الاثنين، 17 يناير 2011

قولوا لي ماذا تشاهدون من أفلام أقول لكم من أنتم!

القاهرة ـ ' القدس العربي': يصدر خلال أيام عن مكتبة مدبولي في القاهرة، كتاب ' شخصيات وافلام من عصر السينما' للناقد السينمائي أمير العمري، هو الكتاب الثاني عشر للمؤلف. ننشر هنا مقدمة الكتاب الذي يعتبره مؤلفه ' أقرب كتبه إلى نفسه وأكثرها تعبيرا عن رؤيته وتجربته:
نعم كان هناك ' عصر السينما'. كان هذا ' عصرنا' نشأنا فيه وعشناه، وشهدنا كيف كان، وأين ذهب. وآمل أن تتكفل صفحات هذا الكتاب بالإجابة على التساؤلات الخاصة بعصر السينما: معناه ومغزاه وملامحه، كيف كان، وأين انتهى، ولماذا.
كان العصر الذي أقصده، في الماضي، في الخمسينيات والستينيات وقسط كبير من سبعينيات القرن الماضي، لكنه شحب وتضاءل في الثمانينيات، وانتهى عمليا في التسعينيات، بعد أن أصبحت الدنيا غير الدنيا، والناس غير الناس، والسينما غير السينما.
كان عصر السينما عندما كانت الأسر من الطبقة الوسطى، تصطحب أبناءها وتذهب إلى دار السينما عصر يوم الخميس أو الجمعة، دون أي حرج، بل كانت رحلة الذهاب إلى السينما طقسا من الطقوس البديعة التي تستعد لها الأسرة في مصر، بإعداد الملابس التي سترتديها ربة الأسرة وبناتُها وأبناؤُها، وربما تُعد الأم أيضا بعض المأكولات الخفيفة التي يمكن تناولها خلال فترة الاستراحة بين الفيلمين، فقد كانت دور العرض، خصوصا في الأحياء وعواصم المحافظات، تعرض فيلمين، على طريقة ' العرض المستمر'، ينتهي الفيلم الثاني فيبدأ مرة أخرى، عرض الفيلم الأول، وهكذا.
كانت مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي هي المتعة الأولى لدى أسر الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية، إلى جانب الاستماع للحفل الشهري الذي كان يبث إذاعيا، للسيدة أم كلثوم. وكان هذا الحفل يحظى في الكثير من الأحيان، بحضور الرئيس جمال عبد الناصر ومجموعة من صحبه.
كنا نعيش ' عصر السينما' عندما كانت السينما إحدى الركائز الثقافية في المجتمع، بل والأسس الاقتصادية للدولة أيضا. وكان الفيلم وسيلة وغاية في الوقت نفسه، كان وسيلة لتوصيل فكرة ما، أو موعظة، أو حكمة أخلاقية من وراء القصة التي يرويها. وكان هدفا في كونه وسيلة للتعبير الفني، لبيان قدرة الممثلين على التشخيص ومنافسة ممثلي المسرح، بل وكان الكثير من الممثلين ينتقلون ما بين المسرح والسينما، ويرتفعون بالتالي بفن الأداء التمثيلي كثيرا.
كان عصر السينما عندما كانت هناك قامات في التمثيل تتألق على الشاشة الفضية مثل حسين رياض، وعبد الوارث عسر، وسراج منير، وزكي رستم، وسليمان نجيب، ومحمود المليجي، ونجيب الريحاني، وزكي طليمات، ومحمود مرسي، وأمينة رزق، وفاتن حمامة، وشكري سرحان، ومريم فخر الدين، وفريد شوقي، ومحسن سرحان، ويحيى شاهين، ومحمد توفيق، وسعيد ابو بكر، وعدلي كاسب، وتحية كاريوكا، وشادية، وعمر الشريف، وغيرهم كثيرون.. كثيرون.
كان تعامل المخرج وباقي العناصر الفنية مع الفيلم، أثناء عملية التصوير نفسها، تعامل الهواة المحبين، الذين يسعون إلى التجويد والإجادة، ينشدون استخدام كل مفردات السينما كفن وصناعة، لتجسيد العالم كما يرونه: رومانسيا بسيطا، أو واقعيا معقدا. وفي الحالتين كان الجمهور يقبل على الفيلم، يدعمه بالقروش التي كان يشتري بها تذاكر دخول السينما، وكان هناك اهتمام بعدم التنازل على مستوى الصنعة، بل بالتطلع إلى مجاراة المستوى الاحترافي للفيلم الأمريكي عندما كانت هوليوود تعيش عصرها الذهبي. وكانت محاكاة الفيلم الأمريكي في ' عصر السينما' أمرا أساسيا، ولكن هذه المحاكاة لم تكن تتمثل في نقل القصة أو اقتباس السيناريو وتمصيره بالضرورة، بل في مجاراة أسلوب الإضاءة، واستخدام الظلال والديكورات، والتلاعب بالأبيض والأسود، وكان السينمائيون يكتشفون ' نجوما' يمكنهم تقديمهم كنماذج درامية عربية توازي نجوما آخرين اشتهروا في السينما الأمريكية.
كانت هند رستم مثلا نموذجا عربيا لمارلين مونرو. وقد ظهرت معها في نفس الفترة. وكان فريد شوقي معادلا عربيا لأنطوني كوين، في حين كانت مريم فخر الدين المقابل العربي لكاترين هيبورن، وكان محسن سرحان مقابلا لهمفري بوغارت.. وهكذا.
في عصر السينما كانت دار العرض السينمائي هي أساس السينما كلها وجوهر سحرها. فلم تكن شاشة التليفزيون قد أصبحت طاغية مسيطرة كما هي الآن. ولم يكن الفيديو قد ظهر أو انتشر كما حدث فيما بعد، ولم نكن قد عرفنا بعد الاسطوانات المدمجة ( دي في دي) ومشاهدة الأفلام عن طريق الصناديق الصغيرة الموضوعة فوق المكاتب والطاولات، أي عبر أجهزة الكومبيوتر وفضاء الانترنت.
كان الفيلم في نظر الجميع، هو المصور على شرائط من مقاس 35 مم، وليس المصور بكاميرا الديجيتال أو عن طريق تقنية الفيديو الرقمية المتقدمة كما حدث حاليا. ويعتبر شريط الفيلم ' السيلولويد' الركن الأساسي في تاريخ السينما وفي عصر السينما، وكنا نتهافت للحصول على بضعة ' كادرات' من هذا الشريط ونحن أطفال، لكي نستخدمها في محاكاة آلة العرض، باستخدام ضوء ' بطارية' صغيرة خلف ثقب في علبة من علب الأحذية، نمرر من خلاله شريط الفيلم لنرى الصور على حائط أبيض في شرفة نتحلق فيها ليلا، أو تحت سرير في الظلام.
كان الديكور السينمائي ركنا أساسيا من أركان صنع الفيلم، وهو عنصر يُحسب حسابه، له خبراؤه والمختصون في تصميمه وبنائه وتنسيق المناظر في داخله أيضا، قبل أن تصبح البيوت والشوارع والمحلات التجارية أماكن أرخص، مع تقدم الابتكارات في تقنيات الفيلم الخام وتقدم درجة حساسيته للضوء، والتقدم في استخدام تقنية التسجيل المباشر للصوت.
كانت السينما في العالم قد أصبحت فنا وصناعة وتجارة، وكان هناك حديث طويل ممتد، حول أن من يسيطر على الأذرع الثلاث للسينما، أي الإنتاج والتوزيع والعرض، يسيطر تماما على تلك الصناعة ويستطيع توجيهها. ولذلك اتجهت حكومات الدول الاشتراكية إلى احتكار العمليات الثلاث، لكنها فشلت في احتكار الأفكار، أو توجيهها، فقد كانت طاقة التمرد لدى الفنان أقوى من أي قيود. ولعل أبرز دليل على ذلك، ما أبدعه المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي، الذي منع فيلمه البديع ' أندريه روبلييف' في الاتحاد السوفييتي عام 1966، وعندما اشتدت عليه وطأة النظام، هجر بلاده وعمل في إيطاليا والسويد إلى حين وفاته حيث أخرج فيلمين من التحف الكبرى في تاريخ السينما هما ' حنين' Nostalgia و' القربان' The Sacrifice .
وفي مصر خلال الستينيات، شهدت السينما تطورات درامية، بعد أن اتجهت أنظار الدولة أيضا إلى ضرورة دعم الصناعة، وتشجيع إنتاج الأفلام التي لا يستطيع المال الخاص تمويلها، وهي فترة ظهر فيها الكثير من الأفلام الجيدة دون شك، لكن هذه السياسة أصبحت مثار جدل ربما حتى وقتنا هذا، ولم تمر دون مجازفات ومخاطر بل ومنزلقات. فلم يكن ممكنا أن تتيح الدولة حرية النقد في مراحل وصفت بأنها ' مصيرية'، وعرفت مواجهات عسكرية مسلحة مع إسرائيل، وهو ما استدعى أن يكون هامش حرية التعبير محدودا للغاية، غير أن السينمائيين كانوا يستخدمون الهامش إلى أقصى مداه، ويلجأون إلى الرمز والاستعارة والتشبيه.
غير أن الجدل والصراع كانا يدفعان العجلة إلى الأمام. وكانت التجارب السينمائية الجديدة تسعى إلى أن تصبح جزءا من التيار السينمائي الإنساني عموما، أي أن تكون مصر في مجال السينما، جزءا من العالم، لا تنكفىء على نفسها مستندة إلى فكرة الريادة التاريخية وحدها، بل تلتحق بالعالم، سواء على مستوى السينما أو الثقافة عموما. فمصر شاركت في مهرجان كان مثلا، من البداية، أي في عام 1946 وامتدت مشاركتها طويلا قبل أن تتوقف.
كانت مصر، في الخمسينيات والستينيات، تسعى إلى استكمال مشروعها ' الحداثي'، وأن تنتقل لتصبح مجتمعا صناعيا إلى جانب المجتمع الزراعي الذي كان قد انتقل من نظام ري الحياض إلى الري الدائم، وفي هذا الإطار ' الحداثي' الذي يلتحق بالعصر، ويستخدم مفردات العصر، كانت السينما كفن وصناعة، تمر بفترة ازدهار كبير قبل أن تصاب بنكسة بسبب ممارسات البعض من الذين كانوا يعملون في الحقيقة، لحساب الموزع الخارجي، ويسعون لتلبية متطلباته، حتى لو كان معنى هذا تخريب السينما المصرية من الداخل. وسنجد بين طيات هذا الكتاب مثالا واضحا على ذلك النوع من التخريب.
وعندما اشتدت وطأة الأزمة السياسية في أعقاب هزيمة 1967 اصطبغ عصر السينما ببعض المتغيرات التي حملت الكثير من الآمال والطموحات، لكنها سرعان ما أجهضت.
في قلب عصر السينما، جاءت أيضا تجربة نوادي السينما، التي تعلمنا فيها كيف نتذوق الأفلام ونحللها ونناقشها ونستمتع بها. ودارت محاولات وقتذاك لجعل النقد السينمائي جزءا أصيلا من ثقافتنا، مثله مثل النقد الأدبي والمسرحي والتشكيلي، أي أنه نوع أدبي في الكتابة، يمكننا أن نأخذه على محمل الجد، وليس مجرد مادة مكتوبة لإلهاء وتسلية القراء في الصفحات الأخيرة من الصحف. اعتبر هذا الأمر، أي رسوخ النقد السينمائي كشكل أدبي جديد، أمرا مفروغا منه حتى نهاية السبعينيات. فماذا حدث الآن بعد أن غادرنا ' عصر السينما'، وأين نحن من العالم سينمائيا، وما الذي آل إليه مصير الفيلم الفني الطموح أمام الآلة الضخمة التي تضخ الأفلام الاستهلاكية السريعة؟
' قولوا لي ماذا تشاهدون من أفلام، أقل لكم من أنتم'. يصلح هذا التساؤل بالتأكيد، للتفرقة بين عصر السينما، وعصر ما بعد عصر السينما.
ولعل من الصحيح القول إن صفحات هذا الكتاب تعتبر، على نحو ما، رحلة إلى الماضي، إلى عصر لم يعد قائما، لكنها رحلة تقصد فهم الحاضر في ضوء الماضي، ومعرفة أين نضع أقدامنا حاليا، وهل من الممكن أن نستعيد النهضة، ونعود لكي نعيش الحلم من جديد، حلم السينما داخل دار السينما، وهل سيأتي وقت تعود فيه الأسرة المصرية والعربية، إلى دار السينما للاستمتاع، ثم يغادر أفرادها دار العرض وهم يتناقشون في الفيلم الذي شاهدوه لتوهم، مدلولاته الاجتماعية، ومستواه الفني، دون تشنج أو مناداة بالمنع، والتحريم، والعقاب، كما أصبح الوضع الآن، دون حتى الذهاب لمشاهدة الأفلام؟
هذا الأمل يظل قائما، شريطة أن تعتدل بوصلة المجتمع كله وتبدأ في الاتجاه نحو خلق وترسيخ ثقافة أخرى جديدة، ثقافة بالمعنى الشامل لكلمة ثقافة، تواجه الثقافة الغيبية السائدة المتخلفة التي انتشرت كالوباء في المجتمع طيلة السنوات الثلاثين الماضية، كما تواجه الثقافة الرسمية التي تميل إلى المهادنة مع التخلف، إن لم يكن التنافس معه أيضا.
من دون هذا سيظل ' عصر السينما' عالما سحريا من الماضي. أحاول أن أروي منه بعض ما أعرفه في هذا الكتاب الذي أرجو أن تصل رسالته دون حاجة مني إلى شرحها أو تبسيطها، فهي كامنة بين ثنايا السطور.
ولكن ينبغي أن أشير إلى أن الكتاب يتضمن الكثير من رؤيتي الشخصية لبعض الأحداث والشخصيات التي اقتربت منها والتي لعبت دورا مهما من وجهة نظري، في تشكيل عصر السينما كما عشته أنا على الأقل، كما أنها أحداث وشخصيات لا غنى عن التوقف أمامها في سياق وصف أجواء العصر الذي أتناوله، مع محاولة تقديم صورة لذلك الارتباط الحتمي في رأيي، بين السياسي والثقافي والسينمائي، والربط بين ما كان يقع من أحداث سياسية بارزة، وانعكاساتها على السينما وعلى العلاقة بين الدولة والسينما، وبين المتفرج الصغير، الذي كنته في تلك الفترة من عصر السينما، وبين أفكار كبيرة كانت تأتينا عبر الكثير من الافلام التي عشنا معها، وأصبح بوسعنا أخيرا، أن نستعيدها ونعيد اكتشافها ومشاهدتها بعد أن أصبحت متوفرة لحسن الحظ في الأسواق العالمية.
أخيرا، أرجو أن يكون التعريف بهذه الأفلام هنا، دافعا للشباب من محبي الفن السينمائي، للعودة إليها، والحصول عليها في نسخ من الأسطونات المدمجة ( دي في دي) ومشاهدتها والاستمتاع بها أيضا في ضوء ما ورد في هذا الكتاب من معلومات عن ظروف ظهورها على خريطة السينما المصرية أو العالمية.

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger