بقلم: أمير العمري
بعد ما حققه فيلم "الحياة حلوة" Life is Sweet لمايك لي من نجاح كبير، جاء فيلم "تعرية" Naked إلى مهرجان كان السينمائي عام 1993 لكي يرسخ موهبة مخرجه ومؤلفه.
وأظن أن "تعرية" هي أفضل ترجمة لإسم هذا الفيلم البديع، فالمقصود ليس الإشارة إلى العري بالمعنى الجسدي لكي تصبح الترجمة "عاري" بل الإشارة إلى تعرية الواقع، وكشف الحقيقة، وبالتالي هو يقصد التعرية بالمعنى الاجتماعي الشامل.
وقد جاء الفيلم بمثابة "نقلة" كبيرة في المسيرة الفنية الإبداعية لمخرجه مايك لي، صاحب الرصيد البارز في المسرح الإنجليزي والتليفزيون، بالاضافة إلى أفلامه الروائية الثلاثة التي سبقت هذا الفيلم، وكعمل كبير لا يتوصل إلى تحقيقه سينمائي إلا بعد سنوات طويلة من البحث الشاق، النظري والعملي، في الدراما والشكل السينمائي، حتى يمكنه تحقيق أسلوب خاص مميز هو ما سيطبع كل أفلامه بعد ذلك حتى يومنا هذا.
وكما كان فيلم "يالك من رجل محظوظ" Oh.. Lucky Man للمخرج البريطاني ليندساي أندرسون قمة ما وصل إليه مخرجه في 1973، يمكن القول إن "تعرية" – ليس قمة أفلام مايك لي، فسيصل إلى تلك القمة فيما بعد، في تحفته الكبرى "عام آخر" Another Year بعد 17 عاما، وإنما بداية الطريق الحقيقي نحو القمة. إنه شهادة بصرية هائلة عن الواقع البريطاني، وعمل يكشف عن أسلوب مميز لا يحاكي أسلوبا آخر مما سبقه.
إن "تعرية" فيلم واقعي، ومضاد للواقعية في آن. إن أساسه هو ذلك البطل الفردي، ولكنه البطل- اللابطل، أو البطل النقيض anti-hero الذي يخوض تجربة تنتهي به إلى الهزيمة. وهو فيلم عن لندن: المدينة والبشر، بل أحد أهم ما ظهر من أفلام عن تلك المدينة التي تخفي أكثر مما تظهر، لكنه أيضا فيلم عن الدنيا الواسعة، وعن الإنسان في كل مكان، في أرجاء ذلك العالم الجديد الذي اضطربت أركانه واعتزت أسسه وتضاءلت معالمه.
إنه رحلة داخل رحم مجتمع شديد التعقيد، لكنها رحلة قد تنتهي إلى ولادة الجديد أو إجهاضه، إلى تقدم الإنسان ونجاحه في تجاوز محنته، أو اندثاره ككائن لديه القدرة على ترك ما يشهد على ابداعاته وإضافاته الخلاقة إلى الطبيعة.
والطبيعة في هذا الفيلم حزينة، شاحبة. ورغم أنه مصور بالألوان إلا أن صورة الواقع المعاصر التي نراها هي صورة أقرب إلى الوحات التجريدية المرسومة بالأبيض والأسود. وإذا كان الأداء التمثيلي – كما في كل أفلام مايك لي - أحد العناصر الرئيسية التي تساهم في تكثيف دراما الانهيار الاجتماعي، والسقوط الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، والتدهور الثقافي، إلا أن الضوء الذي يحدد لنا معالم الصورة ويتحكم فيما يصل إلينا من خلالها، هو أيضا عنصر أساسي في أفلام هذا المخرج الموهوب.
ومن الممكن رصد مصادر الرؤية في فيلم "تعرية" في المسرح والأدب والفلسفة العدمية والتشككية cynicism جنبا إلى جنب مع أفكار أخرى مثل فكرة الحلم وإجهاض الحلم، وعلى صعيد الشكل، يعلي كايك لي هنا كثيرا من دور الكاميرا المهتزة التي تعكس عبثية المنظور، وهي رؤية سادت السينما الأخرى منذ تجارب المصور الفرنسي راؤول كوتار في أفلام الموجة الجديدة الفرنسية في أواخر الخمسينيات وأشهرها فيلم بلاشك، "على آخر نفس" لجان لوك جودار.
إن "تعرية" في عبارة واحدة، هو امتداد مفتوح على أفق التسعينيات، لكل من "تكبير" Blow Up لأنطونيوني من الستينيات، إلى "يالك من رجل محظوظ" لأندرسون من السبعينيات.
البطل هنا، ويدعى "جوني"، هو شاب في السابعة والعشرين من عمره، ليس ثائرا ولا متمردا على قوانين المجتمع كما كان بطل "البرتقالة الآلية" The clockwork Orange لستانلي كوبريك مثلا، فهو لا يسعى إلى الثورة أو التمرد من أجل التمرد، كما أنه لا يتباكى على فشل ثورة مايو 1968 التي تم تدجين أبطالها واستيعابهم في إطار "النخبة" السائدة، بل هو في الحقيقة ابن التسعينيات، الذي ارتضى السقوط، عن وعي وعن يقين، مدفوعا بموقف كلبي، لا مبالي، يكاد يكون منبت الصلة بعالم السياسة، وهو يندفع نحو مصيره بثبات دون أن يلتفت أبدا خلفه. إنها طاقة التدمير الذاتي المخيفة بعد جفاف الثورة، وسقوط الأيديولوجيا.
"جوني" نتاج لمجتمع البطالة، على العكس من بطل أنطونيوني في "تكبير" الذي كان نتاجا لمجتمع الوفرة في الستينيات. وهو أيضا نتاج للتشرد والحرمان والتهميش وانهيار القيم الطبقية القديمة في حقبة مرجريت تاتشر وما بعدها، حيث انتفى الحلم في الصعود اعتمادا على "الموهبة" أو الجدارة وحدها، وأصبح يتركز في القدرة على التلاعب والغش والاندماج في لعبة الفساد الاجتماعي.
إن جوني شاهد ومشارك في آن. هو إذن يجمع بين المتناقضات: العفونة والانتهازية التي لا يسعى لتبريرها، والرثاء الرقة والعاطفة التي يحاول في معظم الأحيان، إخفاءها. وهو لا يبرر، بل يمنطق الأشياء بمنطق المثقف، فقد كان في الماضي معلما، لكنه هجر التعليم لإحساسه الشخصي بالعبث.. عبث الواقع، لكنه اللامنتمي "الكلبي" وليس اللامنتمي المتفلسف ففلسفته تبرر كل شيء رديء. وقد قرر أن ينحدر طواعية الى الدرك الأسفل عن طريق الإغراق في الجنس والمخدرات وغشيان العالم السفلي حيث يجتمع الهامشيون والمنبوذون من جيل الشباب الذ اختار القطيعة مع الواقع.
يبدأ الفيلم بجوني في إحدى أزقة مدينة مانشستر مع بائعة هوى قبيل انبلاج الفجر، يمارس معها ساديته العنيفة التي تشي بطبيعة تكوينه المضطرب، حتى تكاد المرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلا أنها تتمكن من ضربه ثم الإفلات منه والنجاة بنفسها مهددة متوعدة. ويقرر "جوني" أن يغادر المدينة بأسرها فرارا مما قد ينتظره من مشاكل محتملة. إنه يسرق سيارة ويقودها الى لندن، العاصمة الفسيحة التي يتوه فيها النهار في أحشاء الظلمة.
وفي لندن يلتقي جوني بصديقته السابقة ورفيقتها في السكن. وتجذبه هذه الفتاة الأخيرة بضياعها واستعدادها الواضح للانسياق معه في نزواته الغريبة، فهي مثله، تشعر بقسوة الدمار الداخلي وتسعى إلى مده على استقامته.
ترتبط الفتاة به وتلتصق به كظله، ويمارس الاثنان معا التدهور بشتى صوره وأكثرها قسوة وإغراقا في العنف إلى أن يشعر جوني بوطأة الفتاة واثقالها عليه فيهجرها دون أن يهجر المسكن الذي يعود في الواقع إلى ممرضة ذهبت في رحلة طويلة إلى افريقيا.
يترك جوني العنان لنفسه، كبطل تراجيدي يسعى تجاه مصيره، لا تحركه الأقدار العاصفة بل طغيان الإحساس بالدمار. وهو يلتقي بعد ذلك بشاب شبه مختل عقليا جاء من اسكتلندا، وأصبح ضائعا في فراغ لندن، يبحث عن صديقة له تدعى "مرجريت" طيلة الوقت، ثم يلتقي جوني حارسا ليليا يؤدي عملا روتينيا في إحدى الشركات، ويقضي معظم الوقت في القراءة، أو في التلصص على امرأة في خريف العمر، ترقص وحدها وتتعرى في غرفتها ليلا. وينتهي حوار بين جوني والحارس الليلي الى انهيار قناعات الرجل تماما فيسلم قياده إلى جوني، أي أن منطق البطل النقيض anti-hero يفرض هنا نفسه بشكل سحري، على كل من يلتقي بهم "جوني" من الشخصيات اللندنية المهزومة سلفا، باستثناء شخصية واحدة لا يمكنه أن يفرض إرادته عليها هي صديقته السابقة "لويز" التي تشعر بالرثاء له، وتحاول باستمرار رده الى ذاته واستعادته إلى حقيقة نفسه، كما تسعى لاستعادة ما كان بينهما من حب. وفي اللحظة التي تتصور أنها قد نجحت في سعيها تكون الخيوط قد أفلتت بشكل نهائي من بين يديها. تجتمع جماعة من الشباب حليق الرءوس، يوسعون جوني ضربا، فييكسرون ساقه، ويستولي هو على بضعة جنيهات من منزل لويز ويغادر المنزل وهو يسير بصعوبة بالغة، حيث يترك نفسه في شوارع لندن المقفرة الباردة، يتجه صوب لاشيء، نحو المجهول.
يعتمد هذا الفيلم في المقام الأول، على البناء المحكم للشخصيات، وبالتالي على عبقرية الأداء التمثيلي لمجموعة الممثلين وفي مقدمتهم الممثل ديفيد ثيوليس في الدور الرئيسي.
في الفيلم شخصية شديدة الأهمية لشاب ينتمي للطبقة الوسطى الميسورة، يجسد مايك لي من خلاله، ما بلغته هذه الطبقة من تدهور واغراق في الملذات الحسية بشتى الطرق وأكثرها تطرفا وشذوذا، دون أن تبالي بما يحدث حولها. لقد أصبحت جزءا من ذلك التدهور وكأنها تسير نحو نهايتها.
هذا الشاب، الذي يدعى سباستيان، يغشى الحانات والمطاعم الفاخرة، يتمكن بوسامته وبما يملكه ويبعثره من مال، من إغواء أي فتاة جذابة تقع عليها عيناه: من الساقية، إلى أخصائية التدليك، وهو يذهب في تطرفه إلى درجة أن يقرر في النهاية أن يسيطر على مستأجري المنزل الذي يملكه، فيذهب الى المنزل حيث يقيم جوني مع لويز ورفيقتها، ويحاول إغواء الفتاتين، ويعرض على إحداهن مالا، وتقبل هي بسبب عزلتها وانسحاقها وإحساسها الواضح بالانسحاب من الحياة. ومقابل ذلك يمارس معها ما يشاء من شتى أنواع الشذوذ السادي المريض إلى أن توشك على الانهيار. لكنه يتشاجر مع لويز فيقرر البقاء في المنزل والاستيلاء على الشقة التي تقيم فيها الفتاة، ولا تنجح كل محاولات الفتاتين في اخراجه من تلك الشقة إلى أن تعود فجأة صاحبة الشقة من رحلتها الافريقية.
هذه المرأة ممرضة لاتزال تتمسك بتقاليد الطبقة الوسطى، وتتخيل أن المجتمع الذي تركته قبل غيابها لسنوات باق على ما كان عليه، غير مدركة لما وقع من تدهور سريع. إنها تفاجأ بانهيار النسق القديم بفعل ما تلحظه داخل مسكنها نفسه من مفارقات وطبيعة ما أصبح يضمه من شخصيات غريبة، انتهت علاقتها بالحياة الواقعية فأغرقت نفسها في الخيال المريض، يسعون جميعا لستر إحساسهم بالرعب الاجتماعي عن طريق الإغراق في الجنس في أدنى صوره.
ويعبر مايك لي من خلال السيناريو المتميز الذي كتبه، عن صدمة الفتاة بأن يجعلها، ليس فقط عاجزة عن القيام بأي تصرف إيجابي، بل وعاجزة عن نطق الكلمات التي اعتادت عليها على نحو صحيح.. الأمر الذي ينتج عنه اضطراب لغوي مثير للضحك.
ويتحكم مايك لي في الأسلوب الواقعي الصارم الذي يصل في الكثير من المشاهد الخارجية إلى الواقعية التسجيلية، بتركيزه على أدق التفاصيل في الواقع. ولكن الواقعية هنا تخرج بشكل ما، عن نسق الواقعية القديمة، ففي سياق الفيلم، وعلى الرغم من كثرة مشاهد العنف، تظل هناك لمحات شاعرية خاصة من خلال التصوير الذي يضفي غلالة ضبابية خاصة على لقطات الليل والنهار، وهي غلالة تضفي أيضا إحساسا بالاختناق وكأننا نغرق داخل أحشاء مدينة جهنمية لا يعرف من يدخلها أنها ستبتلعه.
ويساهم الطابع التجريدي للصور التي تقترب من الأبيض والأسود، في كسر حدة الواقعية وإضفاء لمسات جمالية خاصة، نشعر بها ونحسها، دون أن تنحرف بأنظارنا عن متابعة الشخصيات. إنها الواقعية الشاعرية التي تتجسد من خلال الكثير من الإشارات الكامنة داخل الصور، والتي تنتج عنها علاقة ذهنية وثيقة بالواقع الاجتماعي والانساني دون أن تكون الصور مباشرة في دلالاتها.
وكما في كل أفلام مايك لي، رغم قتامتها وعنفها وقسوة ما تعيشه الشخصيات، هناك الكثير من اللحظات والمواقف الضاحكة التي تنبع الكوميديا فيها من التناقضات في السلوك، والافراط في التعبير عما يجيش في الصدور، والمبالغة في تصوير الإنسان داخل المأزق الإنساني، ومحاولاته الإفلات من مصيره دون نجاح يذكر.
إنها رحلة "أبوكاليبسية" تجمع في طياتها بين أشياء كثيرة: الفرد والمجتمع والطبقة والقيم الجديدة- القديمة، الضحك والبكاء والمرض والإيذاء البدني والنفسي (ولكن بعيدا عن منطق التحليل النفسي الدرامي).. أو هي تجمع ببساطة، بين البدء والمنتهى، في صيرورة حتمية.
ربما نشعر في النهاية أن العالم ينهار بفعل قوة سحرية خارقة، لكن مايك لي يؤكد أن انهياره ناتج أساسا، عن انهيار الإنسان، وأن الإنسان سيتمكن من بدء مسار جديد إذا ما استيقظ من غيبوبته التي استسلم لها طواعية، وهو ما يجعل من "تعرية" رغم كل تشاؤمه، عملا متفائلا يشعل بالأمل في مستقبل افضل.
0 comments:
إرسال تعليق