السبت، 28 ديسمبر 2013

عن الحرامي والعبيط والضحك على الذقون!




حرام أن يتورط إثنان من أهم وأفضل الممثلين في السينما المصرية هما خالد الصاوي وخالد صالح، ويقبلان القيام بهذين الدورين في فيلم ساذج وبدائي مثل "الحرامي والعبيط" لمخرج يدعى محمد مصطفى (أوقات فراغ والماجيك). هذا فيلم من تلك الأفلام التجارية الشائعة التي ينتجها السبكي. وفكرة أن تكون هناك أفلام تجارية فكرة مقبولة بالطبع بل ولابد ان توجد الأفلام التجارية لكي تستمر الصناعة وتسير إلى الأمام. لكن فيلم "الحرامي والعبيط" عودة إلى الوراء، إلى ما يمكن وصفه بـ"أفلام الاستهبال" أي الأفلام التي تفترض في المتفرج البلاهة والتخلف العقلي، فمطلوب منك أن تجلس لنحو ساعتين تشاهد كيف يستغل "بلطجي" هو (خالد الصاوي) ضعف الحالة العقلية لرجل يصور لنا الفيلم كيف أن صدمته في خيانة زوجته له قد أدت به إلى حالة من الجنون، لكنه ليس مجنونا بل يفهم ويستوعب كما هو واضح بل أصبح اقرب إلى البلاهة، بحيث يضحك عليه البلطجي ويستغله لكي ينقل له قرنية عينه فيصبح هو سليما العينين، يمكنه الرؤية بهما، في حين يفقد الىخر عينا، ويتمادى صاحبنا في غيه أمام إغراء الحصول على المال السهل من عصابات نقل الأعضاء لكي يبيع لهم العبيط يحصلون من ا‘ضائه على ما يشاءون.. ولن أستطرد كثيرا في رواية تفاصيل القصة فليس للقصة أي مغزى، ولا لذلك السيناريو المتهافت الذي لم أصدق أن كاتبا مثل أحمد عبد الله صاحب الفيلم الممتاز "ساعة ونص" يمكن ان "يتورط" في كتابته!
المهم أن "الحرامي والعبيط" الذي يبدأ بداية جيدة تذكرنا بفيلم "الفي" Alfie البريطاني من عام 1966 (إخراج لويس جيلبرت)، وأيضا بالفيلم الجزائري الأول للمخرج مرزاق علواش "عمر قتلاتو" (1973) حينما نرى بطله خالد الصاوي ينتقل في الحي العشوائي الذي يقيم فيه يواجه الكاميرا من حين إلى آخر، لكي يصف لنا الشخصيات التي يقابلها ويعلق على ما يجري من أحداث في الحي يوميا.. سرعان ما يتحول إلى مجرد هزلية ميلودرامية تتخفى وتتقنع بقناع النقد الاجتماعي بدعوى معالجة مشكلة تجارة الأعضاء، من خلال تلك الأنماط التي كانت دائما لصيقة بالفيلم المصري الكوميدي التجاري المتدني منذ الأربعينيات حتى اليوم. وللأسف أن مثل هذه الأفلام (نطلق عليها أفلاما تجاوزا) لاتزال تجد لها مشاهدين في تلك الأوقات التي نعيشها في زمن الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والتدهور الثقافي بالتالي.
ليس هناك أي سلوك أو حدث يمكنه إقناعك في هذا الفيلم بأن ما تشاهده له علاقة بالعالم الذي نعيش فيه رغم أنه يتدثر بثياب "الواقعية" بالطبع، فلا الحرامي أو البلطجي يبدو أن له ملامحا إنسانية من أي نوع، ولا العبيط الذي يستسلم كالنعجة لذلك الحرامي، يمكن أن يكون من عالمنا. الإثنان ليسا مثلا ضحية أي نوع من القهر الاجتماعي بل ضحية صناع هذا الفيلم المتهافت. أما الآنسة روبي في دور الممرضة فلا علاقة لها أصلا بعالم السينما، وظني أنها لا تصلح للوقوف أمام الكاميرا، لا من حيث الشكل ولا من حيث الأداء.

لقد ظلم خالد الصاوي نفسه كثيرا بقبوله مثل هذا الدور الذي يهبط فيه مستوى أدائه (المركب عادة) إلى أسفل مستوى، بل ويفشل حتى في إضحاك المتفرج بنكاته السخيفة وتعليقاته اللفظية السميكة، وهو اللهدف الأول من وراء صنع هذا الفيلم. أما خالد صالح، فقد اهان نفسه بقبوله هذا الدور الأحادث الذي لا يفعل فيه سوى تكرار ما يقوله اي ممثل أمامه بطريقة بلهاء! 

السبت، 21 ديسمبر 2013

وزارة الثقافة المصرية: الفساد مستمر.. والثورة مستمرة!



صابر عرب وزير الثقافة المصري



بقلم: محمود قرني



قبل حوالى الأسبوعين؛ أصدر تيار الثقافة الوطنية بالاشتراك مع مجموعة من المثقفين المستقلين، بيانا شديد اللهجة، يعلنون فيه موقفهم المناهض لما يرونه فسادا واسعا في وزارة الثقافة. انتهوا فيه الى المطالبة بإقالة وزير الثقافة ومحاكمته مع رموز وزارته، ثم أعلنوا البدء في خطوة أخرى تتضمن مذكرة تفصيلية، سترفع لرئيس الجمهورية المستشار عدلي منصور وكذلك لرئيس الوزراء الدكتور حازم الببلاوي. من يقرأ البيان يدرك على الفور أن الأوضاع الشائنة في إدارات وهيئات الوزارة وأداء وزيرها صابر عرب وكل ما ترتكبه الإدارة الحالية من تضليل وإفساد لا يتلاءم وطموحات مصر ومثقفيها عقب ثورة الثلاثين من يونيو، بداية من ممارسات الوزير منذ توليه المسؤولية في الحكومة الجديدة وفي حكومتين سابقتين جمعت بين المجلس العسكري ثم نظام حكم الإخوان المسلمين. من هنا تتعاظم المشكلة وتتسع دائرة التناقض بين فصائل من المثقفين الطموحين لمستقبل يتساوق مع طموحات الثورة، وبين إدارة ثقافية غارقة حتى أذنيها في الفساد وإعادة إنتاج الماضي عبر الإصرار على بعث الحياة في رميم المقبورين فيه. 

من هنا نستطيع القول إن اتساع دائرة معارضي الوزير وسياسته لم يكن مرجعها الوحيد مساخر ما أطلق عليه ‘مؤتمر المثقفين’ الذي أقيم قبل صدور البيان بعدة أيام، بل إن السياسة الثقافية برمتها باتت موضع تساؤل وموضع رفض أيضا، غير أن كثيرين يتعشمون في انتهاء الفترة الانتقالية دون خسائر تتجاوز ما هو كائن حفاظا على ما تبقى من بنية أساسية مهددة هي الأخرى بالضياع، فالوزارة الآن تقع بين فكي كماشة، الفك الأول تشكله مجموعات النظام القديم التي عادت للسيطرة على الجزء الأعظم من مواقع الوزارة، وهي مجموعة تعادي كل التيارات الطليعية في الفكر والإبداع والتشكيل وكافة الفنون، ومع الوقت أنشأت جماعات مصالح داخل الوزارة أصبح من الصعب تفكيكها، أما الفك الثاني فتمثله مجموعات من المرتزقة ممن يسمون أنفسهم ‘رجال الاعتصام’، أعني المعتصمين في الوزارة قبل الإطاحة بمرسي، وهذه مجموعة حققت مصالح ضخمة من علاقتها بالوزارة منذ عصر مبارك وفاروق حسني، لكن أخطر ما يحدث الآن أن هذه المجموعة تدفع باتجاه تفكيك الوزارة وبيع مؤسساتها وفتح الباب على مصراعيه للتمويل الأجنبي لجماعات وأفراد يتعاملون مباشرة ضمن روشتة جهات التمويل. ومن المعروف أن هذه المجموعة تقف وراءها عدة تنظيمات أهلية ممولة من الخارج وعلى رأسها مؤسسة فورد. وهذه المجموعة ترى أن استمرار سيطرة الدولة على العملية الثقافية يحول دون تحقيق أهدافها، ومن ثم يدفعون في اتجاه إعادة هيكلة وزارة الثقافة بقصد التخلص من إدارتها حكوميا لصالح جهات التمويل الأجنبي وبيع قطاعاتها الإنتاجية وطرد العاملين بها تحت نظام المعاش المبكر.
وبذلك فإن وزارة الثقافة تواصل دورها في تعزيز العمل على عزل جماهيرها ومنح قبلة الحياة لأعدائها، بمواصلة بث الروح في رميم قياداتها القديمة ورموز فسادها المقيم، يتم ذلك عبر إعادة تمثيلها لنظامين فاشيين، بعد أن كتب الشعب نهايتهما في الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو. 

فتحت شعار يضج بتلفيقية أصحابه ؛ انعقد ما يسمى بمؤتمر ‘الثقافة المصرية في المواجهة’ تحت رعاية وزير الثقافة ‘صابر عرب’، حيث كانت البداية من المسرح الصغير بدار الأوبرا، وحيث القاعة تكتظ بموظفي الوزارة كبديل للغياب الإجمالي للمثقفين المصريين، وحيث يقف ثلاثة من حضور الافتتاح، أثناء كلمة الوزير، يهتفون بأعلى أصواتهم في وجهه: ‘إنزل يا فاسد’. الوزير يقول لهم : شكرا .. ويستمر في إلقاء كلمته. 

ويكشف هذا التجاهل والتعالي المكذوب للرأي العام أن الثقافة المصرية تقف بين أكذوبتين، الأولى: وزير أقصر قامة من موقعه، يعاشر كل موبقات الأنظمة البائدة وكيلا ومديرا ووزيرا. وككل نهّازي الفرص، ينجح في التواؤم مع الجميع. والثانية: نخبة كتائب التبرير والتمويل والمزايدة، التي تقدم نفسها باعتبارها صانعة ثورة الثلاثين من يونيو ومن ثم ترى، على غير الحقيقة، أنها لا تحصد إلا استحقاقا تاريخيا، ومن هنا فإنها مستعدة لمنازلة من يفكر في المرور من أمام قصعتها. في الوقت نفسه تتزايد عزلة وزارة الثقافة وكافة أجهزتها عن الحراك المجتمعي المتقدة جذوته. فرؤساء هيئاتها مشغولون بتعظيم مكاسبهم وصناعة التحالفات مع وضعاء الصحافيين وصغار المنتفعين وغيرهم من أصحاب المصالح دفاعا عن كراسيهم. ومن عجب أن يكون بين سدنة هذا المؤتمر من كان مستعدا لإطلاق لحيته إبان حكم الإخوان، وأحد هؤلاء قدم كتابا لسيد قطب، منظّر الإرهاب في العالم، اعتبره فيه واحدا من أهم نقادنا وروائيينا الطليعيين! وتكتمل حلقات هذا الفساد بقيام أحمد مجاهد بنشر تلك الترهات في هيئة الكتاب.

في هذه المناخات ليس غريبا أن تغلق الوزارة قاعاتها على ممثلي مؤتمرها، الذين لا يمثلون، في الحقيقة، سوى مصالحهم ومكاسبهم، بينما تظل هيئات الوزارة منشغلة بالكرنفالات الفارغة التي تقام وتنفض دون أن يسمع عنها أحد.
لم يسأل وزير الثقافة نفسه سؤالا واحدا: ما الذي تفعله هيئة قصور الثقافة التي تمتلك ما يزيد على خمسمائة بيت وقصر ثقافة على مستوى الجمهورية، وأين دورها في مقاومة العنف الديني الذي تمارسه جماعات منبوذة وفاشية ؟ لماذا لا تصل مطبوعات الوزارة الى عموم الشعب؟ تلك المطبوعات التي كلفت المواطن ملايين الجنيهات، ونخص بالذكر مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة والمركز القومي للترجمة. ولماذا كل هذا الغثاء والفساد الذي تطبعه هيئة الكتاب دون حسيب أو رقيب ؟ ولماذا لم تحل مشكلات الفرق المسرحية المستقلة وفرق وبيوت الفنون ؟ وأين وزارة الثقافة من مشكلات صناعة السينما؟ ولماذا أعيد تعيين كل من نبذتهم الثورة على رأس المواقع المؤثرة بالوزارة؟ ولماذا تستمر مجلات لا يقرأها أكثر من كتابها ؟ مثل مجلة إبداع التي يترأسها الشاعر ‘المزمن’ أحمد عبد المعطي حجازي، وكذلك مجلتي فصول والرواية، وغير ذلك العشرات، ولماذا تستمر هيئة قصور الثقافة في انتزاع دور ليس لها بالاستمرار في مشروع النشر الإقليمي الذي ساهم في إفساد الذوق العام وأهدر كل قيمة إبداعية؟ هل لتحقيق مكاسب ومصالح عبر مشروع النشر؟ وذلك طبعا على نفقة دورها الرئيسي في الوصول الى نجوع وقرى مصر لنشر ثقافة الحوار ونقل الفنون المصرية الى كافة المواطنين؟!! 

في هذا المناخ لم يكن مفاجئا أن يقوم الدكتور سعيد توفيق الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بإعادة تشكيل لجان المجلس طبقا للمعايير نفسها التي تكرس الماضي بفجاجة ليس لها مثيل. فقد تمت الإطاحة بالروائية وكاتبة الأطفال نجلاء علام من رئاسة لجنة الطفل لتحل محلها الدكتورة فاطمة المعدول التي كانت عضوا بلجنة السياسات، كذلك تم اختراع لجنتين جديدتين أولهما لجنة للإعلام والثانية لجنة للشباب. الأولى طبعا لا تخفي مقاصدها حيث تستهدف جمع أكبر عدد ممكن من الولاءات الصحافية حتى يضمن المجلس ومعه الوزارة ولاءات هنا وولاءات هناك، مع الوضع في الاعتبار أن أهداف المجلس لا علاقة لها من قريب أو بعيد بموضوع الإعلام. أما اللجنة الثانية فهي لجنة الشباب وتستهدف هي الأخرى ضم عدد لا بأس به من الشباب المنتسبين للثورة مثل أحمد دومة وخالد تليمة ويترأسها المهندس أحمد بهاء الدين شعبان، وقد شهدت اللجنة عددا من الاستقالات في أولى جلساتها فضلا عن تغيب أبرز أسمائها عن الحضور. 

بالسفور نفسه تمت إزاحة لجنة الشعر التي لم تكمل أكثر من عام ونصف العام وأعيدت لجنة أحمد عبد المعطي حجازي إلى سابق عهدها، وهي اللجنة التي سبق للشعراء المصريين أن ثاروا ضدها عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير.
لقد تمدد فساد وزارة الثقافة المصرية فغطى فضاء ثورة الثلاثين من يونيو، وأصبح ريحها العطن يزكم الأنوف. وبدت مشكلة وزيرها كامنة في عدم إيمانه بالثورة، لذلك لجأ الى إعادة إنتاج الفساد القديم عبر إحياء رموزه، أسماء وسلوكا، في الوقت الذي كان يتعين فيه إزالة آثار التعدي الصارخ على عقول المصريين إبان نظامين فاشيين انحاز أولهما للفساد والقمع والتدجين وأضاف ثانيهما الرجعية لكتلة صفاته المسيئة تحت شعارات ثورية كاذبة. غير أن واقع الحال يقول إن الفساد مستمر .. لكن الثورة أيضا مستمر
ة.

** نشرت في صحيفة القدس العربي بتاريخ 12 ديسمبر 2013

الخميس، 19 ديسمبر 2013

"ضباب الحرب" رؤية كاشفة لأمريكا الأخرى


إيرول موريس


يعتبر المخرج الأمريكي يعتبر المخرج الأمريكي إيرول موريس أحد أهم السينمائيين الذين يصنعون ما يعرف بالأفلام الوثائقية أو غير الخيالية non-fiction في عالمنا اليوم.
وقد أخرج حتى الآن 12 فيلما من هذا النوع، بدأها عام 1978 بفيلم "بوابة الجنة" Gates of Heaven  الذي يوثق لتجربة إنشاء مقبرة للحيوانات المنزلية الأليفة في كاليفورنيا ومغزاها الفلسفي وأهدافها التجارية أيضا، أما أحدث أفلامه فهو فيلم "كانوا هناك" They Were There (2011) الذي صنع في إطار الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس شركة أي بي إم الشهيرة.
وقد عرف موريس بكونه أحد السينمائيين القلائل في عالمنا الذين أعادوا الاعتبار الى الفيلم الوثائقي، وقاموا بتطويره وإعادة إطلاقه في ثوب جديد، بحيث يتخلص من التقاليد القديمة الجافة التي ارتبطت بسيطرة الفكرة الأيديولوجية وحدها، وكان البعد التعليمي فيها هو الأكثر بروزا. أما أفلام إيرول موريس فهي تسعى إلى جعل الفيلم الوثائقي جذابا بنفس قدر جاذبية الفيلم الخيالي أو الروائي الدرامي، بل إن لأفلامه أيضا "دراماتها" الداخلية الخاصة التي تنبعث من تصادم الصور وطريقة تركيبها معا، وكذلك من المفاجآت التي تكشف عنها، ومن خلال طريقته الخاصة في المزج بين المقابلات الحية التي يجريها مع الشخصيات الرئيسية التي تظهر في أفلامه، وبين الوثائق العديدة المباشرة التي يصورها أو يعثر عليها ويعيد توليفها معا في سياق خلاق دونما حاجة إلى استخدام التعليق الصوتي المباشر.
ولعل من أهم أفلام موريس وأكثرها ذيوعا وبلاغة في التعبير عن أسلوبه فيلم "ضباب الحرب: أحد عشر درسا من حياة روبرت مكنمارا" (95 دقيقة) Fog of War: Eleven Lessons from the Life of Robert McNamara  الذي شاهدناه في عرضه العالمي الأول في مهرجان كان السينمائي عام 2003، وكان حقا مفاجأة مدهشة، وذهب بعد ذلك ليحصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم وثائقي في العام، ويذيع صوته كأحد أهم الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما.
وقد حضر موريس في تلك السنة إلى مهرجان كان لتقديم فيلمه ومناقشته مع حشد كبير من النقاد والسينمائيين غاب عنه بكل أسف، معظم النقاد العرب في المهرجان.
يتخذ الفيلم من شخصية غير عادية بالمرة هي شخصية روبرت مكنمارا (1916- 2009) محورا لكي يقص علينا باستخدام المادة الوثائقية الهائلة كيف يرى هذا الرجل القرن العشرين الذي كان طرفا مباشرا في صنع أهم تراجيدياته، فقد كان وزيرا للدفاع في فترة من أخصب فترات التاريخ الأمريكي والعالمي في عهد الرئيس جون كنيدي ثم خلفه الرئيس ليندون جونسون في الستينيات، وبعد ذلك رأس البنك الدولي المعروف بتوجهاته التي تخدم السياسة الأمريكية، لمدة 13 عاما،كما رأس شركة فورد.
لكن مكنمارا لا يظهر هنا بعد أن أصبح شيخا طاعنا في السن، لكي يبرر، ويبحث عن ذرائع لتفسير المواقف الأمريكية التي لعب فيها دورا المخطط بل والعقل المدبر أيضا للكثير من السياسات الهجومية الأمريكية في أكثر فترات الحرب الباردة سخونة، والتي كادت أن تنفجر وتتحول إلى حرب نووية إبان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961.
لكن مكنمارا يقدم هنا شهادته كرجل التحم بالسياسة الأمريكية، ولكن من وجهة نظر نقدية كأنه يراجع مسار حياته الشخصية، بعد أن نضج العقل والفكر، وأصبح يمتلك رؤية نافذة وبصيرة شفافة يمكنها التأمل في الماضي واستخلاص الدروس المستفادة منه حتى لا تنغمس أمريكا مجددا في تلك الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها في كوبا (عملية الغزو الفاشلة في خليج الخنازير)، وفيتنام (الحرب الضارية التي كلفت أمريكا عشرات الآلاف من الأرواح) فيما بين 1965 و1973 وانغمس فيها مليونان ونصف مليون جندي أمريكي في بلاد بعيدة لم تكن تمثل أي خطورة مباشرة على المجتمع الأمريكي 

بين الخاص والعام
ويعود الفيلم مع تلك الشخصية التراجيدية الكبيرة الى دور مكنمارا في قيادة التفكير الاستراتيجي خلال الحرب العالمية الثانية، والخطط الجهنمية التي تم التوصل اليها وقتذاك وكانت تتجاوز في حجم ما أنتجته من دمار كل ضرورة استراتيجية حربية، كما يتوقف أمام دور مكنمارا فيما بعد الحرب الثانية، في قيادة مؤسسة فورد للسيارات والمركبات العسكرية، والدور السياسي المباشر الذي لعبته في مناطق الصراعات في العالم.
روبرت مكنمارا

من الحياة الخاصة لمكنمارا، الطالب المتفوق صاحب المعدل الاستثنائي للذكاء، ابن الطبقة الوسطى، الذي يلتحق بجامعة هارفارد، وسرعان ما يشق طريقه إلى عالم السياسة في واشنطن، ومن تكوينه الشخصي وميله إلى التفوق، وزواجه م شريكة حياته وانجاب أولاده، ثم إلى مكنمارا صاحب الدور العام الذي يتحكم بشكل ما، في مصير العالم: كيف تغيرت السياسة الأمريكية بعد اغتيال الرئيس كنيدي واصبحت أكثر ضراوة وتوحشا في عهد خليفته جونسون، وكيف أصبح التورط الأمريكي في فيتنام معادلا لكل شرور البشرية التي تتمثل، ليس فقط في قتل البشر، بل في إبادة مساحات شاسعة من البيئة الطبيعية، والتسبب في كوارث لايزال كوكبنا الارضي يعاني منها حتى يومنا هذا بل إن المعاناة تزداد يوما بعد يوم.
وكالعادة يمزج إيرول موريس هنا بين المقابلات الطويلة العميقة مع مكنمارا (الذي يفتح قلبه وعقله ليقدم حقا شهادته للتاريخ) وبين الكم الكبير من الوثائق السينمائية النادرة، والعودة لمواقع الأحداث، والتوقف أمام تواريخ معينة ودعمها بالصور الفوتوغرافية أحيانا، أو بالتسجيلات الصوتية أخيانا أخرى، مع التوقف امام هذه الرؤية الهائلة المرعبة لدور الفرد في تشكيل العالم، مع محاولة اللحاق بتلابيب الصورة والقبض عليها من خلال الموسيقى اللاهثة التي وضعها فيليب جلاس Philip Glass شريك موريس في معظم أفلامه.
ولعل من اهم ميزات هذا الفيلم انه ليس أحد الافلام "الماضوية"، أي تلك التي تضفي صورة خاصة ساحرة على الماضي أو تعرضه كجانب "تاريخي" انقضى وأصبح من الذاكرة، بل كونه يتواصل مع المشاهدين طيلة زمن عرضه، ويذكرهم على نحو غير مباشر، بما تفعله أمريكا اليوم: في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم، كيف أصبح العملاق الأمريكي يكرر أخطاءه، وكيف تجتمع الطاقة الهائلة على الدمار، مع القدرة على تدمير البيئة والطبيعة في كوكبنا، وما هي المخاطر الحالية التي تحدق بنا وكيف يمكننا وقفها. وهو بهذا المعنى، عمل شديد المعاصرة.

الاستخدام المفرط للقوة
مكنمارا يكشف أيضا حلال مقابلاته في هذا الفيلم البديع عن الكثير من الجوانب التي لم تكن معروفة من قبل مثل الاستخدام المفرط للقوة في اليابان قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية كما يكشف مثلا من خلال تسليط الضوء على حملة تدمير المدن كما حدث عندما القيت كميات هائلة من القنابل المدمرة على مدينة طوكيو بعد ان كانت اليابان قد استسلمت بالفعل مما تسبب في قتل مائة الف ياباني دون أي ضرورة حربية بل لمجرد الترويع!
وفي حالة نادرة من حالات تقريب الأمور الى العقل الأمريكي يعقد مكنمارا مقارنات بين المدن اليابانية التي تم تدميرها مثل هيروشيما وناجازاكي ويوكوهاما وطوكيو، وبين مدن أمريكية مشابهة في الحجم وعدد السكان، وماذا كان يمكن أن يحدث لها في حالة تعرضها لقصف مشابه بنفس أنواع أسلحة الدمار.
يتوصل مكنمارا في لحظة نادرة من لحظات الوعي ويقظة الضمير وهو في الخامسة والثمانين من عمره، يخوض تجربة الاعتراف والتكفير على مقعد أمام كاميرا إيرول موريس، إلى أن مقولة الكولونيل الأمريكي كيرتس لوماي كانت صحيحة تماما عندما قال "إننا لو كنا قد خسرنا الحرب العالمية الثانية لكنا قد حوكمنا باعتبارنا مجرمي حرب". ويتساءل: ما الذي يجعل الأمر غير أخلاقي في حالة الهزيمة، وأخلاقيا في حالة النصر"؟
هل يدين مكنمارا نفسه في هذا الفيلم؟ هل كانت ادانة النفس هدفا أساسيا يهدف الى ارضاء المشاهدين، أم أنه يدين، ربما من حيث لا يدري، عصرا، وسياسات وتصورات كانت سائدة في زمن الحرب الباردة، وأفكارا وممارسات كانت مدفوعة بالرغبة في تحقيق أهداف محددة في زمن الصراع بين كتلتين كبيرتين؟ هذا ما يُترك للمشاهدين للتوصل الى استنتاجات بشأنه.

ميزة الفيلم
ولعل الصعوبة الفنية في السيطرة على تلك المادة الهائلة التي تمكن من جمعها ايرول موريس، هي في ذات الوقت، الميزة الكبرى التي يتحلى بها هذا العمل البديع الاخاذ. فنحن أمام مزيج فني دقيق ومتقن من الوثائق البصرية المصورة، المقابلات، الصور الفوتوغرافية، قصاصات الصحف، التسجيلات الصوتية للمكالمات التليفونية(بين جونسون ومكنمارا مثلا)، صور من نشرات الأخبار التليفزيونية، مقتطفات مصورة من المؤتمرات الصحفية لمكنمارا وغيره، تقارير اخبارية من الستينيات، صور لاجتماعات كنيدي مع وزرائه ابان أزمة الصواريخ الكوبية مع تسجل صوتي لما قيل في تلك الاجتماعات، لقطات من الطائرات لعمليات القصف الجوي الوحشي للقرى الفيتنامية.. وغير ذلك الكثير والكثير.
إن "ضباب الحرب" في النهاية فيلم معاصر يساهم في إزالة الكثير من الضباب، ليس فقط من عالم السياسة وما يجري في كواليسها، بل ومن عالم الفيلم الوثائقي وما يحيط به من أفكار مسبقة باتت في حاجة ضرورية حاليا للمراجعة والتنقيح.
وقد بات حري بالمهرجانات السينمائية العربية أن تحتفي بهذا المخرج وأعماله وتسلط الضوء عليها. ولمن عودة ثانئة إليه لتناول المزيد من أعماله المهمة.

* نشر في موقع الجزيرة الوثائقية 

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2013

أزمة السينما... والثورة!




بقلم: نادر عدلي

جريدة "اليوم السابع" 6 ديسمبر 2013


حالة هستيرية مفتعلة تسود الحياة السينمائية، فالكل يتحدث عن «الأزمة» التى أودت بحركة صناعة السينما وجعلتها شبه متوقفة، على أساس أننا كنا ننتج 40 فيلماً سنوياً خلال العقدين الأخيرين، بينما لا يزيد الآن على 10 أفلام أو 15 فيلماً سنوياً، وهى أرقام غير دقيقة، حيث بلغ متوسط الإنتاج فى السنوات الثلاث الأخيرة حوالى 30 فيلماً سنوياً، وهو رقم حقيقى وواقعى لا يكمن لأحد أن ينكره!
ولست فى حاجة للإشارة إلى أن مسألة «أزمة السينما» هذه، عنوان أساسى فى الحديث عن السينما منذ الأربعينيات، ولم نحاول معالجتها بشكل حقيقى وصحيح.. وهذه مشكلة أخرى.
فما هى المشكلة أو «الأزمة» الآن؟!
يتصور المتحدثون عن الأزمة، أن ثورة 25 يناير 2011، كان من توابعها اضطراب فى سوق السينما، بسبب عدم الاستقرار الأمنى والمظاهرات، ثم سيطرة الإخوان «تجريم وتحريم الفن»، ثم حالة الطوارئ وحظر التجوال.. وأصحاب هذا الرأى يرون ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة للتغلب على الأزمة، وقد أصبحوا يتصدرون المشهد، وأصبحت لهم الكلمة الأولى فى الحالة السينمائية وتحليلها وتحديد اتجاهاتها!
من هؤلاء؟.. وكيف وصلوا لهذه المكانة؟!
بحكم «المهنة» انتبه هؤلاء مبكراً إلى ضرورة «تصوير» أنفسهم فى «ميدان التحرير»، ثم فى الاعتصام ضد وزير الثقافة الإخوانى، وقدموا أنفسهم بأنهم «صوت» السينمائيين!.. فلما جاء وزير الثقافة الانتقالى د. صابر عرب، حرص كل الحرص على إرضاء هذه المجموعة، صاحبة الصوت العالى «الثورى»!.. رغم علمه بأنها نفس المجموعة التى كانت تحرك السينما طوال الـ30 سنة الماضية ، وهم جزء من الأزمة وأسبابها (!!).
فتح لهم الوزير باب الوزارة ليرتعوا - على أساس أنه لا يفهم فى السينما! - فأصبحوا مستشاريه، وأقنعوه بأن يقيم «المهرجان القومى» حتى لو لم يحضره أى من السينمائيين.. وأن يؤجل مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وإلغاء هذه الدورة.. فامتثل لهم!.. وأن يمنحهم كل مقاعد «لجنة السينما» بالمجلس الأعلى للثقافة.. ففعل!.. ويسمح لهم بالسيطرة على المركز القومى للسينما.. فرحب!
أما الشىء العبقرى - بالفعل - الذى حققوه، فكان إقناع رئيس الوزراء د. حازم الببلاوى بتشكيل لجنة من 8 وزراء (تصوروا)، وبرئاسة نائبه للشؤون الاقتصادية د. زياد بهاء الدين «للنهوض بصناعة السينما وتطويرها وحل مشاكلها»، وينضم لهذه اللجنة أعضاء غرفة صناعة السينما، وهذه المجموعة الثورية؟!.. ومر شهران ونصف الشهر دون أن تجتمع هذه اللجنة أصلاً!.. ونستطيع أن نتكهن بأن مطالب هؤلاء هى مجموعة إجراءات لتحقيق مصالحهم فى مزيد من الأرباح على حساب السينما وأزمتها!.. بالإضافة إلى تحقيق مزيد من أحلام الشهرة، وشهوة التقرب إلى السلطة!

أما أزمة السينما الحقيقية، فليس لها علاقة بكل ما ذكروه فى الصحف والبرامج التليفزيونية فهل يصح أن ندعو من «أفسدوا» السينما إلى إصلاحها؟!

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

سنوات المعرفة: ذكريات من مهرجان لندن السينمائي







كنت أعتقد، قبل أن أحضر للإقامة في العاصمة البريطانية لندن عام 1984، أن مهرجان لندن السينمائي يقتصر فقط على عرض الأفلام "الفنية"، أي تلك التي لا تسعى للوصول إلى الجمهور العريض، لكني وجدت عند حضوري أول دورة لي في نوفمبر- ديسمبر 1984 أن المهرجان ربما يكون الأكثر إحتفالا بالسينما الأمريكية: هوليوود والسينما المستقلة. وهو احتفاء استمر مع المهرجان رغم تغير مديريه مرات عدة خلال الثلاثين سنة التي تابعته فيها بشكل أو آخر رغم غيابي عنه لفترات متقطعة بسبب تركي لندن لبعض الوقت حينما كنت أذهب للإقامة في القاهرة أو لخوض تجربة العمل في الخليج مرتين: في أبو ظبي والدوحة وهما تجربتان لم يكتب لهما النجاح، ليس لسبب يتعلق بظروف العمل بل بسبب عدم قدرتي على التأقلم على العيش هناك.

ربما يكون الاهتمام بعرض أكبر عدد من الأفلام الأمريكية الجديدة والاحتفاء بها وبنجومها الأمريكيين، أصبح في مرحلة تالية، أكبر من إهتمام المهرجان "البريطاني" بعرض الأفلام "البريطانية" المتميزة لكبار السينمائيين البريطانيين مثل بيتر جريناواي وستيفن فريرز ومايك لي وكن لوتش ونيل جوردان، وهو ما دفعني منذ سنوات، تحديدا خلال دورة عام 2007، إلى الكتابة لمديرة المهرجان في ذلك الوقت، ساندرا هيبرون Sandra Hebron منتقدا سياستها في الاكتفاء بتسليط الأضواء على الأفلام البريطانية "التي هي أقرب ما تكون إلى أعمال تجريبية شبابية غير مكتملة أو ليست على المستوى الاحترافي بدرجة كافية ومعظمها مصنوع للتليفزيون أساسا، مع تجاهل تام لأفلام "البريطانيين الكبار" الذين صنعوا السمعة الجيدة للسينما البريطانية في أوروبا والعالم" كما قلت لها حرفيا. والمفارقة أن معظم هؤلاء المخرجين الذين أشرت إليهم كانت لهم أفلام جديدة جيدة متوفرة في تلك السنة لم تسع السيدة هيبرون وطاقمها، للحصول عليها وتقديمها بما كانت تستحقه من اهتمام، بل ذهبت تلك الأفلام للعرض في مهرجانات أخرى، مثل كان وفينيسيا وبرلين.

لاستكمال قراءة الموضوع كاملا إنقر هنا:





الجمعة، 22 نوفمبر 2013

"قطار منتصف الليل إلى لشبونة": كيف أفسدت المعالجة السينمائية العمل الأدبي الكبير







بقلم: أمير العمري


لاشك أن العلاقة بين الأدب والسينما كانت دائما علاقة وثيقة، أثرت السينما من ينابيع الأدب، وتركت تأثيرها على السينما سواء في أساليب الحكي أو في الإيقاع العام وترتيب مسار الأحداث.
ويمتليء تاريخ السينما بمئات الأفلام التي تعتمد على أصول أدبية، من روايات وقصص ومسرحيات، لكن الشرط الأساسي لنجاح أي فيلم يعتمد على نص أدبي أي على وسيط يختلف تماما سواء في تقنياته أم في جمهوره، يعتمد عى قدرة السينمائيين على إعادة معالجة المادة الأدبية بحيث يصبح من الممكن التعامل معها بسلاسة من خلال أدوات السينما: الكاميرا، الميزانسين (الإضاءة، زوايا التصوير، الديكورات، المؤثرات، التكوينات..إلخ)، المونتاج، التمثيل.
ولا يعد الإصرار على الإخلاص الحرفي للعمل الأدبي عند تحويله إلى فيلم سينمائي عادة، ميزة إيجابية بالضرورة، بل يصبح هذا الإخلاص والتمسك بكل أو بمعظم مكونات النص الأدبي في الكثير من الأحيان، عبئا على الفيلم السينمائي قد يؤدي إلى عجزه عن الوصول إلى جمهوره فيما يبقى الأصل الروائي شامخا لا يضاهيه شيء!
أجد هذه المقدمة القصيرة ضرورية قبل الانتقال لعرض وتحليل فيلم جديد عرض خارج المسابقة في مهرجان برلين السينمائي (فبراير 2013) وهو فيلم "قطار الليل إلى لشبونة" Night Train to Lisbon من الإنتاج الألماني السويسري ومن إخراج المخرج الدنماركي الشهير بيللي أوجست صاحب التحفة التي تنتمي إلى سينما الثمانينيات، "بيللي الغازي"، الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان وجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام 1989.

الفيلم مقتبس عن رواية شهيرة بالعنوان نفسه، والإنتاج أوروبي تماما، ليس فقط كون الإنتاج والعمل الأدبي ينتميان إلى قلب أوروبا، بل ويضم الفيلم طاقما من الممثلين الأوروبيين المرموقين مثل جيريمي أيرونز وشارلوت رامبلنج وكريستوفر لي وتوم كورتناي من بريطانيا، وبرونو جانز من ألمانيا، ولينا أولين من السويد.. وغيرها. والفيلم ناطق بالإنجليزية حتى يسهل تسويقه عالميا.

صدرت رواية "قطار الليل إلى لشبونة" للكاتب السويسري باسكال ميرسييه (وهو إسم مستعار يستخدمه الكاتب الحقيقي الفيلسوف بيتر بيير) باللغة الألمانية عام 2004، وأصبحت من أكثر الأعمال الأدبية السويسرية نجاحا وانتشارا بعد أن ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، ووزعت نحو مليوني نسخة في البلدان الناطقة بالألمانية.



أفكار كبيرة
تنتمي هذه الرواية إلى الأدب الفلسفي الذي يقوم على طرح الكثير من التساؤلات حول مغزى ما يفعله الإنسان الفرد في حياته، مغزى وجوده، وإلى أين تمضي رحلة الحياة، وما الذي يبقى بعد أن يمضي قطار العمر، وهل زمن العيش القصير الذي نحياه يكفي لسبر أغوار الذات، أم أننا كلما مضينا في رحلة الحياة كلما تعمق شعورنا بالوحدة، وغير ذلك من الأفكار "الوجودية" الكبيرة، وهو يجعل هذه الأفكار تأتي في سياق الرواية- والفيلم، عبر السرد الأدبي الخاص الذي تركه خلفه رجل برتغالي كان جزءا أصيلا في حركة المقاومة اليسارية لديكتاتورية سالازار في البرتغال.

بطل الفيلم مدرس في مدرسة ثانوية في مدينة برن السويسرية، ويدعى ريموند جريجوريوس، وهو متخصص في تدريس اللغات القديمة اللاتينية والعبرية والرومانية (يقوم بالدور جيرمي إيرونز)، يلمح ذات يوم أثناء ذهابه إلى العمل، فتاة تشرع في إلقاء نفسها من أعلى جسر بالمدينة، فيلحق بها ويتمكن من إنقاذها ويصطحبها معه إلى الفصل الدراسي، لكنها تغافله بعد ذلك وتختفي تاركة وراءها معطفا أحمر وكتابا صغيرا بداخله ورقة دون عليها رقم تليفون، وبطاقة سفر بقطار الليل إلى لشبونة الذي سيقلع بعد 20 دقيقة. يطالع الرجل بعض صفحات صفحات الكتاب الصغير، وهو لطبيب برتغالي يدعى أماديو دو برادو، من هواة الأدب، لم يكتب سوى هذا الكتاب الذي دون فيه بعض أفكاره الخاصة عن العالم. وتتردد مقتطفات من أفكار أماديو على شريط الصوت مثل "إننا نرحل إلى ذواتنا لكي نواجه وحدتنا.. وإننا نحيا قسطا قصيرا جدا من تلك الحياة الطويلة التي أمامنا" وغير ذلك.

تسيطر أفكار أماديو تماما على ذهن ذلك المدرس الإنجليزي الذي تجاوز منتصف العمر، وتأسره شخصية أماديو الذي شارك في المقاومة اليسارية ضد ديكتاتورية الجنرال سالازار الذي حكم البرتغال بقضبة حديدية في الفترة من 1933 إلى 1974.

يهرع الرجل إلى محطة القطارات للبحث عن الفتاة، ينتظر قلقا بلا جدوى فيقرر أن يتخلى عن عمله وحياته ويقفز داخل القطار ويقرر البحث عن تلك الفتاة الغامضة وعن حقيقة هذا الرجل الذي وضع تلك الأفكار الآسرة.
هذه البداية المثيرة لاهتمام المتفرج، كانت كفيلة بأن تأخذنا في رحلة سينمائية مشوقة توفر متعة التأمل وجمال الصورة. لكن ما يحدث بعد أن يصل بطلنا إلى مدينة لشبونة، أن يستغرق في البحث عن حقيقة الكاتب من خلال الاتصال بكل من عرفوه قبل وفاته المبكرة، ويبدأ أولا بشقيقته (تقوم بالدور شارلوت رامبلنج) التي تخبره أن شقيقها ليس له سوى هذا الكتاب الذي قامت هي بنفسها بتحريره ونشره.. وترفض أن تطلعه على أي تفاصيل أخرى تتعلق بفترة النضال ضد فاشية نظام سالازار وما حدث لشقيقها، ثم يلتقي بعد ذلك بماريانا، طبيبة العيون، التي تقوده إلى عمها الموسيقار العجوز الذي يقيم حاليا في منزل للمسنين، والذي يقص عليه بعضا من ذكرياته عن فترة النضال ضد الديكتاتورية مع المجموعة اليسارية التي كان يتزعمها أماديو في السبعينيات من القرن الماضي، وكيف تعرض للتعذيب على أيدي رجال الشرطة السرية، وكيف كسروا عظام يديه وجعلوه بالتالي، عاجزا عن العزف على البيانو.



عن البطل الغائب
من هنا يصل ريموند إلى خورخي (يقوم بالدور برونو جانز) ثم إلى ستيفانيا (لينا أولين) والإثنان ارتبطا بعلاقة حميمية مع أماديو، وكانت ستيفانيا محورا للغيرة والرومانسية والنضال السري والعشق المبرح، فقد وقع الإثنان في حبها، واختلطت العاطفة بالغيرة التي دفعت أماديو إلى محاولة قتل خورخي بدعوى أنه خائن للتنظيم السري اليساري.

أجواء الحب الرومانسية والغيرة والصداقة والنضال السياسي ومطاردات الشرطة السرية والشكوك في الرفاق.. هي التي تملأ نسيج الفيلم من خلال ما ترويه الشخصيات الرئيسية عن البطل الغائب.

ويظهر أماديو في الكثير من مشاهد الماضي (الفلاش باك)، كشاب شديد الحماس والتدفق العاطفي والمثالية الرومانسية، فهو يتمرد على أسرته الأرستقراطية ووالده الذي كان قاضيا كبيرا مقربا من النظام، كما أن أماديو نفسه أصبح مقربا من أحد جنرالات الأمن بعد أن أنقذ حياته ذات مرة.. كل هذه التفاصيل تتدفق في الفيلم، من خلال ما تتذكره الشخصيات التي عاصرت أماديو ومازال معظمها على قيد الحياة، كما نستمع عبر شريط الصوت على الكثير من أفكار وآراء أماديو. ولكل هذا الازدحام والرغبة في الاحتفاظ بكل ما ورد في الرواية الأصلية، تجعل الفيلم يفقد بريقه ويتحول، بسبب تلك المعالجة التي تعتمد على السرد (الأدبي الطابع) إلى عمل ثقيل في إيقاعه.
وتكمن المشكلة الرئيسية هنا في السيناريو الذي كتبه كل من جريج لاتر وأولريخ هيرمان، فقد أصبح لدينا فيلم أفقي لا يمتلك حبكة محكمة، أو تطور حقيقي في الموضوع، بل إنه ينسى تماما شخصية الفتاة التي ظهرت في البداية، إلى ان يتذكرها قرب النهاية عندما نعرف أنها إبنة ستيفانيا حبيبة أماديو التي يقابلها بطلنا ويستمع أيضا إلى قسط من ذكرياتها.
على حين أننا في الأدب يمكننا تقبل قراءة أكثر من 400 صفحة من الوصف الأدبي التفصيلي للعديد من الشخصيات التي تكشف عن تلك الشخصية الرئيسية الغائبة التي تبدو غامضة ومثيرة للاهتمام من وجهة نظر ذلك المدرس الباحث عن المعرفة.. معرفة حقيقة الشخصية التي تأسره فلسفتها في الحياة، إلا أننا في السينما، يجب أن نحصل على التفاصيل من خلال الحدث الدرامي الذي يتجسد في صور وليس كلمات، فمن الضروري أن يحتوي فيلم يعتمد على رواية فلسفية من هذا النوع، على طريقة أو مدخل للربط بين الشخصيات والأحداث بشكل متماسك لكي يروي قصة تقع في نحو ساعتين، يشدنا إليها إلى أن تبلغ ذروتها
أما ما حدث فهو أن كاتبا السيناريو وقعا في غرام كل شخصيات الرواية فحافظا على هذه الشخصيات، ولم ينجحا في تقديم معالجة سينمائية جذابة تحول الأفكار الأدبية إلى صور ومشاهد ولقطات وعلاقات حية وانتقالات محسوبة في الزمن، بالشكل الذي يجذب المشاهدين، بل إستخدما تلك الشخصيات المتعددة في الكشف عن بعض الجوانب المتعلقة بشخصية أماديو.. وبهذا فقد المشاهد اهتمامه بالفيلم في نصفه الثاني.

أسلوب الإخراج
ولعل العلاقة الوحيدة التي يطورها الفيلم بين بطلنا وإحدى تلك الشخصيات هي علاقة ريموند بماريانا طبيبة العيون، التي تبدي اهتماما خاصا به، وهو يكشف لها في مشهد وحيد في الفيلم شيئا من حياته التي لا نعرف عنها سوى القليل، عندما يقول لها إنه كان متزوجا لكن زوجته تركته لأنها كانت تجدها شخصية "مملة"، فتقول له ماريانا إنها لا تجده مملا، بل على العكس، تجد صحبته ممتعة. وينتهي الفيلم ونحن نرى ريموند يقرر البقاء في لشبونة بعد أن يدرك تمسك ماريانا به وينمو حبهما المشترك، وهو بهذا القرار، أي البقاء، يلقي وراء ظهره بكل ما كان في حياته المغلقة التي كان يعيشها في برن، ويتمرد على ماضيه مقتنعا بأن لحظة البحث عن النفس لا يضاهيها شئ مهما بدا أنها أتت متأخرة في حياة المرء!
يعتمد الفيلم على الحوارات المكثفة، وعلى الانتقال من الحاضر إلى الماضي عبر مشاهد الفلاش باك، وعلى السرد الذي يدور حول الشخصية الرئيسية مثار اهتمام الفيلم، دون القدرة – كما أشرنا- على تطوير الحدث، ودون الاستفادة من طبيعة المكان، أي مدينة لشبونة بتضاريسها وطبيعتها الخاصة. إنه حقا يقدم لقطات ممتعة بصريا للحي القديم من المدينة الذي يتميز بالشوارع الضيقة الملتوية الصاعدة، والمناظر التي نراها من القلعة التاريخية القديمة أو تظهر القلعة في خلفيتها، بل ويجعل الفندق الصغير الذي يقيم فيه ريموند في ذلك الحي، يطل في الوقت نفسه، على المحيط، في حين أن المحيط الأطلسي يبعد كثيرا عن الحي القديم. لكن الفيلم يفشل بشكل عام في استخدام تلك الخلفية الخاصة للمدينة في تعميق الجانب الدرامي للموضوع، بل يدور في معظمه، داخل ديكورات داخلية.
أسلوب إخراج بيللي أوجست، كلاسيكي، يتميز بالإيقاع البطيء وبالكاميرا الثابتة، واللقطات ذات الأحجام المتوسطة والعامة، وهو يمزج الأفكار الفلسفية التي وردت بالرواية عبر شريط الصوت  فنسمعها من خارج الصورة، وهو أسلوب عتيق، يتكرر عبر الفيلم، ويعكس عجزا في تجسيد الموضوع من خلال الشكل الدرامي الذي يقوم على حركة الشخصيات والكاميرا في الفضاء، وعلى تعقد العلاقات بين الشخصيات، بل إن شخصيات الفيلم تبدو في معظمها كما لو كانت منفصلة عن بعضها البعض. ولذلك جاء أداء الممثلين، رغم مواهبهم الكبيرة بالطبع، باردا يفتقد للحرارة، بل وبدا كما لو كانوا لا يشعرون بالجو العام للفيلم. ولذلك جاء تمثيل جيرمي إيرونز جافا، لا يتغير من مشهد إلى آخر بل يسير على وتيرة واحدة عبر الفيلم رغم ما تكشف له عنه الشخصيات التي يلتقي بها ويستمع إلى شهاداتها عن فترة صاخبة في تاريخ البرتغال.
ولكن لعل من أفضل جوانب الفيلم أنه أعاد تجسيد فترة خصبة من تاريخ النضال اليساري ضد حكم سالازار في البرتغال، وكشف للكثير من المشاهدين في العالم تفاصيل مجهولة في تاريخ تلك الفترة الصاخبة.

السبت، 9 نوفمبر 2013

ملاحظات لا تلزم أحدا!



من فيلم "بس يابحر" الكويتي

** استفتاءات اختيار احسن 10 أو 100 فيلم تكون عادة بين نخبة من السينمائيين والنقاد لا يزيد عددهم عن مائة مثلا خاصة وانه ليس لدينا في العالم العربي أكثر من 10 نقاد سينما، وأقل من 20 سينمائيا مثقفا.. أما أن يضم الاستفتاء المئات من الاشخاص فقد اصبح بالتالي استفتاء شعبيا وليس نخبويا.. وضم من يعرف ومن لا يعرف، من يشاهد ومن سمع فقط  عن بعض الأفلام.. وهذا هو سر الجدل الحالي. الخطأ أصلا خطأ من فتحوا الدنيا أمام كل من هب ودب...... وبالتالي فالاستفتاء لا يعتد به لأنه فقد المعايير العلمية الصحيحة..


** المؤكد أيضا أن فيلم "الزمن الباقي" أهم وأفضل كثيرا من فيلم "يد إلهية" لنفس المخرج ايليا سليمان، وفيلم "زوجتي والكلب" أهم تاريخيا وفنيا من "المخدوعون" لكن المخدوعين كثيرين في العالم العربي.. فلم يكن اختيار فيلم "بيروت الغربية"- رغم جودته ليوضع في قائمة العشرة الكبار، والطريف ان يكون لدينا كل هذا العدد ممن أطلق عليهم (البعض) "السينمائيين والنقاد وخبراء السينما"..



الرأي (الشعبي) السائد في الصحافة السينمائية ولدى العاملين بها أن الفيلم الجزائري "وقائع سنوات الجمر" للأخضر حامينا من أفضل الافلام العربية.. فقط بسبب حصوله على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان، في حين أنه فنيا ليس افضل افلام مخرجه بل أفضلها بلاجدال (لكن أحدا لم يشاهده ولم يروج له كثيرا) هو فيلم "رياح الأوراس" (1966) الذي فاز أيضا بجائزة مهمة في مهرجان كان لكنها ليست السعفة الذهب!

** تفوق فيلم متواضع المستوى كثيرا مثل "بس يابحر" الذي أنتج في الكويت في اوائل السبعينيات على كثير من الأفلام التي تفوقه فنيا وفكريا، مثل دعاء الكروان، والبوسطجي ، والسقا مات، والطوق والاسورة، والقاهرة 30 وشباب امرأة، وغيرها من الأفلام التي تعتبر من كلاسيكيات السينما العربية، هو أمر جدير بالتوقف أمامه أيضا.. 

** أخيرا الحديث عن غياب أفلام معينة من بلد معين، أو عدم تمثيل مخرج معين هو أمر لا طائل من وراءه، بل المسألة تبقى في النهاية "نسبية"!

الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

الفيلم الإيراني "لا تحرق المخطوطات" لمحمد رسولوف




جاء المخرج الإيراني المثير للجدل، محمد رسولوف، إلى مهرجان كان بمفاجأة جديدة مثيرة، هي فيلمه الجديد الذي أنجزه سرا في إيران، في حين قام بتصوير مناظره الداخلية – كما نشر- في ألمانيا.
جاء روسولوف لعرض فيلمه الجديد "لا تحرق المخطوطات" Manuscripts, Don’t Burn ليس في المسابقة الرسمية التي تتنافس أفلامها على السعفة الذهبية، الجائزة الكبرى للمهرجان، بل في قسم "نظرة خاصة"، القسم التالي في أهميته للمسابقة، وقد حصل على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما في كان.
أما المفاجأة فتتمثل في أن هذا المخرج كانت قد صدرت ضده أحكام عام 2009، بالمنع من العمل في السينما لمدة 20 سنة، كما حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات تم خفضها فيما بعد، إلى سنة واحدة وإن كان التنفيذ مؤجل حتى الآن. ومن مظاهر التناقض في السياسة الداخلية الإيرانية ونتيجة لصراع الأجنحة، أن روسولوف في الوقت نفسه، مسموح له بالسفر إلى المهرجانات الدولية، بل وقالت بعض المصادر القريبة منه إنه يقيم منتقلا ما بين طهران وهامبورج في ألمانيا، كما ذكرت مصادر أخرى أن الفيلم الجديد أنتج في وقت إرتفعت بعض الأصوات داخل إيران على صعيد المؤسسة الرسمية، تنتقد بشدة الممارسات العنيفة التي تلجإ إليها أجهزة الشرطة السرية.
ما هذا النظام الإيراني؟ ومم يتكون؟ وما هذه التناقضات التي تجعل القائمين عليه يقضون بسجن مخرج ومنعه من العمل، ثم يسمحون له بالعمل وبالسفر وحضور مهرجان "كان" وتقديم الممثلين الذين تعاونوا معه في الفيلم على خشبة المسرح، وكيف يمكن أن ينجز رسولوف فيلما جريئا إلى هذا الحد، وهو ما يمكن إعتباره الفيلم الأكثر جرأة من بين كل الأفلام الروائية الطويلة التي خرجت من إيران حتى الآن، في نقده المرير للممارسات القمعية التي تلجأ إليها السلطات الغاشمة التي تحكم البلاد بالحديد والنار.
إننا أولا أمام مرثية لثقافة عظيمة هي الثقافة الفارسية، التي يمثلها مجموعة من الرموز الثقافية من الكتاب والمبدعين في هذا الفيلم، يتعرضون حاليا، لأقصي صنوف التعذيب والإضطهاد والترويع والترغيب، فإما يهادنون ويقبلون بالتعامل كمرشدين للنظام، يساهمون- كما نرى في الفيلم- في تعقب وتصفية زملائهم من المثقفين الإيرانيين، أو يكون مصيرهم الحرمان والمطاردة والمنع من السفر والتعذيب بل والإعدام بطرق عديدة بشعة مبتكرة!
إنها مرثية للكلمة، التي أصبحت مطاردة ومضطهدة ومحظورة، تدفن داخل ثلاجة، أو داخل حاشية مقعد، أو تحرق إذا عثر عليها. وفي الوقت نفسه، مرثية للكتاب المناهضين للنظام الشمولي الإيراني الذين يعبرون عن إحتجاجهم بالكلمات.

قصة حقيقية
تقول كتابة تظهر على الشاشة في بداية الفيلم إن أحداثه وشخصياته تستند إلى وقائع حقيقية وقعت في إيران عبر سنوات، منها عمليات التعقب والاغتيال والتصفية التي تعرض لها نحو ثمانين مثقفا وكاتبا وناشطا إيرانيا فيما بين عامي 1988 و1998، كانوا يعارضون نهج النظام الإيراني.

 





المثقف السابق- رجل الأمن الحالي الذي أصبح مغاليا في ولائه للنظام، يريد أن يمحو تماما كل ما بقي من أصداء تلك الحادثة القديمة، ويبحث بالتالي عن أي مخطوطة- يعرف بوجودها- يكون قد كتبها وخبأها أي من هؤلاء الشهود.. باستخدام كل وسائل الترهيب، والتعذيب التي تصل إلى حد غرز آلة حادة في العضو التناسلي لأحد الذين يتم تعقبهم.
وفي أحد المشاهد نرى كيف يتم إختطاف أحد الكتاب ووضعه في الجزء الخلفي للسيارة ثم إقتياده إلى غابة بعيدة والإقدام على قتله قبل أن تأتي التعليمات بوقف تنفيذ العملية، كنوع من الضغط على أعصابه حتى يقبل بالتعاون. وهو ما يحدث بالفعل في حالة ذلك الكاتب الآخر كان يصرخ في جهاز التليفون مستجديا ضابط الشرطة السرية- المثقف السابق- أن يرأف بحاله المرضية وأن يسمح له بالسفر لرؤية إبنته في الخارج. لقد وعده الرجل أنه سييسر له السفر خلال أسبوعين ولكن مرت بضعة أشهر ولم يسمع منه خبرا. لكننا نره في النهاية يقوم بغسل جهاز التليفون، يرتدي ملابسه الفاخرة، يحمل حقيبته ويرحل في هدوء في حين يظل زميله الذي قبل أن يحمل مخطوطته ويخفيها، على وفائه وصموده ويلقى بالتالي مصيره بالموت!
روسولوف يروي قصة شاهد الكثير من فصولها إستمع إليها من زملائه، بكثير من الحساسية والرصانة، يتوقف أمام ما يريد التأكيد عليه بما لا يجعله يترك أي ظل من الشك فيما تقوم به الدولة القمعية في تعقب المثقفين والتنكيل بهم، دون أن يضحي بالمستوى الفني لفيلمه، فيحافظ على إيقاع هاديء، يتيح الفرصة أمام المشاهدين للتأمل فيما يشاهدونه وإستيعابه، دون أن تفلت خيوط الفيلم من بين أيديهم.


"لا تحرق المخطوطات" فيلم من أفلام الإحتجاج الجريئة التي لاشك أنها ستسبب الكثير من الصداع للنظام الإيراني، وقد تفضي أيضا إلى مزيد من المشاكل لمخرجه الشجاع!

السبت، 2 نوفمبر 2013

القراصنة الصوماليون: قتل الطباخ ميكيل وإنقاذ القبطان فيليبس!



العام الماضي شاهدنا واحدا من أفضل الأفلام التي تناولت موضوع القراصنة الصوماليين ومأساة أطقم السفن التي تختطف في بحر الصومال والمحيط الهندي، وهو الفيلم الدنماركي "إختطاف" من إخراج توبياس ليندهولم.

عرض هذا الفيلم خارج المسابقة في مهرجان فينيسيا السينمائي 2012، وكتبنا عنه في ذلك الحين وقلنا إنه "من أفضل أفلام المهرجان الفيلم الدنماركي "اختطاف" الذي يصور بدقة عملية اختطاف احدى السفن الدنماركية قرب الساحل الصومالي على أيدي مجموعة من القراصنة، وكيف تبدأ المفاوضات لاطلاق سراح البحارة.. فيلم إنساني شديد التأثير والبراعة في التصوير وبناء الشخصيات، بما يصل إلى مستوى الكمال حقا. لا أخطاء ولا شيء زائد أو ناقص، ولا يوجد اي تقصير لا في إشباع الموضوع، ولا في الانتقال في الوقت المناسب من مشهد إلى آخر، أو إهمال عنصر على حساب عنصر آخر".

كان "إختطاف" الذي حصل على عدد من الجوائز منها أحسن ممثل في مهرجان أبوظبي، وأحسن فيلم (مناصفة) في مهرجان مراكش، ولجنة التحكيم الخاصة (مناصفة) في مهرجان سالونيك، وغيرها، ليس عن عملية إختطاف السفينة واحتجاز الرهائن فقط، هذه الأشياء موجودة في الفيلم المليء بلحظات الترقب والإثارة، لكنه كان أساسا، عن المصير الإنساني، كيف يصبح فحأة، وبدون سابق إنذار، عرضة لعمليات المساومة والمفاضلة والمفاوضات الطويلة المرهقة بين طرفين لا يتحدثان اللغة نفسها، ولا يعيشان في نفس العالم، ولا يقيمان أي إهتمام- في الحقيقة- للحياة البشرية، لقد كان فيلما حول "المال".. أي الفدية التي يطلبها الخاطفون (25 صوماليا فقيرا لم يعودوا يكترثون كثيرا للحياة الإنسانية بعد ما خبروه في حياتهم) ويساوم الطرف الآخر، أي ممثلو الشركة المالكة للسفينة المختطفة، لكي لا يدفعوا سوى أقل كثيرا من هذا الرقم.

لقطة من فيلم "إختطاف".. المسؤولون في الشركة يبحثون الموقف

يقع بين فكي الرحى، بحارة السفينة، وبينهم الطباخ الشاب "ميكيل" (بيلو أسبيك) الذي يجد نفسه، مسؤولا عن إعداد الطعام لهؤلاء القراصنة الشباب الجائعين، ثم العثور على أي شيء يصلح لاطعامهم بعد نفاذ كل مخزون الأطعمة في السفينة، ويصبح بالتالي في مرمى نيران الغضب، وينتهي نهاية مأساوية عبثية.

وعلى الطرف الآخر، كان هناك المدير التنفيذي للشركة بيتر (سورين مالينج) الذي يصر على أن يتفاوض بنفسه، رافضا نصيحة الخبير المحترف المتخصص في التفاوض مع قراصنة السفن، بأن يدع الأمر له، أي لشخص غيره غير منحاز، أي غير مدفوع بمشاعر مسبقة بالمقاومة والرفض.

لحظات التوتر في الفيلم مصنوعة بدقة، والتصوير طبيعي إلى أقصى حد يمكنك تخيله، والسفينة التي دار عليها التصوير حقيقية كان تقف في المحيط الهندي وليست ديكورا صناعيا، والمكالمات الهاتفية المتبادلة بين القراصنة- الممثلين (عن طريق مترجم خاص إستعانوا به) وبين مدير الشركة في كوبنهاجن، هي مكالمات حقيقية، جرت على هذا النحو بالفعل، بين أناس في قارتين مختلفتين تفصلهما بحار ومحيطات وجبال.. والتجربة في نهاية الأمر، كانت مليئة بالتشويق والسحر.

مؤخرا شاهدنا الفيلم الأمريكي "القبطان فيليبس" Captain Philips وهو من إخراج بول جرينجراس، الذي أفتتحت به الدورة الـ57 من مهرجان لندن السينمائي. سيناريو الفيلم مأخوذ عن كتاب "واجب القبطان" الذي يروي فيه القبطان ريتشارد فيليبس، قبطان سفينة الشحن الأمريكية العملاقة "مايرسك الاباما" التي اختطفها أربعة من القراصنة الصوماليين قبالة الساحل الصومالي عام 2009 تفاصيل المحنة التي واجهها.

الطباخ في فيلم "إختطاف" أمام زعيم القراصنة

وعلى العكس من فيلم "إختطاف" الذي كان يبحث في الموقف الأخلاقي الذي يطرحه موضوع إحتجاز رهائن على السفينة، من البشر، وما يتعين القيام به لاطلاق سراحهم، وهل تكون الأولوية للجانب الإنساني أم للجانب المالي أي المتعلق بأموال الشركة المالكة للسفينة، التي يمكن أن تفلس إذا ما استجابت لمطالب القراصنة، يأتي فيلم "القبطان فيليبس" مركزا علىى تفاصيل الاختطاف ثم ما يلجأ إليه البحارة (لم يزد عددهم عن عشرين) من حيل وأساليب لتضليل القراصنة، في مبارة شيقة في استخدام الفطنة والذكاء، لكن ينتصر فيها القراصنة الذين ينجحون بالتحايل في احتجاز القبطان وأخذه معهم داخل زورق صغير مغلق يفرون به من السفينة العملاقة بعد إصابة أحدهم، وتعرض قائدهم للإصابة، وتصوير أجواء التوتر والقلق التي يشعر بها القبطان وسط هذه المجموعة الغريبة التي  تخوض معركتها الأخيرة من أجل النجاة والحصول على أكبر قدر من المكاسب، لكن ما يحسم الأمر في النهاية هو تشغيل القوة العسكرية الأمريكية المدربة: بارجة حربية تحمل طائرات الهليكوبتر، ومجموعة من رجال العمليات الخاصة، تتمكن من اعتقال قائد القراصنة بالحيلة والكذب، وقتل الثلاثة الآخرين وتحريرالرهينة.

أسلوب جرينجراس معروف باهتمامه بتصوير الجانب المثير من القصة، وهو يستخدم إيقاعا يتصاعد تدريجيا، يبدأ بالقبطان في السيارة مع زوجته في طريقه إلى المطار حيث يطير إلى عمان حيث يعتلي متن السفينة الضخمة التي يقول خلال حديث مع قائد القراصنة محاولا استمالته إنها تحمل شحنات على شكل معونة مقدمة من الأمم المتحدة، من المواد الغذائية والحبوب، لمساعدة البلدان الافريقية ومن بينها الصومال. لكن قائد القراصنة الذي يقول إنه صياد سمك أصلا، لا يلين ولا ينصاع، فهو يرى أن ما يقوم به هو مجرد "شغل" ولا يعنيه أمر القبطان ولا رجاله، بل الحصول على المطلوب، أي على ستة ملايين دولار من الشركة المالكة كفدية. يمنحه فيليبس كل ما في خزانة السفينة من أموال، مبلغ 30 ألف دولار، لكن هذا يبدو مثل "سندوتش" يقضمه مع زملائه الثلاثة!

توم هانكس في دور القبطان فيليبس

هناك تصوير ممتاز يحاول إقتناص كل لحظات الصراع والتوتر من خلال اللقطات القريبة، والدخول إلى أعماق السفينة، باستخدام مصدر محدود للضوء، وهناك اختيار جيد للممثلين الذين قاموا بأدوار القراصنة الشباب الصوماليين، بهزال بنيتهم، والابقاء على أحاديثهم باللغة المحلية، مع بعض الاتجليزية أحيانا باستثناء القائد الذي يبدو انه يعرف الإنجليزية بشكل أفضل، ولاشك أيضا في قيام توم هانكس بدور القبطان ببراعة ليست جديدة على هذا الممثل العملاق الذي يعرف جيدا كيف يضع نفسه في قلب الحدث، إنفعالاته واضحة رغم صمته في الكثير من المواقف أمام التهديدات والصراخ وأجواء الهستيريا التي تسيطر على القراصنة خاصة مع اقتراب القوة الأمريكية من زورقهم الصغير.. إنه يراقب كل ما يحدث حوله ويحاول المقاومة والفرار أحيانا، ولكنه في الوقت نفسه منغمس في المأساة حتى النهاية الدموية.

غير أن المشكلة الأساسية في هذا الفيلم الذي يعاني من الاستطرادات وإفلات الذروة مرة بعد أخرى (135 دقيقة) أن ثلثه الأخير، يتحول إلى إستعراض للقوة العسكرية الأمريكية، والذكاء الأمريكي والقدرة على المراوغة والخداع والاستخدام الجيد للتكنولوجيا الحديثة وغير ذلك من المشاهد المتكررة التي تركز وتعيد التأكيد مرارا على الفكرة نفسها، بحيث نصبح أمام ما يشبه فيلم الويسترن: هنا الأشرار الصوماليين (الذين لا نعرف عنهم الكثير بالمناسبة سوى أنهم يظهرون فجأة طمعا في "الجائزة الكبرى"!) وهناك على الطرف الآخر، الأمريكيون الطيبون وعلى رأسهم قائدهم، القبطان فيليبس الطيب الذي يرفض استخدام أي وسيلة للعنف ضدهم، ويمنحهم كل ما لديه من مال سائل ومياه للشرب، لكنه ينال فيما بعد، ضربا مبرحا يكسر عظامه. ولم يكن هناك أيضا ضرورة للتركيز في المشاهد الأخيرة، بعد إنقاذ القبطان فيليبس، على عمليات الفحص الطبي والمعاملة الاحترافية التي يلقاها على يدي الممرضة والأطباء المتخصصين في علاج الصدمات: النفسية و الجسدية، كما لو كان الفيلم يقول لنا: أنظروا كيف يرى الأمريكيون أبناءهم ولا يتخلون عنهم قط!

وهذه هي الرسالة التي تصل للمشاهدين في النهاية. ومع ذلك، من المتوقع أن يصمد "القبطان فيليبس" في شباك التاكر لفترة طويلة، ويمتد نجاحه التجاري إلى موسم جوائز الأوسكار القادمة. ولكن من الآن أؤكد أن أداء توم هانكس في "إنقاذ السيد بانكس" (مقارنة بإنقاذ القبطان فيليبس) أفضل كثيرا بما لا يقاس، من أدائه في هذا الفيلم رغم جودته، فشتان ما بين الفيلمين. 

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

إعادة إكتشاف فلسطين: في مهرجان لندن السينمائي





من الأفلام التسجيلية الجيدة التي أثارت اهتماما كبيرا في عروض مهرجان لندن السينمائي الـ57 الفيلم البريطاني The Do Gooders الذي يمكن ترجمته بـ "فاعلو الخير"، أو تحديدا أولئك السذج من حسني النية الذين يدعمون وكالات الغوث الإنسانية.
لماذا العنوان؟ مخرجة الفيلم كول روثفين Ruthven تقول في بداية الفيلم إنها أرادت أن تذهب إلى فلسطين لكي تقتفي أثر جدها وجدتها اللذين أدركا أن بلدهما، بريطانيا، ساهمت بشكل ما - في خلق تلك المأساة الإنسانية التي وقعت عام 1948 مع الإعلان عن قيام إسرائيل على أرض فلسطين، وإنهما قررا في الستينيات، التطوع للعمل في وكالة غوث اللاجئين لعلهما بذلك يكفران عن ذلك الشعور بالذنب إزاء ما اقترفته حكومة بلدهما.
تذهب كول روثفين إذن إلى فلسطين لتصوير فيلمها التسجيلي الثالث الطويل (75 دقيقة) وهي على قناعة بأهمية تلك المعونات الدولية التي تقدمها وكالات الإغاثة للفلسطينيين، سواء في غزة أو في الضفة الغربية. وهي تبدأ بمقابلة مصورة مع مدير وكالة الدعم الأمريكي للأراضي الفلسطينية USAID ومقرها تل أبيب، الذي يقول لها إن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من سبعة مليارات دولار منذ عام 2004 أي منذ بدء مهمتها هناك. ويستعرض كيف أنها دعمت الكثير من المشاريع في مجالات التعليم والصحة ودعم منظمات المجتمع المدني والديمقراطية واستخراج مياه الشرب وشق الطرق.


هذه البداية التي تعقب لقطات قديمة بالأبيض والأسود لمقاطع من الجرائد السينمائية القديمة من الأربعينيات التي تصور تشرد الفلسطينيين وانتشارهم في خيام اللاجئين في أراضي لبنان والأردن، ثم لقطات لجدي المخرجة في أرض فلسطين أثناء عملهما في وكالة غوث اللاجئين، تجعل الفيلم يبدو كما لو كان احد أفلام الدعاية الإيجابية، أي أنه يقدم ذلك الوجه "الإنساني" للغرب، وكيف أن الولايات المتحدة تساهم في رفع المعاناة عن الفلسطينيين اليوم من خلال برنامج عملي.
من المستبعد بالتأكيد أن تكون هذه الفكرة هي الأساس الذي انطلقت منه مخرجة الفيلم في بحثها. بل الحقيقة أنها كانت تريد عمل فيلم "ليس عن الجدين بل عنا نحن" أي عنها وعن أبناء جيلها من البريطانيين الذين لا يعرفون كثيرا عن حقيقة الوضع في فلسطين– وهي تعبر عن هذا المفهوم من خلال تعليقها الصوتي المصاحب للفيلم، وهو تعليق غير تقليدي بل ولا يبدو أنه قد اعد مسبقا، بل يأتي تلقائيا ومكملا لتلك اللحظات التي تسجلها بأمانة كول روثفين، سواء بشكل مباشر أو تعليقا على الصور فيما بعد أي في مرحلة المونتاج. وهذا التعليق الممتد سيبقى معنا طوال تلك الرحلة المضطربة التي تبدأ بأفكار مسبقة أو بعض "الافتراضات" ثم مع الاقتراب أكثر فأكثر من بعض الحقائق خاصة بعد دخول "لبنى" إلى نسيج الفيلم، تلك الناشطة الفلسطينية الرائعة صاحبة الرؤية الواضحة التي تملك قوة الإقناع والمنطق بل والأهم، تلك الحرارة والتلقائية ورد الفعل الطبيعي الغاضب أحيانا، يبدأ الفيلم يتخذ له منحى آخر مختلفا تماما.
تلتقي مخرجة الفيلم وهي تصور فيلمها الأول هذا، بـ"لبنى" وتتخذها مساعدة لها، تقوم بتوصيلها بسيارتها الخاصة كما تساعدها في الترجمة وفي ترتيب لقاءات مع بعض الشخصيات الفلسطينية. تبدأ العلاقة إذن على أساس مهني بحت لكنها تتطور إلى صراع أفكار، إلى جدل بين المرأتين، إلى حوار ممتد حول ما هو الأفضل للفلسطينيين، وعن النظرة الفوقية المسبقة للغربيين إلى الحالة الفلسطينية، بل وحول القضية بأسرها: مسؤولية من، وما جدوى تلك المعونات، وهل تحقق الهدف منها، ومن الناحية الأخرى ما الذي تمنحه أمريكا لإسرائيل من مساعدات عسكرية سنوية ضخمة تمكنها من فرض سياسة الأمر الواقع على الفلسطينيين؟

تقول لبنى خلال إحدى المناقشات مع كول إن المطلوب ليس أن يأتي أناس من الغرب مثلها، "لكي يعلموننا الديمقراطية ويحدثوننا عن حقوق الإنسان وكيف يمكننا أن نحكم أنفسنا، بل المطلوب الضغط على الإسرائيليين لدفعهم إلى الجلاء عن الأراضي الفلسطينية" فالقضية عند لبنى هي "قضية حرية".. أي أعطونا حريتنا وسوف نتكفل بحل مشاكلنا.
هذا المنطق يتم التعبير عنه في الفيلم في مشهد شديد التأثير: أولا خلال لقاء مصور للمخرجة مع مدير برنامج غوث اللاجئين الفلسطينيين التابع للأمم المتحدة (وهو بريطاني): في هذا اللقاء لا تملك لبنى سوى التدخل في الحديث وتطرح وجهة نظرها التي تتلخص في اعتبار المعونات تهدف إلى تسكين الوضع الراهن والإبقاء عليه وليس العثور على حل للقضية. يقول لها الرجل إنها تتحدث في الجانب السياسي من القضية في حين أنه مسؤول فقط عن الجانب الإنساني الذي يراه مهما بالتأكيد، ويسألها: لماذا لم تذهبي إلى توني بلير مسؤول اللجنة الرباعية وهي المسؤولة عن التوصل إلى حل سياسي للقضية؟ وبالفعل تنتقل المخرجة بالكاميرا في شوارع تل أبيب تسعى للعثور على مقر بعثة الرباعية، ولكنهم يقولون لها إن توني بلير لا يأتي إلى هنا إلا نادرا، وتقول هي إنها أرسلت عشرات الرسائل الالكترونية إلى مكتبه واتصلت هاتفيا مرات عديدة بلا جدوى.
وعندما تلتقي المخرجة براعي أغنام فلسطيني بدوي طاعن في السن، يقول لها إن الأمريكيين "يعطوننا دقيقا (يسميه الفلسطينيون طحينا) مليئا بالسوس، ونقوم بالتخلص منه" وأن كل مشاريعهم لاستخراج مياه من الأرض فاشلة لأن إسرائيل تقوم بانتظام بسحب المياه. ويشير إلى مستوطنة إسرائيلية أنشأت حديثا بالقرب من تلك المنطقة القاحلة التي يرعى فيها، قائلا: انظري إلى هناك لترين كيف أنهم يستولون على مياه أراضينا ويحرموننا منها.. اجعلوا الإسرائيليين يعطوننا أرضنا.. يتركونا فقط أحرارا فيها ونحن نعرف كيف نستخرج المياه وكيف نزرع.. ولكن لا ترسلوا لنا قمحا فاسدا أو عدسا غير صالح للاستهلاك!
إن هذا المشهد وحده هو أقوى تعبير عن الإرادة الفلسطينية في التحرر خلال الفيلم كله. وهو أيضا أبلغ رد على من يزعمون غياب فكرة الاستقلال عند الفلسطيني العادي البسيط، البدوي.
هذا الوعي المتقد سيتضح أيضا في تلك المقابلة التي تجريها المخرجة مع مهندس فلسطيني يعمل في مشروع محطات استخراج المياه الممول أمريكيا، في حضور لبنى. يقول الرجل للمخرجة بوضوح وفي انفعال شديد إن كل ما يقيمه الأمريكيون من مشاريع لاستخراج المياه هنا هي مشاريع فاشلة سرعان ما ستنهار لأنها مجرد سراب فقط. 

إننا نرى المرأتين معا، تتحدثان وتتناقشان وتختلفان. ويصبح منطق لبنى هو الأقوى بحكم أنها ابنة البلاد وتعرف الواقع بعد أن خبرته لسنوات. إنها تتحدث عن تجربتها في العمل وسط الناس، وحجم ما تلقته من تهديدات من سلطات الأمن الإسرائيلية، وكيف أنها تعرضت للاعتقال مرات عديدة. وفي خطوة غير مسبوقة في السينما، تقرر المخرجة القيام بزيارة إلى مستوطنة إسرائيلية قريبة من غزة وتصطحب معها لبنى الفلسطينية. إنها المرة الأولى التي تجد لبنى نفسها في مكان كهذا.. عالم غريب تماما عليها يمنحها شعورا بأنها ليست في بلد يمت لها بصلة في حين أنها على أرض بلادها. المخرجة روثفين تعلق على المشهد الممتد الذي يشع بالجمال والهدوء والسكينة، حيث تنتشر الخضرة والحدائق الغناء ونوافير المياه في كل مكان،  أمام البيوت البديعة، وتمتد الشوارع المعبدة النظيفة، ولا تملك روثفين سوى أن تعلق قائلة: إن المرء يشعر هنا أنه في مكان ما من كاليفورنيا..!
أما لبنى التي تتطلع إلى فتاة يهودية تقوم برعاية طفل والتنزه معه في الحدائق المحيطة بالمنازل، فترصد الكاميرا حيرتها واضطرابها ومشاعر الغضب الطاغية على وجهها.. وتهمس لبنى لنفسها أمام الكاميرا: إنهم يستنكرون الحديث عن التفرقة العنصرية.. أليس مجرد وجود هذين العالمين (أي عالم الأرض القاحلة التي يقف فيها البدوي الذي لا يجد الماء لسقي أغنامه) وتلك الجنة.. جنبا إلى جنب على هذه الأرض، هو نوع من التفرقة العنصرية؟ بل وهل هناك تفرقة أكثر من هذا!
هل ستصبح روتثين في نهاية رحلتها أكثر وعيا بالقضية عن ذي قبل؟ إنها تشعر دائما أنها في حاجة إلى المزيد من الإجابات على مئات الأسئلة التي تدور في ذهنها، بينما ترى لبنى أن المسألة لا تحتاج إلى كل هذه التساؤلات.. بل تكمن أساسا في قضية الاحتلال. تقول لبنى إن من الأفضل بالنسبة للفلسطينيين إذا ما أوقفت الولايات المتحدة دعمها العسكري لإسرائيل.. فهذا أفضل كثيرا من تلك المعونات "الإنسانية" التي لا ترى أنها تفعل شيئا. 
وفي مقابلة سريعة عابرة مع سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني بعد انتهاء مؤتمر صحفي له عن الدعم الأمريكي يرفض توجيه أي انتقادات لمشروع المساعدات الأمريكية بل يشيد بما تحقق منه، ولكنه يبدو مرتبكا ومضطربا وسرعان ما يغادر مهرولا معتذرا عن الإجابة على ما لدى روثفين من اسئلة عديدة!

الجدل المستمر بين المرأتين يسبب الارتباك لروثفين، والإرهاق والتوتر للبنى. وتقول روثفين إنها ذهبت الى مطعم في رام الله مع لبنى وشاب فلسطيني وأرادت أن تستمع لرأيه، إلا أن لبنى أخذت تتحدث معه بالعربية طيلة الوقت وبالتالي خرجت روثفين من الأمسية دون أن تفهم شيئا من الحديث وشعرت بالتالي بالإحباط. هنا تقفز تلك اللقطة السابقة التي تتهم فيها لبنى روثفين بعدم الاهتمام حتى بفهم الفلسطينيين بقدر اهتمامها بالفيلم الذي تصوره: "كيف يمكن أن تكوني مهتمة بما يحدث هنا دون معرفة اللغة التي نتحدثها؟!
تنقطع العلاقة بين المرأتين بعد أن تمتنع لبنى عن التواصل مع روثفين أو الرد على اتصالاتها الهاتفية بها.. ربما لأن الأمر بالنسبة لها لم يعد يحتمل المزيد من الجدل. ولكن المؤكد أن روثفين تعود إلى بلادها بعد أن أصبحت أكثر وعيا بما يجري هناك على الأرض.. أو على الأقل أصبحت لديها أسئلة كثيرة أكثر إثارة لاهتمامها ربما ستسعى للعثور على إجابات عنها.
من الناحية الفنية هناك بعض الأخطاء في الفيلم: الميل إلى الاستطراد، الثرثرة والتكرار، وفي المشهد الذي نرى فيه لبنى توقف بالسيارة أمام بعض الشباب تسألهم عن الطريق تنتهز المخرجة لفرصة لتوجيه أسئلة لهم حول رأيهم في المعونة الأمريكية دون القدرة على استكمال الحوار، كما تستخدم بعض اللقطات فقط لأنها ترى فيها قيمة جمالية ما، والمبالغة في استخدام التكوينات المشوهة للمنظور: إظهار جزء من الوجه فقط بينما الشخصية المصورة تتحدث، أو تصوير الوجه من زاوية منخفضة أو بكاميرا مائلة، وأحيانا تتوقف المخرجة- المصورة عن التصوير وتناول الكاميرا إلى لبنى لكي تقوم هي بتصويرها. وفي أحيان أخرى يقوم مصور آخر محترف بتصوير المرأتين معا. وقد نرى أيضا الاثنتين من خلال كاميرا ثابتة تركت على الفراش في غرفة الفندق مثلا. ولكن المؤكد ايضا أن المونتاج العصبي وتلك الانتقالات التي قد تبدو مباغتة أحيانا، أو تجعل بعض المشاهد غير مترابطة، هي جزء من تلك الحالة المزاجية والنفسية التي تسيطر على المخرجة أثناء رحلتها الأولى لاكتشاف الحقيقة في فلسطين


نشرت أولا في موقع الجزيرة الوثائقية
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger