وتتقنع بقناع النقد الاجتماعي بدعوى معالجة مشكلة تجارة الأعضاء، من خلال تلك الأنماط التي كانت دائما لصيقة بالفيلم المصري الكوميدي التجاري المتدني منذ الأربعينيات حتى اليوم. وللأسف أن مثل هذه الأفلام (نطلق عليها أفلاما تجاوزا) لاتزال تجد لها مشاهدين في تلك الأوقات التي نعيشها في زمن الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والتدهور الثقافي بالتالي.
ليس هناك أي سلوك أو حدث يمكنه إقناعك في هذا الفيلم بأن ما تشاهده له علاقة بالعالم الذي نعيش فيه رغم أنه يتدثر بثياب "الواقعية" بالطبع، فلا الحرامي أو البلطجي يبدو أن له ملامحا إنسانية من أي نوع، ولا العبيط الذي يستسلم كالنعجة لذلك الحرامي، يمكن أن يكون من عالمنا. الإثنان ليسا مثلا ضحية أي نوع من القهر الاجتماعي بل ضحية صناع هذا الفيلم المتهافت. أما الآنسة روبي في دور الممرضة فلا علاقة لها أصلا بعالم السينما، وظني أنها لا تصلح للوقوف أمام الكاميرا، لا من حيث الشكل ولا من حيث الأداء.

لقد ظلم خالد الصاوي نفسه كثيرا بقبوله مثل هذا الدور الذي يهبط فيه مستوى أدائه (المركب عادة) إلى أسفل مستوى، بل ويفشل حتى في إضحاك المتفرج بنكاته السخيفة وتعليقاته اللفظية السميكة، وهو اللهدف الأول من وراء صنع هذا الفيلم. أما خالد صالح، فقد اهان نفسه بقبوله هذا الدور الأحادث الذي لا يفعل فيه سوى تكرار ما يقوله اي ممثل أمامه بطريقة بلهاء! 

السبت، 21 ديسمبر 2013

وزارة الثقافة المصرية: الفساد مستمر.. والثورة مستمرة!



صابر عرب وزير الثقافة المصري



بقلم: محمود قرني



قبل حوالى الأسبوعين؛ أصدر تيار الثقافة الوطنية بالاشتراك مع مجموعة من المثقفين المستقلين، بيانا شديد اللهجة، يعلنون فيه موقفهم المناهض لما يرونه فسادا واسعا في وزارة الثقافة. انتهوا فيه الى المطالبة بإقالة وزير الثقافة ومحاكمته مع رموز وزارته، ثم أعلنوا البدء في خطوة أخرى تتضمن مذكرة تفصيلية، سترفع لرئيس الجمهورية المستشار عدلي منصور وكذلك لرئيس الوزراء الدكتور حازم الببلاوي. من يقرأ البيان يدرك على الفور أن الأوضاع الشائنة في إدارات وهيئات الوزارة وأداء وزيرها صابر عرب وكل ما ترتكبه الإدارة الحالية من تضليل وإفساد لا يتلاءم وطموحات مصر ومثقفيها عقب ثورة الثلاثين من يونيو، بداية من ممارسات الوزير منذ توليه المسؤولية في الحكومة الجديدة وفي حكومتين سابقتين جمعت بين المجلس العسكري ثم نظام حكم الإخوان المسلمين. من هنا تتعاظم المشكلة وتتسع دائرة التناقض بين فصائل من المثقفين الطموحين لمستقبل يتساوق مع طموحات الثورة، وبين إدارة ثقافية غارقة حتى أذنيها في الفساد وإعادة إنتاج الماضي عبر الإصرار على بعث الحياة في رميم المقبورين فيه. 

من هنا نستطيع القول إن اتساع دائرة معارضي الوزير وسياسته لم يكن مرجعها الوحيد مساخر ما أطلق عليه ‘مؤتمر المثقفين’ الذي أقيم قبل صدور البيان بعدة أيام، بل إن السياسة الثقافية برمتها باتت موضع تساؤل وموضع رفض أيضا، غير أن كثيرين يتعشمون في انتهاء الفترة الانتقالية دون خسائر تتجاوز ما هو كائن حفاظا على ما تبقى من بنية أساسية مهددة هي الأخرى بالضياع، فالوزارة الآن تقع بين فكي كماشة، الفك الأول تشكله مجموعات النظام القديم التي عادت للسيطرة على الجزء الأعظم من مواقع الوزارة، وهي مجموعة تعادي كل التيارات الطليعية في الفكر والإبداع والتشكيل وكافة الفنون، ومع الوقت أنشأت جماعات مصالح داخل الوزارة أصبح من الصعب تفكيكها، أما الفك الثاني فتمثله مجموعات من المرتزقة ممن يسمون أنفسهم ‘رجال الاعتصام’، أعني المعتصمين في الوزارة قبل الإطاحة بمرسي، وهذه مجموعة حققت مصالح ضخمة من علاقتها بالوزارة منذ عصر مبارك وفاروق حسني، لكن أخطر ما يحدث الآن أن هذه المجموعة تدفع باتجاه تفكيك الوزارة وبيع مؤسساتها وفتح الباب على مصراعيه للتمويل الأجنبي لجماعات وأفراد يتعاملون مباشرة ضمن روشتة جهات التمويل. ومن المعروف أن هذه المجموعة تقف وراءها عدة تنظيمات أهلية ممولة من الخارج وعلى رأسها مؤسسة فورد. وهذه المجموعة ترى أن استمرار سيطرة الدولة على العملية الثقافية يحول دون تحقيق أهدافها، ومن ثم يدفعون في اتجاه إعادة هيكلة وزارة الثقافة بقصد التخلص من إدارتها حكوميا لصالح جهات التمويل الأجنبي وبيع قطاعاتها الإنتاجية وطرد العاملين بها تحت نظام المعاش المبكر.
وبذلك فإن وزارة الثقافة تواصل دورها في تعزيز العمل على عزل جماهيرها ومنح قبلة الحياة لأعدائها، بمواصلة بث الروح في رميم قياداتها القديمة ورموز فسادها المقيم، يتم ذلك عبر إعادة تمثيلها لنظامين فاشيين، بعد أن كتب الشعب نهايتهما في الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو. 

فتحت شعار يضج بتلفيقية أصحابه ؛ انعقد ما يسمى بمؤتمر ‘الثقافة المصرية في المواجهة’ تحت رعاية وزير الثقافة ‘صابر عرب’، حيث كانت البداية من المسرح الصغير بدار الأوبرا، وحيث القاعة تكتظ بموظفي الوزارة كبديل للغياب الإجمالي للمثقفين المصريين، وحيث يقف ثلاثة من حضور الافتتاح، أثناء كلمة الوزير، يهتفون بأعلى أصواتهم في وجهه: ‘إنزل يا فاسد’. الوزير يقول لهم : شكرا .. ويستمر في إلقاء كلمته. 

ويكشف هذا التجاهل والتعالي المكذوب للرأي العام أن الثقافة المصرية تقف بين أكذوبتين، الأولى: وزير أقصر قامة من موقعه، يعاشر كل موبقات الأنظمة البائدة وكيلا ومديرا ووزيرا. وككل نهّازي الفرص، ينجح في التواؤم مع الجميع. والثانية: نخبة كتائب التبرير والتمويل والمزايدة، التي تقدم نفسها باعتبارها صانعة ثورة الثلاثين من يونيو ومن ثم ترى، على غير الحقيقة، أنها لا تحصد إلا استحقاقا تاريخيا، ومن هنا فإنها مستعدة لمنازلة من يفكر في المرور من أمام قصعتها. في الوقت نفسه تتزايد عزلة وزارة الثقافة وكافة أجهزتها عن الحراك المجتمعي المتقدة جذوته. فرؤساء هيئاتها مشغولون بتعظيم مكاسبهم وصناعة التحالفات مع وضعاء الصحافيين وصغار المنتفعين وغيرهم من أصحاب المصالح دفاعا عن كراسيهم. ومن عجب أن يكون بين سدنة هذا المؤتمر من كان مستعدا لإطلاق لحيته إبان حكم الإخوان، وأحد هؤلاء قدم كتابا لسيد قطب، منظّر الإرهاب في العالم، اعتبره فيه واحدا من أهم نقادنا وروائيينا الطليعيين! وتكتمل حلقات هذا الفساد بقيام أحمد مجاهد بنشر تلك الترهات في هيئة الكتاب.

في هذه المناخات ليس غريبا أن تغلق الوزارة قاعاتها على ممثلي مؤتمرها، الذين لا يمثلون، في الحقيقة، سوى مصالحهم ومكاسبهم، بينما تظل هيئات الوزارة منشغلة بالكرنفالات الفارغة التي تقام وتنفض دون أن يسمع عنها أحد.
لم يسأل وزير الثقافة نفسه سؤالا واحدا: ما الذي تفعله هيئة قصور الثقافة التي تمتلك ما يزيد على خمسمائة بيت وقصر ثقافة على مستوى الجمهورية، وأين دورها في مقاومة العنف الديني الذي تمارسه جماعات منبوذة وفاشية ؟ لماذا لا تصل مطبوعات الوزارة الى عموم الشعب؟ تلك المطبوعات التي كلفت المواطن ملايين الجنيهات، ونخص بالذكر مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة والمركز القومي للترجمة. ولماذا كل هذا الغثاء والفساد الذي تطبعه هيئة الكتاب دون حسيب أو رقيب ؟ ولماذا لم تحل مشكلات الفرق المسرحية المستقلة وفرق وبيوت الفنون ؟ وأين وزارة الثقافة من مشكلات صناعة السينما؟ ولماذا أعيد تعيين كل من نبذتهم الثورة على رأس المواقع المؤثرة بالوزارة؟ ولماذا تستمر مجلات لا يقرأها أكثر من كتابها ؟ مثل مجلة إبداع التي يترأسها الشاعر ‘المزمن’ أحمد عبد المعطي حجازي، وكذلك مجلتي فصول والرواية، وغير ذلك العشرات، ولماذا تستمر هيئة قصور الثقافة في انتزاع دور ليس لها بالاستمرار في مشروع النشر الإقليمي الذي ساهم في إفساد الذوق العام وأهدر كل قيمة إبداعية؟ هل لتحقيق مكاسب ومصالح عبر مشروع النشر؟ وذلك طبعا على نفقة دورها الرئيسي في الوصول الى نجوع وقرى مصر لنشر ثقافة الحوار ونقل الفنون المصرية الى كافة المواطنين؟!! 

في هذا المناخ لم يكن مفاجئا أن يقوم الدكتور سعيد توفيق الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بإعادة تشكيل لجان المجلس طبقا للمعايير نفسها التي تكرس الماضي بفجاجة ليس لها مثيل. فقد تمت الإطاحة بالروائية وكاتبة الأطفال نجلاء علام من رئاسة لجنة الطفل لتحل محلها الدكتورة فاطمة المعدول التي كانت عضوا بلجنة السياسات، كذلك تم اختراع لجنتين جديدتين أولهما لجنة للإعلام والثانية لجنة للشباب. الأولى طبعا لا تخفي مقاصدها حيث تستهدف جمع أكبر عدد ممكن من الولاءات الصحافية حتى يضمن المجلس ومعه الوزارة ولاءات هنا وولاءات هناك، مع الوضع في الاعتبار أن أهداف المجلس لا علاقة لها من قريب أو بعيد بموضوع الإعلام. أما اللجنة الثانية فهي لجنة الشباب وتستهدف هي الأخرى ضم عدد لا بأس به من الشباب المنتسبين للثورة مثل أحمد دومة وخالد تليمة ويترأسها المهندس أحمد بهاء الدين شعبان، وقد شهدت اللجنة عددا من الاستقالات في أولى جلساتها فضلا عن تغيب أبرز أسمائها عن الحضور. 

بالسفور نفسه تمت إزاحة لجنة الشعر التي لم تكمل أكثر من عام ونصف العام وأعيدت لجنة أحمد عبد المعطي حجازي إلى سابق عهدها، وهي اللجنة التي سبق للشعراء المصريين أن ثاروا ضدها عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير.
لقد تمدد فساد وزارة الثقافة المصرية فغطى فضاء ثورة الثلاثين من يونيو، وأصبح ريحها العطن يزكم الأنوف. وبدت مشكلة وزيرها كامنة في عدم إيمانه بالثورة، لذلك لجأ الى إعادة إنتاج الفساد القديم عبر إحياء رموزه، أسماء وسلوكا، في الوقت الذي كان يتعين فيه إزالة آثار التعدي الصارخ على عقول المصريين إبان نظامين فاشيين انحاز أولهما للفساد والقمع والتدجين وأضاف ثانيهما الرجعية لكتلة صفاته المسيئة تحت شعارات ثورية كاذبة. غير أن واقع الحال يقول إن الفساد مستمر .. لكن الثورة أيضا مستمر
ة.

** نشرت في صحيفة القدس العربي بتاريخ 12 ديسمبر 2013

الخميس، 19 ديسمبر 2013

"ضباب الحرب" رؤية كاشفة لأمريكا الأخرى


إيرول موريس


يعتبر المخرج الأمريكي يعتبر المخرج الأمريكي إيرول موريس أحد أهم السينمائيين الذين يصنعون ما يعرف بالأفلام الوثائقية أو غير الخيالية non-fiction في عالمنا اليوم.
وقد أخرج حتى الآن 12 فيلما من هذا النوع، بدأها عام 1978 بفيلم "بوابة الجنة" Gates of Heaven  الذي يوثق لتجربة إنشاء مقبرة للحيوانات المنزلية الأليفة في كاليفورنيا ومغزاها الفلسفي وأهدافها التجارية أيضا، أما أحدث أفلامه فهو فيلم "كانوا هناك" They Were There (2011) الذي صنع في إطار الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس شركة أي بي إم الشهيرة.
وقد عرف موريس بكونه أحد السينمائيين القلائل في عالمنا الذين أعادوا الاعتبار الى الفيلم الوثائقي، وقاموا بتطويره وإعادة إطلاقه في ثوب جديد، بحيث يتخلص من التقاليد القديمة الجافة التي ارتبطت بسيطرة الفكرة الأيديولوجية وحدها، وكان البعد التعليمي فيها هو الأكثر بروزا. أما أفلام إيرول موريس فهي تسعى إلى جعل الفيلم الوثائقي جذابا بنفس قدر جاذبية الفيلم الخيالي أو الروائي الدرامي، بل إن لأفلامه أيضا "دراماتها" الداخلية الخاصة التي تنبعث من تصادم الصور وطريقة تركيبها معا، وكذلك من المفاجآت التي تكشف عنها، ومن خلال طريقته الخاصة في المزج بين المقابلات الحية التي يجريها مع الشخصيات الرئيسية التي تظهر في أفلامه، وبين الوثائق العديدة المباشرة التي يصورها أو يعثر عليها ويعيد توليفها معا في سياق خلاق دونما حاجة إلى استخدام التعليق الصوتي المباشر.
ولعل من أهم أفلام موريس وأكثرها ذيوعا وبلاغة في التعبير عن أسلوبه فيلم "ضباب الحرب: أحد عشر درسا من حياة روبرت مكنمارا" (95 دقيقة) Fog of War: Eleven Lessons from the Life of Robert McNamara  الذي شاهدناه في عرضه العالمي الأول في مهرجان كان السينمائي عام 2003، وكان حقا مفاجأة مدهشة، وذهب بعد ذلك ليحصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم وثائقي في العام، ويذيع صوته كأحد أهم الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما.
وقد حضر موريس في تلك السنة إلى مهرجان كان لتقديم فيلمه ومناقشته مع حشد كبير من النقاد والسينمائيين غاب عنه بكل أسف، معظم النقاد العرب في المهرجان.
يتخذ الفيلم من شخصية غير عادية بالمرة هي شخصية روبرت مكنمارا (1916- 2009) محورا لكي يقص علينا باستخدام المادة الوثائقية الهائلة كيف يرى هذا الرجل القرن العشرين الذي كان طرفا مباشرا في صنع أهم تراجيدياته، فقد كان وزيرا للدفاع في فترة من أخصب فترات التاريخ الأمريكي والعالمي في عهد الرئيس جون كنيدي ثم خلفه الرئيس ليندون جونسون في الستينيات، وبعد ذلك رأس البنك الدولي المعروف بتوجهاته التي تخدم السياسة الأمريكية، لمدة 13 عاما،كما رأس شركة فورد.
لكن مكنمارا لا يظهر هنا بعد أن أصبح شيخا طاعنا في السن، لكي يبرر، ويبحث عن ذرائع لتفسير المواقف الأمريكية التي لعب فيها دورا المخطط بل والعقل المدبر أيضا للكثير من السياسات الهجومية الأمريكية في أكثر فترات الحرب الباردة سخونة، والتي كادت أن تنفجر وتتحول إلى حرب نووية إبان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961.
لكن مكنمارا يقدم هنا شهادته كرجل التحم بالسياسة الأمريكية، ولكن من وجهة نظر نقدية كأنه يراجع مسار حياته الشخصية، بعد أن نضج العقل والفكر، وأصبح يمتلك رؤية نافذة وبصيرة شفافة يمكنها التأمل في الماضي واستخلاص الدروس المستفادة منه حتى لا تنغمس أمريكا مجددا في تلك الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها في كوبا (عملية الغزو الفاشلة في خليج الخنازير)، وفيتنام (الحرب الضارية التي كلفت أمريكا عشرات الآلاف من الأرواح) فيما بين 1965 و1973 وانغمس فيها مليونان ونصف مليون جندي أمريكي في بلاد بعيدة لم تكن تمثل أي خطورة مباشرة على المجتمع الأمريكي 

بين الخاص والعام
ويعود الفيلم مع تلك الشخصية التراجيدية الكبيرة الى دور مكنمارا في قيادة التفكير الاستراتيجي خلال الحرب العالمية الثانية، والخطط الجهنمية التي تم التوصل اليها وقتذاك وكانت تتجاوز في حجم ما أنتجته من دمار كل ضرورة استراتيجية حربية، كما يتوقف أمام دور مكنمارا فيما بعد الحرب الثانية، في قيادة مؤسسة فورد للسيارات والمركبات العسكرية، والدور السياسي المباشر الذي لعبته في مناطق الصراعات في العالم.
روبرت مكنمارا

من الحياة الخاصة لمكنمارا، الطالب المتفوق صاحب المعدل الاستثنائي للذكاء، ابن الطبقة الوسطى، الذي يلتحق بجامعة هارفارد، وسرعان ما يشق طريقه إلى عالم السياسة في واشنطن، ومن تكوينه الشخصي وميله إلى التفوق، وزواجه م شريكة حياته وانجاب أولاده، ثم إلى مكنمارا صاحب الدور العام الذي يتحكم بشكل ما، في مصير العالم: كيف تغيرت السياسة الأمريكية بعد اغتيال الرئيس كنيدي واصبحت أكثر ضراوة وتوحشا في عهد خليفته جونسون، وكيف أصبح التورط الأمريكي في فيتنام معادلا لكل شرور البشرية التي تتمثل، ليس فقط في قتل البشر، بل في إبادة مساحات شاسعة من البيئة الطبيعية، والتسبب في كوارث لايزال كوكبنا الارضي يعاني منها حتى يومنا هذا بل إن المعاناة تزداد يوما بعد يوم.
وكالعادة يمزج إيرول موريس هنا بين المقابلات الطويلة العميقة مع مكنمارا (الذي يفتح قلبه وعقله ليقدم حقا شهادته للتاريخ) وبين الكم الكبير من الوثائق السينمائية النادرة، والعودة لمواقع الأحداث، والتوقف أمام تواريخ معينة ودعمها بالصور الفوتوغرافية أحيانا، أو بالتسجيلات الصوتية أخيانا أخرى، مع التوقف امام هذه الرؤية الهائلة المرعبة لدور الفرد في تشكيل العالم، مع محاولة اللحاق بتلابيب الصورة والقبض عليها من خلال الموسيقى اللاهثة التي وضعها فيليب جلاس Philip Glass شريك موريس في معظم أفلامه.
ولعل من اهم ميزات هذا الفيلم انه ليس أحد الافلام "الماضوية"، أي تلك التي تضفي صورة خاصة ساحرة على الماضي أو تعرضه كجانب "تاريخي" انقضى وأصبح من الذاكرة، بل كونه يتواصل مع المشاهدين طيلة زمن عرضه، ويذكرهم على نحو غير مباشر، بما تفعله أمريكا اليوم: في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم، كيف أصبح العملاق الأمريكي يكرر أخطاءه، وكيف تجتمع الطاقة الهائلة على الدمار، مع القدرة على تدمير البيئة والطبيعة في كوكبنا، وما هي المخاطر الحالية التي تحدق بنا وكيف يمكننا وقفها. وهو بهذا المعنى، عمل شديد المعاصرة.

الاستخدام المفرط للقوة
مكنمارا يكشف أيضا حلال مقابلاته في هذا الفيلم البديع عن الكثير من الجوانب التي لم تكن معروفة من قبل مثل الاستخدام المفرط للقوة في اليابان قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية كما يكشف مثلا من خلال تسليط الضوء على حملة تدمير المدن كما حدث عندما القيت كميات هائلة من القنابل المدمرة على مدينة طوكيو بعد ان كانت اليابان قد استسلمت بالفعل مما تسبب في قتل مائة الف ياباني دون أي ضرورة حربية بل لمجرد الترويع!
وفي حالة نادرة من حالات تقريب الأمور الى العقل الأمريكي يعقد مكنمارا مقارنات بين المدن اليابانية التي تم تدميرها مثل هيروشيما وناجازاكي ويوكوهاما وطوكيو، وبين مدن أمريكية مشابهة في الحجم وعدد السكان، وماذا كان يمكن أن يحدث لها في حالة تعرضها لقصف مشابه بنفس أنواع أسلحة الدمار.
يتوصل مكنمارا في لحظة نادرة من لحظات الوعي ويقظة الضمير وهو في الخامسة والثمانين من عمره، يخوض تجربة الاعتراف والتكفير على مقعد أمام كاميرا إيرول موريس، إلى أن مقولة الكولونيل الأمريكي كيرتس لوماي كانت صحيحة تماما عندما قال "إننا لو كنا قد خسرنا الحرب العالمية الثانية لكنا قد حوكمنا باعتبارنا مجرمي حرب". ويتساءل: ما الذي يجعل الأمر غير أخلاقي في حالة الهزيمة، وأخلاقيا في حالة النصر"؟
هل يدين مكنمارا نفسه في هذا الفيلم؟ هل كانت ادانة النفس هدفا أساسيا يهدف الى ارضاء المشاهدين، أم أنه يدين، ربما من حيث لا يدري، عصرا، وسياسات وتصورات كانت سائدة في زمن الحرب الباردة، وأفكارا وممارسات كانت مدفوعة بالرغبة في تحقيق أهداف محددة في زمن الصراع بين كتلتين كبيرتين؟ هذا ما يُترك للمشاهدين للتوصل الى استنتاجات بشأنه.

ميزة الفيلم
ولعل الصعوبة الفنية في السيطرة على تلك المادة الهائلة التي تمكن من جمعها ايرول موريس، هي في ذات الوقت، الميزة الكبرى التي يتحلى بها هذا العمل البديع الاخاذ. فنحن أمام مزيج فني دقيق ومتقن من الوثائق البصرية المصورة، المقابلات، الصور الفوتوغرافية، قصاصات الصحف، التسجيلات الصوتية للمكالمات التليفونية(بين جونسون ومكنمارا مثلا)، صور من نشرات الأخبار التليفزيونية، مقتطفات مصورة من المؤتمرات الصحفية لمكنمارا وغيره، تقارير اخبارية من الستينيات، صور لاجتماعات كنيدي مع وزرائه ابان أزمة الصواريخ الكوبية مع تسجل صوتي لما قيل في تلك الاجتماعات، لقطات من الطائرات لعمليات القصف الجوي الوحشي للقرى الفيتنامية.. وغير ذلك الكثير والكثير.
إن "ضباب الحرب" في النهاية فيلم معاصر يساهم في إزالة الكثير من الضباب، ليس فقط من عالم السياسة وما يجري في كواليسها، بل ومن عالم الفيلم الوثائقي وما يحيط به من أفكار مسبقة باتت في حاجة ضرورية حاليا للمراجعة والتنقيح.
وقد بات حري بالمهرجانات السينمائية العربية أن تحتفي بهذا المخرج وأعماله وتسلط الضوء عليها. ولمن عودة ثانئة إليه لتناول المزيد من أعماله المهمة.

* نشر في موقع الجزيرة الوثائقية 

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

أزمة السينما... والثورة!




بقلم: نادر عدلي

جريدة "اليوم السابع" 6 ديسمبر 2013


حالة هستيرية مفتعلة تسود الحياة السينمائية، فالكل يتحدث عن «الأزمة» التى أودت بحركة صناعة السينما وجعلتها شبه متوقفة، على أساس أننا كنا ننتج 40 فيلماً سنوياً خلال العقدين الأخيرين، بينما لا يزيد الآن على 10 أفلام أو 15 فيلماً سنوياً، وهى أرقام غير دقيقة، حيث بلغ متوسط الإنتاج فى السنوات الثلاث الأخيرة حوالى 30 فيلماً سنوياً، وهو رقم حقيقى وواقعى لا يكمن لأحد أن ينكره!
ولست فى حاجة للإشارة إلى أن مسألة «أزمة السينما» هذه، عنوان أساسى فى الحديث عن السينما منذ الأربعينيات، ولم نحاول معالجتها بشكل حقيقى وصحيح.. وهذه مشكلة أخرى.
فما هى المشكلة أو «الأزمة» الآن؟!
يتصور المتحدثون عن الأزمة، أن ثورة 25 يناير 2011، كان من توابعها اضطراب فى سوق السينما، بسبب عدم الاستقرار الأمنى والمظاهرات، ثم سيطرة الإخوان «تجريم وتحريم الفن»، ثم حالة الطوارئ وحظر التجوال.. وأصحاب هذا الرأى يرون ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة للتغلب على الأزمة، وقد أصبحوا يتصدرون المشهد، وأصبحت لهم الكلمة الأولى فى الحالة السينمائية وتحليلها وتحديد اتجاهاتها!
من هؤلاء؟.. وكيف وصلوا لهذه المكانة؟!
بحكم «المهنة» انتبه هؤلاء مبكراً إلى ضرورة «تصوير» أنفسهم فى «ميدان التحرير»، ثم فى الاعتصام ضد وزير الثقافة الإخوانى، وقدموا أنفسهم بأنهم «صوت» السينمائيين!.. فلما جاء وزير الثقافة الانتقالى د. صابر عرب، حرص كل الحرص على إرضاء هذه المجموعة، صاحبة الصوت العالى «الثورى»!.. رغم علمه بأنها نفس المجموعة التى كانت تحرك السينما طوال الـ30 سنة الماضية ، وهم جزء من الأزمة وأسبابها (!!).
فتح لهم الوزير باب الوزارة ليرتعوا - على أساس أنه لا يفهم فى السينما! - فأصبحوا مستشاريه، وأقنعوه بأن يقيم «المهرجان القومى» حتى لو لم يحضره أى من السينمائيين.. وأن يؤجل مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وإلغاء هذه الدورة.. فامتثل لهم!.. وأن يمنحهم كل مقاعد «لجنة السينما» بالمجلس الأعلى للثقافة.. ففعل!.. ويسمح لهم بالسيطرة على المركز القومى للسينما.. فرحب!
أما الشىء العبقرى - بالفعل - الذى حققوه، فكان إقناع رئيس الوزراء د. حازم الببلاوى بتشكيل لجنة من 8 وزراء (تصوروا)، وبرئاسة نائبه للشؤون الاقتصادية د. زياد بهاء الدين «للنهوض بصناعة السينما وتطويرها وحل مشاكلها»، وينضم لهذه اللجنة أعضاء غرفة صناعة السينما، وهذه المجموعة الثورية؟!.. ومر شهران ونصف الشهر دون أن تجتمع هذه اللجنة أصلاً!.. ونستطيع أن نتكهن بأن مطالب هؤلاء هى مجموعة إجراءات لتحقيق مصالحهم فى مزيد من الأرباح على حساب السينما وأزمتها!.. بالإضافة إلى تحقيق مزيد من أحلام الشهرة، وشهوة التقرب إلى السلطة!

أما أزمة السينما الحقيقية، فليس لها علاقة بكل ما ذكروه فى الصحف والبرامج التليفزيونية فهل يصح أن ندعو من «أفسدوا» السينما إلى إصلاحها؟!

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

سنوات المعرفة: ذكريات من مهرجان لندن السينمائي







كنت أعتقد، قبل أن أحضر للإقامة في العاصمة البريطانية لندن عام 1984، أن مهرجان لندن السينمائي يقتصر فقط على عرض الأفلام "الفنية"، أي تلك التي لا تسعى للوصول إلى الجمهور العريض، لكني وجدت عند حضوري أول دورة لي في نوفمبر- ديسمبر 1984 أن المهرجان ربما يكون الأكثر إحتفالا بالسينما الأمريكية: هوليوود والسينما المستقلة. وهو احتفاء استمر مع المهرجان رغم تغير مديريه مرات عدة خلال الثلاثين سنة التي تابعته فيها بشكل أو آخر رغم غيابي عنه لفترات متقطعة بسبب تركي لندن لبعض الوقت حينما كنت أذهب للإقامة في القاهرة أو لخوض تجربة العمل في الخليج مرتين: في أبو ظبي والدوحة وهما تجربتان لم يكتب لهما النجاح، ليس لسبب يتعلق بظروف العمل بل بسبب عدم قدرتي على التأقلم على العيش هناك.

ربما يكون الاهتمام بعرض أكبر عدد من الأفلام الأمريكية الجديدة والاحتفاء بها وبنجومها الأمريكيين، أصبح في مرحلة تالية، أكبر من إهتمام المهرجان "البريطاني" بعرض الأفلام "البريطانية" المتميزة لكبار السينمائيين البريطانيين مثل بيتر جريناواي وستيفن فريرز ومايك لي وكن لوتش ونيل جوردان، وهو ما دفعني منذ سنوات، تحديدا خلال دورة عام 2007، إلى الكتابة لمديرة المهرجان في ذلك الوقت، ساندرا هيبرون Sandra Hebron منتقدا سياستها في الاكتفاء بتسليط الأضواء على الأفلام البريطانية "التي هي أقرب ما تكون إلى أعمال تجريبية شبابية غير مكتملة أو ليست على المستوى الاحترافي بدرجة كافية ومعظمها مصنوع للتليفزيون أساسا، مع تجاهل تام لأفلام "البريطانيين الكبار" الذين صنعوا السمعة الجيدة للسينما البريطانية في أوروبا والعالم" كما قلت لها حرفيا. والمفارقة أن معظم هؤلاء المخرجين الذين أشرت إليهم كانت لهم أفلام جديدة جيدة متوفرة في تلك السنة لم تسع السيدة هيبرون وطاقمها، للحصول عليها وتقديمها بما كانت تستحقه من اهتمام، بل ذهبت تلك الأفلام للعرض في مهرجانات أخرى، مثل كان وفينيسيا وبرلين.

لاستكمال قراءة الموضوع كاملا إنقر هنا:





جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger