جاء المخرج الإيراني المثير للجدل، محمد رسولوف، إلى
مهرجان كان بمفاجأة جديدة مثيرة، هي فيلمه الجديد الذي أنجزه سرا في إيران، في حين
قام بتصوير مناظره الداخلية – كما نشر- في ألمانيا.
جاء روسولوف لعرض فيلمه الجديد "لا تحرق
المخطوطات" Manuscripts,
Don’t Burn ليس في المسابقة الرسمية التي تتنافس أفلامها على السعفة الذهبية،
الجائزة الكبرى للمهرجان، بل في قسم "نظرة خاصة"، القسم التالي في
أهميته للمسابقة، وقد حصل على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما في كان.
أما المفاجأة فتتمثل في أن هذا المخرج كانت قد صدرت ضده
أحكام عام 2009، بالمنع من العمل في السينما لمدة 20 سنة، كما حكم عليه بالسجن
لمدة خمس سنوات تم خفضها فيما بعد، إلى سنة واحدة وإن كان التنفيذ مؤجل حتى الآن.
ومن مظاهر التناقض في السياسة الداخلية الإيرانية ونتيجة لصراع الأجنحة، أن
روسولوف في الوقت نفسه، مسموح له بالسفر إلى المهرجانات الدولية، بل وقالت بعض
المصادر القريبة منه إنه يقيم منتقلا ما بين طهران وهامبورج في ألمانيا، كما ذكرت
مصادر أخرى أن الفيلم الجديد أنتج في وقت إرتفعت بعض الأصوات داخل إيران على صعيد
المؤسسة الرسمية، تنتقد بشدة الممارسات العنيفة التي تلجإ إليها أجهزة الشرطة
السرية.
ما هذا النظام الإيراني؟ ومم يتكون؟ وما هذه التناقضات
التي تجعل القائمين عليه يقضون بسجن مخرج ومنعه من العمل، ثم يسمحون له بالعمل
وبالسفر وحضور مهرجان "كان" وتقديم الممثلين الذين تعاونوا معه في
الفيلم على خشبة المسرح، وكيف يمكن أن ينجز رسولوف فيلما جريئا إلى هذا الحد، وهو
ما يمكن إعتباره الفيلم الأكثر جرأة من بين كل الأفلام الروائية الطويلة التي خرجت
من إيران حتى الآن، في نقده المرير للممارسات القمعية التي تلجأ إليها السلطات
الغاشمة التي تحكم البلاد بالحديد والنار.
إننا أولا أمام مرثية لثقافة عظيمة هي الثقافة الفارسية،
التي يمثلها مجموعة من الرموز الثقافية من الكتاب والمبدعين في هذا الفيلم،
يتعرضون حاليا، لأقصي صنوف التعذيب والإضطهاد والترويع والترغيب، فإما يهادنون ويقبلون
بالتعامل كمرشدين للنظام، يساهمون- كما نرى في الفيلم- في تعقب وتصفية زملائهم من
المثقفين الإيرانيين، أو يكون مصيرهم الحرمان والمطاردة والمنع من السفر والتعذيب
بل والإعدام بطرق عديدة بشعة مبتكرة!
إنها مرثية للكلمة، التي أصبحت مطاردة ومضطهدة ومحظورة، تدفن
داخل ثلاجة، أو داخل حاشية مقعد، أو تحرق إذا عثر عليها. وفي الوقت نفسه، مرثية
للكتاب المناهضين للنظام الشمولي الإيراني الذين يعبرون عن إحتجاجهم بالكلمات.
قصة حقيقية
تقول كتابة تظهر على الشاشة في بداية الفيلم إن أحداثه
وشخصياته تستند إلى وقائع حقيقية وقعت في إيران عبر سنوات، منها عمليات التعقب
والاغتيال والتصفية التي تعرض لها نحو ثمانين مثقفا وكاتبا وناشطا إيرانيا فيما
بين عامي 1988 و1998، كانوا يعارضون نهج النظام الإيراني.
ومن المفارقات أن مخرج الفيلم محمد روسولوف، لم
يضع أسماء الممثلين والذين تعاونوا معه في الفيلم، سواء من داخل أو خارج إيران،
على الفيلم أو في المطبوعات التي تروج له والتي نشرت ضمن كتالوج مهرجان كان، وذلك
إتقاء لما يمكن أن يتعرضوا له من أذى على أيدي زبانية النظام الإيراني.
يبدأ الفيلم من وجهة نظر إثنين من المخبرين
السريين أو بالأحرى، عملاء الأجهزة الأمنية، هما "مرتضى" وخورسو".
ولعل هذا الفيلم الإيراني هو الأول الذي يقدم وجها مركبا غير نمطي لرجل يتعاون مع
أجهزة الأمن في إيران- هو مرتضى- الذي يمارس التعقب والتعذيب البشع والقتل بطرق
مبتكرة رهيبة بدم بارد، يبرر لنفسه ما يقوم به من عمل بدافع الحاجة إلى الاستمرار
في العيش، وتحمل نفقات علاج إبنه المصاب بمرض خطير مما إقتضى إدخاله المستشفى، فهو
لا يجد تناقضا بين القتل والتعذيب الذي يمارسه، وبين الذهاب للوضوء ثم أداء الصلاة
بعد ذلك بكل هدوء، لعله يمحو بذلك ما يشعر به في داخله من إحساس بالإثم. وفي أحد
المشاهد يتساءل مرتضى-متشككا- وهو يخاطب زوجته عبر الهاتف لكي يطمئن على إبنه، ما
إذا كان المرض الذي ألم بإبنه عقابا من الله على ما يقوم به!
إنها إذن شخصية "مركبة" دراميا وليست من
تلك الشخصيات ذات البعد الأحادي، على النقيض من شخصية عميل الأمن الثاني "خورسو"
الذي يبدو أكثر تمكنا وبرودة وسيطرة على نفسه.. فهو لا يتكلم كثيرا، وهو الذي يقود
ويتحكم في "مرتضى" المذعور، بل ويقوم أيضا بتهدئة خواطره فيشرح له كيف
أن ما يقومان به من أفعال هي أمر مشروع في سياق الدفاع عن الجمهورية الإسلامية وعن
مباديء الشريعة الإسلامية، ضد أعداء الدولة الذين يريدون تقويض النظام الإسلامي في
البلاد لحساب المصالح الخارجية. وتطلق الشرطة السرية على مجموعة المثقفين
المناوئين للنظام "الناتو الثقافي"!
سياق السرد
يقوم الشكل الدرامي على بناء الفيلم البوليسي
المثير الذي تنتقل فيه الأحداث من الجلاد إلى الضحية، ومن الحاضر القاسي اللعين
إلى تذكر الماضي والتذكير به واستدعائه، من فكرة كيف يصبح الجلاد أسيرا لما يقوم
به، إلى فكرة كيف يمكن أن يؤدي الضغط العصبي الشديد على المثقف إلى دفعه للسقوط في
خيانة قضيته والوشاية بزملائه.
إنه سرد تقليدي ولكن من منظور أفلام المطاردات، مع
طابع سياسي واضح. وهو نوع من السرد يكفل جذب المشاهدين.
يتعقب مرتضى وخورسو كاتبا يدعى كاسرا يقيم في شمال
طهران، لكي يرغمونه على تسليم المخطوطة التي كتبها وتحوي شهادته على محاولة أجهزة
الأمن الإيرانية قبل سنوات، إغتيال 21 كاتبا ومثقفا معارضا في حادثة تصادم مدبرة
لانقلاب حافلة، وهي العملية التي فشلت لكن بعد ان أصبح هناك شهود عليها من
الصحفيين والكتاب يجب القضاء عليهم حتى لا يفضحوا النظام، ومن بينهم كاسرا الذي
ينفي وجود المخطوطة لديه في حين أنه كتب وترك أكثر من نسخة من تلك المخطوطة، ترك أحدها
مع زميل له سرعان ما يتم تصفيته عن طريق وضع "لبوس" سام في فتحة شرجه، بعد
إغلاق فمه (في دلالة رمزية على إسكات المعارضين بشكل مادي مباشر) وبعد أن يقتله رجل
الأمن بهذه الطريقة، يفتح الثلاجة الموجودة في منزله ويتناول منها خبزا وجبنا
ويصنع لنفسه شيئا يأكله بنهم وبرود وكأن شيئا لم يكن!
وفي السياق ذاته، نرى شخصية مثقف كان في الماضي
مناضلا ضد النظام وهو من المجموعة التي شهدت على حادثة التصادم المدبرة الفاشلة، ولكن
بعد أن أصبح الآن ضابطا يعمل في خدمة النظام، يتعقب المثقفين الذين يعرفهم جيدا، ويتفنن
في طرق تدميرهم والقضاء عليهم. ونفهم بالطبع أنه أعتقل ثم تحول تحت التعذيب في
المعتقل، إلى متعاون بحماس أيضا مع النظام.
من بين من يمارس ضدهم التهديد والضغوط والإبتزاز
مثقف يريد أن يغادر البلاد لزيارة إبنته التي لم يرها منذ سنوات بعد أن أصبح يشعر
بدنو الأجل.
واقعية رصينة
أجواء المراقبة والتعقب والتنصت على المكالمات الهاتفية
نشعر بها طوال الفيلم، كما ينتقل السيناريو ببراعة بين الأحداث وبين الشخصيات، وينتقل
المخرج بين الأماكن، من الداخل إلى الخارج، إلى الغابات النائية أو الجبال التي
تغطيها الثلوج، ويصور باقتصاد ودون أي إفراط في السرد، أدوات القهر، بعيدا عن تلك
النغمة الخطابية العالية التي تطغى أحيانا على هذا النوع من الأفلام. ويمتلك
روسولوف القدرة على تحقيق الواقعية الرصينة، مع الاختيار الجيد لأماكن التصوير،
واستخدام الإضاءة الطبيعية في المشاهد الداخلية بوجه خاص، والاستفادة من المشاهد
الخارجية في خلق تناقض بين الطبيعة وأجواء السجن والقهر التي تتجسد في اللقطات
القريبة- كلوز أب- التي تحصر فيها شخصيات المثقفين والكتاب داخل إطار ضيق خانق.
المثقف السابق- رجل
الأمن الحالي الذي أصبح مغاليا في ولائه للنظام، يريد أن يمحو تماما كل ما بقي من
أصداء تلك الحادثة القديمة، ويبحث بالتالي عن أي مخطوطة- يعرف بوجودها- يكون قد
كتبها وخبأها أي من هؤلاء الشهود.. باستخدام كل وسائل الترهيب، والتعذيب التي تصل
إلى حد غرز آلة حادة في العضو التناسلي لأحد الذين يتم تعقبهم.
وفي أحد المشاهد نرى
كيف يتم إختطاف أحد الكتاب ووضعه في الجزء الخلفي للسيارة ثم إقتياده إلى غابة
بعيدة والإقدام على قتله قبل أن تأتي التعليمات بوقف تنفيذ العملية، كنوع من الضغط
على أعصابه حتى يقبل بالتعاون. وهو ما يحدث بالفعل في حالة ذلك الكاتب الآخر كان
يصرخ في جهاز التليفون مستجديا ضابط الشرطة السرية- المثقف السابق- أن يرأف بحاله
المرضية وأن يسمح له بالسفر لرؤية إبنته في الخارج. لقد وعده الرجل أنه سييسر له
السفر خلال أسبوعين ولكن مرت بضعة أشهر ولم يسمع منه خبرا. لكننا نره في النهاية
يقوم بغسل جهاز التليفون، يرتدي ملابسه الفاخرة، يحمل حقيبته ويرحل في هدوء في حين
يظل زميله الذي قبل أن يحمل مخطوطته ويخفيها، على وفائه وصموده ويلقى بالتالي
مصيره بالموت!
روسولوف
يروي قصة شاهد الكثير من فصولها إستمع إليها من زملائه، بكثير من الحساسية
والرصانة، يتوقف أمام ما يريد التأكيد عليه بما لا يجعله يترك أي ظل من الشك فيما
تقوم به الدولة القمعية في تعقب المثقفين والتنكيل بهم، دون أن يضحي بالمستوى
الفني لفيلمه، فيحافظ على إيقاع هاديء، يتيح الفرصة أمام المشاهدين للتأمل فيما
يشاهدونه وإستيعابه، دون أن تفلت خيوط الفيلم من بين أيديهم.
"لا
تحرق المخطوطات" فيلم من أفلام الإحتجاج الجريئة التي لاشك أنها ستسبب الكثير
من الصداع للنظام الإيراني، وقد تفضي أيضا إلى مزيد من المشاكل لمخرجه الشجاع!
0 comments:
إرسال تعليق