‏إظهار الرسائل ذات التسميات سينمائيون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سينمائيون. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 5 يناير 2014

حكايات وطرائف من كواليس السينما




من فيلم "الطيب والشرس والقبيح"


يروي الممثل الأمريكي الراحل إيلي والاش عن تجربته في العمل مع المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني في فيلم "الطيب والشرس والقبيح" The Good, the Bad and the Ugly الذي قام فيه بدور القبيح، فيقول إن ليوني لم يكن يعير اهتماما كبيرا لما يمكن أن يتعرض له الممثلون منمخاطر بل كان يستغرقي في التفكير في فيلمه بحيث ينسى كل ما حوله من البديهيات، ومنها ضرورة توفير السلامة للممثلين. ويقول والاش إنه كان أن يسقط من فوق ظهر الحصان عندما كان يصور مشهدا يقتضي أن تقيد يداه خلفه ثم يتم لف حبل المشنقة حول عنقه.. وهو المشهد الذي تكرر في الفيلم وكان ينتهي كل مرة بتدخل البطل الغامض الذي قام بدوره كلينت إيستوود باطلاق النار حتى يقطع الحبل ويفلت صاحبنا من الموت. وذات مرة تم بالفعل قطع الحبل بطريقة ما كما كانوا يفعلون، لكن الحصان أخذ يجري بعيدا وإيلي مقيد اليدين لا يمكنه عمل أي شيء وابتعد الحصان بسرعة كبيرة لمسافة ألفي متر وكان صاحبنا أن يقع من على ظهر الحصان ويصاب إصابات خطيرة.
ويقول إنه تعرض أيضا للموت عندما كانوا يقومون بتصوير المشهد الذي يفلت ويداه مقيدتان بالقيود الحديدية ويلجأ لوضعها على شريط الشكة الحديدية لكي يقطعها القطار القادم.. ويأتي القطات فعلا وهو رابض بجوار القضبان ينتظر أن يمر القطار فوق قيوده الحديدية فيقطعها، ولكنهم لم يعرفوا أن القطار يتحرك الى الخارج بنحو قدم كامل وكاد بالتالي أن يصطدم برأس إيلي والاش فيقضي عليه لولا أنه أبعد رأسه في اللحظة الأخيرة لينجو بمعزة من الموت!
ويروي كلينت إيستوود عن تجربته في العمل مع ليوني في ثلاثة من أفلامه (ثلاثية الدولارات كما تعرف) فيقول إن ليوني لم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة الإنجليزية وأن الحوار معه كان عبر مترجم، وكان يستعين بالكثير من الممثلين الإسبان (كان التصوير يجري في اسبانيا) والايطاليين ومن هولندا وغيرها.. وكان كل منهم يمثل بلغته أمام الآخر، ولم يكن الممثل الي أمامه يفهم بالتالي ماذا يقوله له كلينت كما لم يكن كلينت يفهم لكنهم كانوا يتعاملون حسب الحوار المطلوب مع بعض الارتجال بالطبع. ويضحك غيستوود عندما يتذكر أن المساعدين وبعض الممثلين الثانويين (الكومبارس) كانوا يتركون جهاز الراديو مسموعا يستمعون إلى الأغاني وهم يضحكون ويلعبون الورق قرب مكان التقاط المشهد، دون أن يكلف ليوني نفسه بأن ينهرهم. وكان المخرج الإيطالي الكبير الراحال يعتمد بالطبع فيما بعد، على الدوبلاج، باستخدام أصوات أخرى لممثلين تخصصوا في القيام بأدوار أبطال معينين فقد كان هناك من تخصص من الإيطاليين في القيام بدور كلينت ايستوود، وهكذا. ومعروف أن الأفلام الأمريكية تتم دبلجة حواراتها إلى الإيطالية والأمر نفسه في ألمانيا وفرنسا.  
وهناك الكثير الذي يروى عن تطرف المخرج الأمريكي الراحل سام بكنباه وتصراته المجنونة أثناء التصوير، فقد كان معروفا بادمانه الخمر، وكان عادة يذهب الى مواقع التصوير مخمورا، ولم يكن من شدة استغراقه في التعايش مع الفيلم كأنه في حالة حلم، يدرك أنه أعاد تصوير المشهد بما فيه الكفاية، أي عشرات المرات.. ويروي مساعده أنه كان ينبهه إلى ضرورة التوقف هنا. وذات مرة أعادة تصوير مشهد ما في فيلم "أعد إلي رأس ألفريدو جارثيا" مرات عدة ثم اقتنع أخيرا بأن الاعادة الأخيرة هي الأفضل وأنه سيتوقف الآن.. ويروي الرجل كيف أنه انتهى من تصوير الفيلم تماما وحمل جميع التقنيين معداتهم ووضعوها في السيارات والشاحنات وبدأوا في تشغيل محركاتها، وكان باكنباه لايزال جالسا يفكر في اللقطة الأخيرة التي انتهى تصويرها. وعندما  سار مبتعدا عن موقع التصوير مع مساعده أخذ يقول له إن أول ما سيفعله صباح اليوم التالي أن يصور هذه اللقطة مع الممثل نفسه، ناسيا أن تصوير الفيلم انتهى ولم يعد هناك المزيد!

من فيلم "كلاب القش"

وروى كثيرون ممن عملوا مع سام باكنباه أنه كان شديد العصبية وكان يتشاجر أحيانا بشكل مكشوف مع الممثلين، ويصيح في وجوههم ويهدد بوقف العمل في الفيلم. وقد اكتسب سمعة لدى شركات الانتاج (الاستديوهات) بأنه مخرج مثير للمشاكل، كما لم يكن يعرف قيمة الوقت أبدا، فقد كان من النوع الذي ينشد الكمال دون أن يصل إليه أبدا بالطبع.
وعندما بدأ العمل في مونتاج فيلمه الشهير "كلاب القش" Straw Dogs  (1972) وكان يقوم بالمونتاج مونتير انجليزي (الفيلم كله صور في اسكتلندا) أخذ يطالب المونتير بأشياء لا يمكنه القيام بها باتصل المونتير بشركة الانتاج في هوليوود يشكو باكنباه ويقول لهم إنه مخرج جاهل لا يعرف ماذا يريد وإنه سيدمر الفيلم. وقد قام المنتج المنفذ للفيلم الذي كان موجودا في لندن، عندما علم بذلك، باستبعاد المونتير على الفور لأنه لم يكن ممكنا أن يستمر التعاون بينه وبين باكنباه.
وروى الناقد الأمريكي الراحل روجر إيبرت أن السؤال الأول الذي وجه إلى باكنباه في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد العرض الخاص للفيلم لنحو 350 ناقدا وصحفيا لفيلم "العصبة المتوحشة" The Wild Bunch جاء من سيدة قالت بكل بساطة وبشكل يعبر عن الاستنكار: لماذا صنع هذا الفيلم أصلا؟

وقد أصبح الفيلم بعد سنوات طويلة من ظهوره عام 1969 من أهم أعمال السينما الأمريكية وواحدا من أفضل أفلام الويسترن.

الثلاثاء، 26 أبريل 2011

محمد خان ينتقد تقديم شريف عرفة ومروان حامد فيلمين من أفلام الثورة

انتقد المخرج الكبير محمد خان تواجد المخرجين شريف عرفة ومروان حامد ضمن قائمة العشر مخرجين الذين قدموا الأفلام القصيرة التي سيتضمنها فيلم "18 يوم" ، والذي يتناول في مجمله رؤى مختلفة اتجاه ثورة يناير ، وتقرر عرضه في مهرجان كان السينمائي الدولي هذا العام .
وكتب خان على موقع الدستور الأصلي تعليقاً على خبر اختيار الفيلم في كان قائلاً : "من حملة الحزب الملغى 2005والإشراف على مقابلة تليفزيونية للرئيس المخلوع وإعلانهم ان مجهوداتهم تطوعية وبدون أجر إلى تقديمهم الإثنان فيلمان عن الثورة من أجل عيون مهرجان كان... عجبي" .
مشيراً إلى قيام مروان حامد بتقديم حملة الحزب الوطني المنحل عام 2005 ، وقيام شريف عرفة بإخراج اللقاء التلفزيوني المطول الذي قام به الرئيس المخلوع حسني مبارك مع الإعلامي عماد الدين أديب قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة .
قبل أن يضيف خان في تعليق آخر بأنه ليس ضد أن يقدم أي شخص أي شيء ، ولكنه فقط ضد النفاق وضد السكوت عليه ، لأن السكوت ليس دائماً من ذهب .
إلا ان المخرج رفض المخرج شريف عرفة الهجوم الذي يشنه عليه البعض حالياً بسبب اشتراكه في إخراج اللقاء التلفزيوني الشهير "كلمة للتاريخ" بين الرئيس المخلوع حسني مبارك والإعلامي عمرو أديب ، حيث أكد عرفة أن هذا كان جزء من واجبه ولا شك أن اللقاء كان يتناول ويوثق فترة مهمة من تاريخ مصر ، وهو أمر يحسب له بلا شك .
ورفض عرفة في حواره مع جريدة الشروق فكرة "القوائم السوداء" للفنانين الذين وقفوا في صف النظام ضد ثورة الشعب ، ووصفها بأنها "كلام فارغ" لأن لكل منا أخطاء لا يصح أن تظل ملتصقة به إلى الأبد ، وأضاف : "من منا لم يقم بدفع مال لموظف ما حتى ينهى مصلحته سريعا أو استغل واسطة ما ليسهل ما يريده وأقول «من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»".

وعن فيلمه القصير الجديد الذي سيعرض في مهرجان كان ضمن فيلم "18 يوم" ، قال عرفة أن الفيلم يعبر عن مشاعره وما يريد قوله اتجاه تلك الثورة ، ويقع في خط فاصل بين الروائي والتسجيلي وهو عبارة عن مشاهد من الواقع لأبطال ووجوه جديدة ، وأضاف عرفة أنه انتهى من تصوير عدة أفلام قصيرة عن الثورة بخلاف الفيلم الذي سيعرض في كان ، وسيقوم بعرضها قريباً على قناة خاصة به على موقع اليوتيوب .
وعن احتمالية تقديمه لفيلم روائي طويل عن الثورة ، قال عرفة أن هذا ليس مطروحاً حالياً لأن الثورة لم تنتهِ بعد ، ولكنه يستعد فعلياً لتصوير فيلم "إكس لارج" مع النجم أحمد حلمي .

الأربعاء، 6 أبريل 2011

تجربة مايك لي في فيلم "تعرية"





بقلم: أمير العمري


بعد ما حققه فيلم "الحياة حلوة" Life is Sweet لمايك لي من نجاح كبير، جاء فيلم "تعرية" Naked إلى مهرجان كان السينمائي عام 1993 لكي يرسخ موهبة مخرجه ومؤلفه.
وأظن أن "تعرية" هي أفضل ترجمة لإسم هذا الفيلم البديع، فالمقصود ليس الإشارة إلى العري بالمعنى الجسدي لكي تصبح الترجمة "عاري" بل الإشارة إلى تعرية الواقع، وكشف الحقيقة، وبالتالي هو يقصد التعرية بالمعنى الاجتماعي الشامل.
وقد جاء الفيلم بمثابة "نقلة" كبيرة في المسيرة الفنية الإبداعية لمخرجه مايك لي، صاحب الرصيد البارز في المسرح الإنجليزي والتليفزيون، بالاضافة إلى أفلامه الروائية الثلاثة التي سبقت هذا الفيلم، وكعمل كبير لا يتوصل إلى تحقيقه سينمائي إلا بعد سنوات طويلة من البحث الشاق، النظري والعملي، في الدراما والشكل السينمائي، حتى يمكنه تحقيق أسلوب خاص مميز هو ما سيطبع كل أفلامه بعد ذلك حتى يومنا هذا.
وكما كان فيلم "يالك من رجل محظوظ" Oh.. Lucky Man للمخرج البريطاني ليندساي أندرسون قمة ما وصل إليه مخرجه في 1973، يمكن القول إن "تعرية" – ليس قمة أفلام مايك لي، فسيصل إلى تلك القمة فيما بعد، في تحفته الكبرى "عام آخر" Another Year بعد 17 عاما، وإنما بداية الطريق الحقيقي نحو القمة. إنه شهادة بصرية هائلة عن الواقع البريطاني، وعمل يكشف عن أسلوب مميز لا يحاكي أسلوبا آخر مما سبقه.
إن "تعرية" فيلم واقعي، ومضاد للواقعية في آن. إن أساسه هو ذلك البطل الفردي، ولكنه البطل- اللابطل، أو البطل النقيض anti-hero الذي يخوض تجربة تنتهي به إلى الهزيمة. وهو فيلم عن لندن: المدينة والبشر، بل أحد أهم ما ظهر من أفلام عن تلك المدينة التي تخفي أكثر مما تظهر، لكنه أيضا فيلم عن الدنيا الواسعة، وعن الإنسان في كل مكان، في أرجاء ذلك العالم الجديد الذي اضطربت أركانه واعتزت أسسه وتضاءلت معالمه.
إنه رحلة داخل رحم مجتمع شديد التعقيد، لكنها رحلة قد تنتهي إلى ولادة الجديد أو إجهاضه، إلى تقدم الإنسان ونجاحه في تجاوز محنته، أو اندثاره ككائن لديه القدرة على ترك ما يشهد على ابداعاته وإضافاته الخلاقة إلى الطبيعة.
والطبيعة في هذا الفيلم حزينة، شاحبة. ورغم أنه مصور بالألوان إلا أن صورة الواقع المعاصر التي نراها هي صورة أقرب إلى الوحات التجريدية المرسومة بالأبيض والأسود. وإذا كان الأداء التمثيلي – كما في كل أفلام مايك لي - أحد العناصر الرئيسية التي تساهم في تكثيف دراما الانهيار الاجتماعي، والسقوط الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، والتدهور الثقافي، إلا أن الضوء الذي يحدد لنا معالم الصورة ويتحكم فيما يصل إلينا من خلالها، هو أيضا عنصر أساسي في أفلام هذا المخرج الموهوب.

ومن الممكن رصد مصادر الرؤية في فيلم "تعرية" في المسرح والأدب والفلسفة العدمية والتشككية cynicism جنبا إلى جنب مع أفكار أخرى مثل فكرة الحلم وإجهاض الحلم، وعلى صعيد الشكل، يعلي كايك لي هنا كثيرا من دور الكاميرا المهتزة التي تعكس عبثية المنظور، وهي رؤية سادت السينما الأخرى منذ تجارب المصور الفرنسي راؤول كوتار في أفلام الموجة الجديدة الفرنسية في أواخر الخمسينيات وأشهرها فيلم بلاشك، "على آخر نفس" لجان لوك جودار.

إن "تعرية" في عبارة واحدة، هو امتداد مفتوح على أفق التسعينيات، لكل من "تكبير" Blow Up لأنطونيوني من الستينيات، إلى "يالك من رجل محظوظ" لأندرسون من السبعينيات.

البطل هنا، ويدعى "جوني"، هو شاب في السابعة والعشرين من عمره، ليس ثائرا ولا متمردا على قوانين المجتمع كما كان بطل "البرتقالة الآلية" The clockwork Orange لستانلي كوبريك مثلا، فهو لا يسعى إلى الثورة أو التمرد من أجل التمرد، كما أنه لا يتباكى على فشل ثورة مايو 1968 التي تم تدجين أبطالها واستيعابهم في إطار "النخبة" السائدة، بل هو في الحقيقة ابن التسعينيات، الذي ارتضى السقوط، عن وعي وعن يقين، مدفوعا بموقف كلبي، لا مبالي، يكاد يكون منبت الصلة بعالم السياسة، وهو يندفع نحو مصيره بثبات دون أن يلتفت أبدا خلفه. إنها طاقة التدمير الذاتي المخيفة بعد جفاف الثورة، وسقوط الأيديولوجيا.

"جوني" نتاج لمجتمع البطالة، على العكس من بطل أنطونيوني في "تكبير" الذي كان نتاجا لمجتمع الوفرة في الستينيات. وهو أيضا نتاج للتشرد والحرمان والتهميش وانهيار القيم الطبقية القديمة في حقبة مرجريت تاتشر وما بعدها، حيث انتفى الحلم في الصعود اعتمادا على "الموهبة" أو الجدارة وحدها، وأصبح يتركز في القدرة على التلاعب والغش والاندماج في لعبة الفساد الاجتماعي.

إن جوني شاهد ومشارك في آن. هو إذن يجمع بين المتناقضات: العفونة والانتهازية التي لا يسعى لتبريرها، والرثاء الرقة والعاطفة التي يحاول في معظم الأحيان، إخفاءها. وهو لا يبرر، بل يمنطق الأشياء بمنطق المثقف، فقد كان في الماضي معلما، لكنه هجر التعليم لإحساسه الشخصي بالعبث.. عبث الواقع، لكنه اللامنتمي "الكلبي" وليس اللامنتمي المتفلسف ففلسفته تبرر كل شيء رديء. وقد قرر أن ينحدر طواعية الى الدرك الأسفل عن طريق الإغراق في الجنس والمخدرات وغشيان العالم السفلي حيث يجتمع الهامشيون والمنبوذون من جيل الشباب الذ اختار القطيعة مع الواقع.

يبدأ الفيلم بجوني في إحدى أزقة مدينة مانشستر مع بائعة هوى قبيل انبلاج الفجر، يمارس معها ساديته العنيفة التي تشي بطبيعة تكوينه المضطرب، حتى تكاد المرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلا أنها تتمكن من ضربه ثم الإفلات منه والنجاة بنفسها مهددة متوعدة. ويقرر "جوني" أن يغادر المدينة بأسرها فرارا مما قد ينتظره من مشاكل محتملة. إنه يسرق سيارة ويقودها الى لندن، العاصمة الفسيحة التي يتوه فيها النهار في أحشاء الظلمة.

وفي لندن يلتقي جوني بصديقته السابقة ورفيقتها في السكن. وتجذبه هذه الفتاة الأخيرة بضياعها واستعدادها الواضح للانسياق معه في نزواته الغريبة، فهي مثله، تشعر بقسوة الدمار الداخلي وتسعى إلى مده على استقامته.

ترتبط الفتاة به وتلتصق به كظله، ويمارس الاثنان معا التدهور بشتى صوره وأكثرها قسوة وإغراقا في العنف إلى أن يشعر جوني بوطأة الفتاة واثقالها عليه فيهجرها دون أن يهجر المسكن الذي يعود في الواقع إلى ممرضة ذهبت في رحلة طويلة إلى افريقيا.

يترك جوني العنان لنفسه، كبطل تراجيدي يسعى تجاه مصيره، لا تحركه الأقدار العاصفة بل طغيان الإحساس بالدمار. وهو يلتقي بعد ذلك بشاب شبه مختل عقليا جاء من اسكتلندا، وأصبح ضائعا في فراغ لندن، يبحث عن صديقة له تدعى "مرجريت" طيلة الوقت، ثم يلتقي جوني حارسا ليليا يؤدي عملا روتينيا في إحدى الشركات، ويقضي معظم الوقت في القراءة، أو في التلصص على امرأة في خريف العمر، ترقص وحدها وتتعرى في غرفتها ليلا. وينتهي حوار بين جوني والحارس الليلي الى انهيار قناعات الرجل تماما فيسلم قياده إلى جوني، أي أن منطق البطل النقيض anti-hero يفرض هنا نفسه بشكل سحري، على كل من يلتقي بهم "جوني" من الشخصيات اللندنية المهزومة سلفا، باستثناء شخصية واحدة لا يمكنه أن يفرض إرادته عليها هي صديقته السابقة "لويز" التي تشعر بالرثاء له، وتحاول باستمرار رده الى ذاته واستعادته إلى حقيقة نفسه، كما تسعى لاستعادة ما كان بينهما من حب. وفي اللحظة التي تتصور أنها قد نجحت في سعيها تكون الخيوط قد أفلتت بشكل نهائي من بين يديها. تجتمع جماعة من الشباب حليق الرءوس، يوسعون جوني ضربا، فييكسرون ساقه، ويستولي هو على بضعة جنيهات من منزل لويز ويغادر المنزل وهو يسير بصعوبة بالغة، حيث يترك نفسه في شوارع لندن المقفرة الباردة، يتجه صوب لاشيء، نحو المجهول.

يعتمد هذا الفيلم في المقام الأول، على البناء المحكم للشخصيات، وبالتالي على عبقرية الأداء التمثيلي لمجموعة الممثلين وفي مقدمتهم الممثل ديفيد ثيوليس في الدور الرئيسي.

في الفيلم شخصية شديدة الأهمية لشاب ينتمي للطبقة الوسطى الميسورة، يجسد مايك لي من خلاله، ما بلغته هذه الطبقة من تدهور واغراق في الملذات الحسية بشتى الطرق وأكثرها تطرفا وشذوذا، دون أن تبالي بما يحدث حولها. لقد أصبحت جزءا من ذلك التدهور وكأنها تسير نحو نهايتها.

هذا الشاب، الذي يدعى سباستيان، يغشى الحانات والمطاعم الفاخرة، يتمكن بوسامته وبما يملكه ويبعثره من مال، من إغواء أي فتاة جذابة تقع عليها عيناه: من الساقية، إلى أخصائية التدليك، وهو يذهب في تطرفه إلى درجة أن يقرر في النهاية أن يسيطر على مستأجري المنزل الذي يملكه، فيذهب الى المنزل حيث يقيم جوني مع لويز ورفيقتها، ويحاول إغواء الفتاتين، ويعرض على إحداهن مالا، وتقبل هي بسبب عزلتها وانسحاقها وإحساسها الواضح بالانسحاب من الحياة. ومقابل ذلك يمارس معها ما يشاء من شتى أنواع الشذوذ السادي المريض إلى أن توشك على الانهيار. لكنه يتشاجر مع لويز فيقرر البقاء في المنزل والاستيلاء على الشقة التي تقيم فيها الفتاة، ولا تنجح كل محاولات الفتاتين في اخراجه من تلك الشقة إلى أن تعود فجأة صاحبة الشقة من رحلتها الافريقية.

هذه المرأة ممرضة لاتزال تتمسك بتقاليد الطبقة الوسطى، وتتخيل أن المجتمع الذي تركته قبل غيابها لسنوات باق على ما كان عليه، غير مدركة لما وقع من تدهور سريع. إنها تفاجأ بانهيار النسق القديم بفعل ما تلحظه داخل مسكنها نفسه من مفارقات وطبيعة ما أصبح يضمه من شخصيات غريبة، انتهت علاقتها بالحياة الواقعية فأغرقت نفسها في الخيال المريض، يسعون جميعا لستر إحساسهم بالرعب الاجتماعي عن طريق الإغراق في الجنس في أدنى صوره.

ويعبر مايك لي من خلال السيناريو المتميز الذي كتبه، عن صدمة الفتاة بأن يجعلها، ليس فقط عاجزة عن القيام بأي تصرف إيجابي، بل وعاجزة عن نطق الكلمات التي اعتادت عليها على نحو صحيح.. الأمر الذي ينتج عنه اضطراب لغوي مثير للضحك.

ويتحكم مايك لي في الأسلوب الواقعي الصارم الذي يصل في الكثير من المشاهد الخارجية إلى الواقعية التسجيلية، بتركيزه على أدق التفاصيل في الواقع. ولكن الواقعية هنا تخرج بشكل ما، عن نسق الواقعية القديمة، ففي سياق الفيلم، وعلى الرغم من كثرة مشاهد العنف، تظل هناك لمحات شاعرية خاصة من خلال التصوير الذي يضفي غلالة ضبابية خاصة على لقطات الليل والنهار، وهي غلالة تضفي أيضا إحساسا بالاختناق وكأننا نغرق داخل أحشاء مدينة جهنمية لا يعرف من يدخلها أنها ستبتلعه.

ويساهم الطابع التجريدي للصور التي تقترب من الأبيض والأسود، في كسر حدة الواقعية وإضفاء لمسات جمالية خاصة، نشعر بها ونحسها، دون أن تنحرف بأنظارنا عن متابعة الشخصيات. إنها الواقعية الشاعرية التي تتجسد من خلال الكثير من الإشارات الكامنة داخل الصور، والتي تنتج عنها علاقة ذهنية وثيقة بالواقع الاجتماعي والانساني دون أن تكون الصور مباشرة في دلالاتها.

وكما في كل أفلام مايك لي، رغم قتامتها وعنفها وقسوة ما تعيشه الشخصيات، هناك الكثير من اللحظات والمواقف الضاحكة التي تنبع الكوميديا فيها من التناقضات في السلوك، والافراط في التعبير عما يجيش في الصدور، والمبالغة في تصوير الإنسان داخل المأزق الإنساني، ومحاولاته الإفلات من مصيره دون نجاح يذكر.

إنها رحلة "أبوكاليبسية" تجمع في طياتها بين أشياء كثيرة: الفرد والمجتمع والطبقة والقيم الجديدة- القديمة، الضحك والبكاء والمرض والإيذاء البدني والنفسي (ولكن بعيدا عن منطق التحليل النفسي الدرامي).. أو هي تجمع ببساطة، بين البدء والمنتهى، في صيرورة حتمية.

ربما نشعر في النهاية أن العالم ينهار بفعل قوة سحرية خارقة، لكن مايك لي يؤكد أن انهياره ناتج أساسا، عن انهيار الإنسان، وأن الإنسان سيتمكن من بدء مسار جديد إذا ما استيقظ من غيبوبته التي استسلم لها طواعية، وهو ما يجعل من "تعرية" رغم كل تشاؤمه، عملا متفائلا يشعل بالأمل في مستقبل افضل.


الأربعاء، 1 ديسمبر 2010

لعنة الحياة الطويلة: الميتة التراجيدية لماريو مونتشيللي

عاش المخرج الإيطالي العظيم ماريو مونتشيلي 95 عاما (من مواليد 1915). وأنهى حياته بالانتحار مساء الإثنين بعد ان ألقى بنفسه من شرفة في مستشفى بروما كان يعالج به من مرض سرطان البروستاتا.
وهكذا لقي مونتشيللي مصير والده الذي أنهى حياته بالانتحار عام 1946.
مونتشيللي صاحب الأفلام البديعة التي وضعت السينما الإيطالية على خريطة السينما في العالم ربما أكثر من أي مخرج سينمائي آخر في ايطاليا، لاشك أنه كان يعاني من تلك اللعنة التي يصاب بها البعض عندما يعيشون حياة طويلة ممتدة ولكن بلا أمل في استعادة القدرة على الإبداع، على العمل، وعلى الحركة كما كانوا وهم يتمتعون بالصحة والعافية. ولاشك أن الاكتئاب وراء الدافع إلى انتحار مونتشيللو، وإحساسه بالأسى على مصيره الشخصي وعلى ما حل بالعالم من حوله، وهو مصير مشابه، لمصير الكاتب الياباني الكبير كاواباتا (حائز جائزة بول في الآداب عام 1968) الذي انتحر عام 1972.
حصل مونتشيللي على جائزة الأسد الذهبي من مهرجان فينيسيا السينمائي عن مجمل أعماله عام 1990، كما رشح للأوسكار عن فيلم "صفقة كبرى في شارع مادورنا" الذي اقتبسه لوي مال في فيلم Crackers عام 1986، وتحول بعدها الى مسرحية موسيقية أيضا قدمت في برودواي، ثم بوب فوس في فيلم "الصفقة الكبرى" عام 1986.
كرمه مهرجان فينيسيا في 2009 عندما عرض فيلمه الكلاسيكي الكبير "الحرب العظمى" (1959) في اليوم السابق للافتتاح الرسمي، وهذا يعد إحدى التحف التي أخرجها مونتشيلي والذي جاء الى المهرجان وهو في الرابعة والتسعين من عمره، لحضور عرض فيلمه الذي تمكنت ستديوهات مدينة السينما في روما من استعادته وانقاذ الأجزاء التالفة منه، بمساعدة مصوره العظيم جيوسيبي روتونو الذي تمكن بفضل التقنيات الحديثة في مدينة السينما، كما استعادت الطابع الخاص لمشاهده ولقطاه، والرونق القديم الساحر للتصوير بالأبيض والأسود.
وكان هذا الفيلم، الذي يقوم بدوري البطولة فيه ألبرتو سوردي وفيتوريو جاسمان، قد حصل مناصفة، على جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا 1959 مناصفة مع فيلم "الجنرال فيلا روفييري" للمخرج الكبيرالراحل روبرتو روسيلليني الذي يعد رائد الواقعية الجديدة في السينما الايطالية.
مونتشيللي الذي قدم الكثير من كبار نجوم السينما الايطالية مثل فيتوريو جاسمان وتوتو ومارشيللو ماستروياني وكلاوديا كاردينالي، وقدم اجمل الكوميديات، كان أيضا متمردا عظيما على النظام السياسي العتيق في بلاده. وكان دائم السخرية والهجوم على رئيس الحكومة الايطالية بيرلسكوني في السنوات الأأخيرة، كما قام بتحريض الطلاب العام الماضي على التمرد ضد اللوائح الجديدة للتعليم.
وكان آخر أفلامه فيلم "أزهار الصحراء" عام 2006.
ولاشك أن مونتشيللي الذي لم يستطع البقاء على قيد الحياة عاجزا بفعل المرض، عن الإبداع، مفضلا أن يأخذ حياته بيده، قد نقش اسمه بحروف من الذهب في تاريخ السينما إيطاليا والعالم.

الاثنين، 28 يونيو 2010

شاشات وأحداث: وودي ألين وكوبولا وجودار وديفيد لينش


* على شاشات لندن يعرض حاليا فيلم "مهما حدث" Whatever happened للمخرج الأمريكي وودي ألين، وهو فيلمه التاسع والثلاثون، وقد أخرجه قبل فيلم "ستقابلين غريبا طويلا أسمر" الذي عرض في مهرجان كان هذا العام، وقبل فيلمه الأحدث الذي يستعد للبدء في تصويره وهو بعنوان "منتصف الليل في باريس" Midnight in Paris
وودي ألين في الخامسة والسبعين من عمره حاليا، فإذا عرفنا أنه بدأ الإخراج للسينما منذ 1966، وأنه أخرج أيضا أربعة أفلام للتليفزيون، وفيلما قصيرا أو جزءا ضمن فيلم طويل، يكون فعلا مستمر في إخراج فيلم كل تسعة أشهر تقريبا، وهو إنجاز كبير من حيث الكم بكل تأكيد. والغريب أن وودي ألين لديه دائما ما يقوله، حتى لو لم يوفق تماما في قوله، مثلما حدث في فيلمه الأخير الذي تناولته عند عرضه في مهرجان كان الشهر الماضي. أما الفيلم المعروض حاليا في لندن فيستحق المشاهدة.
* من الأفلام الجديدة التي تشاهدها لندن حاليا فيلم "تيترو" لفرنسيس فورد كوبولا، وهو فيلم شخصي لاشك أن مخرجه يتحرر فيه كثيرا من سطوة شروط شركات الإنتاج في هوليوود، ويعبر عن تجربة خاصة عائلية، إلا أنني لم اجده جديرا بالثناء الكثير، ففيه الكثير جدا من الجمود، الذي يتعلق بطول المشاهد، وطول الحوارات، وانحصار المشاهد في ديكورات داخلية، نادرا ما تتغير، واعتماد التمثيل على الأداء المسرحي المغالى فيه، وهذا، على الرغم من محاولات كوبولا الجمالية في استخداماته للتصوير بالأبيض والأسود. أضف إلى ذلك أن الفيلم لم يتجاوز نطاق الدراما العائلية السيكولوجية الخاصة التي تفتقد إلى ما يعرف بـ"البعد الإنساني الأشمل" أو universal level بحيث تلقى صدى لدى الجمهور خارج نطاق الدائرة المحدودة التي تدور فيها. أقول قولي هذا وأستدرك بالقول إن لكل إنسان بطبيعة الحال، الحق في رؤية الأشياء حسب نظرته الخاصة، وثقافته الشخصية، وتكوينه الفكري. غير أن "البعض" يعيب على "البعض" الآخر، أنه لم يعجب بما أعجبه من أفلام.. أو أنه معجب بما لم يعجبه، وهي قمة الفاشية التي لا أرى لها مثيلا في الثقافات الأجنبية، فهي ظاهرة قاصرة فقط بكل أسف، على النقد العربي والثقافة العربية، فالكثير ممن يكتبون بالعربية يبدأون عادة مقالاتهم بتوجيه انتقادات لاذعة لما كتبه الآخرون عن الفيلم الذي يتناولونه، والتقليل من شان كل ما ظهر من كتابات حوله، ومحاولة إثبات أنهم الأقدر على الفهم، والأكثر إدراكا لمغزى العمل، وأن الآخرين متخلفون، وحمقى، وليسوا على مستوى الكفاءة.. إلخ، كما لو كان التقليل من شأن ما يكتبه الآخرون، يمكن أن يرفع من شأن أي كاتب، أو أي شخص ممن تعلموا الكتابة بالامس القريب فقط، واكتشفوا أمس الأول، وتصوروا أن السينما يمكن أن تكون مسألة بسيطة، لا تحتاج إلى ثقافة ومعرفة وعلم وخبرة ومشاهدات مكثفة حقيقية ضمن سياق فكري وفني محدد، وليس بشكل عشوائي، يميل إلى الانبهار المسبق، بكل ما يصنع من أفلام في العالم، ويعتبرها جميعها تحفا كبيرة، خصوصا لو اتفقت مع مفاهيمه المراهقة عن السينما!
كلمة أخرى هنا: إذا كان أحد يريد أن يكون كاتبا أو ناقدا، فلماذا لا يكتب مباشرة، يقول لنا كيف يرى الأشياء أو الأفلام، وماذا يرى فيها، وكيف يحكم عليها، ويقيمها، ويقومها، دون أن يجعل مما يكتبه مادة متذيلة أو ذيلية، يرد فيها على كتابات آخرين، وينطلق فيها استنادا على مجهود غيره، ورؤية كونها غيره، واجتهادات جاءت من طرف غيره، لكي يستلمها حضرته، ويقوم بتسفيه ما ورد فيها، والتقليل من شأنها، والرد عليها ومقارعتها، متصورا انه بهذا، سيجعل من نفسه شخصا ذا شأن. وسؤالي البسيط هو: من أين سياتي هذا الكاتب بمادته في حالة توقف "الكتاب الذين يلهمونه الكتابة" عن كتابة مقالاتهم التي لا تعجبه حتى من قبل أن يكتبها أصحابها، ومن قبل ان يقرأها هو!
* وقد رأينا أخيرا ظاهرة أخرى، هي الدفاع عن اختيارات مديري المهرجانات الغربية الكبيرة، والهجوم الشرس على كل من يوجه لها انتقادات مشروعة في كل الأعراف والثقافات، أيضا تحت تصور فاشي يقوم على فكرة أن الدفاع عن مدير مهرجان دولي ما، واجب وضرورة مقدسة، تنسجم مع تلك النفسية المنافقة في الاصل والأساس، أو أن "الأجنبي" أي الخواجة، أكثر فهما ومعرفة بالضرورة من "أبناء الثقافة المشتركة"، خصوصا وأن هذا النوع من أنصاف الكتبة، لا يحظى عادة بالاحترام في أوساط المهرجانات الدولية، التي يتزلف وينافق ويقدم الهدايا والعطايا إلى المسؤولين عن مكاتبها الصحفية، من أجل الحصول على "بطاقة" صحفية، توفر له التردد على الأفلام تحت تصور أن مشاهدة أكبر عدد من الأفلام دون القدرة على هضمها، يضفي على مثل هؤلاء الأشخاص قيمة ما، في حين أنهم محتقرون تماما من طرف مديري المهرجانات. وقد استمعت بنفسي أكثر من مرة إلى شكاوى الكثير من مسؤولي بعض المهرجانات الدولية، الذين أخذوا ينتقدون أمامي بقسوة وسخرية، هذا النوع من المتطفلين، وإلى شكاواهم من تحايلاتهم من أجل الحصول على الاعتماد ضمن الصحافة السينمائية، لكن هؤلاء المديرين يقولون إنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا لأن هناك "جهات" صحفية عربية، يحصل منها هؤلاء على خطابات تزكية. وإذن العيب وأصل الفساد موجود عندنا، في صحفنا ومؤسساتنا التي تفضل التعامل مع هؤلاء "الأنصاف" (جمع نصف).. لأنهم مثل الأحذية، يكمن خلعها في اي وقت.. وسأكتفي بهذا الآن، لأني أرى ان هؤلاء لا يستحقون أكثر من هذه "القرصة" الصغيرة بحجم ما هو كائن تحت قشرة أدمغتهم الصغيرة!

* نسخة جديدة حديثة مجددة من الكلاسيكية الشهيرة "على آخر نفس" أول أفلام جان لوك جودار من عام 1959 تعرض حاليا للأجيال الجديدة التي لم تشاهدها أو شاهدتها من خلال الأسطوانات الرقمية، أي على شاشة التليفزيون. الاحتفال بهذا الفيلم يجب في رأيي أن يتركز، ليس فقط على دور جودار كمخرج، بل وبالموازاة وعلى نفس القدر والمستوى، إلى مصوره راؤول كوتار، الذي لعب دورا بارزا في تشكيل ملامح سينما الموجة الجديدة الفرنسية في الستينيات.
* مهرجان إدنبره السينمائي اختتم أخيرا الدورة الرابعة والستين، أي أنه أقدم من مهرجان لندن السينمائي، وهو يقام في المدينة الاسكتلندية الجميلة التي تتميز بأجوائها الحميمية الرائعة، في نفس الوقت مع مهرجان ادنبره الدولي للفنون: المسرح والموسيقى والفن التشكيل والرقص. ومثل مهرجان لندن، لا يمنح مهرجان إدنبره السينمائي جوائز ولا ينظم مسابقة دولية، لكنه ابتدع منذ سنوات، مسابقة محدودة قاصرة على الأفلام البريطانية الجديدة فقط، تمنح جائزة كبرى باسم المخرج الراحل مايكل باول. وقد ذهبت هذه الجائزة هذا العام إلى فيلم "هياكل عظمية" Skeletons وهو من نوع الكوميديا ويقوم بطلاه بدوري طاردين للأرواح الشريرة، ويقعان في سلسلة من المآزق. عرض الفيلم في لندن سيبدأ في نهاية الأسبوع الجاري (الجمعية القادم). وهو توقيت سيء لأن الجمهور مشغول حاليا بمتابعة مباريات كأس العالم التي تعرض يوميا في التليفزيون العمومي (بي بي سي وآي تي في) أرضي وفضائي بدون أية قيود، وليس مثلما هو الحال في العالم العربي الذي عرف منذ مدة، حكاية احتكار من يملك المال حق شراء وبيع هذه المباريات لغيره من المحطات، وهي مشكلة تؤذي الجمهور وتسبب الاحباط للجهات المسؤولة، ويبدو لي الأمر اشبه بالابتزاز الذي يحتاج إلى كفاح حقيقي ضده من أجل إسقاطه، وان على ثقة أن الجمهور في بلادنا يعرف كيف يخترق النظام، أي نظام، عندما يشاء!
* أخيرا، نشر المخرج الأمريكي الكبير ديفيد لينش على موقعه على شبكة الانترنت إعلانا يدعو من خلاله، محبيه إلى التبرع، كل منهم بمبلغ خمسين دولارا للمساهمة في إنتاج فيلمه القادم، والمفأجاة أنه سيكون فيلما وثائقيا يروي فيه قصة حياته والمؤثرات التي ساهمت في تشكيل رؤيته وثقافته. وقد أراد تحرير الفيلم بالكامل، من ضغوط الشركات، ولذا لجأ إلى فكرة التمويل العام، أي جعل الجمهور طرفا مباشرا في إنتاج الفيلم، مقابل هدية تشجيعية تتلخص في الحصول على ملصق من الفيلم الذي يحمل رسما للمخرج الكبير وعليه توقيعه، وسيصدر هذا الملصق في طبعة محدودة تقتصر في توزيعها على المتبرعين كما فهمت. وفهمت أيضا أن من الممكن شراء الملصق أو قميص تي شيرت أو حقيبة صغيرة يكون مطبوعا على كل منها صورة الفنان السينمائي. ومن يرغب في الحصول على نسخة، والتبرع لدعم هذا الفيلم، عليه الدخول إلى موقع ديفيد لينش من هنا:
www.lynchthree.com

الاثنين، 3 مايو 2010

زيارة جديدة الى سينما يوسف شاهين


بقلم: محمود عبد الشكور

على الرغم من كثرة المقالات والدراسات التى كُتبت – وستُكتب – عن عالم وسينما يوسف شاهين، إلا أننى ممن يعتقدون أننا مازلنا نقف على شاطئ إبداعه. هناك جوانب كثيرة لم يتم التطرق إليها ، وجوانب أخرى دُرست بالفعل ولكن على عجل . سينما يوسف شاهين لاتبوح بأسرارها من مشاهدة واحدة خاصة أعماله الكبرى ولكنها تكشف فى كل مرة عن سرّجديد وزاوية مدهشة ولمحات لا تخطر على البال .
فى هذا المقال دعوة لزيارة جديدة الى عالم شاهين أهم مخرجى السينما المصرية وأكثرهم ثراء وتنوعا ، ودعوة أيضا للتأمل والحوار والمناقشة حول جوانب لاتُطرق كثيرا فى عالمه الواسع ، أو لنقُل أنها رءوس موضوعات تستحق الدراسة المُعمّقة ، وباستخدام مناهج فى التناول أكثر ابتكارا وتحرراً من التناول الأكاديمى التقليدى .
* هناك مثلا نهايات أفلامه التى تبدو أحيانا كما لو كانت أفلاما صغيرة ذات طابع ملحمى . فى فيلم( ابن النيل ) مثلا. وبعد مشاهد ثورة طوفان المياه ومحاولات الأم الشابة ( فاتن حمامة ) البحث عن ابنها الصغير وإنقاذه ، يظهر فى الأفق الزوج الضال العائد ( شكرى سرحان )، وينجح فى العودة بالصغير ، ثم يكتشف من نظرات الأم أن الطفل هو ابنه الصغير . يلتئم شمل الأسرة ، وتقترب الكاميرا لتسجل هذا المشهد العائلى. لكن( شاهين) لا يكتفي بذلك حيث يعود بالكاميرا سريعا الى الخلف لتد خل الى الكادر أشياء أخرى هامة : السماء والأرض والأفق الواسع الذى لاوجود له فى المدينة ، وكلها عناصرتلعب طوال الفيلم دوراًمحورياً حضوراً أوغياباً . لقد تحوّل اللقاء البسيط الى احتفاء كامل بالحياة وبالطبيعة وبالأرض وبالإنسان وكأنه يغلق قوسا كبيراً ، او يرسم اللوحة المشهدية الأخيرة فى جدارية كبيرة .
ستجد هذه النهايات الملحمية المشهدية بالغة القوة والتأثير فى أفلام كثيرة أخرجها شاهين وكأنه يحاول تخليد أبطاله . فى (صراع فى الوادى) سيتحوّل المعبد الى مسرح ضخم يسجل تراجيديا الأحفاد وسط شواهد عظمة الأجداد . وفى( باب الحديد ) ستتحول المحطة الى مسرح كبير يسجل جنون( قناوى) وسط نظرات الحزن من عيون عاشقة صغيرة لحبيب مستحيل، وفى ( الناصر صلاح الدين) ستتحول شوارع أورشليم الى مسرح لوداع (ريتشارد) وجنوده ، ثم يصعد ( صلاح الدين) الى ربوة عالية شاكراً وحامداً ومؤكداً طبيعته المتسامية، وفى ( الإبن الضال) مذبحة عائلية وشباب هارب نحو الشمس الصفراء . وفى( الأ رض) تتحوّل حقول القطن الى قماشة لوحة مشدودة يرسم عليها شاهين مأساة (محمد ابو سويلم ) بالأبيض والأخضر والأحمر والأسمر. وفى نهاية (الإختيار) مشهد ملحمى آخر لجنون مثقف ، وفى ( العصفور) ينطلق عصفور من القفص فيخرج شعب من الأسر ، وحتى فى فيلمه الأخير الذى أخرجه مع تلميذه خالد يوسف، يملأ الناس الكادر فى مشهد النهاية بعد أن انفرد بالصورة أمين شرطة مريض . فى كل هذه النهايات يبدو النفس الملحمى قوياً وحاضراً ومؤثراً .
* لم تُدرس بجديّة تجربة يوسف شاهين الممثّل . فى رأيى المتواضع أنه كان ممثلا ًعبقرياً ولكن المخرج بداخله كان يسيطر عليه ويحدّ من ابداعه بل ويستنزفه ويحركه كالدُمية فى بعض الأحيان ، ورغم أن شاهين من أكثر مخرجينا فهماً وبراعة توظيف امكانيات الصورة إلا أنه – مع حسن الإمام - من أكثرهم تأثراً بفن المسرح . كان حسن الإمام مفتونا بمسرح (رمسيس) فاستوحى عالمه فى السينما من خلال لقطات طويلة ممتدة ، ومواقف ميلودرامية صاخبة، وكان يوسف شاهين مفتونا دوماً بمسرحيات( شكسبير) وتحديداً مسرحية (هاملت )، لذلك انعكس هذا الإعجاب على إدارته لممثليه الذين بدوا أنهم يعانون أحياناً من أضطرابات أمير الدانمارك ومظاهرها العُصابية . عندما تكون الشخصية تسمح بذلك كما فى نموذج (قناوى) أو بطل فيلم (الإختيار) تكون النتيجة رائعة، ولكن عندما لاتحتمل الشخصية مثل هذه التوترات تكون هناك مشكلة واضحة فى إدارة الممثلين ، وقد ينتقل التوتر الى المتفرج !
فى رأيى أننا افتقدنا عمل شاهين الممثل الفذّ مع مخرجين كبار أكثر اعتدالاً من شاهين فى إدارة الممثل وأخصّ بالذكر تحديدا هنرى بركات وكمال الشيخ. لو عمل شاهين تحت إدارة هذين الكبيرين لشاهدنا روائع حقيقية . أرجو أن تعود الى فيلم اسماعيل ياسين فى الطيران لترى كيف اكتشف فطين عبد الوهاب فى شاهين قدرات كوميدية خطيرة خطفت الأضواء فى مشاهد قليلة من إسماعيل ياسين شخصيا.
* لم يتوقف كثيرون عند زاوية مهمة فى أفلام شاهين هى اهتمامه بالجانب الدينى عند الإنسان رغم أنه ينطلق عموما من نظرة إنسانية واسعة ومتحررة . الدين فى سينما شاهين ليس مجرد عبارات ومحفوظات ولكنه طاقة روحية تدفع الى الأمام . رجل الدين الحقيقى ( يحيى شاهين مثلا فى ابن النيل ) هو ممثّل الخير والمخلّص بمعناه الواسع ، وهو أيضا المحرّض على الثورة (صلاح ذو الفقار فى وداعا بونابرت)، ولكن شاهين ضد الذين يستخدمون الدين لتحقيق مغانم دنيوية ( الشيخ شنّاوى فى فيلم الأرض)، أو مكاسب سياسية (رئيس الجماعة الذى لعبه عبد الوراث عسر فى فيلم اسكندرية ليه) . الإيمان فى سينما شاهين فطرى وبسيط ومباشر وأفضل نموذج يعبر عنه هو تلك المرأة المسيحية (احسان شريف) التى فقدت طفلها فى فيلم (الناصر صلاح الدين) ، فلما أعادوه اليها هُرعت الى الكنيسة لتشكر الربّ ولتحتفل بعيد الميلاد .
الإيمان عند شاهين هو إيمان الفلاحين البسطاء الذين لايجدون وسيلة لإنقاذ بقرتهم فى فيلم (الأرض) إلا بالدعاء معا : " يارب .. يارب " ليتكامل الدعاء مع العمل يداً بيد وجسداً بجسد . فى أفلام (شاهين) حالة عجيبة من الروحانية رغم شهوانية أبطالها ، وإذا كانت كل الأديان تدعو الى الخير وترفض الشر والظلم فإن سينما شاهين دينية جدا بهذا المعنى الواسع . هناك فى أفلامه بصيص من النور ، طفل صغير قادم عند الأفق ، عيون مشرقة تحلم بالغد ، ملاك حارس ومخلّص قادم ، واحتفال دائم بالحياة باعتبارها النعمة الكبرى . لم يزعم شاهين أنه رجل مثالى ، ولم يعتقد أن الإنسان ملاك مجنّح ، لكنه يستطيع أن يزعم بملء الفم أنه قدّم بشراً يحاولون أن يعترفوا بالمعنى الدينى الكاثوليكى ، بشراً يحاولون إصلاح عيوبهم ومواجهة نقائصهم بقدر ما تسمح بذلك طبيعتهم البشرية ، وبهذالتركيزعلى فكرة الإعتراف والمراجعة ونفى أكذوبة الكمال الخادعة ، فإن سينما شاهين تبدو أخلاقية جدا رغم حرية أبطاله فى الفعل والتصرف والإختيار . يكفيه أنه يترك مهمّة إدانة الإنسان لخالق الإنسان باستثناء محاكمته لنفسه وللمقرّبين منه ، ولعلها شجاعة لايعادلها سوى تسامحه مع الذين لم يعرفهم. المهم أنه يتحدث عن الإنسان الأرضى وليس السماوى . الإنسان كما هو وليس الإنسان الإفتراضى كما نحلم به أن يكون !
* لم تُدرس بالقدر الكافى تجربة يوسف شاهين بأن يخرج صوتاً متميزاً ومختلفاً من قلب سينما تجارية حتى النخاع . صحيح أنه اضطر – كما قال – أن يقدم أفلاما لأنه لم يكن فى منزله سوى علبة (تونة) ، ولكن حتى هذه الأفلام مثل الكوميديا الجميلة( أنت حبيبى) ستجد فيها بصمة شاهين الخاصة واتقانه لكل مشهد مهما كان بسيطاً مع الولع بالإبتكار كلما كان ذلك متاحاً . لقد لعبت الصدفة دورها فى اخراج شاهين لبعض أفلامه الهامة مثل فيلمى (جميلة) و(الناصر صلاح الدين) ، وأنتجت له مؤسسة السينما رائعته (الأرض)، ولكنه أيضا قرر الإستمرار بوسائل مختلفة ولم يستسلم أبدا مثل زميله الكبير توفيق صالح. هرب شاهين الى لبنان ليخرج فيلما جيدا لفيروز هو( بيّاع الخواتم )، ثم فيلماً لم يكن راضيا عنه هو( رمال من ذهب )، ولكنه اكتشف مبكرا أن عليه أن يعود ، وأن على المخرج فى دول العالم الثالث ألا يكون صاحب موهبة ورؤية فقط بل يجب عليه أيضا أن يكون مقاتلاً ، ولولا تجربة شاهين فى الانتاج المشترك من خلا ل شركته الخاصة مع الجزائر ثم مع فرنسا لجلس فى منزله، أو لانتهى مثل بركات القدير الذى اضطرّ لإخراج أشياء مثل( بنت اسمها محمود) و(العسكرى شبراوى)، أو ربما مات محسوراً مثل شادى عبد السلام الذى حاول تنفيذ( إخناتون ) دون جدوى .
تجربة شاهين ليست ابداعية فقط ولكنها إنسانية واقتصادية وتجارية . يقول عنه منتجه وابن شقيقته جابى خورى ان شاهين مخرج غير مكلّف لأنه يعرف بالضبط ماذا يفعل وماذا يريد ، ولأنه يقوم بالتحضير طويلاً قبل التصوير ، ويقول جابى أيضا أنه لولم تكن أفلام شاهين تغطى تكاليفها لما استمر طوال هذه السنوات . كان شاهين مدركا ًطول الوقت – وهذا الأمر من أهم دروس تجربته – أنه يقدم إبداعه من خلال صناعة وتجارة وليس من خلال ورقة وقلم أو ريشة وفرشاة و(باليتة) ألوان !
* لدىّ أسئلة كثيرة يمكن أن تكون موضوعات للحوار حول عالم (شاهين ):كيف استفاد مثلا من التأثر المزدوج بالسينما الأمريكية والسينما الأوربية معاً على اختلافهما ؟ كيف تطوّرت رؤيته السياسية من الستينات الى التسعينات الى الألفية الثالثة من بصمة عبد الرحمن الشرقاوى الى رؤية لطفى الخولى وصلاح جاهين وحتى مرحلة خالد يوسف الأخيرة ؟ ما مدى تأثير الإسكندرية على أفلامه بروحها المتسامحة حتى تلك الأفلام التى لا تظهر فيها المدينة العظيمة ؟ ما مدى تأثيره فى أفلام مساعديه وتلآميذه على اختلاف اتجاهاتهم ؟ وماذا عن إسهاماته وإضافاته للفيلم التسجيلى الذى يُنظر له أحياناً على أنه ابداع من الدرجة الثانية ؟! كيف نجح شاهين فى ترجمة حبه للموسقى والغناء فى أفلامه على اختلاف مستوياتها وتصنيفاتها؟
سينما شاهين مثل المحيط الواسع الذي يستوعب محاولات كثيرة للغوص والإبحار وحتى إلقاء الأحجار . مهما كان موقفك من أفلامه فإنك لن تستطيع أبداً أن تتجاهل هذا الصوت الذى يهمس فى أذنك أثناء مشاهدة أفلامه الكبيرة :" يا إلهى .. من أين ينبع كل هذا السحر ؟!"
((هذا المقال أرسل خصيصا للنشر في "حياة في السينما" ولم يسبق نشره من قبل))

الجمعة، 8 يناير 2010

مع ميشيل وعمر

جلسة رائعة جمعتني في لندن أخيرا رغم البرد القارص، والأشغال الشاقة التي أقوم بها هذه الأيام، مع صديقين من أصدقاء الزمن الجميل: المنتج السينمائي الفلسطيني عمر قطان، والمخرج المعروف ميشيل خليفي.
تمكنت من إيجاد فسحة من الوقت للخروج من العمل لقضاء أكثر من ساعة مع الصديقين في مقهى مجاور من مكاتب بي بي سي حيث أعمل، في ريجنت ستريت بوسط لندن.
جاء ميشيل من بلجيكا التي يقيم بها إلى لندن حيث يقيم منتج فيلمه الأخير عمر قطان، لبحث بعض الأمور الفنية معه على ما يبدو.
أهديت نسخة من كتابي الجديد "الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب" إلى ميشيل، ففوجئت بأنه يعرف الشيخ إمام معرفة ربما تفوق معرفة الكثيرين من عشاقه بل والمتخصصين فيه أيضا. وروى لي ميشيل كيف أنه زاره مع رفيقيه أحمد فؤاد نجم ومحمد علي، في البيت القديم الذي كانوا يقيمون فيه جميعا في "حوش قدم" بحي الحسين الشهير في القاهرة عام 1982. وقضى ميشيل وقتا طويلا في صحبة الشيخ إمام، وظل يتردد عليه كثيرا بعد ذلك، بل وأدهشني عندما قال لي إنه المسؤول عن إدخال شرائط الشيخ إمام إلى فلسطيني عام 1982 لكي يغني هناك.. وهي دون شك قصة تستحق أن تروى ون تسجل. وقال إنه استخدم نغمة أغنية "إذا الشمس غرقت في بحر الغمام" في أول أفلامه "الذاكرة الخصبة"، وأظهر معرفة هائلة بالكثير من أغاني الشيخ إمام التي يحفظها عن ظهر قلب ليس فقط بكلماتها بل بألحانها، كما أنه يحفظ الكثير من أشعار الفاجومي (نجم)، ويتذكر محمد علي (ضابط الإيقاع) والرسام الذي رحل عن عالمنا قبل أشهر معدودة، ولم يكن ميشيل يعلم برحيله. وروى لي كيف أنه عندما التقاه سأله: هل انت الفنان التشكيلي، فرد عليه محمد بسرعة بديهة وخفظ ظل قائلا على الفور: لا أشكيلك ولا تشكيلي!
كنت قد التقيت ميشيل أخيرا في مهرجان دبي السادس الشهر الماضي، بعد غياب دام ربما أكثر من عشر سنوات (فراقات عشاق السينما فراقات معذبة فعلا.. تصوروا مثلا أنني لم أكن قد التقيت بالعزيز الناقد عدنان مدانات منذ منتصف التسعينيات إلى أن قابلته أخيرا في مهرجان أبو ظبي السينمائي في أكتوبر!)..
مقالي عن فيلم "زنديق" أحد أفلام ميشيل خليفي الذي حصل على ذهبية مسابقة المهر للأفلام العربية الروائية الطويلة، أعجب ميشيل كثيرا.. وقال لي إنه وجد فيه الكثير مما كان في ذهنه فعلا أثناء كتابة وتصوير الفيلم، فقلت إنني لا أعرف ما إذا كان هذا حقيقيا أم لا ولكني عادة ما أعبر عن "رؤيتي" الخاصة للعمل السينمائي، واستقبالي الشخصي له، دون أي محاولة لتجميع "معلومات" مسبقة عن ظروف صنع الفيلم، وإنني آمل دائما أن يكون المقال النقدي تعبيرا عن علاقتي بالفيلم، وأن يكون أيضا قطعة "أدبية" لا تقل أهمية عن الفيلم نفسه، بل تتماهى معه وتدخل أحيانا أيضا، في سجال وجدل مع أفكاره.
حديثنا عن الفيلم والمقال لم يستغرق ثلاث دقائق انتقلنا بعدها إلى السينما ومهرجاناتها وأحوالها في العالم العربي، وإلى اوضاع النقد والنقاد، وناقشنا أيضا بعض الأفكار التي تصلح للتحول إلى سينما.. وكان عمر قطان يصغي باهتمام، وكنت قد تعرفت على عمر للمرة الأولى في مهرجان فالنسيا السينمائي عام 1991 (على ما أتذكر)، وكان موجودا هناك .. شابا يافعا.. جاء لعرض فيلمه الأول كمخرج وهو بعنوان "أحلام في الفراغ"، وقد كتبت عنه في صحيفة "القدس العربي" التي كنت أعمل بها في ذلك الوقت. وهو أصلا من دارسي السينما في بلجيكا، وأظنه تتلمذ على يدي ميشيل خليفي الذي يقوم بالتدريس منذ سنوات طويلة، في معهد السينما البلجيكي الذي تخرج منه. وكان فيلم ميشيل الأول "الذاكرة الخصبة"(1982) إعلانا قويا عن موهبة كبيرة حقا، وعن تيار حداثي بارز في السينما الفلسطينية.
معا.. ضحكنا ونحن نتذكر تلك الايام، ونتذكر ما دار من معارك بعد ذلك حول الكثير من القضايا والمواضيع، وتطرقنا إلى السفه الذي تمارسه بعض المؤسسات في العالم العربي بدعوى الاهتمام بالسينما فيما هي مهتمة أساسا باستعرض نفسها، والغرق في مستنقع الفساد.. والعياذ بالله!
ولا أريد أن أطيل عليكم.. فسأذهب لتناول الشاي الساخن الآن لعله يمنحني بعض الطاقة في هذا البرد المقيم.. وآخر الأنباء عندنا هنا في لندن، تقول إننا سنشهد هطول الثلوج هذه الليلة بحيث نستيقظ صباحا لنجد المدينة وقد غرقت في كتل الثلج الأبيض.. أي تحولت إلى قرية كبيرة تتعطل فيها حركة المركبات الحديثة، حيث لا يصلح في هذه الحالة ربما سوى ركوب الدواب ذات الحوافر التي تغرز في الثلج، للانتقال، على طريقة الاسكيمو.. ولكن من أين نأتي بها.. عندي قطة واحدة، لا اظن أنها تستطيع القيام بالمهمة!

الاثنين، 28 ديسمبر 2009

الساحر و المهرج و خيمة السينما


شهادة شخصية حول "التورط" في السينما ومعنى أن تكون على الهامش


بقلم: عماد إرنست

"كل شيء في النهاية فكاهة
وسأظل شيئا واحدا، وشيئا واحدا فقط، مُهرّج؛
وذلك يضعني على مستوى أعلى يفوق أي سياسي"
شارلي شابلن

غالباً ما يكون المهرج Clown بهلوانا سابقا، أي لاعب حبل أو ترابيز أو آكل نيران أو ممارس للعبة ما خطرة من ألعاب السيرك، ولكن، ونظراً لظرف خاص من الإصابة أو التقدم في العمر أو لظهور لاعب آخر يجيد ذات الوظيفة بطريقة أكثر ملائمة لأغراض استمرار الجذب، يتم استبداله موجهين إياه نحو إضحاك الجمهور بحيل وطرائف، جد جاذبة، وتقدم على فترات لتوفير إيقاع عام لبرنامج الليلة. إلا أنه، وفي حالة إستثناء خاص من هذا، وحين يكون هذا المهرج The Clown جزءا عضويا إستثنائيا من تاريخ السيرك ذاته؛ أي بمثابة خزين لذاكرة السيرك العضوية والثقافية، ويكون قد سبق له الظهور كلاعب ماهر وموهوب في ألعاب كثيرة من ألعاب السيرك السابق ذكرها، حينئذ، وحينئذ فقط، يوظف بإرادته ملكاته تلك التي تكون في إنتظار لحظة يتم فيها الإحتياج لها؛ إما بسبب إعياء مهرج آخر، أو لسقوط بهلوان لسبب ما؛ كخطأ غير متعمد من الغير، أو من الصدفة، أو من الغرور، أو من نسيان أو إهمال للحرفة!
لكنه، عندما يتقدم لتقديم هذه الفقرة، فهو يقدمها في ذات بذلته المرقعة الألوان، مع إضفاء للصفة الهزلية عليها، ودون تكبر على أي فقرة كانت، وذلك لأن عينه دائماً تكون على حيوية الخيمة وعدم تركها لتيار صقيع يأتيها من ثقوب زمنية ضعيفة بفعل أسنان فئران إنطلقت من محض صدفة تاريخية، ليتفاجأ حينئذ الجمهور بمدى أصالة مهاراته ومواهبه واجتهادته، ناهيك عن تكثيف مرحه عبر الإيجاز والإسناد في أي فقرة سيتولى تقديمها.
إنه فنان استثنائي يحيا داخل الخيمة، ولا يطيق الخروج منها، وإن خرج حملها معه ثم عاد إليها، إما أكثر مهارة، أو أكثر صقلاً، أو أكثر وعياً بفكرة السيرك. فنان سينتظره الجميع برغم ما قد يطويه في داخله من مشاعر وأحاسيس نحو حدث وزمان ومكان عالمه الدائري الصغير والواسع في آن.
قد تتعجب أيها القاريء من هذه المقدمة، وربما تتعجب أكثر من جرأة إلصاقي لاحقاً لنفسي بهذه الصفة، والتي قد تكون مثار تندر من البعض من يجلسون في الخيمة على مقاعد مجانية منحت لهم بطريقة ما ـ أحب أن أصفهم بالمتفرجين بالمجان ـ ودون امتلاك لحس متفرج سيرك أصيل، أو حتى رغبة أصيلة في أن يصبحوا لاعبي سيرك؛ فهم، في النهاية، ينظرون للحبل بأعلى ولا يمكن بأي حال، أن يكون لديهم استعمال أخر له سوى احكام غلق "كراتين" ثقافتهم الرثة! بل وقد يثير حفيظة بعض مثقفي اليسار أن أقول إن ثمة نقاط تماس ما بين مفهوم المهرج هذا وبين مفهوم جرامشي عن المثقف العضوي.
متى قررت ارتداء هذه البذلة ؟
أولاً، وقبل الإجابة، علي أن أوضح أنني لا أدعي هنا، بأي حال، أن هذه الصفة لصيقة بي وحدي؛ فثمة من يشاركني فيها في خيمة الثقافة السينمائية. وللتأكد؛ عليكم قراءة كتاب "حياة في السينما" للمثقف والناقد أمير العمري للتعرف على المجهود الذي بذل في السبعينيات من جانب النقاد والسينمائيين والذين كانوا في تعاضد نادر لضخ الحيوية في خيمة السينما المصرية. ولتفسير علاقتي بهذه الفترة علي أن أحيطكم علماً أيضاً بولهي في إكسسوار خاص ينتشر في منازلنا ولكنه يمثل أيضاً جزءا أصيلا من أية خيمة ثقافية سينمائية.
إنه .. الدولاب
وما جعله يلح على ذهني في الفترة الأخيرة كان الكتاب سالف الذكر، فقد استدعى هذا الكتاب ذكرياتي مع دولاب خاص كابي اللون وعتيق ويصعد حتى يلامس سقف خيمته، إنه دولاب نشرات سينما جمعية النقاد في مركز الثقافة السينمائية، والذي تحول في أواخر الثمانينيات أثناء تجولي بين سينمات وسط المدينة ومحال البسبوسة والآيس كريم إلى مزار، مثله في ذلك مثل دواليب مراكز ثقافة دول شرق أوروبا أو غربها أو الهند أو شرق آسيا أو أمريكا. كنت أزوره بشكل دوري حاملاً حقيبة ظهري لكي أغترف من خاناته الضيقة، والتي بدت وكأنها صنعت خصيصاً لتلك النشرات خفيفة الوزن والمستطيلة والصغيرة والمصنوعة من ورق رخيص مصقل قليلاً ومقسم لأعمدة لإتاحة مساحة كافية لأعمدة نقاد لم أتشرف بمقابلتهم ولو لمرة في عمر الشباب. كانوا جميعاً بالنسبة لي فقط أسماء هامة تساعدني على التحصل وعلى المعرفة السينمائية عبر أسماء وأعمال سينمائية لم أكن على صلة بها. وفي الأخير، والأهم، في التعرف على وجهة نظر ذلك الناقد في تركيبة كل ساحر سينمائي أعرفه. والآن، ومن خلال كتاب "حياة في السينما"، أدركت أن هذا الدولاب كان على زوال، وعرفت لماذا كان نهمي في الإستحواذ على أكبر كم من تلك النشرات التي توقف صدور المزيد منها، فقد قبعت خلفه شخصيات لها مواقف، وأخرى كان الصراع أقسى من أن تتحمله؛ فقد مرت بصراعات شخصية، وتناحرات، واحتواءات، واغراءات، وصدامات. وأن ذلك الدولاب كان يمثل لي أحد رموز تاريخ الثقافة السينمائية التي مرت بسطوة سلطة لا تريد لها الصيرورة وتعمل بحذق على فك وصلات ترابط هذا الدولاب.
لكن، لماذا لم يقدم أحد في التسعينيات على رتق ما أكلته الفئران في نسيج الثقافة السينمائية في مصر المحروسة؟ نعم مرت محاولات مخلصة في بث الروح فيها، مثل محاولة إعادة الروح لجمعية النقاد عبر مجلة "السينما الجديدة"، أو عبر جهد فردي من الممثل الموهوب موهبة استثنائية والمثقف والرجل المحترم محمود حميدة، والمتمثل في مجلة "الفن السابع"، والتي سعت لسد فراغ المطبوعة السينمائية المتخصصة، ولكنها أنهكت بمشاكل أعتقد أنها في مجملها تنتمي لسعيها الطموح نحو بريق سينمائي طباعي فاخر يعلن رغبة في أن تكون متخصصة وأن تمثل، في آن واحد، مجمل أطياف السينما حتى التجاري منها، مع أنها إذا كانت صدرت في أرخص شكل متخصص لكنا جميعاً تلهفنا عليها بذات التلهف منذ طبعتها التجريبية الأولى؛ فقد ضمت بين طياتها نقادا محنكين، وواعدين، وكتاب كلمة ينصت لهم.
والآن .. يجب أن أخرج السؤال الأول من ذلك الدولاب..
متى قررت ارتداء هذه البذلة ؟
إنه سؤال يجبرني علي أن أعود بذاكرتي إلى المرة الأولى التي لمست يدي فيها خامات المكياج أمام المرآة. وكان ذلك في أول محاضرة عملية للمكياج في المعهد العالي للسينما. أذكر أني، وبعد تعرفي على خطوات تشكيل وجه المهرج، جلست أمام مرآة غير مصقولة، وتقليدية في شكلها المزروع في ثلاثية، إطارها لمبات صفراء، متناوباً التحديق في خامات الأوان وفي وجهي تساؤل، عما يجب أن يكون عليه مهرجي، وأية خطوط ستمثله، هل سأستعيد خطوط وألوان مهرجي سيرك التلفاز، أم هل ستكون تلك الخاصة بممثلي الكابوكي والذين شاهدتهم في لمحة خاطفة في فيلم قديم، يا إلهي لقد كان من الأبيض والأسود!
أولئك الممثلون المذهلون الذين تعرفت على إبداعهم لاحقاً. أذكر أني صرخت وقتها: أين نصف كرة البنج تلك الخاصة بأنفي !!؟. لم يجبني أحد، بل وعلق استاذي وقتها بأن علي الإنتهاء سريعاً فقد اقترب ميعاد انتهاء المحاضرة، إلا أن ذلك لم يثنيني عن أن أختار، وبدقة، ذلك التحول من وجهي الطبيعي إلى وجهي الثاني؛ وجه "مهرجي".
نعم هناك أقنعة كثيرة نرتديها على مدار يومنا، إلا أن ما كان يجذب ذهني وقتها كانت تلك الأقنعة الأنثروبولوجية التي توالت على مدار تاريخ البشرية بتنوعاتها الثقافية والعرقية، ومن بين أكثر تلك الإقنعة إثارة لذهني كان قناعا الساحر والمهرج، واللذان قفزا بذهني أمام مرآة المكياج، الأول تتطور تركيبته ولا تتغير، وأرتديه منذ ميلادي، ثلثه إنسان وثلثه حيوان وثلثه الأخير فنان/ مخرج، إنه مزيج ثلاثي يتعارك دائماً في الخطوط والملامح. أما الثاني، وهو ما اقتنصته في هذه اللحظة، فقد كان قناع المهرج الغاضب على خيمة السينما؛ ففي وقتها كانت السينما المصرية في تراجع على مستوى الكيف والكم على حد سواء. حدقت في وجهي وأخذت أضع المادة الأساس، ثم بعنف حاد خططت الحزن والغضب على ملامحي.

وبينما كان زملائي يتوجهون سريعاً نحو دورة المياه لإزالة هذه الملامح الإضطرارية كنت أسير بوجهي هذا في المعهد، متنقلاً بين طوابقه الثلاثة، في إعلان صريح عن قناع خرج من داخلي في لحظة غضب واستمر معي إلى الآن. إنه قناع مهرج أعلن غضبه على "مستقبله" في السينما الفنية.
الساحر يبدع حيله في غرف مغلقة، أما المهرج فدوره يكون في الميدان. والإثنان هما دائماً في تعاضد وعملية تكثيف متبادل للخبرة والمعرفة وتنقية دائمة عبر غربال القناعات، يا إلهي ما أضيق ثقوبه الآن!.
ذلك ما مررت به منذ تخرجي من المعهد من قسم الإخراج في عام 1993. لكن ما كان يشغلني وبشكل تام كان الساحر وربط حيله بأفكاره، وكلما ارتبط بالحيل أكثر وزاد استغراقه فيها وتلمسه لكيفية نقل أفكاره للحيل، "للشكل"، كلما زادت حيرته حين يخرج من غرفته المغلقة إلى الميدان، فقد أحس بالمسافة الشاسعة بين الساحر وبين خيمة السينما، وكلما زاد شعوره هذا كلما تقلقل معين الغضب في داخله مجتذباً معه إلى أعلى، الحاجة الماسة لقناع المهرج الغاضب والإيجابي. فكتبت في إبريل 2002 نص "موت البديل" والذي لفت النظر فيه للتماس المتواتر لتجارب كل من يسري نصر الله وأسامة فوزي ومصطفى ذكري وزكي فطين عبد الوهاب مع مصطلح السينما المستقلة. ثم شاركت في سبتمبر 2002 بأفلامي ـ تلك المنتجة ذاتياً منذ 1998 وحتى 2001 عبر دعم تقني بمعدات ورشة مؤسسة بروهيلفيتسا للأفلام المستقلة والتي يعود الفضل في اشتراكي فيها للمخرج الصديق أحمد حسونة ـ في مهرجان الإسماعيلية وذلك في برنامج مصاحب للمهرجان قام بإعداده المخرج أحمد رشوان عن السينما المستقلة، والذي شاركت في مطبوعته الخاصة بنص "موت البديل". وكذلك شاركت في تظاهرات عدة، تحمل أسماء شتى. تظاهرات كانت كلها تعود علي، وقد أدعي، وعلى الآخرين، بفائدة واحدة وهي عرض الأفلام فقط، دون نقاش حقيقي لجوهر جملة سمعتها ترن من خلفي بقاعة مركز الإبداع 19/12/2002 من متفرج مصري يبدو أنه قد قدم من خارجها بعد غياب طال. إن صوته ما زال يرن في أذني "يظهر إنه بقى فيه سينما جديدة في مصر!".
وفي كل نقاشاتي وندواتي كنت أسعى نحو فك طلاسم هذه الجملة التي باتت تؤرقني جمالياً أكثر منها انتاجياً. إلى أن أتى عام 2003 وقررت المساهمة مع شقيقتي المونتيرة هناء ارنست، صاحبة الفكرة، في تأسيس ملتقى الأفلام المستقلة وفك طلاسم هذه الجملة عبره.
" يظهر إنه بقى فيه سينما جديدة في مصر"!
وبصفتي "مستشار فني" ـ إسم جديد ذو بريق خادع لأي مهرج غير أصيل ـ قررت ألا يسيطر الساحر على المهرج أو العكس، وألا يسيطرا، على حد سواء، على هذه الخيمة، والذي كان إختيار اسمها موفقاً للغاية، ملتقى، وأرجعه تحديداً إلى جلستنا، شقيقتي وأنا، مع المثقف المحترم الأب وليم سيدهم مدير جمعية النهضة في جيزويت القاهرة، ذلك المكان الذي استضاف أول دورة للملتقى ثم انتقل بعدها لأربع دورات في استضافة المركز الثقافي الروسي وعبر تعاون حميم من أ. شريف جاد.
نعم أدعي، كساحر مرتقب، أنني أملك خصوصية فنية في علاقتي بوسيط الفيلم، وأنني أحترم صنعتي أيما احترام، وأني مصاب بداء التأني الفني. ونعم أدعي أيضاً بأني لدي، كمهرج، معرفة كافية ومهارات تتعلق بمعظم عناصر الفيلم وثقافته جعلتني، بالإضافة لكوني مخرجا وكاتبا للسيناريو ومصورا ومهندس صوت محترف ويعمل لصالح الغير، أعمل كدراماتورجي حاز على ثقة الآخرين في مجاله، بل وزادني إنغماسي في الملتقي امتلاكاً لمهارات جديدة مثل تصميم الجرافيك والتحرير الداخلي، ومهارات أخرى، أجدها غاية في الصعوبة، كمهارتي توزيع الكتالوجات وغلق الباب بعد دخول كل متفرج يأتي متأخراً! أما الأكثر امتاعاً بالنسبة لي فهي مهارة "البلاسير" عبر ضوء الموبيل وخاصة حين تكون يد ناعمة تبحث عن كرسيها بالظلام. برغم كل هذا، إلا أني قررت، ومنذ اللحظة الأولى، ألا أدع إحترامي للصنعة، أو وجهة نظري تجاه وسيط الفيلم، أو مدى جودة علاقتي بأي فرد تجحف من حقه في ممارسة التجربة الفنية أو حقه في عرضها، وذلك ليس تفضلاً مني بل ينبع من قناعة داخلية في معنى الحرية ومن مقتي لفكرة السلطة القابعة في مكان مظلم وعميق داخل كل إنسان والتي سبق وأن تناولتها في فيلمي القصير "مياهي المظلمة".
لذا، عرضنا على مدار الخمس دورات منذ 2003 وحتى 2007، كل دورة ثلاث أيام، الفيلم الروائي، القصير والطويل، والتسجيلي، القصير والمتوسط والطويل، والأفلام التجريبية، وفنون الفيديو، تعقبها يومياً مناقشات مع صناع الأفلام (2). وحددنا منذ البداية معايير ملتقى الأفلام المستقلة على النحو التالي (3)
(1) عبر أفراد يعشقون السينما سيتخطى هذا الحدث الفني كل إعاقة ناتجة عن أمور مادية أو نفسية.
(2) من يحكم على جودة الفيلم هو المتفرج؛ تأسيساً لعلاقة مباشرة بين صانع العمل الفني والمتفرج.
(3) لن توجد لجنة مشاهدة، إلا فقط من أجل التأكد من جودة نسخة العرض.
(4) لن توجد جوائز؛ للابتعاد عن تداعياتها البغيضة.
(5) لن توجد لجنة تحكيم؛ للتخلص من سلطاتها وتحيزاتها الجمالية والشخصية.
(6) لن نتلقى دعم من أية جهة وستكون التكلفة علينا؛ سداداَ لديننا لمن صنعوا السينما الفنية المصرية.
(7) عرض أفلام مستقلة من خارج مصر؛ للتواصل مع تجارب المستقلين في العالم.
(8) على صناع الأفلام والنقاد والمتفرجين أن ينتجوا مع الزمن تأكيدا لمصطلح الاستقلال الفيلمي المصري أو تبني مصطلح / ات أخر/ يكون/ تكون أقرب ثقافياً وفنياً وإنتاجياً لما يحدث من توجه/ ات.
وتألف فريق عمل الملتقى بشكل أساس من :
هناء ارنست ـ المؤسس والمير الفني
عماد ارنست ـ المستشار الفني
عزة يوسف ـ المدير التنفيذي
وقطعاً ساهم الأصدقاء في انجاز أول نافذة عرض دورية متخصصة للفيلم المستقل بمصر، "ملتقى الأفلام المستقلة"، ذلك الحدث الثقافي الفني الخالص ذو الطابع الأهلي والفردي؛ لذا فيجب توجيه التحية لكل من الأساتذة عادل لطفي ووليد سامي وطارق عزت وحمدي رضا وأحمد خالد وعبد الحكم سليمان ورجائي موسى ورجب هارون وتيجر شتانجل ودميان وإيدا فارووم وأحمد يونس وأمل فوزي و أ. سيد فتحي و د. خالد سرور و أ. مجدي الطيب، وبخاصة، تحية لكل من الأب وليم سيدهم و أ. شريف جاد، وكل من ساند التجربة من صناع أفلام أو جمهور.
وفي الأخير، وبعيداً عن سعي البعض لاستغلال المصطلح للصعود فوقه على تبة عند رصدها ثقافياً وفنياً ستنهار بالضرورة، أو للمرور منه نحو بعد تجاري يكمن، ولكنه حتماً سيظهر. أقول، في الأخير، لقد سعينا في إخلاص نحو بث الحيوية في خيمة الثقافة السينمائية المصرية، دون تربح منها أو حاجة إلى صفة تلصق بنا، ونرجو أن يكون سعينا قد نال بعضا مما أملنا فيه، في هدوء، وفي ترفع عن إنكار الوجود، ودون صدام المراهقين اجتماعياً وسياسياً ومحاولات الاحتواء البائسة والمزرية؛ ففي النهاية تلك خصال بهلوانات وليست في أي حال خصال ساحر/ مهرج أصيل.

هوامش:
(١)سبق أن طلب مني الأستاذ أمير العمري نشر نص "موت البديل" على مدونته لوعيه بالحاجة إلى نقاش معنى مصطلح الإستقلال، وقد أتى هذا النص كمزيج أيضاً بين حاجة داخلية وطلب منه لتوثيق شهادتي عن ملتقى الأفلام المستقلة.
(٢) أغلب صناع الأفلام المستقلة عرضت في الملتقى أفلامها، وعلى سبيل المثال لا الحصر : أحمد حسونة ونادر هلال وأحمد رشوان وكريم فانوس وعماد ارنست ومحمد محسن ومحمود سليمان وأيتن أمين وسلمى الطرزي وأحمد عبد الله وتامر عزت وعبد الفتاح كمال وأمل فوزي ووليد مرزوق وأحمد أبو زيد وحسن خان وإياد طه وابراهيم عبلة ونادين خان وأمير رمسيس ومحمد قابيل ويوسف هشام ويافا جويلي وكريم حنفي ومحمد فتحي وجانيت رزق ودعاء عجرمة وأحمد خالد ومحمد حماد ومحمد نصار ودينا حمزة وهديل نظمي وعماد نعيم ورامي عصمت ومنى مكرم وداليا الرشيدي وهالة المدني وعماد مبروك وعلية البيلي .. ومن فناني التجريب والفيديو، كمثال أيضاً، شادي النشوقاتي وأحمد الشاعر وخالد حافظ وعماد ارنست وهاني الجويلي وصباح نعيم .. وكذلك تم عرض الأفلام الروائية الطويلة "حبة سكر" لحاتم فريد وفيلم "إيثاكا" لإبراهيم البطوط، ولقد أثرى جميع من ذكرت أسمائهم، أو نسيتها بفعل الذاكرة، الملتقى بشرائطهم الفنية .
(٣) تلك المعايير كانت محل نقاش دائم بيننا جميعاً، وتم الإستقرار عليها دون حاجة في إعلانها؛ لأننا كنا بصدد الإنعماس في المجهود، لا البيانات أو ما شابه. تماماً وكما إنغمسنا في الجهد ونسينا، أو لعلنا لم نكن نتقن، التواصل مع الصحف والدعاية عن الحدث، وكما يفعل أخرون أكثر خبرة في تأثير الميديا وكيفية استغلالها لمساندة جهدهم، وهو ما أخذه الكثيرون علينا. ولعل ذلك يعود إلى طابعنا الشخصي جميعاً في عدم حب الظهور او الطلب من قلم يعرف ما نبذله، ولكن ولسبب ما، إلى الآن لا أفهمه ولا أرغب حتى في فهمه، لم يتفاعل بقلمه مع الحدث، بل وأحياناً إنكار لوجوده، رغم وضوح نقائه للجميع من أي غرض في التربح أو الشهرة. وربما، وفي الأخير، لقناعتنا بأن الميديا قد يكون لها أيضاً تأثير سلبي علينا وعلى طابع محاولتنا ذاته.

الخميس، 9 أكتوبر 2008

رائد سينما الاحتجاج والتمرد والغضب


بعد 40 عاما على ظهور فيلم "إذا" البريطاني

تحية إلى ليندساي أندرسون

بقلم: أمير العمري


احتفلت الأوساط الثقافية والسينمائية في بريطانيا مؤخرا بمرور 40 عاما على تصوير فيلم "إذا" IF للمخرج الكبير الراحل ليندساي أندرسون. إذاعة بي بي سي- 4 أنتجت برنامجا تسجيليا طويلا عن أندرسون وفيلمه الذي لايزال حتى يومنا هذا، يثير الجدل. وممثله المفضل مالكولم ماكدويل، الذي اكتشفه أندرسون وقدمه للسينما في دور البطولة في هذا الفيلم، أنتج فيلما تسجيليا بعنوان "لن أعتذر أبدا" عن علاقته بأندرسون، تحدث فيه وأفضى بمعلومات وأسرار جديدة.
صور فيلم "إذا" عام 1968 في نفس الوقت مع التظاهرات الطلابية والعمالية العنيفة التي شهدتها باريس وامتدت إلى مدن أوروبية أخرى، ثم عرض في العام التالي في مسابقة مهرجان "كان" وحصل على "السعفة الذهبية" كأحسن فيلم.
وقد تحول هذا الفيلم منذ ظهوره إلى "حدث" كبير في الثقافة البريطانية، فقد كان يمثل علامة فارقة بين عصرين: عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية بطفرته الصناعية التي دعمت نفوذ "المؤسسة" الحاكمة دون أن تهز قناعاتها، وبين عصر جديد للتمرد على تلك المؤسسة التي توفر الرخاء لكنها تنزع الجوهر والروح، وتتشبث بتقاليد الامبراطورية بعد زوال عصر الامبراطورية رسميا بالانسحاب من شرق السويس عام 1967، هذه المؤسسة يتعرض الفرد في إطارها للقمع بشتى صوره: في المدرسة والجيش والمصنع والكنيسة.

رؤية جامحة
ويصور فيلم "إذا" رؤية جامحة شديدة العنف والفوضوية، لمجتمع بريطانيا التقليدي كما يتمثل داخل مدرسة ينقسم طلابها إلى ثلاث طبقات كل منها تمارس القمع على الطبقة الأدنى، ويحكمها نظام صارم من الأساتذة والمشرفين. إنه نظام أقرب إلى "الكهنوت" الكنسي، حيث يتعين على الجميع الالتزام بالطاعة العمياء ونبذ تساؤلاتهم، لكنه كان يرمز لبريطانيا الملكية كمؤسسة فوقية، والنظام الطبقي العتيق الصارم: الرأسمالية الكبيرة والطبقة الوسطى ثم الطبقة العاملة.
يبزغ من بين طلاب الطبقة الوسطى في المدرسة زعيم شاب قوي هو ميك ترافيس، يقوم بدوره مالكولم ماكدويل. يقود التمرد على كل تقاليد المدرسة، وينتهي التمرد بثورة دموية تحرق وتدمر وتقتل كل رموز المجتمع القديم المتعفن الذي يتنبأ أندرسون في فيلمه بضرورة نهايته.

العنف في "إذا" عنف نابع من موهبة جامحة متوحشة ترغب في الانطلاق بعيدا عن سينما المواقف المصنوعة، والنهايات السعيدة.
وقد أثار الفيلم اهتماما شديدا وقت ظهوره في الأوساط البريطانية المختلفة. ومنحته الرقابة البريطانية علامة "إكس" أي قصرت عروضه على "الكبار فقط". وعندما عرض في مصر في العام التالي، عرض تحت اسم "كلية المتاعب"، واستبعدت الرقابة المصرية منه الكثير من المشاهد واللقطات، ثم اختفى من دائرة التوزيع تماما بعد ذلك.
واستعان مخرجه ليندساي أندرسون بسيناريو مزيف من 40 صفحة لكي يحصل على موافقة المدرسة العامة في شيلتنهام التي درس هو فيها. وتصور مدير المدرسة أن الفيلم سيكون في صالح المدرسة من الناحية التربوية، إلا أنه فوجئ خلال العرض الخاص الذي حضره وكان لابد أن يحضره، بأن الفيلم مناهض تماما لكل الأفكار السائدة عن "القيم التربوية". ويقول الممثل مالكولم ماكدويل إن الرجل بعث برسالة في مظروف إلى أندرسون رفض الأخير أن يفضها أو يقرأها لأنه كان يعرف تماما ما فيها، ولم يشأ أن يواجه أحدا يقول له "لقد خدعتني" أو "أنت وغد"!

رائد التجديد
ويمكن القول بثقة إن الرائد الحقيقي للتجديد في السينما البريطانية هو المخرج ليندساي أندرسون (1923- 1994)، وذلك رغم أنه لم يخرج طوال مسيرته السينمائية سوى سبعة أفلام روائية طويلة، غير أنه أخرج عشرات الأعمال المسرحية والأفلام التليفزيونية الدرامية والتسجيلية.
كان ليندساي أندرسون الرائد الحقيقي لحركة "السينما الحرة" التي نقلت السينما البريطانية خلال الفترة من منتصف الخمسنيات إلى منتصف الستينيات، من مجال الأفلام الهروبية والتاريخية التقليدية إلى مجال الواقع الاجتماعي، لكي تطرح مواضيع جريئة تدور أساسا، في أوساط الطبقة العاملة. وكانت تلك الحركة تضم أيضا سينمائيين مثل توني ريتشاردسون وكاريل رايز، وكتابا مثل جون أوزبورن، وكان هؤلاء يشكلون جماعة "أنظر خلفك في غضب" نسبة إلى مسرحية أوزبورن الشهيرة.
وكان هناك أساس نظري سبق ظهور "السينما الحرة" تمثل في ظهور مجلة سينمائية متخصصة هي "سيكوانس" التي رأس تحريرها أندرسون، وهو الذي أطلق تعبير "السينما الحرة" على الحركة، وبدأت أولا تنتج أفلاما تسجيلية جريئة بأسلوب يتجاوز السائد أي لا يكتفي بالعرض بل يحلل ويكتشف ويضرب في العمق.
وكان أندرسون أيضا هو الذي وضع بيان "السينما الحرة" ووصف واقعية أفلامها بأنها "واقعية حوض المطبخ".

الحياة الرياضية
وأخرج أندرسون أحد أهم أفلام تلك الحركة وهو فيلمه الروائي الأول "هذه الحياة الرياضية" This Sporting Life (1960) الذي قام ببطولته الممثل العملاق الراحل ريتشارد هاريس عن مأساة عامل مناجم تحول إلى لاعب رجبي بحثا عن المال، إلى أن يجد نفسه وقد أصبح "أداة" يستغلها مجتمع التجارة الرياضية، ويتحول تدريجيا إلى وحش كاسر في الملعب لكنه يفتقد إلى الحب في حياته الخاصة، ويشعر بفراغ روحي هائل، وينتهي وقد فقد زوجته وأصدقاءه بعد أن يكون قد فقد نفسه.
وقد صور الفيلم في مدينة صناعية صغيرة في مقاطعة يوركشاير، بظلالها القاتمة والدخان المتصاعد من مداخن مصانعها، وضبابها وأحيائها العمالية الباردة. وتميز الفيلم بواقعيته الشديدة وبتركيزه على فكرة الاستلاب وتحول الفرد إلى أداة يسخرها الآخرون لجني الفوائد والأرباح.
وقد ابتعد أندرسون تماما عن أسلوبه الواقعي الأول في هذا الفيلم لكي يعبر بحرية تتجاوز الواقعية، في فيلم "إذا" عن رؤيته الشخصية لفكرة الثورة. في الفيلم مثلا عبارات من قبيل "الثورة والعنف هما أنقى الأشياء".

الرجل المحظوظ
وفي فيلمه التالي "يالك من رجل محظوظ" Oh.. Lucky Man يمد تجربته على استقامتها ويصل إلى أقصى حدود السيريالية شكلا، والفوضوية مضمونا، من خلال موضوع قريب الشبه إلى حد ما، بفيلم "البرتقالة الآلية" Clockwork Orange الذي أنتج في العام نفسه ومن بطولة مالكولم ماكدويل (للمخرج ستانلي كوبريك)، إلا أن بطله (ميك ترافيس أيضا) على العكس من بطل الفيلم المشار إليه لا يميل للعنف أو التمرد بل يبدأ وهو ممتثل تماما للمجتمع، يريد أن يصعد في إطار المؤسسة، لكنه يواجه الكثير من المتاعب بسبب رغبته في الصعود في المجتمع الرأسمالي مع التمسك بنوع من المثالية، فيجد نفسه في السجن ثم في مستشفى الأمراض العقلية بسبب تآمر رؤسائه ومنافسيه ورغبتهم في تدميره وإقصائه من السوق.
في هذا الفيلم هجاء واضح لبريطانيا التي فقدت الامبراطورية لكنها مازالت تتمسك بدور "إمبراطوري" عن طريق الغش والتحايل والعمليات القذرة في العالم ومنها تصدير السلاح إلى مناطق النزاعات والحروب، وتدريب المرتزقة وتزويدهم بالخبراء.
ثلاثية أفلام ليندساي أندرسون التي كتبها ديفيد شيروين ولعب بطولتها مالكولم ماكدويل، انتهت بفيلم "مستشفى بريطانيا" Britania Hospital الذي عرض عام 1982 أثناء التغطية الإعلامية المكثفة لحرب بريطانيا ضد الأرجنتين في جزر فوكلاند. وحمل الفيلم مجددا أفكار أندرسون الغاضبة من المؤسسة الحاكمة، التي يسخر منها بعنف ويصورها على أنها تمارس القتل والغش والخداع والعبودية للعائلة المالكة وحماية الحكام الديكتاتوريين.
وكما كانت المدرسة في فيلم "إذا" رمزا لبريطانيا فإن المستشفى في هذا الفيلم ترمز إلى المجتمع البريطاني أيضا بتركيبته الطبقية التي ظل أندرسون يرفضها ويوجه لها الانتقادات القاسية حتى النهاية.
لا اعتذار
ومن الأحداث التي رواها أخيرا الممثل مالكولم ماكدويل في فيلمه التسجيلي "لن أعتذر أبدا" Never Apologise أن الوفد البريطاني في مهرجان كان السينمائي نظم انسحابا جماعيا من القاعة عند عرض الفيلم، ثم أخذ بعضهم يطاردونه على سلالم قصر المهرجان ويهاجمونه واصفين إياه بـ "المعادي لكل ما هو بريطاني".
وقد فشل الفيلم في السوق البريطانية، وتوقفت مسيرة أندرسون فترة قبل أن يعود لاخراج آخر افلامه في الولايات المتحدة وهو فيلم "حيتان في أغسطس" الذي لم يحقق نجاحا يذكر، فقد كان العالم قد تغير، ونجحت المؤسسة التي ظل أندرسون مناهضا لها في الالتفاف، وارتدت ثيابا جديدة، لكي تعود بشكل مختلف، أكثر قوة عما كانت،كما نجحت في تدجين المثقفين، ومحاصرة كل ما تبدى من آثار ثورة 1968 في أوروبا.
إلا أن أندرسون الذي توقف تماما عن العمل بالسينما قبل وفاته بست سنوات، لم ينحن ولم يستسلم ولم يسع أبدا إلى الاعتذار للمؤسسة بأي شكل من الأشكال. وقد ظل- كما يقول مالكولم في فيلمه التسجيلي- يرفض الاعتذار عن غضبه، وعن رفضه، وعن رغبته في رؤية بلاده والعالم، أكثر إنسانية وأكثر عدلا وجمالا.
(عن موقع بي بي سي أربيك دوت كوم)
شاهد بالفيديو المشهد الأخير من فيلم "إذا"

سيد بدرية في دور البطولة في هوليوود أخيرا

صديقنا الممثل المصري الأصل الأمريكي الجنسية، الذي يعمل منذ سنوات في هوليوود يحقق نجاحات متتالية هناك. فقد تألق أخيرا في فيلم "الرجل الحديدي" وحصل على تقدير الكثيرين في دوره كتاجر سلاح. وقام بعد ذلك بالدور الثاني في "الربيع في خطوتها" الفيلم القادم للمخرج المستقل مايكل برجمان، ويلعب فيه دور سائق تاكسي فلسطيني، كما يقوم بدور سفاح في الفيلم المكسيكي من تمويل بارامونت بعنوان "الساحة الخلفية" وتقول المعلومات المنشورة عنه أنه يستند إلى قصة حقيقية، وهو من إخراج المخرج المكسيكي كارلوس كارييرا.
أما أهم خطوة في حياة سيد العملية فهي إقدامه أخيرا على الاشتراك في تأليف وإنتاج فيلم جديد يقوم فيه بدور البطولة المطلقة للمرة الأولى في هوليوود، وهو فيلم "الشرق الأمريكي" أو American East. ويقول سيد إن الفيلم يتناول وضع العرب في أمريكا أو بالأحرى، الأمريكيين من أصل عربي فيما بعد أحداث 11 سبتمبر، ومحاولاتهم التغلب على أجواء انعدام الثقة القائم من جانب المجموعات الأمريكية الأخرى حولهم.
ومن المنتظر أن يثير الفيلم الجديد الجدل بسبب طبيعة الموضوع الذي يقوم فيه بدرية بدور مهاجر مصري إرمل، يدير مقهى لكنه يحلم بافتتاح مطعم للمأكولات العربية مع صديقه اليهودي.
سيد بدرية، ابن بورسيعد الذي هاجر إلى أمريكا في أواخر السبعينيات ودرس السينما في نيويورك وكان زميله في الدراسة وودي هارلسون، وعمل فترة مساعدا للممثل المخرج الراحل أنطوني بيركنز، يقوم بدور كبير منذ سنوات أيضا في الدعوة إلى تغيير النظرة السائدة للعرب في هوليوود تحديدا وفي أمريكا بوجه عام رغم المآخذ العديدة على بعض الأدوار التي يقوم بها في الأفلام الأمريكية الشائعة، فهو كثيرا ما يقوم بدورالإرهابي أو القاتل. لكنه أيضا انتج فيلما قصيرا مع زميله المخرج هشام العيسوي بعنوان "حرف T بمعنى إرهابي". وقد حصل هذا الفيلم على جائزة أحسن فيلم قصير في مهرجاني بوسطون وسان فرانسيسكو.
وقبل سنوات وتحديدا في 2002، عرضنا في إطار برنامج جمعية نقاد السينما المصريين وقت رئاستي لها، الفيلم التسجيلي الطويل الممتع "إنقاذ كلاسيكيات السينما المصرية" الذي انتجه وأخرجه سيد بدرية.
ويتناول الفيلم بشكل متوازن كثيرا، الوضع المزري الذي يعاني منه تراث الأفلام المصرية القديمة في مخزن الدولة.
وقد أدرت ندوة موسعة بقاعة المجلس الأعلى للثقافة عن الفيلم والقضية، شارك فيها ممثلون عن الدولة وحشد من النقاد والسينمائيين،
واتُخذت على إثرها إجراءات أطلعني عليها تفصيلا فيما بعد، الأستاذ صلاح حسب النبي رئيس الشركة المصرية القابضة التي تدير أرشيف الأفلام المصرية وموروث الأفلام التي أنتجتها الدولة في عهد مؤسسة السينما الحكومية، لترميم وحفظ الأفلام بطريقة علمية.
وقائع هذه الندوة منشورة بالكامل في أحد أعداد مجلة "السينما الجديدة" أول مطبوعة "دورية" تصدر عن الجمعية شهريا واستمرت حتى مارس 2003.

الأحد، 28 سبتمبر 2008

"الغوريلا تستحم عند الظهر"


تحية لدوسان ماكافييف
(مع فيديو)

"الغوريلا تستحم عند الظهر" Gorilla Bathes at Noon ليس فيلما جديدا بل مضى عليه حتى الآن 15 عاما بالتمام والكمال. إنه الفيلم الذي أخرجه واحد من أهم السينمائيين في عالمنا المعاصر، وهو السينمائي المبدع دوسان ماكافييف Dusan Makavejev، الذي لم يعد بكل أسف، في استطاعتنا أن نقول عنه "اليوغسلافي" بعد ان تفككت يوغسلافيا، وتفككت معها مدرسة سينمائية مهمة.
ويمكن القول إن "الغوريلا تستحم عند الظهر" آخر الأعمال البارزة في مسيرة مخرجه الذي بدأ بداية قوية في الستينيات، في زمن بيروقراطية الحزب الشيوعي، وديكتاتورية زعيم يوغسلافيا القوي تيتو، لكنه أخرج أعظم أفلامه في تلك الفترة. فهل هذه مفارقة؟

لقطة من فيلم "الغاز الكائن البشري"

ماكافييف الذي تجرأ على انتقاد الحزب والجمود السياسي والمذهبي في أفلامه الثلاثة الأولى التي سخر فيها كما يشاء من النظام، بل ودعا في فيلمه الأشهر "ألغاز الكائن البشري" The Mysteries of the Organism إلى الحرية الجنسية كوسيلة لتحرير المجتمع استنادا إلى نظريات العالم الألماني الشهير فيلهلم رايخ، انتهى بأن هاجر إلى الولايات المتحدة حيث قام بتدريس السينما لسنوات في كاليفورنيا، ثم صنع عددا من الأفلام منها "مونتنجرو" و"طفل الكوكاكولا" و"فيلم حلو" قبل أن يقدم آخر أفلامه المهمة وهو "الغوريلا" الذي عرض عروضا محدودة عام 1993. ولا نعرف ما هو مصير ماكافييف حاليا بعد أن تقدم في العمر. ربما لايزال يدرس السينما ويعيش على الماضي الذي كان.

سينما التجريب
كان ماكافييف، الذي درس علم النفس قبل أن يدرس السينما والتليفزيون، مهتما بالتجريب، وبخلق لغة جديدة، بصرية، يستخدم فيها أسلوب "الكولاج" الشائع في الفن التشكيلي. وقد وصل سينمائيا إلى السيريالية، وفكريا إلى الفوضوية أي التمرد على كل المؤسسات الاجتماعية ورفضها.

أما "الغوريلا تستحم عند الظهر" فهو فيلم درامي- تسجيلي، فيه ملامح كثيرة من أسلوب ماكافييف المعروف: تداخل السرد، الكولاج، التعليق الصوتي، استخدام مواد من الأرشيف، المزج بين الخيال والواقع، الاعتماد على لامنطقية الأحلام التي يمزجها أيضا بالهواجس الشخصية بالواقع، وتوليد الضحك من الماساة. لكن الفيلم رغم ذلك، تشيع فيه لمسة من الحزن والرثاء لعصر كامل ولي، ومفاهيم زالت، ولم يبق منها سوى رأس لتمثال مقطوع للزعيم الشيوعي فلاديمير التيش (لينين) الذي ألهم الملايين في الماضي وحتى الماضي القريب. هل عاد ماكافييف بعد زوال العصر السوفيتي للترحم على ذلك العصر؟
يعتمد الفيلم على الممثل الواحد الذي يروي القصة في سياق أشبه بـ :المونولوج". إنه جندي في الجيش السوفيتي الأحمر السابق، كان متمركزا مع القوات السوفيتية في ألمانيا الشرقية السابقة، وقد ادخل المستشفى في وقت ما لتلقي العلاج. وعندما غادرها وجد أن جيشه قد رحل وتركه في الخلف، الأمر الذي اعتبره نوعا من "الخيانة" الشخصية له، هو المخلص كل الإخلاص للقيم والمبادئ الايديولوجية التي تربى عليها الجيش الأحمر. لقد هرب جيش كامل من الخدمة تاركا وراءه جنديا واحدا متمسكا بأداء الواجب.
يستمر الجندي، ويدعى فيكتور بورسيفيتش، في القيام بواجبه، محافظا على زيه العسكري الرسمي اللامع، رافضا قبول فكرة أن كل ما ناضل من أجله طيلة حياته قد انتهى. إنه ابن ذلك البطل القومي السوفيتي الذي كان أول من رفع العلم الأحمر فوق مبنى الريشتاغ الألماني (البرلمان) في قلب برلين بعد دخول القوات السوفيتية ودحر النازيين عام 1945.

التداعي والواقع
في النصف الأول من الفيلم يستخدم ماكافييف لقطات من الفيلم السوفيتي التسجيلي الشهير "سقوط برلين"، وهو من كلاسيكيات المرحلة الستالينية في السينما السوفيتية: لقطات للجموع في تحية القائد ستالين أمام الكرملين، لقطات لدخول الجنود السوفيت إلى برلين.. هذه اللقطات تتداعى دائما في مخيلة بطلنا الجندي وهو يواجه مصيرا آخر عبثيا تماما.

يقبضون عليه ويودعونه السجن لفترة، ثم يطلقون سراحه ويعطونه بطاقة سفر لكي يعود إلى بلاده، إلا أنه يبيعها مقابل حفنة من الماركات سرعان ما تنفد فيلجأ إلى سرقة بعض الفاكهة حتى لا يموت جوعا.
يستمر في التجوال حتى يصل إلى منطقة خرائب خارج المدينة، يتخذها المتسولون والهائمون على وجوههم منطقة تجمع لهم بعيدا عن عيون القانون. يقيم علاقة بفتاة ضائعة.. يعثر على طفل رضيع ماتت أمه بعد أن شب حريق في منزلها أتى عليه تماما، يلتقط الطفل، ويعطيه للفتاة التي ترغب في تبنيه، يأتي تاجر من تجار السوق السوداء في زمن الانهيار، يعرض عليه مبلغا مغريا مقابل الحصول على الطفل. يتردد صاحبنا طويلا، لكنه يضطر للرضوخ تحت وطأة الإحساس بالجوع.

يتسلق تمثال لينين الضخم في ساحة المدينة، إنه يشعر تجاه التمثال بنوع من الرثاء بعد أن تدهورت حالته واصبح في حاجة للطلاء.. يذهب ويعود بمواد الطلاء ويتسلق التمثال ويبدا في طلائه بنفسه.
يقبضون عليه مرة أخرى ثم يطلقون سراحه، يقوم أخيرا تحت ضغط الحاجة ببيع زيه العسكري نقابل بضعة ماركات. وفي اللقطة الأخيرة نرى شاحنة ضخمة تحمل جسد ورأس تمثال لينين المقطوع إلى مثواه الأخير بينما يقف بطلنا في الساحة العامة الرئيسية وقد تأهب لبدء رحلة جديدة نحو عالم جديد.
يمتلئ الفيلم بالكثير من اللقطات التسجيلية التي صورت في بدايات حركة الاحتجاج التي انتهت بسقوط سور برلين ثم انهيارالدولة في ألمانيا الشرقية.
الممثل الواحد
وتعتبر تجربة اخراج الفيلم والاستعانة بالممثل المجري العظيم الذي قام بدور الجندي تجربة جريئة وربما أيضا غير مسبوقة في السينما الروائية، فالبطل يكشف لنا حقيقته في نهاية الفيلم عندما يواجه الكاميرا ويقول إنه ليس ألمانيا، وليس جنديا بالطبع، لكنه مجرد ممثل قام بتقمص الشخصية، وبذلك يزيل أي وهم لدى المشاهدين يتعلق بمرحلة ساد فيها الكثير من الأوهام أيضا.
إننا أمام رحلة أوديسية عبثية تبدا من "الفانتازيا" وتنتهي إلى الواقع الذي يظل قابلا لشتى التأويلات.
ورغم ما يحتويه الفيلم من نقد شديد لفكرة التمسك الأعمى بالأيويولوجية وإغفال التغيرات التي طرأت على الواقع، والإشارة إلى دور الإعلام التقليدي القديم في ترسيخ قيم ومفاهيم أحادية معينة، إلا أن الفيلم يحمل، على نحو ما، نغمة رثاء لعالم مضى، كما يعكس مخاوف صانعه من عالم جديد قادم.
في اللقطة الأخيرة يودع فيكتور زيه القديم، ويرفع أمام الكاميرا لافتة تحمل كلمات عن الحرية الكبيرة التي أصبح يتمتع بها بعد ان ودع ماضيه، لكننا نراه وحيدا ضائعا لم يصل بعد إلى نهاية رحلته الأوديسية، وربما لن يصل أبدا.

شاهد مشهد العناوين من "ألغاز الكائن البشري"

الاثنين، 22 سبتمبر 2008

سينمائيون يتجسسون على زملائهم

لقطة من فيلم "حياة الآخرين"
ايستفان زابو

من غرائب عالم السينما أن يكتشف الممثل الذي قام ببطولة الفيلم الألماني الشهير "حياة الآخرين" والذي رحل عن الحياة بعد فترة قصيرة من نجاح الفيلم عالميا، أن زوجته الممثلة كانت عميلة لجهاز الشرطة السرية في ألمانيا الشرقية (ستازي)، وأنها كانت تتجسس عليه، وقد كتبت تقارير عنه وقدمت تقارير وصورا ونصوص محادثات استغرقت 500 صفحة اطلع عليها بنفسه بعد أن أتاحت السلطات الألمانية الإطلاع على ملفات الستازي.
ولا أعرف ما الذي انتهت إليه هذه القصة الغريبة التي وقعت بين اثنين كانا من أشهر الممثلين في عالم المسرح في برلين الشرقية. ولكن ما أعرفه ويعرفه الجميع أن الزوج الذي انفصل عن زوجته بعد 6 سنوات من الزواج الذي جاء بعد قصة حب عنيفة، قام ببطولة "حياة الآخرين" الذي يروي تحديدا قصة مشابهة تماما، غير أنه لا يلعب فيها دور الممثل- الزوج- المخدوع، بل دور ضابط البوليس السري المكلف بالتنصت على كل ما يدور في بيت الممثل وزوجته لحساب رئيسه الذي يريد توريط الزوجة الحسناء في علاقة غرامية معه.
أظن أن القضية التي رفعتها الزوجة ضد زوجها لمنعه من نشر هذه المعلومات في كتاب عن سيرة حياته انتهت بموت الممثل- الزوج العام الماضي.
وكان الستار قد رفع قبل سنوات عن فضيحة أخرى بطلها المخرج المجري الشهير ستيفان زابو الذي يعد أحد أهم السينمائيين في أوروبا الشرقية والذي حصل فيلمه "ميفستو" على الأوسكار في الثمانينيات.
والفضيحة تتلخص في أن المخرج زابو كان عميلا لجهاز الأمن المجري، وكان يتجسس على زميل له من المنشقين السياسيين اثناء فترة الدراسة الجامعية في الخمسينيات لحساب السلطات، وقد يكون بالتالي قد حصل على مكاسب عديدة من وراء ما قدمه من خدمات للسلطات الشيوعية.
والطريف أن فيلمه الأشهر "ميفستو" كان يتناول العلاقة بين الفنان والسلطة الشمولية، ويصور كيف باع ممثل مسرحي روحه للنظام النازي في ألمانيا في الثلاثينيات مقابل الصعود إلى قمة المجد، وعندما استنفذ أغراضه تخلى النظام عنه واسقطه من مجده.
وقد أنكر زابو اتهمة وقال إنه أوهم جهاز الأمن في بلاده بأنه قبل العمل لحسابهم غير أنه كان في الحقيقة، يحمي زميله بتقاريره التي لم تكن تتعرض لما كان يقوم به الزميل من الواقع.
ترى كم لدينا من جواسيس في عالم التمثيل والسينما في العالم العربي؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.

شاهد بالفيديو المشهد الحاسم في فيلم "حياة الآخرين"

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger