‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتب سينمائية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتب سينمائية. إظهار كافة الرسائل

السبت، 22 ديسمبر 2012

'الشيخ امام في عصر الثورة والغضب': عندما كانت مصر تحبل طويلاً بالثورة!


بقلم: محمود عبد الشكور


عن جريدة "القدس العربي"- عدد 22 ديسبر 2012



 
أشعر بدين عميق كلما قرأت كتاباً يعيد شحن بطاريات العقل والوجدان، أفكر فوراً في أن أكتب بحماس يوازي قوة تلك الشحنة، وأتمنى ان يقرأ الآخرون ما قرأت، وأن يستمتعوا كما استمتعت، ويزيد ثقل الإحساس بهذا الدين، إذا كان قد فاتتني قراءة الكتاب في وقته، يحتاج الأمر هنا الى استدراك مضاعف، وتحية مزدوجة.
وقد فاتني الكثير بالفعل لأنني لم اقرأ كتاب الناقد أمير العمري وعنوانه 'الشيخ إمام في عصر السينما والغضب' حين صدوره في عام 2010، كان اهتمامي وقتها منحصراً في متابعة كتبه وقراءاته النقدية السينمائية الرصينة، كما كتبت وناقشت في ندوات، كتُبه الأخرى التي تنقل ملامح عصر السينما، والتي تنظر الى الحياة من منظور عين السينما، بل إنها تجعل الحياة في قلب السينما الجميلة.
الآن ، وبعد أن فرغت، وفي جلسة واحدة، من قراءة كتاب 'الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب'، أجدني مضطراً الى الإعتراف بأنه من المستحيل أن تفهم الأفكار الفنية والجمالية التي ينطلق منها أمير العمري في رؤيته للسينما أو العالم إلا بالعودة الى هذا الكتاب الحميم الذي تحضر فيه الذات لتستدعي العصر بأكمله، عصر الثورة والغضب الذي صنع ظاهرة نجم وإمام وتأثر بها.
لا أجد الكتاب منقطع الصلة بالسينما والفن عموماً، ليس فقط لأنه يعيد قراءة وتحليل بعضاً من روائع الشيخ إمام التي كانت تغني في ميدان التحرير في أيام ثورة يناير، ولكن لأنه يرسم ملامح زمن يمكن أن يصنع فيلماً سينمائياً كبيراً بشخوصة وبأفكاره وبتحولاته، يكفي أن نجم وإمام لم يظهرا روائياً إلا بصورة سطحية وساذجة في فيلم 'الفاجومي' الذي أخرجه عصام الشماع، ويكفي أن الفيلم الوثائقي المصري الذي يتم إعداده منذ عام ونصف عن الشيخ إمام مازال متعثراً حتى الآن، ويكفي أن أحداً لا يعرف مصير المادة الفليمية (على شرائط 35 مللي) عن إمام ونجم، التي يذكر الكتاب أنها بحوزة المخرجة اللبناينة هايني سرور.
على أن قوة الكتاب الأساسية، وهي أيضاً مصدر تأثيره، في صدقه الشديد، وكأن مؤلفه كتبه ليسترجع بعضاَ من نفسه، من حياته الجامعية، ومن الشخوص الذين عرفهم، وكأنه يجتر لذة أول مرة سمع فيها في مدرجات الجامعة إمام ونجم، ويربطها بأول مرة شاهدهما في التليفزيون وهما يغنيان أمام الناقد الراحل رجاء النقاش أغنيتهما الشهيرة 'جيفارا مات'، يومها قطعوا عنهم البث، وأذاعوا برنامجاً آخر، وكأن مؤلف الكتاب قرر أن يرسم زمناً بحجم الأحلام دون أن يفلت تفصيلة واحدة، وكأنه لايرى فارقاً بين إمام وعصره، جاء المغني الضرير ابن قرية 'ابو النمرس'، ليلتقي مع الشاعر الفاجومي ابن الشرقية، ليكونا على موعد مع الجيل الخارج من أنقاض الهزيمة، ليتقابل الجميع في زمن الحرب والإنتقال من عصر الإشتراكية الى عصر الإنفتاح.
يمتلك الكتاب طاقة عاطفية لا شك فيها، نوستالجيا شفيفة وآسرة، ولذلك لا يمكن أن تنزعج لاستطرادات تسربت من الذاكرة بفعل التداعي، فأكسبت السرد طزاجة وحيوية، ونقلت ألوان المكان ورائحته، ولكن الكتاب أيضاً به الكثير من التحليلات اللافتة والقراءات الذكية عن الشيخ إمام وعصره، لفت نظر العمري مثلا أن جمهور الشيخ إمام لم يكن إلا من الطبقة البرجوازية التي طالما سخر منها، جمهور مثقف محفلط تسخر منه أغنية مثل 'يعيش أهل بلدي'، جمهور قاهري بعيد عن جمهور إمام المفترض من البسطاء والعمال والفلاحين، بل إن الثنائي الشهير سرعان ما أقام الحفلات في لندن وباريس وسوريا ولبنان والجزائر.
أعجبني جداً تفسير هذا الإحتضان البرجوازي لظاهرة مضادة للبرجوازية باعتبار ذلك محاولة من مدمني الحلم بالثورة للتعبير عما يجيش في الصدور من إحساس بالذنب بعد كل ما وقع من نكسات، وكان في هذا النوع من الغناء تعذيب للذات أيضا على نحو ما، هذا تحليل وتفسير طريف ومختلف ويستحق النقاش، كما أن تفسير العمري لتعامل نظام مبارك مع ظاهرة نجم وإمام لا يخلو أيضا من وجاهة، فقد ارتأى النظام نفي الظاهرة الى الخارج، وتحجيمها باعتبارها مرتبطة أساسا بعصري عبد الناصر وانور السادات، والى حد كبير تحقق ذلك وخصوصاً بعد الخلاف بين القطبين إمام ونجم.
تندهش أيضاً لأن التحليل العقلي الإنتقادي الذي يتسلل عبر شحنة عاطفية تعبر عن إعجاب كبير بالشيخ إمام، انتهى الى ما يشبه النبوءة التي تحققت بالفعل بعد صدور الكتاب، يقول العمري بالنص :' يجب أن نأمل في أن أغاني الشيخ إمام ستعود بقوة لكي تحرك الجموع مستقبلاً، ولكن في إطار حركة وطنية ديمقراطية حقيقة تفرز قياداتها، وتطرح برنامجاً شاملاً للتغيير في مصر'، وهذا ما حدث فعلاً في ميدان التحرير، وكل ميادين الثورة في مصر في بداية عام 2011، إذ تصدرت الساحة أغنيات مثل 'يا مصر قومي وشدي الجيل'، و'صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر'، و'رجعوا التلامذة ياعم حمزة للجد تاني'، وكلها من روائع الشيخ إمام الغنائية.
ولكن الكتاب يضيف الى الشحنة العاطفية والتحليل النقدي حديثاُ تفصيلياً عن مجموعة من أهم أغنيات الشيخ إمام مع نجم أو مع غيره من الشعراء الكبار مثل نجيب سرور وزين العابدين فؤاد وفؤاد قاعود، بل ويحكي أمير العمري عن ليلة مولد لحن أغنية 'البحر بيضحك ليه' التي كان شاهداً عليها في منزل الكاتب عبده جبير في حي السيدة زينب، وبحضور 'سرور' وشخصيات أخرى معروفة مثل الصحفي أسامة الغزولي و الناقد الراحل عبد الرحمن أبو عوف، وكان نجيب سرور يطلب من الشيخ إمام أن يقوم بـ 'تدليع' الأغنية أكثر واكثر، خاصة في المقطع الذي يقول: بيني وبينك سور ورا سور/ وانا لامارد ولا عصفور / في إيدي عود قوّال وجسور / وصبحت أنا في العشق مثل.
يكشف الكتاب عن نسخة أخرى لا نعرفها بلحن آخر لأغنية 'فاليري جيسكار ديستان' قدمها إمام في حضور طلبة الجامعة، وكانت تبدأ بأبيات تقول :'شوف عندك يا تعبان/ واتفرج ع الجورنان/ فارد شنبات على تحت / ومداري مكان الكحت / ع القورة ولو فتّحت / حتشوفهم بالألوان '. ويناقش المؤلف فكرة محاولة احتواء نظام عبد الناصر لظاهرة إمام ونجم، كما يفرّق بين تلقائية الشيخ إمام الشعبية، وبين ما يبدو من تلقائية نجم التي تقف خلفها ثقافة وقراءة واسعة بالذات في الأدب والشعر، وفي الكتاب أيضاً ما يعطي حق أغنيات قدمها الشيخ إمام ولكنها أقل شهرة، مع أنها ليست اقل جمالاً مثل أغنية 'العزيق' و'الكمسري'، وهما من إبداع الشاعر الكبير فؤاد قاعود الذي رحل عن عالمنا عام 2006، أعجبني أيضاً بشكل خاص ذلك التحليل الذي يتتبع مسار تجربة إمام داخل وخارج مصر، وينتهي إلى محاولات المتأسلمين سرقة التجربة وتطويعها لشعاراتهم كما سرقوا شعارت اليساريين، واستخدموها تحت لافتات جديدة.
ربما يرجع تأثير الكتاب كذلك في نجاحه أن ينقل صورة لعصر وظاهرة نشأت في زمن مليء بالصراعات والتناقضات، عصر المخبرين حتى من بين طلاب الجامعة، زمن تليفزيون الأبيض والأسود وأجهزة التسجيل الضخمة العتيقة، أيام ثورة الطلبة والقصائد الجريئة ذات الألفاظ المكشوفة بما فيها قصيدة نجيب سرور ذائعة الصيت التي ألقاها بنفسه على الطلبة في قلب الجامعة، ثم إنك تتحدث عن موهبيتين بحجم إمام ونجم يمتلكان قدرة رائعة على السخرية والهجاء، يخرجان من السجن ليدخلاه من جديد، يظهران في التليفزيون ثم يختفيان الى الأبد، يصنعان أغنيات عن العمال والفلاحين ولا يسمعهما إلا المثقفون والطلاب، لم يتح لهما النظام أبداً أن يصلا الى الريف فظلا محبوسين داخل شرائط كاسيت وأوراق مكتوبة يتم نسخها وتهريبها، دراما كاملة عن عصر الثورة والغضب.
هذا كتاب تحضر فيه ذات مؤلّفه بكل ذكرياتها وأحلامها لتستحضر عصراً وظاهرة فنية استثنائية، تنمحى الفواصل بين الخاص والعام، الأحلام الكبيرة والتفصيلات الصغيرة، شهادة هامة على مرحلة لم تعشها أجيال كثيرة اقتنصها أمير العمري مثلما اقتنص ذكرياته عن عصر السينما ونواديها في السبعينات، فترة كانت يمكن أن تقودك الى سماع موسيقى كلاسيكية في قصر ثقافة دمياط، مثلما قد تقودك الى السجن مشفوعاً بوشاية زميلك الجامعي الذي كنت تظنه ثورياً ومناضلاً.
مازلت أرى أن في جعبة أمير العمري ما يستحق التسجيل عن تلك السنوات، حقبة السبعينات المليئة بالكثير من الأسئلة المعلّقة، أيام القلق والخوف والحرب والحب والحلم، الشيخ إمام وعبد الحليم حافظ وهيكل ونجم، الميني جيب والذقون والجنازير والسلاسل، حرب اكتوبر وزيارة القدس، عودة الوعي ونجيب سرور، التكفير والهجرة والتفكير في الهجرة.
أحسب أن في عنق هذا الجيل الذي عاش تلك الأيام الصاخبة بوعي وبحماس ديناً كبيراً يشبه ذلك الدين الذي أشعر به تجاه كل كتاب جميل وعميق ومؤثر.
لا نطلب منهم سوى أن يحكوا عن أنفسهم مثلما يحكون عن عصرهم كما فعل أمير العمري في كتابه/ الشهادة عن العبقري الراحل الشيخ إمام.

الاثنين، 28 مارس 2011

"زمن الترسو": فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"


((هذا فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"- تأليف امير العمري، الصادر أخيرا عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، وهو احدث كتب المؤلف)).

عرفنا السينما، عندما كنا أطفالا وصبيانا صغارا في مقتبل العمر، أنا وأبناء جيلي، في "الترسو"، أي في الجزء الأمامي من صالات دور العرض الشعبية. فقد كانت "الصالة"، أو الجزء الخلفي من دار العرض، و"البلكون"، أي الجزء العلوي منها، لا يجلس فيه عادة سوى أفراد الأسر أو الكبار الذين يترددون على السينما بمعدل معقول، وليس مثلنا نحن الذين كنا نغشاها باستمرار، أحيانا فرارا من حصص الدروس الثقيلة التي لم تكن هناك ضرورة لها من وجهة نظرنا. ورغم الانسجام الشخصي مع الدراسة بشكل عام، إلا أن هذا لا يمنع من الإحساس بوجود دروس ثقيلة على النفس في مرحلة معينة، عندما بدأت المدارس "بقرار سياسي" مثلا، في تدريس ما أطلق عليه إبان العهد الناصري "ميثاق العمل الوطني"، فقد كنا نراه مليئا بالشعارات العامة التي لا نفهمها لأننا، بكل بساطة، لم نكن نستطيع أن نلمسها في الواقع.
لم يكن هناك في ذلك الوقت، لدى أي منا، أي موقف معارض لنظام عبد الناصر، فقد كنا أصغر من أن نستطيع أصلا الحكم على ما كان يجري على الساحة السياسية، بل على العكس، كنا نحب عبد الناصر حبا شديدا جارفا، ونؤمن إيمانا لا يتزعزع بقدرته على الإتيان بالمعجزات لمصر، وكان لدينا شعور غامر بالعزة الوطنية، خصوصا عندما كنا نستمع إليه وهو يلقي خطاباته الشهيرة التي كان يردد فيها كلمات تدغدغ حواسنا، بل وتهزنا هزا، وتشعرنا أن المستقبل أمامنا، ينتظرنا، ويدخر لنا مصيرا عظيما في بلدنا، ألم يكن عبد الناصر هو صاحب المقولة الشهيرة "إن هذا الجيل جاء في موعده مع القدر". ورغم أنه كان يقصد الإشارة إلى جيله هو، الذي صنع ثورة 23 يوليو، فقد كانت العبارة تطربنا أيضا، وتوحي لنا بأنه يقصد جيلنا، الجيل الصاعد الذي غنى له عبد الحليم حافظ أغنيته الشهيرة.
كنا نشعر ونحن نستمع إلى خطابات "الزعيم" بأنه يخاطبنا شخصيا، يوجهنا، يبثنا أفكاره وأشجانه، ويدفع فينا الروح الوطنية، والرغبة في الفداء والتضحية من أجل الوطن. كان عبد الناصر، دون شك، زعيما جماهيريا يمتلك "كاريزما" خاصة، ومشروعا سياسيا طموحا، ويحلم باستعادة أمجاد العرب القديمة، لكن الأخطاء أيضا كانت كبيرة.
صحيح أننا، ونحن أطفال، كنا نعيش في زمن عبد الناصر بشموخه، لكننا كنا نعيش أيضا، أحلى سنوات الحلم من خلال السينما، فقد كنا نعيش زمن "الترسو" الذي كنت أعتبره "عالما" قائما بذاته. كان جمهوره عادة من أولاد وشباب من أبناء الطبقة العاملة، وتلاميذ المدارس من أبناء الطبقة المتوسطة، وبعض الخادمات، اللاتي كان لديهن ميل واضح إلى التردد على الأفلام العاطفية والكوميدية بوجه خاص، وأتذكر ذلك بوجه خاص، لأن واحدة من تلك الخادمات، وكانت تدعى "جمالات"، كانت تتردد على منزلنا، لأغراض التنظيف الأسبوعي وقضاء بعض الحاجيات، وكانت، وهي تعمل في تنظيف الأرضيات والسجاجيد، لا تتوقف عن سرد قصص الأفلام بالتفصيل، وكنا نستمع إليها في انبهار، فقد كانت تمثل وهي تروي، وتجيد محاكاة الممثلين والممثلات، وعندما كانت تصل إلى سرد موقف عاطفي مثير، كانت أحيانا تبكي بالفعل، ولاشك أن تأثير "جمالات" علي وأنا بعد صبي صغير، كان عظيما، فقد أثارت خيالي، وجعلتني أحب السينما، لدرجة أنني كنت أترجى أمي أن تسمح لي بالذهاب إلى السينما مع هذه المرأة التي لم نكن نعتبرها مجرد "خادمة" بل واحدة من أهل البيت. وكانت جمالات تصطحبني معها أحيانا إلى عروض الساعة الثالثة بعد الظهر، بعد أن تكون قد انتهت من أشغال البيت عندنا. وكنا نجلس في "الترسو" بطبيعة الحال، وكانت تأتي معها ببعض حبات البطاطا الساخنة الشهية، والذرة المشوي، وكان تناول هذه المأكولات داخل السينما، من أجمل وأشهى ما يمكن ونحن نشاهد أفلاما مثل "شارع الحب" و"البنات والصيف". وكنت أفاجأ بأن هذه المرأة معروفة جيدا للكثير من رواد الترسو في دور العرض الشعبية التي كنا نتردد عليها، وكان الكثيرون يلقون إليها بالتحية، وكانت نموذجا مجسدا لبنت البلد التي تتميز بـ"الجدعنة" والذكاء وخفة الظل، ولم تكن متزوجة، وكانت بالتالي مطمع الكثير من الرجال، ومنهم من كان يعرض عليها الزواج بمنتهى البساطة، بشكل عابر عندما يرونها في دار السينما، وكانت هي تضحك وترد بنوع من الدلال قائلة "ده بُعدك"!
كان طعم "الترسو" يختلف بالطبع تماما، عن عالم "الصالة" و"البلكون" حيث كنت أتردد عادة في صحبة الأسرة في أوقات أخرى. ولازلت أتذكر أن من أوائل الأفلام التي شاهدتها وأنا طفل صغير، فيلم "غزل البنات". وكان يسبق الفيلم بث أغنية "عاشق الروح" تلك الملحمة الغنائية الرائعة التي تألق فيها محمد عبد الوهاب، واتضح فيما بعد، أي بعد مشاهدة الفيلم، أن عبد الوهاب كان يظهر بنفسه في الفيلم لكي يغني تلك الأغنية العبقرية الفريدة في موسيقاها (الشبيهة بالموسيقى الأوبرالية) باستخدامه المميز للكورس الذي يردد خلفه، وكانت مشاهدة عبد الوهاب للمرة الأولى على الشاشة في عمر مبكر جدا، أمرا خارقا من وجهة نظر طفل صغير. ولم أكن قد لحقت بالطبع بأفلام عبد الوهاب الغنائية الشهيرة التي قام ببطولتها وعرضت في الثلاثينيات والأربعينيات مثل "الوردة البيضاء" و"رصاصة في القلب" و"يوم سعيد" وغيرها من الأفلام التي لا تنسى أبدا، والتي شاهدتها مرات ومرات بعد أن بدأ التليفزيون فيما بعد، يعرضها باستمرار من وقت إلى آخر.


أما أكثر الأفلام جاذبية لجمهور الترسو فكانت تلك التي يقوم ببطولتها "ملك الترسو" بلا منازع، فريد شوقي. وكنا نستمتع أكثر وأكثر، عندما يكون أمامه في دور الشرير، الممثل الفذ محمود المليجي. والغريب أننا كنا نحب محمود المليجي كثيرا جدا رغم أنه كان يقوم عادة، بأدوار الشرير: القاتل والمخادع والمحتال. وكان جمهور الترسو، عموما، يحبه ويحترمه. وقد فكرت طويلا في السبب، وتوقفت أمام هذه الظاهرة الغريبة التي لم تكن معتادة، ففي العادة كان الجمهور، ولايزال، يتماثل مع البطل: المظلوم، المضطهد، الطيب القلب، الشجاع، الذي يعول أسرة، أو يبحث عن المال لإجراء عملية جراحية تنقذ ابنته الصغيرة من العجز أو المرض العضال، وقد تُورطه ظروفه وتجعله يقع ضحية لعصابة من الأشرار (يكون زعيمها بالضرورة هو محمود المليجي). وكان يقوم بدور البطل في الغالب، فريد شوقي، أو شكري سرحان.

أما أن يتعاطف الجمهور مع البطل، وفي الوقت نفسه ينظر بإعجاب إلى "الشرير" الذي يمثله محمود المليجي تحديدا، فهو أمر يستحق أن نفهمه. وما توصلت إليه هو أن جمهور "الترسو" كان يذهب إلى السينما لكي "يتفرج" على "فريد شوقي" و"محمود المليجي"، أي على هذين الممثلين العملاقين وهما يؤديان، أو يشخصان، أو يقومان بدورين، ويعرف الجمهور مسبقا أنهما "يمثلان"، أو يتقمصان دوريهما على الشاشة، كما لو كانا يشتركان معا في "لعبة" مسلية، يثق الجمهور أيضا في أنها ستنتهي بانتصار البطل الطيب على المجرم الشرير. ورغم هذا، كنا في "الترسو"، نشعر دائما بالإثارة والترقب، بل وننفجر أيضا في عاصفة من التصفيق عندما يقوم البطل بضرب الشرير ويتغلب عليه، أو عندما يتمكن البطل من إنقاذ ابنه الذي اختطفته العصابة، أو تخليص حبيبته من بين أيدي رجال زعيم العصابة، بينما كنا نستاء عندما تحضر الشرطة، كالعادة، في اللحظة الأخيرة، لكي تقبض على المجرم وأفراد عصابته، فقد كان ما تفعله الشرطة بالنسبة لنا نحن جمهور الترسو، نوعا من "تحصيل الحاصل"، في حين أن "البطل" أو "الشجيع"، أو تحديدا فريد شوقي (وحش الشاشة) يكون قد قام بالواجب كله على أكمل وجه قبل وصول الشرطة.

كان أساس الإعجاب هنا، أننا كنا نشاهد عرضا ممتعا. صحيح أننا نندمج مع أبطاله، لكننا نعلم مسبقا أننا سنشاهد "المليجي" وهو يلعب لعبة جديدة يتظاهر فيها بالشر، وأننا سنرى فريد شوقي يمثل علينا دور البطل الخارق الذي ينهض من العدم لكي يستعيد حيويته وطاقته، ويستعين بالله (كان كثيرا ما يردد لازمة كلامية شهيرة هي "ياقوة الله..." قبل أن يسدد ضربة موجعة إلى عدوه الشرير)، أو يحاول في البداية التظاهر بأنه رجل لا يريد اللجوء للأذى والعنف عندما يرمي خصمه بنظرة تحذير فيها الكثير من الطيبة والوداعة، ويقول له "الطيب أحسن"، ثم يعاجله بلكمة قوية تسقطه أرضا، أو وهو يحلف بـ"شرف أمه" أنه سينتقم من الأشرار، أو يردد القسم ذاته قبل أن يقوم بعملية غير قانونية، كأن يشترك مع العصابة في عملية سطو مثلا ويتعهد لهم بأنه سيحرص على نجاح العملية "بشرف أمه"، في حين نعرف نحن جمهور الترسو أنه يضحك عليهم بالطبع، وأن موضوع "شرف أمه" مجرد عبارة لا معنى لها في الواقع، مجرد خدعة. وقد اشتهر فريد شوقي أيضا بعبارته الشهيرة التي كان يوجهها إلى الشرير في الكثير من أفلامه الشعبية وهي: تصدق وتآمن بالله يامعلم؟ فيرد المعلم في عفوية: لا إله إلا الله يابني. هنا وبكل برود يرد فريد بقول: حلو.. مادام اتشهدت على روحك يبقى خد"، ويعاجله بلكمة قاسية ثم يهرب، ويجن جنون جمهور الترسو من السعادة بالطبع، فـ"الملك" لا يمكن أن يُهزم أبدا. وفي بعض الأفلام التي كان فريد شوقي يُضرب فيها أحيانا ضربا مبرحا من جانب أفراد العصابة حسب مقتضيات الدور وقبل أن يثار لنفسه، كان جمهور الترسو أحيانا يثير الشغب داخل دار العرض، فكيف يمكن أن يُضرب "الملك" بهذا الشكل؟ مستحيل!

ورغم عنف "وحش الشاشة" وضرباته الموجعة لخصومه الأشرار، وشجاعته التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، كانت هناك أيضا طيبة ما في ملامح وجهه، وكان أداؤه مشوبا بخفة الظل، والكثير من "الجدعنة" التي تعجب بالطبع، جمهور "الترسو".

بعد أن تقدم العمر بـ"الملك" في السبعينيات والثمانينيات، تخلى عن أدوار العنف والمغامرات، أي خلع ببساطة، ملابس "وحش الشاشة"، وآثر أن يمثل دور الأب. وقد تفوق كثيرا على سبيل المثال في فيلم "قطة على نار" للمخرج سمير سيف أمام نور الشريف، و"السقا مات" للمخرج الراحل صلاح أبو سيف، وهو من أجمل ما أنتجته السينما المصرية في تاريخها كله. وفيه قام فريد شوقي بدور "مطيباتي الجنازات" ببراعة كبيرة ذكرتنا على نحو ما، بدوره الذي لا ينسى في فيلم "بداية ونهاية" من إخراج صلاح أبو سيف، أمام عمر الشريف وأمينة رزق وسناء جميل، وهي كلاسيكية أخرى من كلاسيكيات السينما المصرية.


أما محمود المليجي فقد كنا نعلم جيدا أنه "رجل طيب"، رغم شره الواضح، ونظرات عينيه المخيفتين اللتين كان الشرر يتطاير منهما، وكان المليجي أحيانا يتكلم بطريقة تجعلنا نرتعد ونحن نشاهده ونتطلع إلى بريق عينيه الذي يشي بالجنون والقسوة المفرطة والسادية المرضية، خصوصا قبل إقدامه على قتل إحدى ضحاياه، خنقا مثلا، أو ذبحا بسكين. ومع ذلك، كان المليجي محبوبا. كنا نراه ممثلا لا غنى عنه أمام فريد شوقي في أفلام مميزة جمعت بينهما مثل "سواق نص الليل" و"رصيف نمرة 5" و"عبيد الجسد" و"المصيدة" و"سوق السلاح" و"النشال" والمصيدة" و"العملاق" و"بطل للنهاية".. وغيرها.

وكان المليجي قد برز وحده، أي دون مشاركة وحش الشاشة أو ملك الترسو، فريد شوقي، في فيلم "الوحش" (1954) الذي أخرجه ببراعة صلاح أبو سيف. وكان هذا الفيلم من الأفلام التي يعاد عرضها في دور السينما الشعبية لسنوات وسنوات بعد ظهوره. وكان يقوم فيه بدور سفاح أسيوط الذي ظلت الشرطة لسنوات تبحث عنه دون أن تتمكن من الإيقاع به، إلى أن سقط بسبب إدمانه الأفيون. وكان يقوم بدور الضابط أمامه أنور وجدي، فلم يكن الثنائي فريد والمليجي قد ارتبطا معا بعد.

ولعل من أهم ملامح أفلام سينما الترسو، أي الأفلام الشعبية التي كانت تلقى إقبالا كبيرا من جمهور السينما، وأنا هنا أتكلم عن "عصر السينما" أي في ذروة تردد الجمهور على دور العرض، أنها تمكنت من خلق "شيفرة" خطابية خاصة بينها وبين الجمهور. ويمكن اعتبار هذا أكبر ما حققته السينما المصرية من نجاح في تاريخها كله، أي ابتكار تلك "الشيفرة" الخاصة، التي أصبحت وسيلة "مضمونة" للتخاطب بين السينمائيين والمشاهدين، أو بين الفيلم – كوسيط، والجمهور كمتلقي.

وقد تكونت تلك اللغة الخاصة أو "الشيفرة" المميزة في لغة التخاطب التي تستند إلى الثقافة الشعبية، عبر عشرات الأفلام. وقد نجحت هذه الأفلام، رغم تأثر الكثير منها بأفلام أجنبية، في خلق "خيالها الخاص" الذي يستطيع المشاهد أن يتعرف عليه، ويتمثله، ويجد نفسه في داخله. وقد يدور هذا الخيال حول "الحكاية" أو رواية قصة، تحتوي على الصراعات بقدر ما تحتوي على دروس أو حكايات ذات مغزى أخلاقي واجتماعي، مع تقديم هذه الأفلام في إطار من التزويق والمشهيات والمشاهد المثيرة التي تشد المتفرج لكي تجذبه داخل "الحلم" الذي كان ينتهي عادة، نهاية سعيدة. ورغم أن هذه النهاية السعيدة تكون معروفة سلفا، إلا أن الجمهور يظل دائما يتطلع إليها وينتظرها.

كان الجمهور العام الذي يشتري تذاكر الدخول إلى دور العرض يتكون في معظمه من الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة، بحكم التوجه الفكري لصناع تلك الأفلام، والاستعداد الطبيعي لدى جمهور الطبقة الوسطى للتعامل مع ذلك "الخيال المصور المتحرك" كسلعة لا غنى عنها للتسلية، بل وكإطار للمعرفة بما يدور في المجتمع أيضا، ولو على مستوى المتخيل. ولكن كان هذا الجمهور يشد معه جمهور الطبقات الأدنى الأكثر شعبية. وإذا كانت تلك الشريحة الثانية من الجمهور تتماثل مع "أبطال" أفلام "الترسو"، فلم يكن هذا يعني أنها لم تكن تتماثل أيضا مع نجوم من أبطال الطبقة الوسطى (شخصيات الأبطال التي قدمها يحيى شاهين وأنور وجدي وكمال الشناوي وأحمد مظهر ورشدي أباظة وعماد حمدي وشكري سرحان وعمر الشريف وحسن يوسف.. وغيرهم).

كان لدور العرض السينمائي رونقها وسحرها، بما في ذلك دور العرض في الأحياء الشعبية أو مدن الأقاليم، فقد كانت السينما لاتزال تُعامل معاملة العروض المسرحية، أي ينظر إليها على أنها جديرة بدور تناسبها، يمكنلهذه الدور أيضا أن تتحول، عندما يقتضي الأمر، إلى مسارح تقدم عليها المسرحيات، أو الحفلات الغنائية، كما كان حال سينما قصر النيل مثلا التي اشتهرت بالحفل الشهري للسيدة أم كلثوم، وكذلك سينما ميامي أو سينما ريفولي التي كان يغني على مسرحها عبد الحليم حافظ على ما أتذكر.


ولكن ما الذي كان يشد جمهور السينما العريض إلى فيلم مثل "غزل البنات"، وما السبب الذي جعل هذا الفيلم تحديدا، يحقق كل ما حققه من نجاح في زمنه؟ هذا التساؤل كان دائما يشغلني، رغم أنني لم أشاهده وقت ظهوره الأول عام 1949 فلم أكن قد وُلدت بعد، بل شاهدته بعد ذلك بسنوات عدة، وكان لايزال يعرض ويحقق نجاحا. وواضح أن دور السينما كانت تعيد عرض الأفلام التي تحقق إيرادات كبيرة ولم يكن هناك قانون وقتها، يحدد ضرورة عرض نسبة معينة من الأفلام المصرية، أو يحدد مدة زمنية لعرض فيلم ما، منعا للاحتكار أو ما إلى ذلك من أمور استجدت فيما بعد، وأثارت الكثير من اللغط حولها.

قصة فيلم "غزل البنات" (غالبا المقصود "معابثة الفتيات المراهقات") قصة بسيطة تتلخص في وقوع مدرس طيب القلب، رجل تجاوز منتصف العمر، هو "الأستاذ حمام"، الذي يقوم بدوره نجيب الريحاني، في غرام تلميذته "ليلى"، ابنة الباشا، التي تقوم بدورها ليلى مراد، والتي تحب رجلا آخر، مما يدمي قلب الأستاذ حمام، فهو أولا، ليس على المستوى الاجتماعي اللائق، بحيث يمكنه أن يتطلع إلى حب إبنة الطبقة العليا في المجتمع، طبقة الباشوات. وهو، من ناحية أخرى، يكبرها كثيرا في العمر. ولكنه لا يستطيع أن يخفي مشاعره طويلا، وتشعر ليلى تجاهه بعاطفة احترام وتقدير، لكنها توحي له بطريقتها الخاصة في المعابثة، وبتصرفاتها المراهقة، بأنه يتمتع بجاذبية خاصة، وأنها ترتاح إليه، وأنه لا يجب أن يقلل من قيمة نفسه، وأنها بدأت "تستظرفه" وترى أنه "حبوب"، وغير ذلك من الكلمات التي تجعله يتجه نحو المرآة، يتطلع إلى وجهه المتغضن قليلا، إلا أن نظرات عيني نجيب الريحاني توحي لنا بأنه استرد ثقته في نفسه، ونراه يتناول وردة بيضاء يضعها في عروة سترة البذلة، ثم بنوع من الإعجاب بالذات ودلالة على استعادته ثقته في جاذبيته، يغمز بعينه لنفسه في المرآة، وهي لمسة من اللمسات الإضافية التي يضيفها الريحاني إلى اللقطة بعبقريته الخاصة. لكن الانتقال إلى لقطة أخرى، يأتي مباشرة لكي يوصل للمتفرج معلومة تقضي على أي أمل لديه في إمكانية تحقق مثل هذه العلاقة بين ليلى وحمام، ففي اللقطة التالية مباشرة نرى ليلى وهي تتحدث بلهفة في التليفون، مع الحبيب المفترض (أنور- محمود المليجي)، الذي لا نراه، ويتعين علينا الانتظار إلى ما قبل النهاية حتى نراه في "الكباريه" عندما يكتشف الأستاذ حمام أنه مجرد محتال، يطمع في الحصول على ثروتها والهرب بها مع امرأة أخرى من نفس نوعه، فتكون صدمة كبيرة لليلى، لكنها سرعان ما تقع في حب طيار مدني وسيم هو "أنور وجدي" الذي ينقذها من المحتال، ولا يجد الأستاذ حمام بُدا من الاستسلام للأمر الواقع، والتضحية بحبه من أجل أن تنال "ليلى" ما تستحق مع خطيبها المهذب الوسيم.

في هذه القصة البسيطة عوامل عديدة ساهمت في تحويلها إلى أسطورة سينمائية لاتزال تعيش حتى يومنا هذا، رغم ما يمتليء به الفيلم من مواقف ساذجة، مصنوعة صنعا، ومبالغات عديدة، سواء في الحوار (ليس من المعقول مثلا أن تقول فتاة أرستقراطية وابنة باشا لحبيبها عبر التليفون: بحبك يامضروب!)، أو في عدم واقعية الحدث (أن يتكلم الشرير "أنور" ببساطة مع صديقته في الكباريه عن خطته للاستيلاء على أموال ليلى والفرار، في حين يسمعه الأستاذ حمام والمحيطون به بوضوح. وليس من الطبيعي أن يوافق طيار على دخول كباريه لتمثيل دور ابن عم ليلى حتى ينقذها من الشرير، بناء على طلب الأستاذ حمام هكذا بكل بساطة).

ولكن مثل هذه التساؤلات عن "الواقعية" و"منطقية الحدث" والقدرة على الإقناع أو "الإيهام بالواقع" لم تكن قد رسخت بعد لدى مشاهدى السينما عموما، فالفيلم الواقعي، أو الذي يحاول الإقناع بواقعية ما يصوره، لم يكن قد أصبح راسخا بعد في السينما المصرية كما هو الآن، خاصة بعد الدور الكبير الذي لعبته، ولاتزال تلعبه، المسلسلات التليفزيونية الاجتماعية العديدة التي تعرض يوميا على شاشة التليفزيون، والتي جعلت من الحياة اليومية مادة دائمة لها، مهما اختلفنا حول إخلاصها للواقعية المذهبية.

كان هناك اتفاق عام بين مشاهدي السينما (من خلال تلك الشيفرة الخطابية التي أشرت إليها من قبل) على قبول ما لا يمكن قبوله في الواقع، وكان الأهم بالنسبة للجمهور، هو متابعة الجانب الإنساني من القصة، وهو الجانب الذي أجاد الريحاني تحديدا (صاحب النزعة الإنسانية بلاجدال) ترجمته على الشاشة من خلال الشخصيات التي كان يقوم بها، خاصة وأنه كان يشترك في كتابة السيناريو أو الحوار.

كان نجيب الريحاني في المسرح والسينما، بطلا يصارع من أجل إثبات وجود ابن الطبقة الوسطى الصغيرة، دائم السخرية من القيم السائدة الجوفاء والمظاهر البراقة، مفلس لكنه يتمسك بالمبادئ، أكثر إخلاصا في مشاعره من أبناء الطبقة العليا. لقد كان الريحاني ببساطة، يعبر عن فكر يمتزج فيه الذكاء بالثقافة بخفة الظل بالقدرة على الإيقاع بأعدائه والانتقام للبسطاء (ولو على الشاشة).
الطابع الكوميدي هو الطابع الغالب على هذا الفيلم، رغم ملامح التراجيديا التي تتكثف قبيل نهايته، خاصة مع الاستخدام المؤثر لأغنية عبد الوهاب "عاشق الروح"، والريحاني يستمع إليها بكل جوارحه، بينما تتمزق مشاعره، ويعرف الجمهور، المتوحد معه، استحالة أن تنتهي القصة تلك النهاية السعيدة التقليدية، أي بحصوله على قلب الفتاة، ورغم ذلك، لا يخلو الفيلم من غمزات واضحة في اتجاه النقد الاجتماعي. صحيح أن شخصية "الاستاذ حمام" هي شخصية تتسق تماما مع تلك الشخصيات التي كان يقوم بها الريحاني في المسرح (والسينما أيضا)، فهو يقوم بدور رجل ينتمي إلى الشريحة السفلى من الطبقة الوسطى، لديه قسط من التعليم، يؤهله للعمل كمدرس، غير أنه يفقد عمله بسبب جديته وطيبة قلبه وسوء طالعه، لكنه سرعان ما يعثر على وظيفة مدرس خصوصي لابنة الباشا. ويصور الفيلم الباشا كرجل متحرر، جاد ولكن غريب الأطوار، مهتم كثيرا بتعليم ابنته اللغة العربية. وداخل القصر، عندما يذهب المدرس لاستلام وظيفته الجديدة، يندهش كثيرا عندما يجد أن الخادم المخصص لتقديم القهوة للضيوف يتمتع بدرجة عالية من الأناقة فيحسبه الباشا نفسه ويقف له احتراما إلى أن يكتشف الحقيقة، ثم يتكرر الأمر مع الموظف المكلف برعاية كلب الباشا، الذي يخاطبه بلهجة متعالية ويقول له خلال حوارهما الطريف إنه يحصل على راتب يبلغ 30 جنيها، وهو مبلغ كبير بمقاييس تلك الأيام. ولا نستبعد هنا أن يكون استخدام هذه الشخصية نوعا من "الغمز" إلى "أنطوان بوللي" مربي الكلاب (الإيطالي) في قصر الملك فاروق والذي لعب دورا مشهودا في الفساد السياسي في المراحل الأخيرة من العهد الملكي. ولكن هذه الشخصية هنا، تُستخدم في سياق رصد التناقضات الطبقية الهائلة. ولا ننسى أن الأستاذ حمام، يرد عندما يسأله مربي الكلب عن عمله بقوله، ساخرا من نفسه ومن الوضع بأكمله: "أنا بتاع كتب.. أنا (ثم يصدر صوتا بفمه دلالة على الاستهجان والسخرية ويكمل).. بتاع علم". فلا يملك مربي الكلب سوى التساؤل بدهشة: بس؟ فيجيب الريحاني بمرارة: بس. فيأتي التعليق الأخير من الرجل: أنعم وأكرم.. نهارك سعيد.. اتفضل اقعد!
هذا المشهد يلخص ببراعة ومن خلال الحوار البسيط الذكي (اشترك الريحاني مع بديع خيري في كتابة الحوار)، وأيضا من خلال أداء الريحاني وتعبيرات وجهه ونغمة صوته، ذلك التناقض الاجتماعي الصارخ، والتحسر على قيمة العلم والتعليم.. أليس هذا هو الحال نفسه الآن، بل وأسوأ كثيرا بالطبع، بعد مرور أكثر من ستين عاما على ظهور الفيلم!

ورغم الطيبة الواضحة في شخصية الباشا (يقوم بالدور ببراعة كبيرة سليمان نجيب) إلا أن طريقة تقديم الشخصية كما رسمت في السيناريو، تجعلها أيضا هدفا للسخرية أحيانا، كما نرى عندما يؤكد للأستاذ حمام إلمامه الكبير منذ طفولته، باللغة العربية، ومعرفته بأخوات كان، ويأخذ في استعراض معرفته بها، غير أن "الريحاني- الأستاذ حمام"، يتوقف عند "ما انحل" لينفي نفيا قاطعا أن تكون "ما انحل" من أخوات كان، فيصر الباشا بحدة على أنها منهن، أي يصر على أن يفرض الباطل على الحق. ولأن الأستاذ حمام مر لتوه بتجربة فقدان عمله لسبب تافه، سرعان ما يستدرك ويوافق الباشا على رأيه في حين نعرف نحن المشاهدون أنه يتظاهر بالموافقة لكي يتجنب الطرد، إلا أنه كرجل من "أبناء البلد" عن حق، يستدرك أيضا بطريقته الخاصة: هي من أخوات كان صحيح، ولكن من أب تاني ياسعادة الباشا!

الباشا ربما تعجبه هذه المزحة فيقرر رفع راتب الأستاذ حمام، من سبعة جنيهات إلى 15 جنيها مرة واحدة، وربما يكون، كما يمكننا أن نرى من تحت جلد المشهد العبقري نفسه، قد أراد أن يشتري تستر المدرس على خطئه فيما يتعلق بـ"ما انحل" أمام ابنته ووكيل أعماله، فكيف يمكن أن يخطيء الباشا في معرفته بأخوات كان وهو الذي بدأ لتوه بالقول إنه يحفظها عن ظهر قلب منذ طفولته. وبعد أن يأمر الباشا مدير أعماله (مرزوق افندي- عبد الوارث عسر) بزيادة راتب المدرس، وفي لفتة عبقرية من السيناريو (والأداء التلقائي الجاد ولكن بصورة لا تملك إلا أن تجعلنا نضحك) لا ينسى الباشا قبل أن يترك الأستاذ حمام يواصل عمله أن يؤكد له وهو يشير بإصبعه في وجهه: "ما انحل.. إنت فاهم.. ما انحل" (أي لا يجب أن تجادل في أن "ما انحل" هي من أخوات كان) فالباشا دائما يجب أن يكون على حق.. أليس هو الباشا!

ولاشك أن من عوامل النجاح الكبير الذي حققه الفيلم أيضا وجود كل هذا العدد من النجوم الأسطوريين معا في فيلم واحد، وإسناد أدوار مناسبة تماما لشخصياتهم الحقيقية إليهم.. فهناك أولا نجيب الريحاني، نجم النجوم في عصره، وأنور وجدي وليلى مراد وسليمان نجيب وفردوس محمد وعبد الوارث عسر وزينات صدقي ومحمود المليجي واستيفان روستي ونبيلة السيد، بل إن هناك أيضا عملاق التمثيل يوسف وهبي، الذي يقوم بدوره الحقيقي، ولا ننسى أيضا ظهور الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي يؤدي ملحمته الغنائية الأوبرالية "عاشق الروح" قبل نهاية الفيلم. ومن كان يحلم أصلا باجتماع كل هذا العدد من العمالقة في فيلم واحد، بل وهناك أيضا ممثل سيصبح له شأن كبير بعد ذلك، هو فريد شوقي الذي يقوم بدو ثانوي عندما يظهر في مشهد واحد داخل الكباريه في دور أحد حراس المكان، بينما يقوم استيفان روستي بدور صاحب الكباريه.

ولعل من أهم العوامل التي ساعدت على رواج الفيلم ونجاحه الكبير الأغاني الجديدة البديعة لليلى مراد، التي كُتبت خصيصا للفيلم، وقام بتلحينها محمد عبد الوهاب، الذي كان طرفا مشاركا مع أنور وجدي، في إنتاج الفيلم.

يبدأ الفيلم بأغنية "اتمختري واتميلي ياخيل" وهي أغنية رومانسية شاعرية يقدم الفيلم بها شخصية ليلى، المحاطة بصديقاتها، وكلهن على ظهور الخيل، ثم طبعا أغنية "أبجد هوز" وهي أغنية خفيفة أقرب إلى "المونولوج"، لم يكن من المتصور أصلا أن يلحنها محمد عبد الوهاب بل ويبرع في تلحينها على هذا النحو، فقد أدخل فيها للمرة الأولى، إيقاعات الرقص الذي يعتمد على الطرق بالأقدام على الأرضية، وهو نوع من الرقص كان قد انتشر في أمريكا في الثلاثينيات، وبرع فيه بوجه خاص، الراقصون السود. وقد أخرج فرنسيس فورد كوبولا فيلما كاملا هو فيلم "نادي القطن" (1985) وكان أساسه هذا النوع من الرقص. وقد جعل عبد الوهاب الطرقات الإيقاعية السريعة على الأرضية تنفرد بشريط الصوت في الأغنية في دقات منفردة، كما استخدم أيضا آلة كانت جديدة تماما على الموسيقى العربية في ذلك الوقت هي آلة خشبية يصفق بها العازفون فتصدر صوتا مميزا له رونق خاص، ناهيك بالطبع عن كلمات "أبجد هوز" الطريفة جدا التي كتبها حسين السيد.

وهناك أغنيات أخرى أصبحت بعد الفيلم من أشهر أغاني ليلى مراد مثل "عيني بترف" و"الحب جميل" و"الدنيا حلوة" و"مليش أمل".

ولاشك أن ليلى مراد تألقت في هذا الفيلم، وبدت شديدة الفتنة والجمال والجاذبية الناعمة، وكانت تتمتع بخفة الظل، والرقة والصوت العذب الهامس الجميل، بل والمدهش أيضا أنها تمكنت من التمثيل بصورة طبيعية، وأضفت على الدور ملامح رومانسية جميلة لاتزال عالقة في الذاكرة حتى يومنا هذا.

كانت ميزة فيلم "غزل البنات"، أن كلا من جمهور "الترسو" وجمهور الطبقة الوسطى معا، تعرف على نفسه في شخصية الأستاذ حمام، وتعاطف مع ذلك المدرس البائس، تعيس الحظ، الذي تسوقه الظروف إلى حيث يدق قلبه بالحب، ولكنه ذلك الحب المستحيل، فيستسلم لمصيره، ويُضحي بحبه من أجل إسعاد حبيبته. ولعل بساطة العرض وتبسيطه، وتغليفه بتلك المسؤولية "الأبوية" التي تدفع الأستاذ حمام إلى التخلي عن أنانيته ورغبته في التحقق من خلال الحب، نزولا على واجبه تجاه فتاة هي في عمر ابنته، من أسباب وصول الفيلم إلى الجمهور العريض.

ولاشك أن جمهور الترسو أيضا، استمتع بـ"الشجيع"، أو نموذج "البطل" الذي جسده أنور وجدي، بطل تلك المرحلة، عندما أخذ يسدد اللكمات إلى الشرير "أنور" (محمود المليجي) داخل الكباريه، وتمكن من إنقاذ ليلى.. تلك الزهرة البريئة من بين أنياب الوحوش.. في ذلك الزمن.. زمن الترسو!

الاثنين، 17 يناير 2011

قولوا لي ماذا تشاهدون من أفلام أقول لكم من أنتم!

القاهرة ـ ' القدس العربي': يصدر خلال أيام عن مكتبة مدبولي في القاهرة، كتاب ' شخصيات وافلام من عصر السينما' للناقد السينمائي أمير العمري، هو الكتاب الثاني عشر للمؤلف. ننشر هنا مقدمة الكتاب الذي يعتبره مؤلفه ' أقرب كتبه إلى نفسه وأكثرها تعبيرا عن رؤيته وتجربته:
نعم كان هناك ' عصر السينما'. كان هذا ' عصرنا' نشأنا فيه وعشناه، وشهدنا كيف كان، وأين ذهب. وآمل أن تتكفل صفحات هذا الكتاب بالإجابة على التساؤلات الخاصة بعصر السينما: معناه ومغزاه وملامحه، كيف كان، وأين انتهى، ولماذا.
كان العصر الذي أقصده، في الماضي، في الخمسينيات والستينيات وقسط كبير من سبعينيات القرن الماضي، لكنه شحب وتضاءل في الثمانينيات، وانتهى عمليا في التسعينيات، بعد أن أصبحت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، والسينما غير السينما.
كان عصر السينما عندما كانت الأسر من الطبقة الوسطى، تصطحب أبناءها وتذهب إلى دار السينما عصر يوم الخميس أو الجمعة، دون أي حرج، بل كانت رحلة الذهاب إلى السينما طقسا من الطقوس البديعة التي تستعد لها الأسرة في مصر، بإعداد الملابس التي سترتديها ربة الأسرة وبناتُها وأبناؤُها، وربما تُعد الأم أيضا بعض المأكولات الخفيفة التي يمكن تناولها خلال فترة الاستراحة بين الفيلمين، فقد كانت دور العرض، خصوصا في الأحياء وعواصم المحافظات، تعرض فيلمين، على طريقة ' العرض المستمر'، ينتهي الفيلم الثاني فيبدأ مرة أخرى، عرض الفيلم الأول، وهكذا.
كانت مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي هي المتعة الأولى لدى أسر الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية، إلى جانب الاستماع للحفل الشهري الذي كان يبث إذاعيا، للسيدة أم كلثوم. وكان هذا الحفل يحظى في الكثير من الأحيان، بحضور الرئيس جمال عبد الناصر ومجموعة من صحبه.
كنا نعيش ' عصر السينما' عندما كانت السينما إحدى الركائز الثقافية في المجتمع، بل والأسس الاقتصادية للدولة أيضا. وكان الفيلم وسيلة وغاية في الوقت نفسه، كان وسيلة لتوصيل فكرة ما، أو موعظة، أو حكمة أخلاقية من وراء القصة التي يرويها. وكان هدفا في كونه وسيلة للتعبير الفني، لبيان قدرة الممثلين على التشخيص ومنافسة ممثلي المسرح، بل وكان الكثير من الممثلين ينتقلون ما بين المسرح والسينما، ويرتفعون بالتالي بفن الأداء التمثيلي كثيرا.
كان عصر السينما عندما كانت هناك قامات في التمثيل تتألق على الشاشة الفضية مثل حسين رياض، وعبد الوارث عسر، وسراج منير، وزكي رستم، وسليمان نجيب، ومحمود المليجي، ونجيب الريحاني، وزكي طليمات، ومحمود مرسي، وأمينة رزق، وفاتن حمامة، وشكري سرحان، ومريم فخر الدين، وفريد شوقي، ومحسن سرحان، ويحيى شاهين، ومحمد توفيق، وسعيد ابو بكر، وعدلي كاسب، وتحية كاريوكا، وشادية، وعمر الشريف، وغيرهم كثيرون.. كثيرون.
كان تعامل المخرج وباقي العناصر الفنية مع الفيلم، أثناء عملية التصوير نفسها، تعامل الهواة المحبين، الذين يسعون إلى التجويد والإجادة، ينشدون استخدام كل مفردات السينما كفن وصناعة، لتجسيد العالم كما يرونه: رومانسيا بسيطا، أو واقعيا معقدا. وفي الحالتين كان الجمهور يقبل على الفيلم، يدعمه بالقروش التي كان يشتري بها تذاكر دخول السينما، وكان هناك اهتمام بعدم التنازل على مستوى الصنعة، بل بالتطلع إلى مجاراة المستوى الاحترافي للفيلم الأمريكي عندما كانت هوليوود تعيش عصرها الذهبي. وكانت محاكاة الفيلم الأمريكي في ' عصر السينما' أمرا أساسيا، ولكن هذه المحاكاة لم تكن تتمثل في نقل القصة أو اقتباس السيناريو وتمصيره بالضرورة، بل في مجاراة أسلوب الإضاءة، واستخدام الظلال والديكورات، والتلاعب بالأبيض والأسود، وكان السينمائيون يكتشفون ' نجوما' يمكنهم تقديمهم كنماذج درامية عربية توازي نجوما آخرين اشتهروا في السينما الأمريكية.
كانت هند رستم مثلا نموذجا عربيا لمارلين مونرو. وقد ظهرت معها في نفس الفترة. وكان فريد شوقي معادلا عربيا لأنطوني كوين، في حين كانت مريم فخر الدين المقابل العربي لكاترين هيبورن، وكان محسن سرحان مقابلا لهمفري بوغارت.. وهكذا.
في عصر السينما كانت دار العرض السينمائي هي أساس السينما كلها وجوهر سحرها. فلم تكن شاشة التليفزيون قد أصبحت طاغية مسيطرة كما هي الآن. ولم يكن الفيديو قد ظهر أو انتشر كما حدث فيما بعد، ولم نكن قد عرفنا بعد الاسطوانات المدمجة ( دي في دي) ومشاهدة الأفلام عن طريق الصناديق الصغيرة الموضوعة فوق المكاتب والطاولات، أي عبر أجهزة الكومبيوتر وفضاء الانترنت.
كان الفيلم في نظر الجميع، هو المصور على شرائط من مقاس 35 مم، وليس المصور بكاميرا الديجيتال أو عن طريق تقنية الفيديو الرقمية المتقدمة كما حدث حاليا. ويعتبر شريط الفيلم ' السيلولويد' الركن الأساسي في تاريخ السينما وفي عصر السينما، وكنا نتهافت للحصول على بضعة ' كادرات' من هذا الشريط ونحن أطفال، لكي نستخدمها في محاكاة آلة العرض، باستخدام ضوء ' بطارية' صغيرة خلف ثقب في علبة من علب الأحذية، نمرر من خلاله شريط الفيلم لنرى الصور على حائط أبيض في شرفة نتحلق فيها ليلا، أو تحت سرير في الظلام.
كان الديكور السينمائي ركنا أساسيا من أركان صنع الفيلم، وهو عنصر يُحسب حسابه، له خبراؤه والمختصون في تصميمه وبنائه وتنسيق المناظر في داخله أيضا، قبل أن تصبح البيوت والشوارع والمحلات التجارية أماكن أرخص، مع تقدم الابتكارات في تقنيات الفيلم الخام وتقدم درجة حساسيته للضوء، والتقدم في استخدام تقنية التسجيل المباشر للصوت.
كانت السينما في العالم قد أصبحت فنا وصناعة وتجارة، وكان هناك حديث طويل ممتد، حول أن من يسيطر على الأذرع الثلاث للسينما، أي الإنتاج والتوزيع والعرض، يسيطر تماما على تلك الصناعة ويستطيع توجيهها. ولذلك اتجهت حكومات الدول الاشتراكية إلى احتكار العمليات الثلاث، لكنها فشلت في احتكار الأفكار، أو توجيهها، فقد كانت طاقة التمرد لدى الفنان أقوى من أي قيود. ولعل أبرز دليل على ذلك، ما أبدعه المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي، الذي منع فيلمه البديع ' أندريه روبلييف' في الاتحاد السوفييتي عام 1966، وعندما اشتدت عليه وطأة النظام، هجر بلاده وعمل في إيطاليا والسويد إلى حين وفاته حيث أخرج فيلمين من التحف الكبرى في تاريخ السينما هما ' حنين' Nostalgia و' القربان' The Sacrifice .
وفي مصر خلال الستينيات، شهدت السينما تطورات درامية، بعد أن اتجهت أنظار الدولة أيضا إلى ضرورة دعم الصناعة، وتشجيع إنتاج الأفلام التي لا يستطيع المال الخاص تمويلها، وهي فترة ظهر فيها الكثير من الأفلام الجيدة دون شك، لكن هذه السياسة أصبحت مثار جدل ربما حتى وقتنا هذا، ولم تمر دون مجازفات ومخاطر بل ومنزلقات. فلم يكن ممكنا أن تتيح الدولة حرية النقد في مراحل وصفت بأنها ' مصيرية'، وعرفت مواجهات عسكرية مسلحة مع إسرائيل، وهو ما استدعى أن يكون هامش حرية التعبير محدودا للغاية، غير أن السينمائيين كانوا يستخدمون الهامش إلى أقصى مداه، ويلجأون إلى الرمز والاستعارة والتشبيه.
غير أن الجدل والصراع كانا يدفعان العجلة إلى الأمام. وكانت التجارب السينمائية الجديدة تسعى إلى أن تصبح جزءا من التيار السينمائي الإنساني عموما، أي أن تكون مصر في مجال السينما، جزءا من العالم، لا تنكفىء على نفسها مستندة إلى فكرة الريادة التاريخية وحدها، بل تلتحق بالعالم، سواء على مستوى السينما أو الثقافة عموما. فمصر شاركت في مهرجان كان مثلا، من البداية، أي في عام 1946 وامتدت مشاركتها طويلا قبل أن تتوقف.
كانت مصر، في الخمسينيات والستينيات، تسعى إلى استكمال مشروعها ' الحداثي'، وأن تنتقل لتصبح مجتمعا صناعيا إلى جانب المجتمع الزراعي الذي كان قد انتقل من نظام ري الحياض إلى الري الدائم، وفي هذا الإطار ' الحداثي' الذي يلتحق بالعصر، ويستخدم مفردات العصر، كانت السينما كفن وصناعة، تمر بفترة ازدهار كبير قبل أن تصاب بنكسة بسبب ممارسات البعض من الذين كانوا يعملون في الحقيقة، لحساب الموزع الخارجي، ويسعون لتلبية متطلباته، حتى لو كان معنى هذا تخريب السينما المصرية من الداخل. وسنجد بين طيات هذا الكتاب مثالا واضحا على ذلك النوع من التخريب.
وعندما اشتدت وطأة الأزمة السياسية في أعقاب هزيمة 1967 اصطبغ عصر السينما ببعض المتغيرات التي حملت الكثير من الآمال والطموحات، لكنها سرعان ما أجهضت.
في قلب عصر السينما، جاءت أيضا تجربة نوادي السينما، التي تعلمنا فيها كيف نتذوق الأفلام ونحللها ونناقشها ونستمتع بها. ودارت محاولات وقتذاك لجعل النقد السينمائي جزءا أصيلا من ثقافتنا، مثله مثل النقد الأدبي والمسرحي والتشكيلي، أي أنه نوع أدبي في الكتابة، يمكننا أن نأخذه على محمل الجد، وليس مجرد مادة مكتوبة لإلهاء وتسلية القراء في الصفحات الأخيرة من الصحف. اعتبر هذا الأمر، أي رسوخ النقد السينمائي كشكل أدبي جديد، أمرا مفروغا منه حتى نهاية السبعينيات. فماذا حدث الآن بعد أن غادرنا ' عصر السينما'، وأين نحن من العالم سينمائيا، وما الذي آل إليه مصير الفيلم الفني الطموح أمام الآلة الضخمة التي تضخ الأفلام الاستهلاكية السريعة؟
' قولوا لي ماذا تشاهدون من أفلام، أقل لكم من أنتم'. يصلح هذا التساؤل بالتأكيد، للتفرقة بين عصر السينما، وعصر ما بعد عصر السينما.
ولعل من الصحيح القول إن صفحات هذا الكتاب تعتبر، على نحو ما، رحلة إلى الماضي، إلى عصر لم يعد قائما، لكنها رحلة تقصد فهم الحاضر في ضوء الماضي، ومعرفة أين نضع أقدامنا حاليا، وهل من الممكن أن نستعيد النهضة، ونعود لكي نعيش الحلم من جديد، حلم السينما داخل دار السينما، وهل سيأتي وقت تعود فيه الأسرة المصرية والعربية، إلى دار السينما للاستمتاع، ثم يغادر أفرادها دار العرض وهم يتناقشون في الفيلم الذي شاهدوه لتوهم، مدلولاته الاجتماعية، ومستواه الفني، دون تشنج أو مناداة بالمنع، والتحريم، والعقاب، كما أصبح الوضع الآن، دون حتى الذهاب لمشاهدة الأفلام؟
هذا الأمل يظل قائما، شريطة أن تعتدل بوصلة المجتمع كله وتبدأ في الاتجاه نحو خلق وترسيخ ثقافة أخرى جديدة، ثقافة بالمعنى الشامل لكلمة ثقافة، تواجه الثقافة الغيبية السائدة المتخلفة التي انتشرت كالوباء في المجتمع طيلة السنوات الثلاثين الماضية، كما تواجه الثقافة الرسمية التي تميل إلى المهادنة مع التخلف، إن لم يكن التنافس معه أيضا.
من دون هذا سيظل ' عصر السينما' عالما سحريا من الماضي. أحاول أن أروي منه بعض ما أعرفه في هذا الكتاب الذي أرجو أن تصل رسالته دون حاجة مني إلى شرحها أو تبسيطها، فهي كامنة بين ثنايا السطور.
ولكن ينبغي أن أشير إلى أن الكتاب يتضمن الكثير من رؤيتي الشخصية لبعض الأحداث والشخصيات التي اقتربت منها والتي لعبت دورا مهما من وجهة نظري، في تشكيل عصر السينما كما عشته أنا على الأقل، كما أنها أحداث وشخصيات لا غنى عن التوقف أمامها في سياق وصف أجواء العصر الذي أتناوله، مع محاولة تقديم صورة لذلك الارتباط الحتمي في رأيي، بين السياسي والثقافي والسينمائي، والربط بين ما كان يقع من أحداث سياسية بارزة، وانعكاساتها على السينما وعلى العلاقة بين الدولة والسينما، وبين المتفرج الصغير، الذي كنته في تلك الفترة من عصر السينما، وبين أفكار كبيرة كانت تأتينا عبر الكثير من الافلام التي عشنا معها، وأصبح بوسعنا أخيرا، أن نستعيدها ونعيد اكتشافها ومشاهدتها بعد أن أصبحت متوفرة لحسن الحظ في الأسواق العالمية.
أخيرا، أرجو أن يكون التعريف بهذه الأفلام هنا، دافعا للشباب من محبي الفن السينمائي، للعودة إليها، والحصول عليها في نسخ من الأسطونات المدمجة ( دي في دي) ومشاهدتها والاستمتاع بها أيضا في ضوء ما ورد في هذا الكتاب من معلومات عن ظروف ظهورها على خريطة السينما المصرية أو العالمية.

السبت، 19 يونيو 2010

كتاب أمير العمري "حياة في السينما": الناقد السينمائي شاهدا على عصره

(هذا المقال نشر بصحيفة "القدس العربي" في 17 مايو 2010 وقت أن كنا كلنا مشغولون بمتابعة مهرجان كان السينمائي.. أنشره هنا في إطار التوثيق لاصداء كتابي "حياة في السينما"- أمير العمري)

القاهرة- "القدس العربي"
"حياة في السينما" هو إسم الكتاب الجديد للكاتب والناقد السينمائي المصري أمير العمري المقيم في لندن، وقد صدر مؤخرا عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، في 280 صفحة من القطع الكبير. وهو كتاب يبدو مختلفا، سواء في مادته، أم أسلوبه، أم طريقة عرضه لما يتضمنه من رؤى وشهادات على الكثير من الوقائع والأحداث التي شابت العمل الثقافي في مصر خلال السبعينيات من القرن الماضي، وكان المؤلف شاهدا عليها أو طرفا مباشرا فيها.
والكتاب بهذا المعنى أيضا، يختلف عن سائر ما صدر للمؤلف نفسه من كتب في النقد السينمائي من قبل (9 كتب)، كما يختلف عما يصدر عادة من كتب في مجال النقد السينمائي عموما. فهو لا يهتم بنقد وتحليل الأفلام رغم إشاراته وتوقفه كثيرا أمام عدد من الافلام التي يراها ساهمت في تكوينه الشخصي وتكوين أبناء جيله، بل يقدم فيه العمري سردا يستخدم فيه ضمير المتكلم، كشاهد، يروي ويحلل ويتوقف أمام عشرات الأحداث والشخصيات، التي تمتد متابعة المؤلف لها، إلى زمننا الحالي.
في القسم الأول من الكتاب يتناول العمري بالتفصيل، مدخله إلى الاهتمام بالسينما وعشقه للفن السابع، وكيف يعتبر أن فيلم "الترتيب" لإيليا كازان لعب دورا حاسما في اتجاه انحيازه لنوع معين من السينما التي تحمل نظرة فلسفية ورؤية للعالم تتجاوز حدود القصة وتتعامل مع الفرد ككيان ضمن إطار اجتماعي محدد، كما يعتبر هذا الفيلم نقلة كبرى من حيث الشكل والأسلوب واللغة السينمائية، في مسيرة مخرجه، ومسار السينما الأمريكية عموما في تلك الفترة من أواخر الستينيات حينما كان تأثير السينما الأوروبية الفنية قويا عليها.
وينتقل العمري بعد ذلك لكي يروي للقاريء تجربته في جمعية نقاد السينما المصريين، ونوع المعارك التي كان شاهدا عليها، والتي اصطبغت في تلك الفترة، أي خلال النصف الأول من السبعينيات، بالطابع السياسي. فقد اشتبك السياسي بالثقافي، وفرض نفسه عليه كما يشرح العمري في مقدمة كتابه، خاصة وأن تلك الفترة مثلت مرحلة انتقالية بين نظامين، هما نظام عبد الناصر، ونظام السادات الذي جاء بعده وكانت له رؤية مختلفة في تعامله مع المثقفين والمجلات والجمعيات والكيانات الثقافية. ويتعرض المؤلف في هذا الفصل، وهو مثير وحافل بالكثير من التقلبات، لعدد من الشخصيات العامة من وزير ثقافة السادات يوسف السباعي، إلى الوزير الذي تلاه عبد المنعم الصاوي وطموحاته الشخصية، إلى بعض نقاد السينما والصراعات التي دارت فيما بينهم، والتي كانت أجهزة الدولة تغذيها وتدفعها، وذلك في إطار الصراع السياسي الدائر آنذاك بين خطين: ما يسميه العمري خط الحركة الوطنية الديمقراطية عموما التي كانت تتجه يسارا، وتحالف قوى اليمين مع نظام السادات المدعوم من الإخوان المسلمين في البداية، لضرب التجربة الناصرية.
غير أن الكتاب لا يعد كتابا سياسيا، بل هذا هو الإطار العام الذي تتحدد فيه الأحداث، وتدور الشخصيات العديدة التي يتوقف أمامها العمري، لكن العمري يروي أيضا بعضا من تجاربه الشخصية في العمل الثقافي في محيط ثقافة السينما من خلال محاولاته مع بعض أبناء جيله تأسيس أكثر من جمعية سينمائية، وما تعرضت له تلك التجارب من عمليات إجهاض، أو ربما كانت أكثر طموحا من أن يستوعبها العصر. هنا يتوقف العمري بنوع من الحسرة والأسى وهو يتكلم عن ذلك "المناخ الطارد" الذي أدى بالكثير من المثقفين إلى الخروج من مصر، والهجرة سواء إلى دول عربية أخرى أو إلى أوروبا.
ويروي العمري في فصل ممتع، ذكرياته مع أعضاء ما يعرف بـ"شلة المنيل" ذلك الحي القاهري العريق، وهم مجموعة من الشباب الذين جاء معظمهم إلى القاهرة من مدن أخرى، ولم يدرسوا الفنون، على الاقل في بداية حياتهم بل درسوا الطب والهندسة والحقوق والآداب والصيدلة ودراسات أخرى، لكنهم اختاروا مجال العمل السينمائي فيما بعد، وعلى رأسهم بالطبع المخرج السينمائي الراحل رضوان الكاشف الذي يروي العمري الكثير عن ذكرياته الشخصية معه، دون أن يتوقف عند موهبته وطموحه الفني فقط، بل ويتناول أيضا علاقاته ونوعية شخصيته، مع عدم إغفال المناخ الذي جعله يتصرف كما كان يتصرف.
والحقيقة أن العمري يحاول دائما عبر فصول الجزء الأول من كتابه، على الأقل، أن يضع السلوك الشخصي في إطار الوضع العام. هو مثلا يقول في مجال تناوله للصراعات والتراجعات التي وقعت داخل تجمع النقاد السينمائيين المصريين في السبعينيات: "كان الاتهام بالشيوعية وقتها قد أصبح سائدا، تستخدمه أجهزة الأمن والمتعاونين معها من الجماعات المتشددة في الجامعات، وكلك صحفيو المؤسسات الرسمية الذين أطلق لهم السادات العنان للقيام بحملتهم المنظمة من اجل "تطهير" الساحة من القوى الوطنية بزعم أنها شيوعية تعمل ضد مصلحة مصر".
ثم يمضي قائلا "هذه الضغوط النفسية الشديدة كان لها دون شك، تأثير واضح على عدد من أعضاء جمعية النقاد، فبدا بعضهم يتردد ويتراجع بل وشجعت استقالة السلاموني والبشلاوي من الجمعية آخرين منهم أحمد رافت بهجت، الذي تقدم باستقالة مسببة اتهم فيها الجمعية صراحة بالعمل في اتجاه نشر الشيوعية علما بأن العناصر الاساسية في مجلس الغدارة وقتها لم يكن بينها عنصر واحد من العناصر التي تتبنى الفكر الماركسي..".
في الجزء الثاني من الكتاب يتوقف العمري أمام ثلاث شخصيات متباينة هي المخرج الراحل يوسف شاهين الذي يروي ذكرياته الشخصية معه، والصحفي الراحل عبد الفتاح الجمل الذي كانت تجمعه بالعمري صداقة خاصة وطيدة رغم أن بداية علاقتهما شابها موقف عنيف بل وقطيعة امتدت لفترة طويلة، والمخرج الفلسطيني رشيد مشهرواي الذي كان العمري من أوائل من انتبهوا لظهوره على الساحة في أواخر الثمانينيات، وكتب عنه وعن أفلامه.
والملاحظ أن اللغة التي يستخدمها المؤلف في كتابه هي لغة النثر الأدبي السلس، الذي يتداعى في يسر وجاذبية، مع حبكة تصل في بعض الفصول إلى نوع من الإثارة، خاصة وأنه يستخدم، كما يصف هو في مقدمة الكتاب، "أسلوب التداعيات وتداخل الأزمنة الشهير في السرد السينمائي". ولذا يمكن القول إن كتاب "حياة في السينما" ليس فقط كتابا في السيرة الذاتية، بل جنس أدبي جديد يقوم على التسجيل والسرد الدقيق الممزوج برؤية المؤلف وتجربته الشخصية، وبالتالي فإن الكتاب بأكمله وثيقة مهمة، أو شهادة من ناقد عاصر الكثير من الشخصيات والأحداث، على عصره، وهي شهادة تمتد أيضا إلى تجاربه المثيرة في لجان التحكيم التي يروي منها تجربتين: في مهرجان أوبرهاوزن الألماني، ومهرجان طهران الإيراني. ولا يتوقف خلال سرده المشوق في هذين الفصلين عند ما يدور عادة وراء الكواليس خلال عمل لجان التحكيم، بل يمد التجربة أكثر ليصف لنا تفصيلا الكثير من الجوانب المتعلقة بما يدور في المجتمع، خاصة في حالة تناوله التجربة الإيرانية، ويصف مشاعر عدد من المثقفين الإيرانيين الذين التقى بهم: كيف يفكرون، وكيف يرون التجربة من الداخل، كما يتعرض أيضا للكثير من الجوانب المثيرة للخيال عندما يروي في نوع من أدب الرحلات أيضا، الرحلة التي كان جزءا منها مع أعضاء لجنة التحكيم، إلى مدينة إصفهان.
ويروي الكثير من التفاصيل الداخلية حول ما يحدث في المهرجانات السينمائية الشهيرة، العربية (نموذج مهرجان قرطاج)، والعالمية (نموذج مهرجان البندقية- فينيسيا، ثم نموذج مهرجان فالنسيا الإسباني). لكنه يستخدم أسلوبا جديدا في الكتابة عن هذه المهرجانات هو أسلوب اليوميات التي تحفل بشتى المعلومات، والتأملات الفكرية الشخصية للمؤلف أيضا.
ويختتم العمري كتابه بالعودة إلى بدايات مهرجان القاهرة السينمائي، من خلال توثيقه لموقف نقاد السينما المصريين، وبعض النقاد العرب الذين حضروا ندوة لمناقشة الدورة الأولى من ذلك المهرجان عام 1976، وهي ندوة مثيرة لم تنشر وقائعها من قبل، يضعها المؤلف في ملحق خاص في نهاية الكتاب كوثيقة تذكر بالبداية الخاطئة، وربما أيضا، تصلح دليلا على أن التاريخ يعيد نفسه أحيانا!
والكتاب بوجه عام، ممتع، ومثير للفكر والخيال، وعمل شجاع لأن مؤلفه لا يتردد في ذكر الأسماء الحقيقية للشخصيات التي يتناولها، بما لها، وما عليها أحيانا، وفي أحيان أخرى، يترك الحكم النهائي على الأحداث والشخصيات ومواقفها، للقاريء الفطن الذي يمكنه اكتشاف ما بين السطور.

الاثنين، 7 يونيو 2010

رحلة العمر بين " كواليس" الجمعيات و" كوابيس" المهرجانات




((انشر هنا نص مقال الزميل الناقد السينمائي محمود عبد الشكور الذي نشر في صحيفة "روز اليوسف" اليومية بتاريخ الأحد 6 يونيو حول كتاب "حياة في السينما" في إطار التوثيق في هذه المدونة (التي تحمل العنوان نفسه ومنها ولد هذا الكتاب تحديدا) لكل ما نشر حول الكتاب بقدر المستطاع بالطبع، وفي حدود ما يصلني من هذه الكتابات)).
رابط إلى المقال منشورا في روز اليوسف



بقلم: محمود عبد الشكور



لدىّ مرضان قديمان ممتعان هما: قراءة الأفلام وقراءة الكتب . أحياناً يمتزج المرضان عند قراءة الكتب التى تتحدث عن السينما وصناعها وعشاقها وتاريخها وشهادتها على عصرها وزمنها، من المفيد أيضاً أن اذكر أننى أعتبر الكتب والأفلام كالبشر سواءً بسواء، كل كتاب له من صاحبه نصيب ، وكل فيلم يكشف عن صنّاعه حتى إذا لم يقصدوا ذلك، وكلاً من الكتب والأفلام تأخذ سمات بشرية تماماً كأن تكون ظريفة أو كئيبة ، عميقة أو سطحية ،مهندمة أومعبرة عن الفوضى ، ذكية أو غبية ،مثيرة لليقظة أو دافعة للنعاس والشخير!
وهذا كتاب للناقد أمير العمرى يحمل عنوان "حياة فى السينما" لا تستطيع أبداً أن تتركه إذا بدأت فى القراءة حتى تنتهى منه، ومنذ اللحظة التى اشتريته فيها لم أتركه حتى أثناء ركوب المواصلات العامة والخاصة . بمعيار الكتب التى تحمل صفات البشر أنت أمام رفيق يقظ حاسم قاطع لديه تجربة طويلة يحاول أن يسردها بأسلوب سهل وعذب ولايخلو من السخرية ، والأهم من ذلك أنه يحدثك عن سنوات شديدة الثراء هى فترة السبعينات من القرن العشرين ، كما أنه يحكى عن الكواليس بشكل عام لدرجة أن الكتاب بأكمله يصحّ أن يحمل اسم " كواليس " . يروى العمرى عن "كواليس" الجمعيات السينمائية التى انضم إليها، و"كواليس" الجمعيات التى حاول أن يشارك فى تأسيسها ، و" كواليس" المهرجانات التى قام بتغطية أنشطتها وأفلامها ، و"كواليس" لجان التحكيم التى شارك فيها، والحكايات بأكملها معروضة من وجهة نظر ذاتية تماماً لاتزعم – فيما أظن – امتلاك الحقيقة المطلقة، والسينما حاضرة طوال الوقت والسياسة أيضاً، والإنتقالات فى الزمان والمكان وبين الشخصيات التى غيّبها الموت أوتلك التى مازالت تواصل العطاء، كل ذلك يجعل من الكتاب رحلة ممتعة تستحق الإبحار والإكتشاف ، ربما لم يلتزم العمرى بأن يكون شاهداً كما قال فمارس دور القاضى فى أحيان كثيرة، وكانت أحكامه صريحة أويمكن اكتشافها بين السطور، ولكنه أعلن أيضاً فى المقدمة أنه لايستطيع أن يكون محايداً، ربماتنغص عليك الأخطاء المطبعية صفو القراءة أحياناً، وقد تنزعج لخطأ فى تعليقات الصور كأن يوضع اسم أحمد قاسم تحت صورة للمخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى، ولكن الكتاب يظل مع ذلك مختلفاً وباعثاً على المناقشة والجدل وتنشيط الذاكرة والتفاعل معه أوضده .
عرفت الناقد أمير العمرى من خلال كتاباته وخاصة ً كتاب "سينما الهلاك"، كما كنت أقرأ اسمه فى مجلدات نشرة نادى السينما الشهيرة التى حصلت على بعضها من خلا ل التردد على سور الأزبكية أدامه الله لدراويش القراءة ، ولكنى عرفت العمرى شخصياً خلال الفترة القصيرة التى عاد فيها الى مصر بعد سنوات طويلة قضاها فى بريطانيا، وكان وقتها قد انتخب رئيساً لجمعية نقاد السينما المصريين، وأصدر مجلة صغيرة عن الجمعية تحمل اسم "السينما الجديدة "، وأشرف فى تلك الفترة على تنظيم أسبوع لا ينسى لروائع الأفلام التسجيلية على مرّ العصور حيث عُرضت بالمجلس الأعلى للثقافة أعمالٌ تحمل توقيع الكبار مثل " دزيجا فيرتوف " و" لينى ريفنشتال " و" ميخائيل روم "، وفى الندوة التى أعقبت عرض رائعة " لينى ريفنشتال " ( انتصار الإرادة ) تحدث العمري بحدة وعنف تعليقاً على رأى قلته حول مدى دلالة الفيلم على تعاطف المخرجة مع النازية، ولكن – لدهشتى الشديدة – نشر الرأى كاملاً ضمن مقال لى فى مجلة " السينما الجديدة " على مساحة أربع صفحات ، بل إنه كان وراء طلب أن أكتب للمجلة، وتحمّس كثيراً لمقالاتى لدرجة أنه كان ينشر أكثر من مقال فى عدد واحد ، وللأسف توقفت المجلة بعد عشرة أعداد، وعاد العمرى الى لندن، وكان انطباعى عن تجربته القصيرة أنه يمتلك فكراً ومشروعاً وطاقة للتنفيذ، ولكنه لايمتلك صبراً يليق بوطن اخترع الزراعة والبيروقراطية و" الرحرحة " ومواويل " هاتولى حبيبى "!
كتاب "حياة فى السينما "، وهو نفس عنوان مدوّنة يحررها العمرى، فسّر لى أنه تقريباً استنفد الصبر فى سنوات السبعينيات الثرية والعاصفة معاً، أقول ثرية لأنها شهدت العصر الذهبى لنوادى السينما وللمراكزالثقافية الأجنبية، كما أنها سمحت لطالب الطب أمير العمرى أن يؤسس ويدير نادياً للسينما فى كلية الطب جامعة "عين شمس " عام 1971 ، وأن يفتتح عروضه برائعة فيسكونتى "الموت فى فينسيا"، ولو عُرض هذا الفيلم فى قلب الأوبرا هذه الأيام لما توقف الجدل ، ولاتهم عارضوه بكل الموبقات.
شهدت تلك السنوات تأسيس جمعية نقاد السينما المصريين فى يونيو 1972 بمبادرة وجهود سمير فريد الناقد الكبير، ولكن بداية هذه السنوات شهدت أيضا الإستقطاب السياسى الحاد، والتحول من اليسار الى اليمين ، وانعكس ذلك بالضرورة على الحياة الثقافية والسينمائية ، ويصف أمير العمرى فى كتابه وزير الثقافة الأسبق يوسف السباعى بأنه ضابط الأمن الثقافى للنظام الجديد، وفى الجزء الأول من الكتاب يحكى مؤلفه عن بداية اهتمامه الجاد بالسينما ومشاهدة الأفلام بعد مشاهدته لفيلم "الترتيب" بطولة كيرك دوجلاس وفاى دونا واى وإخراج ايليا كازان فى سينما راديو، ويتحدث عن الخلافات بين النقاد فى جمعية النقاد وخروج الناقد الكبير سامى السلامونى منها، كما يتحدث عن دعم وزارة الثقافة لجمعية جديدة منافسة تحمل اسم (جمعية كتاب ونقاد السينما) التى نظمت مهرجان القاهرة السينمائى، ويقدم ملحقا فى الكتاب يناقش فيه النقاد سلبيات الدورة الأولى التى أقيمت برعاية فندق شيراتون (!!) ويشير إلى كتاب أسود عن هذه الدورة كان من المقرر صدوره ، ويتحدث عن تجربة إصدار صحيفة سينمائية أسبوعية تحمل اسم(السينما والفنون) قام بدعمها وزير الثقافة عبد المنعم الصاوى، وصدر العدد الأول منها فى يناير 1977، ورأس تحريرها صاحب الفكرة الناقد سمير فريد، واشترك فى تحريرها أعضاء جمعية النقاد ، ولكنها توقفت بعد ثلاثة وثلاثين عدداً .
يحكى العمرى بحنين واضح عن أحلامه التى لم تتحقق فيما يسمى "السينما الثالثة" استلهاما ًلتجربة مماثلة فى أمريكا اللاتينية ، كما يسرد فشل محاولته العمل مع شباب آخرين ضمن جماعة "سينما الغد " التى أسسها الناقد الكبير مصطفى درويش . كل هذه التفصيلات- وإن قدمت وجهة نظر ذاتية تماما – تسهم فى رسم ملامح سنوات السبعينات الثرية والعاصفة معا . ولكن الكتاب حافل أيضا بالحديث عن شخصيات بعينها، عن رضوان الكاشف وشلة المنيل، عن يوسف شاهين والراحل عبد الفتاح الجمل، عن المخرج التونسى نورى بوزيد، عن المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى وعن المخرج السورى محمد ملص الذى أقام لفترة ليست قصيرة بالقاهرة ، وفى الجزء الثالث من الكتاب يحكى العمرى تجاربه فى لجان تحكيم مهرجانات مثل مهرجان أوبر هاوزن عام 1991 ، ومهرجان طهران عام 2002 ، وينقل يوميات نابضة بالحياة لمهرجان تطوان عام 2005 ، ومهرجان فينيسيا عام 2008 ، ومهرجان قرطاج عام 2008، ومن خلال سرد مركز ومشوق تعيش كواليس هذه التظاهرات السينمائية التى لاتخلو من الشد والجذب، ولعل أهم ما تستنتجه من هذا الجزء أن الإشتراك فى لجنة تحكيم تضم أشتاتا غير متوافقين يمكن أن يحول التجربة الى كابوس، ولعل أهم ما يصل إليك من الكتاب كله أن الحياة الثقافية والسينمائية دفعت ثمنا غاليا بسبب الإستقطاب السياسى الحاد فى سنوات السبعينات، كما أن العلاقات بين المثقفين لم تكن دوماً على ما يرام لأسباب أيدلوجية أوسياسية أو بسبب اختلاف الطبائع البشرية، كما يظهر بوضوح رفض صاحب الكتاب لكل المؤسسات البيروقراطية المصرية .
يمكن أن تختلف مع رؤية أمير العمرى الخاصة لتلك الأحداث أو الشخصيات، بل إن أهمية هذا الكتاب تكمن فى ضرورة أن يستفز فكرة الجدل والإختلاف والشهادة المعاكسة. مازالت تلك الفترة – سنوات السبعينات – لم تُكتب بعد على كل الأصعدة رغم أهميتها وتأثيرها فى حياتنا حتى اليوم ، وآمل أن نستكمل الصورة عن تلك السنوات بشهادات لأسماء كبيرة عن المناخ الثقافى والسينمائى، من هذه الأسماء مثلا: سمير فريد ومصطفى درويش ود. كامل القليوبى وهاشم النحاس، ومهما كانت زاوية الرؤية ومنهج التناول فالفائدة مُحققة .
هذا حق الأجيال التالية قبل أن يكون حق كل هؤلاء فى اجترار "نوستالجيا" أو حنين الى الماضى الذى صنع المستقبل!

الخميس، 29 أبريل 2010

"حياة في السينما " مذكرات وشهادات تجمع بين الهمّين الثقافي والسينمائي



((أنشر هنا المقال الذي كتبه الزميل الناقد الاستاذ عدنان حسين أحمد ونشر في ملحق جريدة "العرب الأسبوعي" بتاريخ 24 ابريل عن كتاب "حياة في السينما" الذي يستمد اسمه من عنوان هذه المدونة، بل إن بعض فصوله نشرت هنا أولا))

عدنان حسين أحمد



صدرعن دار مدبولي في القاهرة كتاب جديد يحمل عنوان "حياة في السينما" للناقد السينمائي المصري أمير العمري. يقع الكتاب في 280 صفحة من القطع الكبير وقد تضمّن فهرس الكتاب مقدمة وافية، فيما انضوى المتن تحت ثلاث محطات رئيسة سنتوقف عندها تباعا. أما خاتمة الكتاب فهي ملحق يوثق فيه العمري ندوة جمعية النقاد حول مهرجان القاهرة السينمائي الأول عام 1976) إضافة الى ملحق بتسع وعشرين صورة تذكارية، بعضها مع مخرجين ونقاد سينمائيين وصحفيين، عربا وأجانب، وبعضها الآخر ملصقات أو لقطات من بعض الأفلام التي توقف عندها سواء بالتلميح العابر أو بالتحليل المعمّق.
لم يشأ العمري أن"يجنِّس" هذا الكتاب أو يُخضعه الى نوعٍ معيّن من الكتابات أو الأساليب المتعارف عليها فهو مزيج من المذكرّات والشهادات واليوميات والمحاورات التي تجمع بين الهمّين الثقافي والسينمائي في آنٍ معا. وعلى الرغم من أن بعضا من جوانب هذا الكتاب هو سيرة ذاتية إلا أن العمري حاول أن ينأى بنفسه عن هذا التوصيف بحجة أنه "لا يريد أن يكون محورا للوقائع والأحداث، بل شاهدا عليها أو مُساهما فيها".
وحينما قرأت الكتاب قراءة متفحصة واستمتعت به أيما استمتاع وجدت أنه نوع من الكتابة "السيرية" القارّة وغير المتعينة، أي التي لم تتخذ شكلا ما بعد، وإنما ظلت تتأرجح بين الأنواع الأدبية الأربعة المُشار اليها سلفا، ففيها كثير المذكرات التي تمتد من أواخر الستينيات من القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر كما أنها تتضمن شهادات محايدة وغير محايدة في آنٍ مع.
تزخر مادة الكتاب أيضا باليوميات التي تمحورت حول مهرجانات عربية وعالمية مهمة. أما المحاورات فأعني بها ذلك السجال الدائم الذي كان دائرا بين العمري وأنداده من المخرجين الذين يصنعون أفلاما جادة تفضي الى تراكم الوعي، وتنشد الى تغيير الذائقة الجمعية للناس. والحوار المعمق الذي كان يستعر بينه وبين النقاد والمثقفين المصريين والعرب على مدى أربعة عقود بالتمام والكمال.
يتألف متن الكتاب مبدئيا من ثلاثة أقسام وهي "تجارب وحكايات شخصية"، "شخصيات" و"في لجان التحكيم والمهرجانات". وسنتعرف في كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة على جانب من جوانب شخصية الناقد السينمائي أمير العمري التي تنطوي على مهيمنات بصرية وفكرية وثقافية يمكن تلمّسها منذ بدايات ولوجه الى عالم الأدب والفن بمفهوميهما الواسعين.
فشخصية(أمير) تتجاوز حدود الناقد السينمائي الى شخصية الأديب المبدع والمنظِّر الذي يمكن له أن يشتغل في أي حقل فكري يروق له فعدته النقدية واضحة ولا غبار عليها، ولكن اللافت للنظر أن جملته الأدبية تتجاوز الإطار النقدي، لتقفز الى حدود الاطار الأدبي الابداعي الذي نستمتع بقراءته، وهذا ما أضفى على هذا الكتاب بُعدا جماليا يتلاقح فيه النقد والأدب، وتتماهى فيه المذكرات مع الشهادات.
تشكلات الوعي البصري
يكشف القسم الأول من الكتاب عن المراحل الجنينية التي شكلّت الأس البصري لثقافة العمري فثمة إشارة الى مرحلة الطفولة والصبا التي كان فيها العمري يشاهد بعض أفلام الحروب والمغامرات التي كانت شائعة ومألوفة آنذاك مثل "ريو برافو" لهاوارد هوكس و"ثورة على السفينة باونتي" لفرانك لويد وسواها من الأفلام التي قُدِّر له أن يراها قبل مرحلة النضج الفكري والفني على حد سواء والتي تبدأ عند العمري بفيلم
"الترتيب" الذي أُنجز عام ١٩٦٩ للمخرج الأميركي، من أصل يوناني، إيليا كازان. وقد عُرض هذا الفيلم في القاهرة عام ١٩٧٠ .
ومن هنا يمكن أن نعّد هذا العام هو البداية الحقيقية للعمري مع الفن السابع الذي أخذ بتلابيب هذا الطالب الجامعي وخطفهُ من أروقة كلية الطب الى فضاء الخطاب البصري اللامحدود. وجدير ذكره أن العمري ينتمي مع أقرانه من الأدباء والنقاد والفنانين الى ما يمكن تسميته بتيار الجيل الغاضب، ذلك الجيل الذي تململ وتمرد وثار على كل أشكال الجمود والانتهازية والتخلف بغية تغيير وجه العالم سواء بواسطة السينما أو بغيرها من الأجناس الفنية والابداعية، وربما كان فيلم "العصفور" ١٩٧٢ ليوسف شاهين هو خير أنموذج لما نذهب اليه.
لابد من الاشارة الى أن كتاب العمري سيضعنا في مأزق سردي لأنه يعتمد في بنيته التأليفية على"تداخل الأزمنة" فليس غريبا أن ينتهي الكتاب بالندوة النقدية التي غطت أسباب فشل مهرجان القاهرة السينمائي الأول عام ١٩٧٦ في حين أن بعض موضوعات الكتاب وثيماته تمتد الى أواخر عام ٢٠٠٨ في أقل تقدير. ومع ذلك يجب أن نقفز الى ما قبل السنة التي أنجز فيها فيلم "العصفور" أي عام ١٩٧١ ، وهو العام الذي أسس فيه العمري "نادي السينما "في كلية الطب بجامعة عين شمس، وبدأ يعرض فيه أفلاما (نوعية) كان مصدر أغلبها من بلدان أوروبا الشرقية التي كانت، ولا تزال، تصنع أفلاما جادة تحترم عقلية المتلقي، وتسهم في تثقيفه بصريا وفكريا. تعززت أهمية"نادي السينما" بفضل الندوات الأسبوعية المنتظمة التي كان يعقِدها العمري مستضيفا فيها أسماء سينمائية ونقدية مهمة في الوسط الثقافي المصري، إضافة الى الحضور النوعي الذي يمثله كل من سمير فريد، سامي السلاموني، محمد كامل القليوبي وغيرهم من النقاد والسينمائيين الذين كرسوا حياتهم للفن السابع وانقطعوا اليه.
يمكن الاشارة في هذا الفصل من الكتاب الى أهمية انتماء العمري عام ١٩٧٤ الى جمعية نقاد السينما المصريين) التي أُسست بمبادرة من سمير فريد عام ١٩٧٢ وكان يرأسها المخرج والناقد المخضرم أحمد كامل مرسي، ونائبه مصطفى درويش وعضوية كل من فتحي فرج، أحمد رأفت، سمير فريد، يونس شريف رزق الله وأحمد الحضري وغيرهم) ويبدو أن العمري ليس متأكدا من المناصب الادارية التي كان يتبوأها بعض أعضاء الجمعية لأنه يعتمد على ذاكرته فقط، وليس على وثائق رسمية سنعرف لاحقا أنه ضيّع بعضها في أثناء انتقاله من شقة الى أخرى في أوقات متعددة. أما يهمنا هنا، أن العمري يتذكر أبرز الأسماء في جمعية النقاد وهم سامي السلاموني، خيرية البشلاوي، رفيق الصبان، أنور خورشيد، هاشم النحاس وصبحي شفيق.
كما أنه يتذكر جيدا أن الشخص الذي ضمّه الى الجمعية هو فتحي فرج وبتشجيع والحاح من الناقد سمير فريد. ولا شك في أن انتماء العمري الى هذه الجمعية سوف يفتح له آفاقا جديدة لأنها وضعته في تماسٍ مباشر مع الأجيال السابقة من النقاد والسينمائيين المصريين، هذا إضافة الى حراكه النقدي مع أقرانه من النقاد والسينمائيين من جيل السبعينات. يبيّن هذا الفصل من الكتاب أن شهرة العمري لم تأتِ من فراغ، فقد بذل جهودا كبيرة كي يؤسس لنفسه موطئ قدم وسط الأسماء النقدية المكرّسة واللامعة آنذاك.
وكان لا يتورع عن خوض المعارك والسجالات النقدية مع بعض الأسماء التي كان يراها مهيمنة أو متزمتة بعض الشيء، ولا تفسح المجال للأسماء النقدية الشابة آنذاك لكي تلعب دورها في المشهد النقدي. وربما يكون من المفيد أن نشير هنا الى (النشرة) التي كان يصدرها النادي السينمائي ويعمل في مجلس إدارتها سامي السلاموني، سمير فريد وأحمد الحضري.
وكان السلاموني متهما في إعاقة نشر المواد التي يكتبها النقاد السينمائيون الشباب آنذاك أمثال فايز غالي، الفاروق عبد العزيز، محمد زهدي، أحمد عبد العال وأمير العمري. وعلى وفق هذا التصور إندلع السجال بين العمري والسلاموني، غير أن هذا الأخير لم يُستثر أو يسقط في دائرة الانفعال على الرغم مما وُصف به من"ذاتية وصلف".
لم يستطع العمري في كتابه أن يتفادى الخوض في الجانب السياسي لأن حقبة السبعينات وما تلاها من تداعيات جوهرية كانت جديرة بأن تضع جزءا كبيرا من المثقفين المصريين في مواجهة مع أجهزة السلطة فلا غرابة أن تتحول كلية الطب في جامعة عين شمس الى بؤرة للنشاط السياسي المحموم الذي يريد أن يعيد الأمور الى نصابها الصحيح. فقد بدأت مظاهر القمع الثقافي تتمثل في منع بعضالنقاد من الكتابة في نشرة نادي السينما في صيف ١٩٧٣ لعل أبرزهم سامي السلاموني، سمير فريد ورفيق الصبّان.
وعلى الرغم من مضايقات أجهزة السلطة إلا أن عزيمة النقاد السينمائيين لم تفتر. ففي عام ١٩٧٥ أقيم أسبوع الفيلم البرازيلي حيث عُرض فيه ١٤ فيلما، كما أعدّ سمير فريد كتابا عن السينما البرازيلية شارك فيه نخبة من النقاد السينمائيين من بينهم رأفت الميهي والفاروق عبد العزيز وفوزي سليمان.
وفي ١٩٧٦ نظمت جمعية نقاد السينما أسبوعا للسينما الجزائرية عُرض فيه ١٤ فيلما جزائريا، كما أصدروا كتابا جماعيا عن السينما الجزائرية شارك فيه محمد كامل القليوبي، سمير فريد، يسري نصرالله، يوسف شريف رزق الله والجزائري محمد أمغار. كان العمري يشارك أقرانه في اهتمامهم بالسينما النضالية أو ما كان يُطلق عليها بـ "سينما العالم الثالث". إن تعيين يوسف السباعي بعد حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ قد زاد الطين بلّة ففضلا عن قمع الأجهزة الأمنية الساداتية للثقافة اليسارية والناصرية وإطلاق العنان للمتأسلمين الظلاميين، فقد أسس السباعي (جمعية كتاب ونقاد السينما) التي ضمّت عددا من كتاب السيناريو ومحرري الأخبار الفنية والسينمائية ثم أتاح لها أن تشنَّ حملة شعواء على جمعية نقاد السينما وتتهمهم بالشيوعية والعمالة وتشويه صورة مصر. كما إتهم السباعي نفسه بعض المخرجين بالترويج لثقافة الاستسلام والهزيمة.
والملاحظ أن أغلب أعضاء جمعية نقاد السينما لم يتبنوا الفكر الماركسي، ولم ينتموا الى حلقاته السرّية، بل أن بعضهم رفض الماركسية، مثل سمير فريد، وتبنى الاشتراكية الناصرية، ثم تبرأ منها ليعتنق الفكر الليبرالي الذي يكاد ينسجم مع ذهنية شريحة واسعة من المثقفين المصريين لعل العمري أحدهم.
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد(عام ١٩٧٩) كوّنت جمعية نقاد السينما لجنة مقاومة السينما الصهيونية ومن بين أعضاء هذه اللجنة سمير فريد، علي أبو شادي، كمال رمزي ومحمد كامل القليوبي التي رفضت التطبيع في الجانبين الثقافي والسينمائي. ثم أصدر سمير فريد في الأول من يناير عام ١٩٧٧ صحيفة (السينما والفنون) وهي أسبوعية سينمائية ضمت في عضويتها عددا من النقاد بينهم أمير العمري. غير أن هذه الصحيفة توفقت بعد عددها الثالث والثلاثين بناء على تعليمات محسن محمد.
ازداد الوضع تأزما فغادر الفاروق عبد العزيز للعمل في التلفزيون الكويتي، واتجه يسري نصر الله للعمل في الصحافة اللبنانية، وذهب صبحي شفيق للعمل في مجلة جون أفريك في فرنسا، وسافر القليوبي لدراسة الدكتوراه في موسكو، وانتقل فتحي فرج للعمل في السعودية فيما رحل أمير العمري الى الجزائر ومنها الى لندن.
يا ترى، ما الذي حققه العمري خلال انضمامه الى جمعية نقاد السينما عام ١٩٧٤ وحتى رحيله الى الجزائر، فهو من المخلصين للفن السابع، والأوفياء لتجربته النقدية التي كانت تنضج على نار هادئة. ففي عام ١٩٧٨ أُنتخب العمري عضوا لمجلس إدارة جمعية النقاد، وفي العام الذي يليه أصبح سكرتيرا للجمعية بعد سفر فتحي فرج الى السعودية، لكنه لم يمكث طويلا، إذ قدّم استقالته قبيل سفره الى الجزائر في مارس .


ثم تتسارع نبرة (الكائن السيري) لنكتشف أنه أمضى ثلاث سنوات ونصف السنة في الجزائر، ثم توجه الى لندن ليعمل محررا لصفحة سينما وفنون) في صحيفة (القدس العربي لينتقل بعدها للعمل في الاذاعة والتلفزيون والنشر الأليكتروني في القسم العربي في البي بي سيفي لندن. وعلى الرغم من نجاحاته المتواصلة وحياته المستقرة في لندن إلا أنه قرر العودة الى مصر في أواخر عام ٢٠٠٠ ، حيث أُنتخب عضوا في إدارة مجلس جمعية النقاد، ثم أُنتخب بالاجماع ليكون رئيسا لأكبر جمعية نقدية متخصصة بالنقد السينمائي على وجه التحديد، وحقق في أثناء رئاسته لهذه الجمعية عددا من المنجزات الكبيرة من بينها إصدار عشرة أعداد من مجلة (السينما الجديدة)، ونظّم عددا من الأسابيع السينمائية، وأصدر كتابا عن الرقابة على السينما في مصر، وأنشأ موقعا على الانترنيت، ودعم علاقة الجمعية باتحاد النقاد الفيبريسي، وما الى ذلك من منجزات فعلية ملموسة، لكنه مع ذلك قدّم استقالته عام 2003 لأن مناخ العمل أصبح مغلقا كما هو شأن المناخات في بعض الدول المغلقة التي سوف يزورها العمري ويشعر بالخوف والحيطة والحذر، بالاضافة الى تسلم العمري لمنصب رئاسة جمعية النقاد السينمائيين، فقد أنيطت له مسؤولية إدارة مهرجان الاسماعيلية عام ٢٠٠١ ، لكنه انسحب بهدوء عن صخب المهرجان لعله يجد فضاء هادئا للكتابة والابداع.
كنا قد ألمحنا سابقا الى أن هذا الفصل، على وجه التحديد، يضع القارئ أمام كمٍ كبير من المعلومات التي تؤرخ للنوادي والجمعيات السينمائية المهمة، كما يشير من طرف غير خفي الى العدد الكبير من نقاد السينما والمعنيين بالشأن السينمائي عموما.
ولعل من المفيد هنا أن نتوقف عند الافتتاحية التي كتبها العمري لنشرة (جمعية سينما الغد) والتي تضمنت الاشارة الى الذكرى الخمسين على ظهور الفيلم السوفييتي الصامت (البارجة بوتمْكين) للمخرج سيرغي إيزنشتاين غير أن مصطفى درويش كان يرى في هذا الفيلم (استفزازا للأمن والسلطات) وهذا ما دعاه لأن يهاجم العمري متهما إياه والسائرين في فكله بأنهم (شلة من المراهقين اليساريين الذين يرغبون في تحقيق
الثورة الشاملة دفعة واحدة). وعلى الرغم من حدة السجال الذي دار بين الطرفين إلا أن العمري تجاوز الخلاف ورأبَ الصدع حينما اقترح على مصطفى درويش أن يوفدوه الى ايطاليا ممثلا لجمعية نقاد السينما لحضور الاجتماع السنوي للاتحاد الدولي لنقاد السينما الفبريسي.
على الرغم من المعوقات والعراقيل التي واجهت جماعة (سينما الغد) إلا أن العمري لم ييأس فقد اشترك ثلاثة من أصدقائه في تأسيس جماعة (السينما الثالثة) وخلاصة فحوى هذه الجماعة تشي بالضرورة بأن هناك سينما أولى وثانية.
فالسينما الأولى، وهي الأميركية التي لا تُعلي من شأن المخرج، وإنما تعتبره مجرد محرّك لمجموعات من المنفذين، أما السينما الثانية وهي الأوروبية التي تضع المخرج في الاعتبار، فهو عقل الفيلم وروحه. أما السينما الثالثة فقد رفضت النموذجين أعلاه وطرحت أنموذجا جديدا يقوم على تصوير تجارب الوعي الجمعي المشترك ويسعى الى تغيير الواقع بواسطة التعرية والتحريض. ويبدو أن تجربة السينما الثالثة قد فشلت في مصر لأنها حاولت أن تنمو في مناخ مختلف تماما عن المناخ الذي تألقت فيه في بعض بلدان أميركا اللاتينية.
يختتم العمري هذا الفصل الشيّق بمجموعة من الذكريات المهمة التي جمعته بـ"شلّة المنيل". فبواسطة (نادي السينما) الذي أسسه العمري في كلية الطب بجامعة عين شمس والذي أصبح محط اهتمام الكثير من المثقفين والفنانين المصريين تعززت علاقة العمري بالعديد من المخرجين السينمائيين لعل أبرزهم المخرج الراحل رضوان الكاشف، والمخرج مجدي أحمد علي الذي ستتعمق معه العلاقة في الجزائر لاحقا.
تنطوي هذه الذكريات على عدد من المواقف الطريفة التي تكشف عن رؤية المخرجين (رضوان ومجدي) وطريقة ترويجهما لفيلميهما الروائيين (ليه يا بنفسج) و (يا دنيا يا غرامي) كما يتوقف العمري عند الخلاف الذي كان دائرا بين مجدي أحمد علي والمخرج السوري محمد ملص الذي كان مقيما في القاهرة آنذاك. ولأن علاقة الموهوبين مع بعضهم البعض هي أكبر من الخلافات العابرة فسرعان ما يصطف مجدي أحمد علي الى جانب محمد ملص ويبدي استعداده لحل مشكلة (ملص) مع (الشركة العربية) التي كان متعاقدا معها في القاهرة. حري بنا أن نشير هنا الى الحكم الذي أطلقه العمري على فيلم (الساحر) الذي لا يرقى الى مستوى فيلميه السابقين (ليه يا بنفسج) و(عرق البلح) اللذين ينطويان على نجاح فني واضح ويؤسسان لرؤية اخراجية جديرة بالرصد والاهتمام.
علامات فارقة
يقتصر الفصل الثاني من الكتاب على ثلاث شخصيات مهمة وفاعلة في المشهدين السينمائي والنقدي في آنٍ معا. وهذه الشخصيات هي المخرج يوسف شاهين الذي (ملأ الدنيا وشَغَل الناس) طوال ستة عقود تقريبا، أي مذ أخرج فيلمه الأول (بابا أمين) عام ١٩٥٠ وحتى فيلم (هي فوضى) الذي أخرجه بالاشتراك مع تلميذه خالد يوسف عام ٢٠٠٧ . ويبدو أن أفلام شاهين سوف تشكّل منعطفا مهما في حياة العمري وأقرانه من النقاد الذين بدأوا يرون في السينما (فنا وثقافة إضافة إلى عنصري التسلية والامتاع. كما أن تجربة شاهين السينمائية سوف تثير شهية النقاد الجادين وتحفزهم على الكتابة النقدية الرصينة إذ يسوق العمري في هذا الصدد فيلم (اسكندرية ليه) الذي حفّز النقاد على كتابة كم هائل من الدراسات النقدية الجادة في حينه. لم يُخفِ العمري اعجابه بأفلام شاهين الكلاسيكية مثل (باب الحديد) (الناصر صلاح الدين( و(الأرض)، لكن الأفلام اللاحقة التي انطوت على عناصر الحداثة والتجديد كانت الأكثر قربا وإثارة للعمري ولغيره من نقاد السينما الجادين في مصر والعالم العربي. فلا غرابة أن يعرض العمري فيلم (الاختيار) في (نادي السينما) ويناقشه مناقشة مستفيضة. ثم تتوالى متابعاته لأفلام شاهين الأخرى التي شكلّت علامات فارقة في السينما المصرية مثل (الأرض) و (عودة الابن الضال). كان العمري سعيدا جدا بلقاء يوسف شاهين في مكتبه بشارع شامبليون إثر المقال التحليلي المهم الذي نشره في مجلة (الطليعة) اليسارية ذائعة الصيت. ثم يتكرر اللقاء بشاهين في مهرجان لندن السينمائي عام ١٩٩٠ .
ولعل أجمل ما في هذا اللقاء هو ذكاء العمري ودقة ملاحظته التي تسبر أعماق شاهين وتعري طوّيته حيث يقول "كان شاهين يتظاهر في البداية بأنه لا يتذكرك جيدا، ثم يستخدم حركة يده الشهيرة، يقرّبها من أذنه، مُدعيا أنه لا يسمعك أيضا جيدا، ثم سرعان ما تكتشف أنه يتذكر جيدا ويعرف ويسمع ويهتم" (ص ١١٠ ). ولأن العمري مواظب على
حضور المهرجانات السينمائية العربية والدولية فقد التقى شاهين مرة ثالثة في مهرجان فالنسيا وكتب عنه دراسة موسعة شاملة نشرت في مجلة ميتيماس الأسبانية. أما المقابلة الوحيدة التي أجراها العمري مع شاهين فقد كانت على هامش مهرجان تطوان السينمائي ويبدو أن شاهين كان متفننا في المراوغة، وقادرا على التلاعب بدفة الحديث الى الجهة التي يراها مناسبة.
أما الشخصية الثانية التي توقف عندها العمري فهي شخصية الناقد عبد الفتاح الجمل الذي ترك بصمة واضحة على الحياة الثقافية في مصر. وربما يكون اللقاء الذي جمَعهُ بالجَمل إضافة الى صديقه محمد كامل القليوبي هو من أطرف اللقاءات التي لا تسلّط الضوء على طبيعة الجَمل وسلوكه الشخصي حسب، وإنما تكشف حجم المشاعر الملتبسة التي إنتابت العمري وهو يواجه نوبات الضحك الهستيرية التي تدفق بها الجَمل بينما هو يستمع الى دفاع العمري عن واحدة من مقالاته النقدية. وعلى الرغم من الحرج الشديد الذي سقط فيه العمري، إلا أنه سيتقبل الجمل على علاته بعد أن يتعرف على طبيعته وسلوكه الشخصي الفكِه من خلال عدد كبير من الأصدقاء. وربما يعود الفضل الأكبر الى الأديب عبده جبير الذي اصطحبه الى مكتب الجمل لينتهي توتر العمري من أساسه بعد أن يوقن تماما بأن هذا الرجل لا يكّن له إلا المودة والاحترام، واكثر من ذلك فإنه يدعوه بمحبة كبيرة للكتابة في صحيفة (المساء). أما الشخصية الثالثة والأخيرة فهو المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، صاحب فيلم (الملجأ) الذي يعِّده العمري واحدا من أهم الأفلام الروائية القصيرة في السينما العربية. يغيب مشهراوي (ذو الشعر الأسود الكثيف) لبضع سنوات، ثم يقابله بعد أربع سنوات في مهرجان القاهرة
السينمائي ليراه حليق الرأس على وفق صرعة تيلي سافالاس!
ينجز مشهراوي عدة أفلام من بينها (انتظار) و (عيد ميلاد ليلى). وعلى الرغم من اعجاب العمري بتجربة مشهراوي السينمائية إلا أن ذلك لا يمنع من وجود بعض الملاحظات التي تتعلق بطريقة البناء الفني، وأسلوب السيناريو، وضرورة تحرير المخيلة من بعض الأنماط التقليدية التي تهيمن على جوانب محددة من أفلام مشهراوي الوثائقية والروائية على حد سواء. إذا كان الفصل الأول ينطوي على مفارقات كثيرة فإن هذا الفصل الثاني لا يخلو من عناصر الشدّ والترقّب والتشويق. ففي أثناء لقائه بالسيدة ليا فان لير، المشرفة على السينماتيك الاسرائيلي، التي قدّمت فيلم (الملجأ) لمشهراوي، وفيلم اسرائيلي يحمل عنوان (كلا يا ماتياس لا تتورط)، كان ثمة رجل طاعن في السن تصوره العمري متطفلا حينما سأله عن أسباب منع فيلم (البريء) لعاطف الطيب في مصر. وبعد مناقشة حادة كشفت عن تبرّم العمري وضيقه من حضور هذا الرجل الطارئ الذي تبين لاحقا أنه زوج السيدة ليا فان ليرا وأنه يدافع عن ديمقراطية اسرائيل التي تعرض كل الأفلام من دون رقابة! ومثل الضربة الخاطفة التي تتوفر في بعض القصائد القصيرة يفاجئنا هذا الرجل بالقول (إنه طيار في سلاح الجو الاسرائيلي، وأنه هو الذي قاد طائرة الرئيس السادات في رحلته الشهيرة الى القدس!) عن هذه المواقف المفاجئة والمواقف الطريفة التي لا يكتبها بهذه التقنية الرفيعة إلا كاتب مبدع تتجاوز قدرته حدود الكتابة النقدية الى فضاء النص الابداعي اللامحدود.

تجارب ويوميات
كنت قد أشرت آنفا الى أهمية المذكرات والمحاورات التي وردت في كتاب (حياة في السينما) ولكني لا أجد مفرّا من الاعتراف باللغة الجميلة والمعبّرة التي كتب فيها العمري عن مشاركته في لجنتي تحكيم مهرجاني أوبرهاوزن وطهران.
ووجه الطرافة في مهرجان أوبرهاوزن، وهو للمناسبة مهرجان عريق للأفلام الوثائقية والقصيرة، إن بعض أعضاء لجنة التحكيم وغالبيتهم من النساء (المؤدْلجات) قد سحبن اللجنة الى ما لا تُحمد عقباه. وأن هذا البعض يتمثل باثنتين وهما الكندية كاثلين كارتر والأميركية من أصل كوبي إيلا ترويانو قد خطفنَ المهرجان برمته، وسيحرفنَ مسار القرارات التي يجب أن يتوصل اليها المحكمون باتجاه التحيّز النسوي على حساب القيمة الفنية للأفلام المتنافسة. وحينما بلغت المعركة ذروتها قررن، بسبب الهيمنة العددية (وهنَ ست محكمات نساء ضد ثلاثة محكمين رجال) حجب الجائزة الكبرى، كما منحنَ الجائزة الخاصة الى فيلم (كئيب) يتعارض مع الشرط الذي فرضته صاحبة الجائزة وهو ألا يكون الفيلم الفائز (متشائما أو كئيبا). وعلى الرغم من الجهود الجهيدة التي بذلها العمري لتصحيح مسار اللجنة، إلا إنه لم يفلح في تفتيت صلافة المحكمات المتعصبات لجنسهن النسوي، فلا غرابة أن يقاطع حفل الختام، ولا يحضر توزيع الجوائز، وإنما قرر القيام بجولة حرة في المدينة متنقلا في باراتها الى وقت متأخر بعد منتصف الليل. وفي صبيحة اليوم الثاني كان على العمري أن يذهب معهن في السيارة الى المطار، وقد فعل، لكنه لزم الصمت، ولم يكلم أيا منهما طوال الطريق. ولعل الجملة الآسرة التي أنهى بها العمري شهادته القيّمة وهي (ما أن وصلن الى المطار حتى تركتهن واختفيت) احتجاجا على تعصبهن الأعمى الذي أفقد المهرجان جزءا من مصداقيته المعروفة.
أما تجربة لجنة التحكيم في مهرجان طهران فهي أنضج بكثير من سابقتها، وأكثر مهنية. ويبدو أن العمري مقتنع بمجمل الأفلام الفائزة لو استثنينا فقط أنه حاول أن يمنح فيلم (سايبر فلسطين) لإيليا سليمان جائزة ما، لكنه لم ينجح في مسعاه.
أما الجوائز الأساسية في المهرجان فقد ذهبت لمستحقيها. إذ أسندت الجائزة الكبرى لفيلم (امرأتان) للمخرج أمير رضا زادة، فيما ذهبت جائزة أفضل فيلم روائي قصير الى فيلم ( ليوناردو) أما جائزة أفضل فيلم تسجيلي فقد حصل عليها فيلم (نحن نعيش على الحافة) لفيكتور أسيلوك، بينما نال فيلم (متعة النار) لعلي محمد قاسمي جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
لا شك في أن منْ يقرأ هذه التجربة التي وصفها العمري بلغة شديدة الدلالة والتعبير سيكتشف كيف تسللت الرؤية السياسية الى هذه المادة الفنية التي قد تنتمي الى جنس التحقيقات تارة، وجنس أدب الرحلات تارة أخرى، وربما هي خليط من نمط النصوص المفتوحة التي تعطيك انطباعا صادقا عن بلد ما أو نظام حكم معين في هذا الطرف أو ذاك من الكرة الأرضية. ثمة شخصيات عديدة نصادفها في هذة المادة مثل شيرين نادري، الفتاة المحجبة المسؤولة عن الاتصالات الخارجية التي ترفض أن تصافح أحدا بسبب خلفيتها الدينية المتشددة، و(حسن) المكلف بالاتصالات الخارجية الذي ينتمي الى (أهل الخبرة) وليس الى (أهل الثقة) يتحدث ثلاث لغات ولا يمكن الاستغناء عن خدماته. و(رائد) الشاب الناضج ابن مستشار الرئيس الذي يعرّي النظام الثيولوجي ويكشف عيوبه أمام الزوار الأجانب، و(المرافق الأمني) الذي يتابع أعضاء لجنة التحكيم مثل ظلالهم، لكنه ينفجر في خاتمة المطاف ويتهجم على النظام الديني المتشدد الذي خنق الحريات الشخصية والعامة. إن مجرد التوقف عند الشخصيات الرئيسة المشار اليها سلفا يعطي القارئ صورة واضحة عمّا يجري في ايران. كما سلطت المُحاضَرة التي قدمها العمري عن السينما المصرية وما انطوت عليه من انتقادات حادة لم ترُقْ للمنظمين طبعا حيث تفرض حكومتهم نوعا واحدا من الفكر السينمائي على السينمائيين الايرانيين، فيما تضطرهم لأن يتجنبوا الخوض في أنماط سينمائية أخرى مثل الأفلام الموسيقية والعاطفية والبوليسية وما الى ذلك.

تجدر الاشارة الى الرحلة التي قام بها العمري مع أعضاء لجنة التحكيم الى أصفهان وما تضمنته من كشوفات جديدة لمدينة ايرانية موغلة في القدم، كما ألفتْ عناية القارئ الكريم الى الرحلة الجميلة التي قام بها أعضاء لجنة التحكيم الى مدرسة تابعة للسفارة الايطالية تقع على مسافة بعيدة من طهران، لكنها تمثل الوجه الآخر لإيران حيث تقلع النساء أغطية والملابس الثقيلة السوداء ويتحررن منها تماما ليظهرن في ملابس أوروبية، يدخنَّ السجائر، ويخالطنَ الشاب بعيدا عن أعين الرقباء. وكعادة العمري في كل مقال أو فصل لا بد أن يسرّب لنا طرفة ما فأحد أعضاء لجنة التحكيم هو رجل يوناني كان متضايقا جدا من محاولات زوجته السويدية (ليندا المصابة بمرض عصبي) في اللحاق به الى طهران لأنها واجهت صعوبة شديدة في الحصول على تأشيرة الدخول.
وحينما وصلت الى طهران أخذت تتشاجر مع زوجها (الذي لم يكن سعيدا بوجودها في أروقة المهرجان) كما يدعي العمري، وهذه لفتة فنية جميلة تضع القارئ في مزاج آخر. ثم تأخذنا ملاحظة العمري الى جوٍ سري آخر حينما نكتشف أنه سمع الاتهام الذي وجهته الى زوجها (بأنه السبب في إصابتها بمرض عصبي) لكنه، أي زوجها اليوناني، فضّل الصمت لكي لا تتفاقم الأمور وتذهب أبعد من حدود المرض العصبي ونوباته العنيفة.
وفي خاتمة المقال لابد أن ألفت عناية القارئ الكريم الى الجزء المتبقي من الفصل الثالث والأخير لأنه يضم بين دفتيه نماذج مهمة لليوميات التي دوّنها العمري عن بعض المهرجانات العربية والعالمية مثل مهرجان (تطوان وفينيسيا وقرطاج حيث يقدم العمري صورة أمينة عن المهرجانات التي يشارك فيها بما لها وما عليها. فإماطة اللثام وإزاحة الأقنعة عن الوجوه هي التقنية المحببة التي يستعملها العمري في تغطياته أو كتاباته النقدية عن المهرجانات السينمائية التي تتشرف بدعوته بوصفه ناقدا جادا ودؤوبا لا يتسرّب الملل الى ذهنيته المتقدة على الدوام.

الجمعة، 5 فبراير 2010

حياة فى السينما: أوراق شخصية ولمحات من ذاكرة جمعية


 بقلم: حسين بيومى



فى وقت واحد تقريبا، وقرب نهاية عام 2009، صدرت للصديق الناقد الكبير أمير العمرى ثلاثة كتب على فترات قصيرة، أثناء زيارته نصف السنوية للقاهرة. ووفق عادة لم تنقطع بيننا، وهى تبادل إهداء الكتب، أهدانى نسخة من كل كتاب من الكتب الثلاثة وهى "حياة فى السينما" و"الشيخ إمام فى عصر الثورة و الغضب" و"إتجاهات فى السينما العربية".
وقد فرحت بطاقة صديقى على العمل ودأبه على الكتابة، كما أسعدنى نشاط ذاكرته التى اعتبرها بلا شك، رغم هجرته الطويلة، جزءاً من ذاكرة الثقافة المصرية عموماً وذاكرة الثقافة السينمائية خصوصاً.
ولأسباب عديدة، بدأت بقراءة كتاب "حياة فى السينما"، وكنت قد قرأت بعضاً منه من مدونته التى تحمل الاسم ذاته، ولهذا وجدتنى استغرق فى قرائته بشغف، ربما لأننى شعرت بأنه أشبه برسالة خاصة، وفى بعض أجزائه، موجهة إلى شخصياً وإلى عشرات من أبناء جيلنا، تذكرنا بأحداث ومواقف ولحظات، ربما نكون نسيناها أو توارت فى الذاكرة الجمعية فبعثها أمير العمرى من جديد. والكتاب موجه أيضاً – حسب المؤلف– إلى فئات من بين أجيال جديدة، وعلاوة على ذلك فأنا أعتبر هذا النوع من الكتب، التى تحمل طابع الذكريات وتحفل باليوميات، أشبه الى حد ما بالأعمال الأدبية من حيث التأثير، وخصوصاً إذا كانت تتضمن خبرات وتأملات ناتجة عن إحتكاك بالواقع واشتباك معه بدرجة قابلة للتعميم
بعض ما كتبه أمير العمرى يأتى من الذاكرة عن وقائع جرت منذ ما يقرب من أربعة عقود، وإن كانت الذاكرة أحياناً قد لا تسعف المرء بكل التفاصيل. كما إنه يكتب من مهجره فى بريطانيا. ومهما كان الأمر، فجوهر ما يكتبه ينم عن إنه يحيا فى مصر بقلبه وعقله وإن كان غائبا عنها بجسده، كما أن ما يتناوله يفصح عن رغبه عارمة فى دوام التواصل مع أبناء وطنه الاول. وهى رغبة واضحة لكل من يقرأ الكتاب، ورغم ذلك فقد حمل أمير العمرى كتابه أحياناً ما لسنا فى حاجه اليه من محاذير وتحسبات، تشكل فى رأيى إعتذارات مسبقة، لن تغنى القارئ المتحيز عن إصدار أحكامه الخاصة على ما يرد فى الكتاب من مواقف واحكام.
يبدأ "حياة فى السينما" بتجربة أمير العمرى، كطالب طب هاوٍ للسينما، وتنتهى بتجاربه كناقد سينمائى محترف يشارك فى، ويكتب عن المهرجانات السينمائية العالمية فى أوروبا وغيرها وفى العالم العربى. وما بين البداية والنهاية، يعرض الكتاب تجارب كثيرة، يتداخل فيها غالبا الخاص و العام، فى جمعيه نقاد السينما المصريين، وجمعية سينما الغد، ومشروع جماعة السينما الثالثة، كما يتناول جوانب من عوالم سينمائية وصحفية وثقافية عامة. ويحتوى الكتاب على ملحقين أحدهما خاص بصور أصدقاء وشخصيات سينمائية ومناسبات، وقد فاجأنى وجود صورة لصديقنا المشترك الراحل نديم ميشيل الذى افتقدت الحديث عنه فى متن الكتاب، إلا بكلمات قليلة، والحق أن "نديم" كان يستحق صفحات وحده، بحكم علاقة الصداقة القديمة والممتدة التى تربطه بالمؤلف، وأيضا بحكم دوره كناشط ثقافى صاحب موقف تقدمى وإنسانى، كان بيته مفتوحا دائماً لإستقبال عشرات المثقفين المصريين.
فى فصل البداية يسهب الكاتب فى توضيح كيف ساهم فيلم لإيليا كازان فى تشكيل وعيه بالسينما والعالم، واللافت للنظر فى هذا الفصل هو اعتراف أمير العمرى بأنه كان ينتمى إلى جيل الغضب، فنحن نراه يتحدث بضمير الجمع: "كنا نرغب فى تغيير السينما وجعلها وسيلة للتعبير الذاتى والشخصى عن موقفنا من العالم، و"كنا نود الإنطلاق من السينما لتغيير العالم نفسه". وهذا الإعتراف الذى يطلع أجيالاً جديدة على مواقف بعض الشباب الثائر والمحتج فى سبعينيات القرن الماضى، هو مفتاح شخصية الناقد والكاتب والباحث أمير العمرى، فإذا كان العمرى قد بدأ حياته العامة داخل "تيار الغضب والتمرد" الذى أعلن عن نفسه بوضوح عام 1968، فإنه الآن ما يزال غاضباً ومتمرداً على الأوضاع المترديه التى آل إليها حال المجتمع المصرى تحت حكم العسكر، وإن كان غضبه وتمرده أصبحا أكثر صقلاً من منطلقات أكثر خبره ونضجاً من ما كان فى سنوات شبابه الأولى، وإن ظل الغضب و التمرد على المستوى الفردى فقط وبعيدا عن الممارسات السياسية التى اعترف بأنه نأى بنفسه عن الإنخراط فيها منذ كان طالباً فى الجامعة.
يشغل عقد السبعينيات مساحة كبيرة من الكتاب، وهو بالفعل أحد أهم عقود جيلنا، فبقدر ما كان إمتداداً للصحوة الجماهيرية التى أعقبت هزيمة 1967 ورفعت شعارات الحرية السياسية
وتحرير الأرض المحتلة من الكيان الصهيونى، والتوجه نحو الديمقراطية وحرية التعبير، كان العقد أيضاً عقد انكسار الحلم، حيث راحت السلطة تبيع الأوهام وتنشر الاكاذيب، ورأينا المصريين لأول مرة فى التاريخ يتشتتون فى أرجاء الأرض حاملين معهم خيبات آمالهم. وفى هذه الظروف وفى منتصف العقد تقريباً نشأت ونمت صداقتى بأمير العمرى. كنت قد سرحت من الخدمة العسكرية بعد حربين، وبعد ست سنوات فى ميدان القتال، وبدأت فى كتابه النقد السينمائى والإنخراط فى أنشطة الجمعيات السينمائية والحياة الثقافية. تعرفت على أمير العمرى فى نادى سينما القاهرة. ومن اللقاء الأول كان هناك الكثير مما يجمعنا معاً: التفاؤل والتمسك بالحلم والتنزه عن الأغراض الشخصية، والصراحة المطلقة فى قول ما نؤمن به.
كنا نلتقى فى عروض جمعيات سينمائية مثل جمعية الفيلم ونادى سينما القاهرة وجمعية نقاد السينما المصريين ونجلس على المقاهى نتناقش حتى ساعات متأخرة من الليل مع أخرين. وعن هذه الفترة التى لم تدم إلا نحو عامين كتب أمير العمرى عن تجربتنا المشتركة فى جمعية سينما الغد. غادرت إلى ليبيا للعمل فى نهاية عام 1976 وعدت عام 1980، وغادر أمير إلى الجزائر عام 1980 للعمل كطبيب ومنها إلى بريطانيا 1984 للعمل والدراسة والاقامة. لكن أواصر الصداقة بيننا لم تنقطع أبداً رغم سنوات الهجرة الطويلة. وحين عاد أمير إلى مصر نهاية عام 2000، محاولاً إنهاء الهجرة والعودة من جديد للوطن، وهى محاولة باءت للأسف بالفشل، وتركت فى نفسى جرحاً عميقاً، أعدنا رباط السبعينيات القوى، وبذلنا جهداً مشتركاً مع أخرين متحمسين، وبقدر استطاعتنا، لتنشيط دور جمعية نقاد السينما المصريين والمساهمة فى تطوير النقد السينمائى فى مصر.
ما كتبه أمير العمرى عن تجربة الشباب داخل جمعية سينما الغد فى السبعينيات، هو وفى حدود علمى أول ما كتب عن هذه الجمعية حتى الآن، وهي بلا شك إحدى إضافات هذا الكتاب إلى الأدبيات السينمائية فى مصر.
وتكشف تجربة لجنه تحكيم مهرجان أوبرهاوزن بألمانيا عن كواليس المهرجانات الدولية، حيث المفارقات وإفتقاد العدالة فى النتائج أحياناً، كما تبين إلى إى مدى يمكن للأهواء والحسابات السياسية وحتى الإنحياز لبعض التفضيلات الجمالية، أن تطيح بأفلام ذات قيمة لحساب أفلام أخرى. وهذه التجربة قد تكون ذات فائدة، لا للنقاد السينمائيين فقط، بل للمشاهدين والقراء العاديين أيضاً.
يضم الكتاب ملحقاً يتضمن تسجيلاً لندوة عقدتها جمعية نقاد السينما المصريين عام 1976 حول الدورة الأولى لمهرجان القاهرة السينمائى. ولأن كتاب "حياة فى السينما" ليس كتاب معلومات وإنما كتاب يغلب عليه الفكر النقدى، أى إصدار الأحكام وتقييم المعلومات بعد تحليلها، ورغم التوضيح الذى وضع الندوة فى سياق أحداث السبعينيات، إلا أن المؤلف كان ينبغى أن يلقى مزيدا من الأضواء على مهرجان القاهرة السينمائى، خصوصاً أن له موقفاً معروفاً ومعلناً من المهرجان حتى فى أحدث دوراته. وربما كان نشر صفحات من "الكتاب الأسود" الذى جاء ذكره فى تقديم الندوه كافياً بالغرض.
يتحدث فتحى فرج الناقد الكبير الراحل فى هذه الندوة عن سينما رخيصة وسينما رجعية وسينما متخلفه، ولم يبق فى زمن العولمة، رغم إنتشار الصحافة الواسع والصحف التى لا تعد ولا تحصى، إلا القلائل جداً من النقاد والصحفيين الذين يستخدمون تلك التوصيفات. فالعولمة وما بعد الحداثة وإفتقاد العلمانية واعتبار الدين هو كل الثقافة، عوامل شكلت الحجج الواهية لمروجى الفن الرخيص والرجعى والمتخلف من مدعى النقد، وكالعادة فإن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger