كتابات نقدية حرة عن السينما في الحياة، والحياة في السينما............. يحررها أمير العمري
الخميس، 12 يوليو 2012
ما هي السينما الخالصة وهل هي موجودة؟
الخميس، 16 سبتمبر 2010
البحث عن متعة المشاهدة
يركّز بورديو في هذا الكتاب الشيق وبطريقة مباشرة وحادة بعض الشيء، على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة، وفي القلب منها ذلك الجهاز الضخم الذي يسمى التليفزيون، وما تمارسه هذه الوسائل من "تلاعب وتأثير" في عقول الناس. ويبين كيف تقوم هذه الوسائل، خاصة الصحف والتليفزيون، بتشكيل الأفكار والوعي العام، وكيف تعمل آليات توجيه وتشكيل الوعي والرأي العام، ومن الذي يقوم بالتحكم في تنظيم وتوجيه أو إدارة هذه الآليات؟ وكيف أن الصحافة، وبعدها التليفزيون، كان الهدف الأساسي منهما خلق أداة تنوير وتثقيف وتغيير للوعي والواقع لما هو أفضل، أو على الأقل القيام بعملية "إخبار" حقيقية صادقة لكل ما يجري وفي حيادية تامة، وكيف أنها غدت بفعل هيمنة قوى المال ونخب المصالح أداة تمرير لما يتطلبه السوق وعلاقات الربح من حيل إعلانية واستعراضات باذخة وباهتة المضمون، وإلى أي مدى ساهمت في عزوف الناس عن السياسة والثقافة الجادة، وتعميم قيم الاستهلاك والسلبية والامتثالية.
من بين الأمور العديدة التي تعرض لها بودريو في هذا الكتاب تلك الخلفية التي تراها أعيننا على الشاشات الزائفة أمامنا، وقدم لنا في ذلك نموذج شديد الرواج وهو البرامج الحوارية أو "التوك شو"، وراح يفندها بدقة وبعين خبير متفحص، بدءًا من تركيب البلاتوه مرورًا بنبرات المذيع والضيوف المتحدثين من كلا الجانبين وانتهاء بالصراعات والمناقشات الحادة المفتعلة فيما بينهم، وفرض نمط التفكير السريع، وتقديم الندوات الزائفة، وانتقاء الأسئلة وعدم إعطاء الحق في الكلام لمن يملك أفكارًا جديدة أو جيدة، وكيف يجري الضغط على هؤلاء ومنحهم الحق في وقت غير ملائم. إلى آخر كل هذه التنويعات التي هي من أدوات التلاعب بعقول المشاهدين وتغيير وعيهم وممارسة الرقابة عليهم في نفس الوقت، ودفعهم إلى التفكير في أمور بعينها وفي اتجاه معين، وبالتالي بناء نمط معين قائم على هذا التوجيه الخفي.
وقبل فترة قصيرة، أثارت مقالة كتبها الصديق العزيز الناقد أمير العمري عن الفرجة وآليات المشاهدة التليفزيونية الكثير من المواجع والشجون عندي، ودفعتني كلماته الهامة عن طقس الفرجة، كما يسميه، وما يخلقه في المتلقي من إيجابية أو سلبية إلى المقارنة بين ما قرأته بين دفتي كتاب بورديو، وتجربتي الشخصية مع طقس آخر مغاير من أنواع المشاهدة وجدت نفسي مدفوعًا إليه رغمًا عني ومجبرًا عليه، لكن نوعية الإجبار هنا كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي تعرض لها وفندها بورديو في كتابه وأكد عليها الصديق أمير العمري في مقالته، فنوعية الإجبار هنا دفعت إليها عن طيب خاطر وبحب بالغ وإقبال كان له ما يبرره في نظري آنذاك. وأود قبل أعرض لتلك التجربة أن أوضح أنني لن أتحدث هنا معلقًا عن دور الدراما والمسلسلات وتجربة مشاهدتها أو عن البرامج الحوارية وغيرها من البرامج أو الأمور تعج بها محطاتنا الفضائية ليل نهار دون تحقيق فائدة من أي نوع، فكلامي سيعمل على توسيع نطاق زواية الرؤية أكثر بعض الشيء للمقارنة بين حال القمر المصري بقنواته التي قاربت السبعمئة قناة (أربعين مليون متابع في الوطن العربي وفقًا لإحصائيات هذا العام 2010) وقمر واحد فحسب هو القمر الأوروبي "الهوتبيرد"، وتجربتي التي لا تنسى معه.
وبعد فترة ليست بالقصيرة صرت محترفًا فيما يتعلق بأمر قنوات القمر الأوروبي، فرحت أستغني تمامًا عن كل ما ليس لي به علاقة، وأركز فقط على عشرات، أؤكد عشرات، القنوات، التي تأكدت أنها تستحق المتابعة وتخصيص الجهد والوقت خلال ساعات اليوم. وبعد أن كان الأمر في البداية خاصعًا للصدفة البحتة والانتقال العشوائي بين قناة وأخرى لمحاولة ملاحقة ما تبثه، أفلحت بعد ذلك في منهجة عملية الفرجة بشكل تخطيطي صارم وفقًا لتوقيتات البلدان وما تبثه كل قناة.
سأقصر حديثي هنا على محطة أو محطتين تحديدًا لأن المقام لا يتسع لذكر أسماء أو مميزات كل محطة من المحطات على حدة. في البداية وعلى رأس كل هذه المحطات وجدتني مشدودًا إلى المحطة العملاقة "آرتى" الفرنسية الألمانية المتميزة، بكل ما تقدمه بالفرنسية وأحيانًا الألمانية، رغم معرفتي القليلة باللغتين، لكل ما هو فني راقي، من برامج سواء حوارية أو غيرها (ضاربًا بكلام بورديو عرض الحائط) أو متابعات لمهرجانات أو أحداث فنية أو عروض ريبورتاجات فنية ومتحفية إلخ، إلى جانب بالطبع الوجبة السينمائية اليومية، ناهيك عن وجبة أخرى كانت تخصصها القناة كل أسبوع لعرض مجموعة أفلام لمخرج بعينه، فهذا الأسبوع أسبوع تاركوفسكي، أو كوبولا أو بولانسكي أو لانج، على سبيل المثال، وكانت هذه القناة تتميز بميزة محببة عندي للغاية دون سائر القنوات، (للأسف تخلت عنها الآن بعض الشيء) تتمثل في عدم دبلجتها لأي حوار لأي فيلم تقدمه، فقط تضع الترجمة الفرنسية بخط صغير أسفل الشاشة وينتهى الأمر عند هذا الحد، إلى جانب انتفاء أي نوع من أنواع القطع ولو اللحظي لأحداث الفيلم من أجل فاصل إعلاني أو إخباري أو غيره من الأمور حتى لو انقلب العالم رأسًا على عقب، إضافة إلى ميزة أخرى لم أرها في أي محطة أخرى تتمثل في عدم إظهار شعار أو اسم المحطة في أي ركن من أركان الشاشة، لتلافي إزعاج المتفرج أو تشتيت انتباهه أو إفساد صورة الفيلم المعروض لمن يهون تسجيل الأفلام، فاحترام المشاهد والمادة المقدمة، والفنان الذي أبدعها يأتي أولا وقبل كل شيء عندهم، وإن كان الفيلم المعروض تصل مدة عرضه إلى ثلاث ساعات، على سبيل المثال، كنت أجلس الثلاث ساعات كاملة وأنا على يقين تام من أن الفيلم لن يقطع أبدًا أو يتخلله فاصل إعلاني أو استراحة حتى ينتهي تمامًا، وأقصد بينتهي تمامًا، ليس مجرد ظهور كلمة النهاية، إن كانت موجودة، بل انتهاء التترات النهائية كلية، خلافًا لما يحدث عندنا من حذف حتى لاسم المخرج بعد انتهاء الفيلم.
ليس هناك أدنى شك في أن الحديث عن كل قناة من هذه القنوات على حدة قد يستغرق العديد من الصفحات التي يجب تخصيصها لكل محطة وما تقدمه، كما ذكرت من قبل، فثمة الكثير برأيي يستحق الإشادة أو على الأقل مجرد الإتيان على ذكر اسم المحطة كنوع من أنواع الدين الذين أنا مدين به لهذه المحطات التي لولاها لما شاهدت الكثير من الروائع الفنية والتسجيلية والسينمائية الطويلة. ولولا، على سبيل المثال، المحطة المجرية الرسمية، لما تمكنت من مشاهدة أعمال المخرج المجري اشتيفان سابو، أو ميكلوش يانتشو أو زولتان فابري، أو البرامج التسجيلية أو الحوارية المعدة عنهم وعن غيرهم. والشيء نفسه ينطبق على المحطات الإيطالية، "الراي" تحديدًا، وهذا الكم الهائل من الأفلام الإيطالية القديمة والحديثة وغيرها من الأفلام الأجنبية الأخرى، التي تبث على مدار الساعات على كافة محطاتها، وعلى الرغم من الداء الفظيع لدى الإيطاليين حيث الولع بدبلجة كل شيء وكذلك قطعهم الإعلاني على الأقل مرة في منتصف الفيلم، إلا إنني لا أنكر أبدًا أنني شاهدت الكثير جدًا من المواد السينمائية والتسجيلية النادرة على هذه المحطات، بما في ذلك المحطات الإيطالية التعليمية أيضًا.

من بين الأمور الكثيرة التي استوقفتني وقتها أثناء فترة متابعتي لتلك المحطات، ملاحظة أدهشتني للغاية، فمعظم المحطات التي كنت أتابعها كانت عبارة عن محطات حكومية مملوكة لبلدانها، ربما باستثناء "الآرتى"، أو "الميزو" (تلك المحطة الموسيقية المرعبة في فرادتها وتخصصها) إن لم تخني الذاكرة، فهناك أكثر من محطة ألمانية، ومجرية، ورومانية، وسلوفينية، وسويسرية، وبولندية وإسبانية إلخ، ليست سوى القنوات الأولى أو الثانية بتليفزيونات بلدانها، وهو أمر يدعو بالفعل إلى الحسرة عند مجرد التفكير فيه وتأمله. وما فاق وغطى على كل هذا، من وجهة نظري، كان قناة البرلمان اليوناني، تلك المحطة التي لا يتجاوز عدد ساعات إرسالها عشر ساعات أو يزيد قليلا مقسمة على مدار اليوم، وهي بالفعل قناة خاصة تابعة للبرلمان اليوناني، تذيع جلسات مجلس الشعب أو الشوري، لا أعرف بالضبط، اليوناني صباحًا لمدة ساعتين أو ثلاثة ثم تغلق تاركة إياك تستمتع بعزف خلفي لأروع الموسيقات الكلاسيكية، وتفتح مرة أخرى بعدة فترة لا تتجاوز الساعتين، لتذيع الكثير مما لم تشهده عيناي من قبل، ثم تغلق عند منتصف الليل، تاركة لك حرية الاستماع إلى ما تبثه من قطع من أروع الموسيقات الكلاسيكية على خلفية تعرض برامج اليوم التالي.
كانت هذه المحطة التي أجهل اسمها باليونانية أو حتى معناه (تليفزيون....) "ΒΟΥΛΗ-ΤΗΛΕΟΡΑΣΗ"، متخصصة فقط في كل ما هو فني، لا وجود لمذيعين أو مذيعات أو إعلانات أو غيرها من هذه الأمور، باستثناء نشرة أخبار مقتضبة لا تتجاوز الخمس دقائق. كانت تفتتح ساعاتها الفنية بفيلم تسجيلي عن ممثل أو مخرج أو مغني أو فرقة موسيقية معروفة أو مدرسة من المدارس الفنية إلخ، ثم تسجيلي آخر في كافة حقول المعرفة، وكان أغلبها من إنتاج البي بي سي أو القناة الرابعة البريطانية أو مما كانت تبثه محطتي الناشيونال جيوجرافيك أو الأنيمال بلانيت، ثم بعد ذلك فيلم السهرة. وفيلم السهرة لم يكن يختار هكذا هباء، بل وفقًا لبرنامج معد سلفًا طوال الأسبوع، باستثناء يومي السبت والأحد، يوم للمسرح، وآخر للبالية أو الأوبرا، وبقية أيام الأسبوع الخمسة لمخرج سينمائي واحد فقط تعرض له مختارات من أعماله الفنية. كانت هذه القناة تتمتع بنوع من الفاشية محبب جدًا لنفسي، فلم يكن هناك أي فيلم هوليوودي أو بوليوودي أو ترفيهي دون المستوى يعرض بها على الإطلاق، ولم أشاهد بها أية أفلام أمريكية اللهم إلا أفلام كازافيتش أو جارموش أو لينش فقط، وهذا معناه أن كل ما هو دون المستوى حتى وإن كان جميلا حائزًا على الأوسكار أو غيرها من الجوائز المهرجانية لم يكن له أي مكان بها، لدرجة أن أفلام الويسترن المحترمة كالتالي لسيرجوليوني العظيم لم تكن تعرض هناك، وربما مرد ذلك للمساحة الزمنية التي لم تكن تتسع لنوع آخر أو عينة أخرى من المخرجين ليس إلا، فمن يترك أفلام تاركوفسكي وبيلا تار وفيلليني ودراير وأنطونيوني وكيشلوفسكي وبرجمان وبازوليني وغيرهم من القمم ليعرض لمن هم أدنى منهم مكانة، فالمجال هناك وكذلك الذوق الفني الصارم في الانتقاء لا يتسع لآخرين ليسوا من طينة هؤلاء على الإطلاق. وبفضل هذه القناة شاهدت هناك العديد من أفلام هؤلاء لم يسبق لي مشاهدتها أو أعدت مشاهدت بعضها أو تعرفت على بعضهم وعلى أفلامهم لأول مرة، كوباياشي ومينزل وفايدا إلخ. وبالرغم من هذا كنت أراهن دائمًا على أنهم لن يصمدوا كثيرًا أمام طوفان الأفلام الأخرى والمخرجين الآخرين، لكنهم ظلوا عند حسن ظني الفني بهم وأخسروني الرهان، ولم يتنازلوا قيد أنملة عن خياراتهم الفنية الصارمة، وهي صارمة بحق، فهم عندما يختاروا على سبيل المثال عرض أسبوع لفيلليني، كانوا يختاروا أهم ما أنجز فيلليني أو بونويل أو ساورا أو غيرهم، أن أي الاختيار لم يكن اختيارًا عشوائيًا على الإطلاق، وكم كان هذا ولا يزال يثير في نفسي الدهشة، فكيف لمجموعة من القائمين على محطة ليست بالمتخصصة، سياسية بالأساس، يتوفر لديهم مثل هذا القدر الجميل من الذائقة الفنية الرفيعة في كل ما يقدمونه حتى على مستوى المادة الوثائقية؟ ولا أنسى بالطبع أنهم في بعض الأحيان، وفي يوم بمنتصف الأسبوع على وجه التحديد كانوا يعرضون بدلا من الأفلام التسجيلية فيلمًا يونانيًا لأحد مخرجيهم، وكان هذا الرافد في غاية الأهمية بالنسبة لي، لأقف على السينما اليونانية ومخرجيها ومدارسها، وأشاهد من هم غير كاكويانس وزورباه، لأدهش على سبيل المثال بمخرجين رائعين كفولجاريس، وكوندوروس، ناهيك، بالطبع، عن الرائد الكبير أنجلوبولوس.
رسخت عندي هذه المحطة، وغيرها من المحطات التي تعرض أكثر من عمل لمخرج بعينه، خاصية غاية في التميز، في رأيي، وكانت لتلك الخاصية بذورها في غيرها من المجالات الفنية الأخرى التي أهتم بها، إلا أن هذه البذور صارت مع الوقت تترسخ وتتجذر وتتعمق، وبت أطبقها بحزم على كافة المجالات الفنية لفائدتها العميقة، وتلك الخاصية التي بت أنتهجها تتمثل في التعامل مع أي مخرج أو فنان أو كاتب إلخ بصورة إجمالية متدرجة، بمعنى، ألا أتحدث عن مخرج أو فنان أو كاتب أو موسيقي دون معرفتي الإجمالية بكافة أعماله، والمعرفة هنا لا تعني فقط مجرد حفظ أو ترديد أسماء الأعمال. أما التدرج، فأقصد به قراءة أو مشاهدة أو سماع أعمال هذا الكاتب أو المخرج أو الموسيقي منذ بداياته الأولى وحتى آخر ما أعماله الإبداعية. فقد اكتشفت أن هذا لا يجعلك على إلمام بمجمل أعمال هذا المبدع فحسب، بل أيضًا يجعلك تقف على الصعود أو الهبوط، الثبات أو الانقلاب في المستوى الفني الذي مرّ أو مرت به أعمال هذا المبدع على مدار حياته، وبالتالي تكوين صورة كاملة وشاملة عنه تجعلك في النهاية تستطيع الكتابة أو الحكم بمنطق فني وحياد على أعماله أو مستواه، دون التأثر بما قد يكتبه البعض أو تكوين رأي بناء على عمل قد يكون هو الأقوى أو الأضعف بين تسلسل أعماله الإبداعية.

ذكرت في مطلع هذا المقال أن ثمة نوع من المشاهدة أجبرني إجبارًا على أو اضطرني إلى أن أعيد النظر فيما ذكره بورديو، وكذلك إعادة ترتيب نظام حياتي وتشكيله وفقًا لما تمليه عليّ مقتضيات هذه المشاهدة وبقدر ما لها من أهمية أيضًا، فثمن نوع من المشاهدة تدفعك بالفعل إلى هذا وبالتالي ليست كل مشاهدة سلبية وامتثالية بالضرورة، تسلب الإنسان ملكاته وقدراته وقواة العقلية، لأن هناك مشاهدة قد تدفعك في أحيان كثيرة إلى أن تطأ قدمك مناطق ليس لك أي عهد سابق بها، أو لم يكن يخطر ببالك مجرد التفكير فيها، على الأقل هذا ما حدث معي. فعندما، على سبيل المثال، أتذكر الآن كيف أنني كنت أبحث لاهثًا عن محاولا إماطة اللثام عن أمر اللغة اليونانية ومعرفة أبجديتها بل وحتى تعلمها من أجل قناة البرلمان اليوناني هذه، أجدني أبتسم من غرابة التجربة، وأسعد بما حققته فيها وما دفعتني إليه.
في البداية كانت قد واجهتني صعوبة بالغة في متابعة المواعيد المختلف وأحيانًا المتضاربة لما تبثه هذه المحطات من مادة بغية متابعتها أو تسجيلها والاحتفاظ بها، فرحت قبل أي شيء، بعدما فاتني أكثر من فيلم ومادة هامة، أبحث في الانترنت عن توقيتات البلدان المختلفة، إلى أن اهتديت إلى برنامج صغير تدخل به اسم البلد ليذكر لك التوقيت بالضبط وفقًا لتوقيت بلدك، وبذلك استطعت أن أحل أول مشكلة واجهتني مع توقيت المحطات. وكانت المشكلة الثانية تتمثل في رغبتي في أن أعرف مسبقًا ما ستبثه كل محطة وتوقيت بثه حتى لا أظل تحت رحمة الانتقال من محطة إلى أخرى أو أن يفوتني بداية فيلم أو برنامج يفسد علي متعة المشاهدة أو التسجيل، فلجأت إلى الانترنت مرة أخرى، وهالني ما وجدته هناك، كل محطة من هذه المحطات تضع لن أقول برامجها الأسبوعية فحسب، بل نصف الشهرية وأحيانًا الشهرية أيضًا، وبالكامل، منذ أن تبدأ المحطة الإرسال وحتى الختام، وبتوقيت صارم لا مجال للتهريج فيه، وهناك مواقع توفر عليك كل هذا العناء، فموقع قنوات "التي في سانك" الفرنسية، على سبيل المثال، بمحطاتها الثلاث، بمجرد أن تختار المحطة يظهر لك منطقتك الجغرافية لتختار بلدك ويرتب لك جداول العرض وفقًا لتاريخ بلدك الذي اخترته، وإن كنت تبحث عن فيلم ضمن جدول البرامج فستجد كل ما يخص الفيلم، الحبكة، تاريخ الإنتاج، الممثلين الجوائز، صور، وأحيانًا دقيقة من الفيلم لتستعرضها.
لكن في مواقع أخرى واجهتني مشكلة مختلفة، فأنا لا أعرف البولندية أو المجرية أو الرومانية أو الإسبانية أو الأرمينية إلخ، فماذا أفعل لأعرف عنوان الفيلم أو اسم مخرجه؟ ومن هنا، رحت أبحث في جميع اللغات التي أحتاجها عن كلمة إخراج، لأنهم جميعًا كانوا يكتبون اسم الفيلم المعروض وتوقيت العرض ومدة الفيلم ثم اسم المخرج، فتعلمت الأحرف التي تكتب بها هذه الكلمة بعدة لغات، وكنت أقف عندها في الجداول وعندما أجد كلمة إخراج يليها اسم المخرج، وفي أحيان كثيرة كان من السهل علي قراءته أو تخمينه والتعرف عليه، كنت أسجل يوم العرض والتوقيت وزمن الفيلم، وأذهب لصفحة المخرج أو الفيلم على قاعدة البيانات بالإنترنت لتكوين فكرة مسبقة عن الفيلم والقصة والأبطال إلخ (فالفيلم، في أغلب الأحيان، إما مدبلج أو ناطق بلغة أجنبية وعليه ترجمة أجهلها، ناطق بالروسية وعليه ترجمة بولندية، مثلا). وبعد الانتهاء من كافة المحطات كنت أنتقل إلى مرحلة أخرى تتمثل في محاولة التوفيق بين هذه المحطات، والحرص على عدم حدوث تداخل فيما بينها، وإن حدث، فكنت أبدّي فيلمًا عن آخر، أو أترك المهم من أجل الأهم، أو الفيلم الذي سيعاد في يوم وتوقيت آخر واستعيض عنه بما لن يعاد أو يعرض على أي محطة خلال الشهر، وهكذا أستطعت حل جميع المشاكل التي واجهتني من أجل مشاهدة محببة دفعتني لبذل ما لا أطيقه في سبيل الفوز بما أحب، لكن الأمر كان غير ذلك بالمرة فيما يتعلق بالقناة اليونانية الأثيرة عندي حتى اليوم، فموقع المحطة الثانوي، داخل موقع البرلمان اليوناني، كان باللغة اليونانية ولا يزال حتى يومنا هذا، وبالتالي لن يفلح معه تعلمي لكلمة إخراج من أجل إماطة اللثام أو معرفة أي شيء عن صاحب الفيلم، ناهيك باسم الفيلم أو أي شيء آخر مكتوب عنه، فقط مدة عرض الفيلم وتوقيت العرض المكتوبين بأرقام هندية هما الواضحين والمعروفين لي وسط هذا الركام من الأحرف اليونانية.

لا أعرف كيف لم أفلح في العثور على كتاب واحد لتعليم اللغة اليونانية وقتها، رغم مصادفتي بعد ذلك لأكثر من كتاب في هذا الشأن، تعجبت من هذا وقتها، لكن حبي لهذه المحطة وفرادة ما تقدمه دفعني مرة أخرى للبحث في الإنترنت عن مواقع لتعليم اللغة اليونانية، وبالفعل وجدت موقعًا وضع الأحرف اليونانية القديمة إلى جوار الحديثة إلى جوار المقابل اللاتيني لها، وبذلك استطعت على الأقل أن أقرأ الحروف اليونانية مفردة وأعرف المقابل اللاتيني لها، هذا رسم حرف كذا وهذا رسم حرف كذا، وحفظت الأبجدية اليونانية عن ظهر قلب، مع جهلي بالنطق الصوتي للحروف، ولم يكن هذا مهمًا على الإطلاق بالنسبة لي. بعد ذلك، رحت كمن يفك طلاسم حجر رشيد أطبع جميع برامج القناة من الموقع، وأحاول ترجمة الأحرف اليونانية حرفًا حرفًا بأحرف لاتينية، على أمل أن تسفر الكلمة المترجمة عن اسم قد يشبه اسم مخرج أعرفه أو التكهن بفيلم أتذكره، لأنني قررت في البداية التركيز على الأفلام، وترك أمر الأفلام التسجيلية والوثائقية مؤقتًا، لأقف على الأقل في البداية على الأيام التي كانت تعرض فيها الأفلام، لأنني وقتها لم أكن أعرف باليونانية كلمة بالية أو أوبرا أو مسرحية أو فيلم، إلى أن اهتديت في النهاية إلى معرفة ترتيب العرض الذي تسير به القناة. بالطبع، أخطأت كثيرًا جدًا في البداية، فترجمتي لاسم برجمان على سبيل المثال تسفر عن اسم المخرج باراجانوف، فيلليني يتضح أنه بنيني إلخ، لكن كل هذا كان باعثًا على السعادة بالنسبة لي لأنني كنت على يقين تام في النهاية أنني حتى لو أخطأت في قراءة اسم المخرج أو اسم الفيلم فسوف أستمتع بما سيقدم، لأن من خلفه شيء كبير يدعى، الذوق، الذوق الرفيع في تقديم مادة فنية جميلة راقية ترقتي بالمشاهد وفكره وتحترم وقته وجلوسه مختارًا هذه المحطة بالذات. ومن نافل القول، بالطبع، إن هذا الذوق لا يأتي من فراغ.
وعندما أعود بذاكرتي الآن إلى تلك الفترة غير البعيدة، لا أجدني أتذكر محطة من تلك المحطات لم أشاهد بها ما هو "جديد" أو "فريد"، حتى ولو كانت المحطة غير متخصصة أو ترفيهية، والجديد هو ما لم أشاهده من قبل من مواد عرضت بهذه المحطات، والفريد أقصد به تلك المواد التي أبحث عنها في الإنترنت أو على هيئة اسطوانات ولا أجدها حتى اليوم، فأسعد لأنني واتتني فرصة تسجيلها أو على الأقل الاستمتاع بمشاهدتها. وغني عن القول أن كل ما شاهدته من مواد، حتى من زمن الأفلام الصامتة، مطلع القرن الفائت، كان في غاية النقاء والصفاء والوضوح، لا أتذكر أنني شاهدت مادة فيلمية تسجيلية أو وثائقية أو روائية كانت بها عيوب من أي نوع، فلا وجود لبقع أو دوائر أو خطوط تظهر في المادة بين الحين والآخر أو عيوب في الصوت أو الألوان إلخ. كما أتذكر جيدًا أن أغلب المحطات، كانت تتسابق في أيام احتفالات بأعياد الميلاد ورأس السنة بعرض جديدها، ولا أقصد بجديدها تلك المواد الفيلمية المعروضة حديثًا في السينمات أو المخصصة حصريًا لتلك المحطات، بل أقصد التفنن في تقديم كل ما هو قديم جديد، إن جاز التعبير، فثمة أفلام لشابلن على سبيل المثال أو مقاطع من أفلامه لم أشاهدها من قبل حتى يومنا هذا ولا أجدها على الإنترنت أيضًا، شاهدتها في غير محطة، لوريل وهاردي مثلا، شاهدت لهما الكثير مما لم أشاهده من قبل، وأحيانًا ما شاهدته بالأبيض والأسود أيام الطفولة كنت أجده ملونًا، كما أن جدتها تدل على أنها خارجة من معامل الطباعة لتوها، وبالفعل كنت أستشعر بهجة العام الجديد والاحتفال الحقيقي مع هذه المحطات لما كانت تقدمه من مواد نادرة، أدرك جيدًا أن أموالا طائلة دفعت فيها مقابل ترميمها أو طباعتها أو تلوينها أو العثور عليها وإخراجها من الأرشيفات السينمائية.

أحببت أن آتي هنا على ذكر تجربتي الخاصة مع نوع من المشاهدة ليس لمجرد الذكر فحسب، بل للتدليل على أن ثمة نوعية من المشاهدة قد تدفع بالمشاهد إلى محاولة البحث أو التعلم أو ترتيب الوقت أو بذل الجهد من أجل المتابعة والتفاعل مع ما يحب. بالطبع أعرف جيدًا وأدرك تمامًا أن هناك محطات لا حصر لها، ربما تتجاوز الألف بالقمر الأوروبي، مخصصة لكل ما هو رياضي وسياسي ودعائي وتهريجي وغيرها من الأمور، لكن الفارق بين هذا وذاك أن كل شيء متاح، من يريد المسلسلات أو البرامج الترفيهية أو الحوارية أو السياسية أو المسابقات أو غيرها سيجد، من يرغب في جرعة متكاملة خفيفة من كل هذا سيجد، ومن يبحث عن جرعة ثقيلة متخصصة غاية في التخصص، أيضًا سيجد، ولذلك، وبعد إقدامي على هذه التجربة، يمكنني القول إن بورديو جانبه الإنصاف بعض الشيء في عرض الصورة كاملة فيما يتعلق بما تهدف إليه هذه المحطات من هدم وتخريب وتلاعب بالعقول، (كنت وقتها أقول في نفسي، ربما كان بورديو يقصد قنواتنا نحن بكلامه القاسي هذا، وأجدني أتساءل ماذا لو تابع أو شاهد بورديو مجرد مشاهدة حفنة من قنواتنا؟ أية مجلدات كان سيكتبها هذا المفكر؟!)، والدليل على ذلك بعض القنوات التي ذكرتها وغيرها مما نسيت ذكره، فمثلا، هل تهدف المحطة التي تحمل اسم "المؤلف"، التي لا تعرض إلا الأفلام الخاصة بالمخرجين الذين ينتمون إلى هذا النوع من السينما المعروف بـ "سينما المؤلف"، إلى تخريب العقول والتلاعب بها أو إفساد الأذواق؟ سؤال أجدني مضطرًا لطرحه وإمعان النظر فيه.
في الختام أحب أن أوضح أنني لا أدعو من وراء هذه الكتابة إلى نوع من المقارنة بين هذا وذاك، أي، بين ما نقدمه وكيف نقدمه وبين ما يقدمونه، ليس لأن المقارنة ستكون ظالمة ومجحفة من وجهة نظر البعض، وإنما لانتفاء أي مجال للمقارنة من الأساس، فشتان بين ما يدفعك للبحث والاستمتاع وإعمال العقل لأنه يحترمك ويقدرك كمتفرج، وبين من يدفعك إلى الكسل والخمول والغباء، لأنك بالنسبة له لست أكثر من مجرد أعين مفتوحة على اتساعها وآذان مطرطقة وفم مفغر، على أتم الاستعداد والتهيؤ ليصب عليك كل شيء من كل حدب وصوب دون أن يحق لك إبداء أي نوع من أنواع الاعتراض أو المطالبة بما هو مغاير، ولا أجدني أبالغ في هذا، فبالتأكيد كل من تابع وشاهد أية محطة من هذه المحطات التي أتيت على ذكرها ولو عرضًا سيدرك جيدًا ما أقوله.
يتبقى لي في النهاية أن أضيف أن أغلب، إن لم يكن جميع ما ذكرته، وهو قليل، من محطات هنا هي محطات مفتوحة وليست مشفرة أو تفتح مقابل اشتراك مادي، وهذا يعني أن هناك أيضًا محطات أخرى مشفرة على هذا القمر تبث الكثير من المواد التي لا تقل أهمية وجدية وفنية عما ذكرته هنا، لكنني للأسف الشديد لم يتسنى لي متابعتها إلا لأوقات قصيرة وعلى فترات متباعدة لعجزي عن ملاحقة الكثير مما يستحق المتابعة، وأنني أقتصرت في حديثي هذا على المحطات التليفزيونية فقط الموجودة على القمر الأوروبي ولم أتطرق إلى الإذاعية منها، وهي بالمئات، التي لا تكف ليل نهار عن بث كل ما هو موسيقي فريد سواء كلاسيكي أو غير كلاسيكي، حديث أو قديم.
كذلك، لا أود أن يفهم كلامي، في النهاية، على أنه إنزال أو تقليل من شأن كتاب بورديو الرائع أو أنني أضرب به عرض الحائط كلية، العكس تمامًا، فلا زلت على إدراك واقتناع تام بما أورده بورديو، إلا إنني بعد قراءة الكتاب أكثر من مرة وخوضي لتجربتي الخاصة تلك بت أفرق دائمًا بين كلمتين أو مفردتين بينهما بون شاسع، في رأيي، "المتلقي" و"المشاهد"، فشتان بين من يتلقى ويقبل بما يتلقاه في سلبية تامة، ومن يشاهد وينقب عمّا يشاهده ويتفاعل معه، بين من يسمح لآليات التلقي أن تتلاعب بعقله، ومن يدع عقله يتحكم فيما يشاهده ويُخضِعُ هذه الآليات.
الخميس، 26 أغسطس 2010
السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم (الجزء الأخير)

النص شيء مادي، دلالته لا تقررها شفرة من خارجها، على نحو آلي، ولا عضوياً كوحدة كاملة رمزية، لكن من خلال استنطاقه لشفرته الخاصة. فقط من خلال هكذا استنطاق، هكذا حوار داخلي بين الإشارة والشفرة، ينتج النص فضاءات داخل المعنى. ينتج معنى من نوع جديد يتولد ضمن النص نفسه.
المؤثرات الأيديولوجية لهكذا إعادة صياغة للأسس السيميولوجية للفن ستكون ذات أهمية قصوى. إنها بعد الآن سوف لن تعيّن موقعاً لوعي القارئ أو المتفرج خارج العمل كمتلق/ مستقبل، ومستهلك، وقاض، بل ترغمه على تعريض وعيه للمجازفة داخل النص ذاته، بحيث يكون مجبراً على استجواب شفراته الخاصة، منهجه الخاص في التأويل، أثناء القراءة، وذلك من أجل إنتاج ثغرات وفجوات في فضاء وعيه.. (هي ثغرات وفجوات موجودة في الواقع لكنها مكبوحة من قِبل الأيديولوجيا التي تصر على "كلية" واستقامة كل وعي فردي). الجماليات السابقة أقرّت شمولية أو عمومية الفن المؤسس إما في عمومية "الحقيقة" أو عمومية "الواقع". الحركة الحديثة، للمرة الأولى، هشمت هذه العمومية أو الشمولية إلى قطع وأصرّت على خصوصية وتفرّد كل فعل من أفعال قراءة النص، والعملية المتعددة لحل الشفرات، التي فيها انتقال الشفرة يعني العودة إلى إشارات كانت في السابق محلولة شفرتها، والعكس بالعكس، بحيث أن كل قراءة كانت عملية مكشوفة، قائمة في فضاء مفتوح.
علم الجمال الكلاسيكي كان دوماً يثبّت وحدةً وتماسكاً أساسياً إلى كل عمل. الحداثة تأتي لتمزق هذه الوحدة والانسجام. إنها تفتح العمل داخلياً وخارجياً معاً، ونحو الخارج. هكذا لا تعود هناك أعمال مستقلة ومنعزلة، أشبه بوحدات، وكل عمل مسيّج في فردانيته الخاصة، عالمه المطلق، وحْدته الكلية. الحداثة تنتج أعمالاً لا تعود مندفعة نحو المركز، متماسكة بفعل محاورها الخاصة، بل هي مندفعة بعيداً عن المركز، رامية القارئ خارج العمل ونحو أعمال أخرى.
في الماضي، صعوبة القراءة كانت ببساطة تكمن في العثور على نظام شفري صحيح، في تفسير غموض ما، أو التباسات، أو مساحات من الجهل. ما إن تصير الشفرة معروفة حتى تصبح القراءة آلية. لكن الحداثة تجعل القراءة صعبة من وجهة أخرى، ليس في العثور على الشفرة أو إدراك الأفكار والمضامين، بل في جعل عملية حل الشفرة نفسها مسألة صعبة، فأن تقرأ يعني أن تعمل. القراءة تصبح إشكالية، والمضمون لا يصير مرتبطاً بالإشارة بواسطة أي رابط. إنه، على نحو غير مقصود، منفصل، مكبوح، معطل، بحيث يتعيّن على القارئ أن يلعب دوره الخاص في إنتاجه. في الوقت نفسه، النص، من خلال فرض ممارسة القراءة هذه، يعطل خرافة الوعي المتفتح للقارئ. العقل يصبح منتجاً، إنه يعمل. تماماً كما المؤلف الذي لا يعود "يجد" كلماته، لكن يجب أن "ينتج" نصاً، كذلك القارئ يجب أن يعمل ضمن النص. الصورة القديمة للقارئ بوصفه مستهلكاً قد تهشمت وتبدّدت.
النص إذن لا يعود وسطاً شفافاً. إنه شيء مادي والذي يوفّر الشروط لإنتاج المعنى، ضمن كوابح تعيّن نفسها. النص مفتوح أكثر مما هو منغلق. متعدد أكثر مما هو أحادي. مثمر أكثر مما هو مستنفد. ومع أنه من إنتاج فرد، هو المؤلف، إلا أنه لا يمثّل، أو يعبّر ببساطة عن، أفكار المؤلف، إنما يوجد ويحيا بذاته، بحكم حقه الشخصي.
الكاتب والقارئ هما، على نحو حيادي، نقّاد للنص. من خلال تعاونهما تكون المعاني منتَجة على نحو جماعي. في الوقت نفسه، هذه "المعاني" لها تأثيرات؛ تماماً كما النص، بتقديم إجراءاته في حل الشفرة الخاصة، يستنطق نفسه، بحيث أن القارئ أيضاً يجب أن يستنطق نفسه، أن يخرق فقاعة وعيه ويولج فيه الصدوع والتناقضات والأسئلة التي هي إشكالية.
هذا هو السياق الذي فيه ينبغي رؤية أفلام جودار.. هذه الأفلام التي تمثّل استجواباً، وإعادة استجواب مستمر، لبنى صنع الفيلم المسلّم بها من قِبل صانع الفيلم والمتفرج. إنها ليست ببساطة مسألة تجاور لأساليب مختلفة أو لوجهات نظر مختلفة، بل مسألة التحدي النظامي للافتراضات التي تشكّل الأساس لتبني أسلوب ما أو وجهة نظر ما.

في أفلام جودار الأولى، البنية السردية والدرامية مسلّم بها جدلاً، لكن الشخصيات في الأفلام تستجوب بعضها البعض بشأن الشفرات التي تستخدمها في ما يتصل بمصادر سوء الفهم وعدم الإدراك. بعد ذلك، وفيما مسيرته تستمر، هو يبدأ، أكثر فأكثر، في استجواب، ليس الاتصال الخاص بالعلاقات بين الشخصيات، بل الاتصال الذي يمثله الفيلم نفسه. وأخيراً، هو بدأ يرى إلى صنع الفيلم ليس كتوصيل على الإطلاق بل كإنتاج نص فيه معضلات صنع الفيلم نفسها تكون مطروحة. هذا مظهر سياسي لسينما جودار، تماماً كما الجدل والتضمين السياسي على نحو صريح.
بجعل الأشياء "صعبة" على المتفرج بهذه الطريقة، وبوضع حد لتدفق أفلامه، جودار يجبر المتفرج على استجواب نفسه بشأن كيفية النظر إلى الأفلام، سواء كمستهلك سلبي يحكم على خارج العمل، مسلّماً بالشفرة التي يختارها المخرج، أم داخل العمل كمشارك في الحوار.
أعمال جودار هامة، خصوصاً للسينما، لأن في هذا المجال، أكثر من أي شكل فني آخر، الغموض السيميولوجي يكون ممكناً.. هذا بسبب الصفة الدلالية – الأيقونية الغالبة على معظم الأفلام و"الإيهام بالواقع" الذي توفره السينما.
يبدو أن السينما تحقق الحلم القديم بتقديم وسيلة اتصال فيها الإشارات الموظفة هي نفسها متماثلة مع العالم الذي هو موضع التفكير. المنظرون الواقعيون يرون في السينما الشكل الثري القادر على تقديم المظهر والجوهر معاً، المظهر الفعلي للعالم الواقعي وحقيقته معاً. العالم الواقعي يعود إلى المتفرج وهو مصفّى بالتخلّل عبر عقل الفنان، الرائي، الذي يرى ويعرض معاً.
بالسعي لجعل السينما وسطاً تقليدياً فإنهم يسلبون منه إمكانيته كعالم بديل، أفضل، أنقى، وأصدق. تلك التنظيرات ترتكز على تضليل رهيب: فكرة أن الحقيقة تكمن في العالم الواقعي ويمكن التقاطها بالكاميرا. إذا كان الوضع كذلك، فإن كل شخص سوف يمتلك حرية الوصول إلى الحقيقة، بما أن كل شخص يعيش حياته كلها في العالم الواقعي. بينما ليس للحقيقة أي معنى ما لم يكن لديها قوة تعليلية، ما لم تكن معرفة، نتاج تفكير. أفراد مختلفون قد يختبرون حقيقة الفقر لكن ذلك قد يُنسب إلى أسباب مختلفة: مشيئة الله، سوء الحظ، ندرة طبيعية، الرأسمالية. جميعهم عاشوا تجربة فقر حقيقية، لكن كل واحد منهم يعرف عن هذا الفقر بشكل مختلف عن غيره. الشيء نفسه ينطبق على أشعة الشمس: كل شخص يختبرها لكن قلة من الناس يعرفون شيئاً عن الشمس من الناحية العلمية. الواقعية هي في الحقيقة، كما كانت تاريخياً، ثمرة الرومانتيكية. الرومانتيكي، على نحو نموذجي، يرتاب في المعرفة العلمية أو لا يهتم بها.
"نظرية الفيلم" (المخرج بوصفه مؤلفاً لفيلمه)، كما أفهمها، تصر على ضرورة أن يشتغل المتفرج على قراءة النص. مع بعض الأفلام، هذا الفعل يكون غير مجد وغير مثمر، لكن مع أفلام أخرى، الأمر لا يكون كذلك. في هذه الحالات، بمعنى معين، الفيلم يتغيّر، يصبح فيلماً آخر. لا يعود ممكناً النظر إليه بالعيون ذاتها. ليس هناك من تجربة متكاملة، حقيقية، يتمتع بها الناقد وإليها يحاول أن يرشد الآخرين. قبل كل شيء، تجربة الناقد ليست متجذرة أساساً في جوهر الفيلم نفسه.
الناقد ليس في قلب المسألة. إنه شخص يثابر على تعلّم مشاهدة الفيلم على نحو مختلف، وهو قادر أن يحدّد الآليات التي تجعل هذا ممكناً. هذه ليست مسألة "قراءة في" أو إسقاط اهتمامات الناقد الخاصة في الفيلم. أي قراءة للفيلم ينبغي أن تكون مبرّرة بتفسير لكيفية اشتغال الفيلم نفسه على جعل هذه القراءة ممكنة. القراءة الفردية لا تعطينا المعنى الحقيقي للفيلم. إنها ببساطة قراءة تنتج معنى إضافياً.
مرّة أخرى، من الضروري الإلحاح على أنه في غياب أي معنى حقيقي، جوهري، لا يمكن أن يكون هناك أي نقد كامل، والذي يقرر ويوطّد تأويل فيلم ما نهائياً وعلى نحو حاسم. علاوة على ذلك، بما أن المعنى ليس متضمناً على نحو متمم في أي فيلم، فإن أي حل للشفرة قد لا ينطبق على النطاق كله. النقد التقليدي يبحث دوماً عن الشفرة التي يمكن فهمها، والتي سوف تمنح التأويل التام، مغطيةً كل تفصيلة. الجماليات الكلاسيكية والرومانتيكية معاً تؤمن أن كل تفصيلة ينبغي أن تمتلك معنى: الكلاسيكية لأنها تؤمن بالشفرة الشائعة، العامة. والرومانتيكية لأنها تؤمن بالوحدة العضوية التي فيها كل تفصيلة تعكس ماهية أو جوهر الكل.
نظرية المؤلف تظهر أن أي حل للشفرة عليه أن يتنافس، في السينما، مع جلبة من الإشارات المشفرة على نحو مختلف. وراء ذلك، هناك وهْم التفكير في أي عمل بوصفه كاملاً بذاته، بوصفه وحدة معزولة والتي علاقتها مع أفلام أخرى، مع نصوص أخرى، تكون منضبطة ومتحكم فيها بحرص لتفادي التلوّث.
النص، بتعبير أوكتافيو باث، شيء يشبه الآلة التي تنتج المعنى. فضلاً عن ذلك، معناه ليس محايداً، ليس شيئاً ينبغي ببساطة امتصاصه من قِبل المستهلك.
معنى النصوص يمكن أن يكون مدمراً للشفرات المستعملة في نصوص أخرى، والتي قد تكون شفرات مستعملة من قِبل المتفرج أو القارئ الذي يجد شفراته المألوفة عرضة للتهديد.
كلنا نعلم أن "دون كيخوته" كان مدمراً لقصص القرون الوسطى التي قوامها المغامرات الفروسية. ونعلم أيضاً أن "يوليسيس" كانت مدمرة لرواية القرن التاسع عشر. لكن يبدو أن من الصعب الإقرار بهذه التدميرية.
* عن كتاب Signs and Meaning in the cinema, 1969
الاثنين، 23 أغسطس 2010
السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم (الجزء الثالث)

في السينما، يبدو جلياً تماماً أن المظاهر الدلالية والأيقونية هي الأكثر فعالية. المظهر الرمزي محدود وثانوي. لكن من الأيام الأولى للسينما كان هناك ميل مثابر، مع أنه مفهوم، لتضخيم أهمية التشابهات مع اللغة الشفهية. السبب الرئيسي لهذا كان الرغبة في تثبيت وضع السينما بوصفها فناً.
على نحو بيّن، الكثير من التأثير الذي مارسه أندريه بازان كان ناشئاً عن قدرته على رؤية المظهر الدلالي للسينما باعتباره جوهرها – والمنتقص من شأنها بالطريقة نفسها – مع ذلك، وفي الوقت نفسه، يحتفي بمكانتها الفنية. بازان أبداً لم يجادل بشأن الفارق بين الفن واللا فن داخل السينما. كان يميل إلى قبول أي شيء بوصفه فناً.
الغنى الجمالي للسينما ينشأ من حقيقة أنها تتضمن كل الأبعاد الثلاثة للعلامة: الدلالي، الأيقوني، والرمزي. المأخذ الأكبر على كل الذين كتبوا عن السينما هو أنهم تناولوا بعدا واحدا من هذه الأبعاد، جاعلين منه أساس الجمالية والبعد الجوهري للعلامة السينمائية، وأهملوا الأخرى. هذا يفضي إلى إفقار أو إضعاف السينما.
فضلاً عن ذلك، لا يمكن إهمال أي من هذه الأبعاد، أو التقليل من أهميته. إنها حاضرة معاً. الحسنة العظيمة لتحليل بيرس للعلامات أنه لم يرَ المظاهر المختلفة بوصفها وحيدة، غير مختلطة، على نحو متبادل. وهو، بخلاف سوسير، لم يُظهر أي تحيّز خاص لصالح مظهر أو آخر. في الواقع، هو أراد علم منطق وعلم بلاغة مبني على كل المظاهر الثلاثة.
فقط بتأمل التفاعل بين الأبعاد المختلفة الثلاثة للسينما يكون بإمكاننا أن نفهم تأثيرها الجمالي.
لقد رأينا كيف أن استخدام سوسير للرمز لا ينسجم مع استخدام بيرس. بالنسبة لبيرس، العلامة اللغوية هي رمز، بالمعنى الضيّق والعلمي. بالنسبة لسوسير، العلامة اللغوية هي اعتباطية في حين أن..
"إحدى ميزات الرمز هو أنه لا يكون أبداً اعتباطياً على نحو كلي. هو ليس خاوياً، ذلك لأن هناك بقايا رباط طبيعي بين الدال والمدلول. إن رمز العدالة، كفتيّ الميزان، لا يمكن استبداله بأي رمز آخر".
ما الذي ينبغي أن نقوله عن المطرقة والمنجل، الصليب المسيحي، ميزان العدالة؟ لابد أن نميّز بوضوح بين الوصف أو الصورة والشعار. الصورة، على نحو غالب، هي أيقونية، بينما الشعار علامة مختلطة.. أيقونية جزئياً، رمزية جزئياً. فضلاً عن ذلك، هذه الصفة المزدوجة للعلامة الرمزية أو المجازية يمكن أن تكون مستثمرة على نحو صريح وعلني. الشعارات هي متقلبة، غير مستقرة، قابلة للتغيّر: قد تتطور إلى علامات رمزية أو تتراجع لتصبح أيقونية.
ليسنج Lessing رأى المعضلة بوضوح أشد. الرمزي أو المجازي، كما يعتقد، هما ضروريان للفنانين التشكيليين، لكن ليس للشعراء.. إنهما هنا فائضان، زائدان عن الحاجة، ذلك لأن اللغة اللفظية، التي لها الأسبقية، هي رمزية بذاتها.
يقول ليسنج: "الميزان في يد العدالة هو بالتأكيد أقل مجازية محضة، لأن الاستخدام الصحيح للميزان هو حقاً جزء من العدل. لكن القيثارة أو الفلوت في يد إلهة الغناء، أو الحربة في يد إله الحرب، أو المطرقة والملقط في يد إله النار، هذه الأشياء كلها ليست رموزاً بل مجرد أدوات".
يتعيّن على الرسامين أن يخفضوا الرمزي إلى الحد الأدنى. كان ليسنج يتطلع إلى فن والذي سيكون أيقونياً محضاً. الذي حدث أن، فيما كان الرمزي يُقصى، الدلالي بدأ في جعل نفسه محسوساً. وبدأ الرسامون في الاهتمام بعلم البصريات وسيكولوجيا الإدراك الحسّي.
قال كوربيه: "أنا أؤكد أن الرسم أساساً فن مادي، ملموس، ولا يمكن إلا أن يتألف من تمثيل للأشياء الحقيقية والكائنة. إنها لغة فيزيائية تماماً، مفرداتها تتألف من كل الأشياء المنظورة. الشيء الذي هو تجريدي، غير مرئي، غير كائن، هو ليس ضمن عالم الرسم (..) الجمال يوجد في الطبيعة، ويمكن الالتقاء به مصادفةً وسط الواقع، تحت أكثر المظاهر تنوعاً وتعدداً. حالما يتم العثور عليه هناك فإنه ينتسب إلى الفن، أو بالأحرى إلى الفنان الذي يعرف كيف يراه هناك. حالما يكون الجمال حقيقياً ومرئياً فإنه يحصل على تعبيره الفني من هذه الخاصيات ذاتها. ليس للوسيلة الفنية الحق في تضخيم هذا التعبير. بالتدخل في ذلك، يجازف المرء بتحريفه، وبالتالي إضعافه. الجمال الذي تقدمه الطبيعة أسمى من كل تقاليد الفنان".
في السينما، سيكون أمراً مضللاً تماماً تأييد بعْدٍ واحد، على نحو أحادي الجانب، وجعله شرعياً على حساب كل الأبعاد الأخرى. ليس هناك سينما نقية، خالصة، معتمدة على ماهية واحدة، ومختومة بإحكام منعاً لأي تلويث.

أكثر من أي مخرج آخر، جودار أدرك الإمكانيات الرائعة للسينما بوصفها وسطاً للاتصال والتعبير. على يديه، كما في علامة بيرس المثالية، أصبحت السينما مزيجاً متساوياً تقريباً للرمزي والأيقوني والدلالي. أفلامه تمتلك المعنى المفاهيمي، الجمال التصويري، والحقيقة الوثائقية. بالتالي لم يكن مفاجئاً انتشار تأثيره بين المخرجين عبر العالم.
إن صانع الفيلم محظوظ لأنه يعمل في أكثر الوسائط تركيبيةً سيميولوجياً، وأكثرها ثراءً جمالياً. بإمكاننا أن نردد اليوم ما قاله أبل جانس قبل أربعة عقود: "لقد حان زمن الصورة".
الاختراقات العظيمة في الأدب والرسم والموسيقى، الضربات التي هشّمت (أو كان ينبغي أن تهشم) الجماليات التقليدية، حدثت في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، حين كانت السينما تعيش طفولتها، في المرحلة الأولى من نشوئها، في زمن بروز عالم الفودفيل (مسرح المنوعات)، وصناديق الفرجة والمسارح الرخيصة. تلك كانت مرحلة الرسومات التجريدية الأولى، القصائد الصوتية الأولى، الفرق الموسيقية الضاجة الأولى. كانت كذلك فترة انطلاق فكرة السيميولوجيا على يد سوسير في محاضراته بجنيف، وعندما كان فرويد يقدم أكثر اكتشافاته أهميةً.
تحديداً، لأن السينما كانت فناً جديداً، فقد احتاجت تلك الاختراقات وقتاً لكي تمارس تأثيرها. التأثير الأول للحركة الحديثة على السينما حدث في العشرينيات. المثال الأكثر وضوحاً لهذا هو، بالطبع، إيزنشتاين. في الوقت نفسه ظهرت أعمال الحركة الطليعية الباريسية - ليجيه، مان راي، بونويل – ومخرجي الأفلام التجريدية مثل إيجلنج، هانز ريختر. في ألمانيا كانت الحركة التعبيرية تتغذّى في السينما في هيئة أفلام مثل: مقصورة الدكتور كاليجاري.
لكن عندما نلتفت إلى الوراء، نستطيع أن نرى كم كان ظاهرياً هذا الاتصال الأول، وكيف كان مطموساً تماماً خلال الثلاثينيات. في روسيا، انطلقت الواقعية الاشتراكية وتعرضت السينما الطليعية، التي برزت في العشرينيات، للمحاربة. في ألمانيا، وصول الحزب النازي إلى السلطة أجهض كل إنجازات التعبيرية والطليعية. تلاشت التجارب المبكرة للمخرجين ليجيه وريختر. بونويل سلك سبيله الخاص. فيشنجر اكتفى بالعمل لصالح شركة ديزني في الثلاثينيات. وإذا كان هناك أي وجود للطليعية في تلك الفترة فيمكن العثور عليها في الحركة الوثائقية.. التي هي بالتأكيد من أكثر المحاولات الطليعية محافظة واعتدالاً.
بروز الفيلم الناطق، والتوسع السريع للاقتصاد الأمريكي والنفوذ السياسي بعد الحرب، أدى ذلك إلى هيمنة هوليوود في أغلب أقطار العالم. في هذا المحيط كان بوسع مخرج مثل أورسون ويلز أن يظهر كمجدّد وتجريبي خطير، وأن يظهر روسيلليني كثوري، وهمفري جيننغز كشاعر. اليوم تبدو هذه التقديرات والتقييمات عبثية. لقد حدث تغيّر كامل، إعادة تقييم، تحوّل للبؤرة التي جعلت تاريخ السينما شيئاً مختلفاً. إيزنشتاين أو فيرتوف يبدوان معاصرين وليسا ممن تجاوزهم الزمن. ويلز وجيننغز يبدوان محافظين وقديمين. مع ذلك، هذا التغيّر الذي نلمسه مؤخراً، والنتائج الكاملة له، ليست محسوسة بوضوح. كل المعالم، ونقاط التحول، القديمة تتلاشى في سديم الزمن.
ما الذي حدث؟ في الواقع، حدث أمران: الأول، صعود حركة الأندرجراوند، خصوصاً في أمريكا. وهذا كان نتاج ثلاثة عوامل: شعراء ورسامون يحترفون صنع الأفلام، استقرار فناني الحركة الطليعية الأوربية في أمريكا (ريختر وآخرون)، الانحراف عن السرب السائد في هوليوود. هناك أيضاً الشرط الاقتصادي المسبق: تيسّر الأجهزة والمعدات، والمال اللازم لشرائها. في سياق الأندرجراوند، كان صنع الفيلم يُرى كامتداد للفنون الأخرى. لم يكن هناك أي محاولة للتنافس مع هوليوود بتحقيق أفلام درامية طويلة (باستثناء قلة من المخرجين) وقد احتاجت الأندرجراوند إلى فترة طويلة من الزمن لكي تعرض أفلامها في صالات السينما.
التطور الرئيسي الثاني نجده في الطريقة التي بها نشأت الموجة الجديدة الفرنسية، دافعة إلى الوراء التخوم التقليدية لسينما "الفن". وكان لمخرج مثل جودار تأثير هائل.
فيلم مثل WR- Mysteries of the Organism (ألغاز الجسد) للمخرج اليوغوسلافي دوشان ماكافييف، يستثمر حتى الحد الأقصى الاحتمالات السيميولوجية للفيلم في مزجه للوثائقي، الحقيقي، القصاصات الأرشيفية، هوليوود، مونتاج.. الخ.
من الضروري عند هذه النقطة القيام باستطراد، برسم الخلفية التي عليها يعمل جودار، والتي عليها انبثقت "الحركة الحديثة" في الفنون الأخرى.
القرن العشرون شهد هجوماً على الفن التقليدي وعلى علم الجمال الذي مهّد الأسس لفن ثوري لم يتعزّز ويتماسك بعد. محتمل أن هذا التماسك لا يمكن له أن يحدث على نحو مستقل، وبمعزل عن حركة المجتمع وحركة السياسة. الحالة البطولية الأولى للحركة الطليعية في الفنون تزامنت، برغم كل شيء، مع الحالة السياسية التي قادت من 1905 إلى ثورة أكتوبر 1917. أفلام جودار مرتبطة بالاحتدام السياسي الذي بلغ ذروته في أوروبا في مايو 1968.
لكن من الممكن، مع ذلك، على المستوى النظري، محاولة شرح ما سوف يستلزمه هذا الانقطاع المحتمل مع الماضي لو تحقق. هذا يثير مشكلات بشأن طبيعة الفن، مكانه في الإنتاج الفكري، الأيديولوجيا والفلسفة اللتين تدعمان أساسه.
الخميس، 19 أغسطس 2010
السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم (الجزء الثاني)

رولان بارت (مواليد 1915، مؤلف "الكتابة في درجة الصفر" 1953، و"عناصر السيميولوجيا" 1964) كنتيجة لبحوثه في لغة الأزياء، استنتج أن من المستحيل الإفلات من الحضور المتخلل للغة الشفوية. الكلمات تدخل في محادثة ذات نظام آخر إما لتثبيت معنى غامض وملتبس، مثل نعت أو عنوان، أو للمساهمة في المعنى الذي لا يمكن توصيله بطريقة أخرى، مثل الكلمات المدوّنة في المساحات الأشبه بالفقاعات في الرسوم الهزلية. الكلمات إما تثبّت المعنى في موضعه أو تنقله.
فقط في حالات نادرة جداً يمكن للنظم غير الشفوية أن توجد بلا دعم إضافي من الشفرة الشفوية. حتى النظم المعطاة شكلاً أو مضموناً عقلانياً، والمتطورة جداً، مثل الرسم والموسيقى، باستمرار تلتمس العون من الكلمات، خصوصاً في المستوى الشعبي الرائج: الأغاني، الرسوم المتحركة، الملصقات الدعائية.
في الواقع، سيكون ممكناً كتابة تاريخ الرسم بوصفه دالاً على العلاقة المتحولة بين الكلمات والصور. أحد الإنجازات الأساسية لعصر النهضة كان في إبعاد الكلمات عن حيّز الصورة. مع ذلك، كانت الكلمات على نحو متكرر ترغم نفسها على العودة وتفرض حضورها. إنها تعاود الظهور في لوحات إل جريكو، على سبيل المثال، وفي لوحات دورير وهوجارث. بوسع المرء أن يقدّم أمثلة لا تحصى. في القرن العشرين، عادت الكلمات بإفراط.
في الموسيقى، الكلمات لم يتم إبعادها والتخلّص منها إلا مع بداية القرن السابع عشر. الكلمات فرضت نفسها في الأوبرا، في الموشّحات الدينية، في اللّيْدة (أغاني ألمانية). أما السينما فكانت حالة جلية أخرى في صميم الموضوع. بضع أفلام صامتة تم تحقيقها بدون عناوين.
لقد توصل رولان بارت إلى نتيجة مفادها أن السيميولوجيا ربما تكون مرئية على نحو أفضل كرافد لعلم اللغة بدلاً من أن تكون العكس. هذا يبدو استنتاجاً يائساً. الفرع ينتهي بأن يصبح "الأكثر تعقيداً وشموليةً" إلى حد أنه يغمر الكل.
مع ذلك، فإن تجربتنا مع السينما توحي بأن التعقيد الكبير للمعنى يمكن التعبير عنه من خلال الصورة. بالتالي، لأخذ مثال واضح، نلاحظ أن أكثر الكتب عاديةً وتفاهة وابتذالاً يمكن أن يتحول إلى فيلم مشوق جداً، مثير للاهتمام، ويحمل مغزى ودلالة. إن قراءة السيناريو هي عادةً تجربة غير ممتعة وغير مثمرة فكرياً.. وعاطفياً أيضاً. المعنى الضمني لهذا، أنه ليس فقط النظم التي كلياً "معتمدة على اعتباطية العلامة" تكون معبّرة وحافلة بالمعنى. العلامات الطبيعية لا يمكن أن تكون مرفوضة كما تصوّر سوسير. إنه هذا المطلب، بإعادة دمج العلامة الطبيعية في السيميولوجيا، الذي قاد كريستيان ميتز لأن يعلن بأن السينما هي بالفعل لغة، لكن لغة بلا نظام شفري. إنها لغة لأنها تملك نصوصاً. ثمة خطاب ذو معنى. لكن بخلاف اللغة اللفظية ، لا يمكن إحالة هذه اللغة إلى شفرة كائنة.
إن افتراض ميتز يورّطه في عدد كبير من المعضلات التي لا يستطيع أن يتغلّب عليها على نحو مرْض. إنه يجد نفسه مرغماً على العودة إلى مفهوم "منطق المعنى المتضمن" الذي به الصورة تصبح لغةً. إنه يستشهد برأي الناقد والمنظّر الهنغاري بيلا بالاش القائل بأن من خلال "تيار الاستقراء" نحن نجعل الفيلم يبدو معقولاً ومفهوماً. لكن ليس واضحاً ما إذا علينا أن نتعلم هذا المنطق أو أنه طبيعي وفطري. من الصعب فهم كيف أن مفاهيم مثل "منطق المعنى الضمني" و "تيار الاستقراء" يمكن دمجهما في نظرية السيميولوجيا.
ما كنا نحتاجه هو بحث أو نقاش، أكثر دقةً، لما نعنيه بـ "العلامة الطبيعية"، وسلسلة من الكلمات مثل: المتشابه، المتواصل، المحفّز.. هذه الكلمات التي يستخدمها بارت وميتز وآخرون لوصف مثل هذه العلامات.
(3)
لحسن الحظ أن الأساس الضروري لتوفير دقة أبعد قد تم انجازه سابقاً من قِبل شارلز ساندرز بيرس، عالم المنطق الأمريكي. كان بيرس معاصراً لسوسير، ومثل سوسير، جُمعت بحوثه ونُشرت بين 1931 و 1935، أي بعد وفاته في 1914 بعشرين سنة.
كان بيرس من أكثر المفكرين الأمريكان أصالةً وتجديداً، كما أشار رومان ياكوبسون، إلى حد أنه لسنوات طويلة من حياته العملية لم يستطع الحصول على وظيفة في الجامعة. إن شهرته الآن ترتكز قبل كل شيء على أعماله الأكثر قابلية للفهم، وبشكل أساسي على تعاليمه في الذرائعية. أما اشتغاله على السيميولوجيا فقد تم – للأسف - إهماله والاستخفاف به. وقد ساهم مريده شارلز موريس في الإساءة إلى نظريته، المتصلة بعلم اللغة وعلم الجمال، عبر ربطها بشكل خبيث من أشكال السلوكية التي وُجهت إليها انتقادات شديدة وقاسية من كتّاب مثل جومبريش ونعوم تشومسكي. في السنوات اللاحقة، استطاع رومان ياكوبسون أن يوجه اهتمام الآخرين إلى سيميولوجيا بيرس، وأن يعيد إحياء حماسة تأخرت زمناً طويلاً.
في عدد من كتب بيرس نجد تصنيفاً لطبقات مختلفة من العلامة، والتي كان ينظر إليها بوصفها الأساس السيميولوجي الجوهري لمنطق لاحق ولعلم بلاغة. التصنيف، الذي هو هام بالنسبة للنقاش الدائر حالياً، هو ذاك الذي يسميه بيرس "الانقسام الثاني للعلامات"، المؤلف من ثلاثة أجزاء أو عناصر، حيث العلامات تكون:
دلالية.. العلامة التي فيها المعنى مبني على رباط وجودي بين الدال والمدلول.
أيقونية.. العلامة التي تمثّل مادتها، في الدرجة الأولى، بواسطة الشبه المادي، الفيزيائي.
رمزية.. العلامة التي تكون اعتباطية ومشفّرة.
في الأيقونة، العلاقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية بل ذات تماثل أو شبه. هكذا، على سبيل المثال، الصورة الشخصية (البورتريه) لرجل يشبه نفسه. من جهة أخرى، بإمكان الأيقونات أن تكون منقسمة إلى شعبتين رئيسيتين: الصور والرسوم البيانية أو التخطيطية. في حالة الصور تكون "الخاصيات البسيطة" متشابهة. وفي حالة الرسوم البيانية تكون "الصلات بين الأجزاء". ثمة رسوم بيانية عديدة تتضمن معالم معبّر عنها بالرموز. وبيرس أكّد هذا نظراً لأنه المظهر الغالب الذي كان يهتم به.
بشأن العلامة الدلالية، قدّم بيرس أمثلة عديدة: "أرى رجلاً ذا مشية متمايلة أو مترنحة.. هذه دلالة محتملة على أنه بحّار. أرى رجلاً متقوس الساقين، ببنطلون من القماش القطني وحذاء نصفي من المطاط وسترة.. هذه دلالات محتملة على أنه فارس (جوكي) في سباق الخيل أو شيء من هذا القبيل. المِزْولة (الساعة الشمسية) أو الساعة تشير إلى توقيت اليوم".
أما العلامة الرمزية فتراوغ الإرادة الفردية. يقول بيرس: "بإمكانك أن تدوّن كلمة "نجمة" لكن ذلك لا يجعلك خالقاً للكلمة، الأمر نفسه عندما تمحوها.. هذا لا يجعلك هادماً للكلمة. الكلمة تعيش في عقول أولئك الذين يستخدمونها".
العلامة الرمزية لا تقتضي تشابهاً مع مادته، ولا رباطاً وجودياً معها. إنها اصطلاحية، متفقة مع القواعد المقررة، ولها قوة القانون. بيرس كان قلقاً بشأن صحة أو ملاءمة تسمية هذا النوع من العلامة "رمزاً".. وهي الاحتمالية التي فكر فيها سوسير وأخذها بعين الاعتبار لكنه رفضها بسبب خطورة التشوّش. مع ذلك، من المؤكد أن سوسير قد بالغ في تقييد مفهوم العلامة بحصرها في "رمزية" بيرس.
تصنيفات بيرس كانت الأساس لأي تقدّم في السيميولوجيا. لكن من المهم ملاحظة أن بيرس لم يعتبرها حصرية على نحو متبادل. على العكس، كل الأوجه الثلاثة كثيراً ما – وعلى نحو ثابت أحياناً – تتداخل وتكون حاضرة معاً. إن هذا الوعي بالتداخل هو الذي ساعده على أن يدوّن بعض الملاحظات المتصلة خصوصاً بالتصوير الفوتوغرافي.
"الصورة الفوتوغرافية، خصوصاً الصور الفورية، هي مرشدة جداً، لأننا نعرف أنها، في نواح معينة، تشبه بالضبط الأشياء التي تصورها. لكن هذا الشبه ناشئ عن كون الصور منتَجة في ظروف معينة إلى حد أنها فيزيائياً تكون مجبرة أن تتوافق درجةً فدرجة مع الطبيعة. في ذلك المظهر، هي إذن تنتمي إلى الطبقة الثانية من العلامات، ذات الصلة الفيزيائية".
بين من كتبوا عن السيميولوجيا، رولان بارت يتوصل إلى استنتاجات مماثلة إلى حد ما، مع أنه لا يستخدم التصنيف "الدلالي"، لكنه يرى الصورة الفوتوغرافية المطبوعة بوصفها "أيقونية". مع ذلك، هو يصف كيف أن الأيقونة الفوتوغرافية تقدّم "نوعاً من الوجود الطبيعي للشيء هناك". ليس ثمة أي تدخّل بشري، أي تحوّل، أي شِفرة، بين الشيء والعلامة. التناقض الظاهري هنا أن الصورة الفوتوغرافية هي رسالة بلا شِفرة.
السينما تتضمن الصيغ الثلاث للعلامة: الدلالية، الأيقونية، الرمزية. الناقد الفرنسي أندريه بازان طوّر جمالية تأسست على الصفة الدلالية للصورة الفوتوغرافية. كريستيان ميتز خالف هذا بجمالية تفترض أن السينما، لكي تكون ذات معنى، لابد أن تحيل نفسها إلى نظام شفري، إلى قواعد خاصة، وأن لغة السينما يجب أن تكون رمزية في المقام الأول.
لكن كان هناك خيار ثالث: فون ستيرنبرغ كان، على نحو قاس، معارضاً لأي نوع من الواقعية. هو كان يسعى، قدر المستطاع، إلى أن ينكر ويهدم الرباط الوجودي بين العالم الطبيعي والصورة السينمائية. لكن هذا لم يكن يعني أنه تحوّل إلى الرمزي. عوضاً عن ذلك، هو كان يؤكد على الصفة التصويرية للسينما. كان يرى السينما، ليس على ضوء العالم الطبيعي أو اللغة الشفهية، بل على ضوء الرسم. "الكانفاس الأبيض الذي عليه تكون الصور مطروحة هو سطح منبسط ذو بعدين. ليس جديداً على نحو مروّع. الرسام استخدمه منذ قرون".
يجب على مخرج الفيلم أن يخلق صوره الخاصة ليس بمحاكاة الطبيعة على نحو خانع وصاغر، ليس بالانحناء أمام صنم الدقة والموثوقية، بل بفرض أسلوبه الخاص، تأويله الخاص.
"سلطة الرسام على موضوعه هي غير محدودة، مطلقة. سيطرته على الشكل البشري والوجه البشري هي استبدادية". لكن "المخرج هو تحت رحمة كاميرته". مأزق مخرج الفيلم هو في هذا، في الأداة الميكانيكية، غريبة الشكل، التي يجد نفسه مجبراً على استخدامها. ما لم يسيطر عليها، ما لم يتحكم فيها، سيكون متنازلاً عن حقه.
فون ستيرنبرغ خلق عالماً اصطناعياً تماماً، فيه الطبيعة تكون مبعدة على نحو صارم. قال ذات مرّة عن فيلمه The Saga of Anatahan أن الخلل الأساسي في هذا الفيلم أنه يحتوي على لقطات لبحر حقيقي، في حين أن كل شيء آخر كان زائفاً.
الفيلم لا يعتمد على أي نظام شفري مشترك، بل على الخيال الفردي للفنان. إنه المظهر الأيقوني للعلامة ذاك الذي يؤكده ستيرنبرغ، المظهر المنفصل عن الدلالي من أجل استحضار عالم، ممكن إدراكه بفضل التماثلات مع العالم الطبيعي، مع ذلك هو ضرب من عالم الحلم، مختلف ومتغاير.
السيميولوجيون كانوا، على نحو غريب، صامتين إزاء موضوع العلامات الأيقونية. كانوا يعانون من انحيازين: الأول، لصالح الاعتباطي والرمزي. الثاني، لصالح المنطوق والصوتي. هذان الشكلان من الانحياز يمكن العثور عليهما في أعمال سوسير الذي، بالنسبة إليه، اللغة كانت نظاماً رمزياً يعمل في رباط حسّي مميّز. حتى الكتابة كانت قد عيّنت، بإصرار ومثابرة، مكاناً أقل شأناً بواسطة اللغويين الذين رأوا في الأبجدية وفي الحرف المكتوب فقط "علامة العلامة"، نظام فرعي خارجي، اصطناعي، ثانوي. هذه الانحيازات يجب تحطيمها. المطلوب هو إحياء علم القرن السابع عشر الذي يشمل دراسة المجال الكلي للاتصال ضمن الرباط الحسي البصري، من الكتابة والأرقام وعلم الجبر حتى التصوير الفوتوغرافي والسينما. ضمن هذا الرباط سوف يتضح بأن العلامات تمتد من تلك التي فيها المظهر الرمزي يكون مهيمناً على نحو بيّن، مثل الحروف والأرقام، إلى العلامات التي فيها المظهر الدلالي يكون مهيمناً، مثل الصورة الوثائقية. بين هذين الطرفين، في محور المجال، هناك درجة جديرة بالاعتبار من التداخل والتشابك، من التعايش، لأوجه مختلفة بلا أي غلبة بيّنة لأي وجه منها.
الاثنين، 16 أغسطس 2010
السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم
ترجمة: أمين صالح
هناك سببان لجعل السيميولوجيا مجالاً حيوياً للدراسة بالنسبة للباحثين في جماليات الفيلم.
الأول، أي نقد يعتمد بالضرورة على معرفة ما يعنيه النص، والقدرة على قراءته. ما لم نفهم شِفرة أو طريقة التعبير التي تتيح للمعنى أن يوجد في السينما، فإننا نكون في موقف المحكوم علينا بالغموض والضبابية وعدم الدقة في النقد السينمائي، وبالتعويل الذي لا أساس له على الحدس والانطباعات الخاطفة.
الثاني، يصبح جليّاً على نحو متزايد أن أي تعريف للفن لابد وأن يكون مفهوماً كجزء من نظرية السيميولوجيا في الثلاثينيات من القرن العشرين.
النقاد الشكلانيون الروس أصروا أن مهمة نقاد الأدب ليس دراسة النتاج الأدبي بل "الحالة الأدبية".. هذا لا يزال ساري المفعول. إن الانسياق الكلي للتفكير الحديث بشأن الفنون كان لغمرها بنظريات عامة عن الاتصال، سواء السيكولوجي أو الاجتماعي (السوسيولوجي)، وللتعامل مع الأعمال الفنية كما الحال مع أي نص آخر أو رسالة أخرى، ولحرمانها من أي خاصيات جمالية معينة بها تستطيع أن تكون مميّزة.
الاختراق العظيم في نظرية الأدب جاء مع إصرار رومان ياكوبسون على أن الشعرية هي مجال اختصاص اللغويين، وأنه كانت هناك وظيفة شعرية إلى جانب الوظائف الأخرى. الرؤية ذاتها لعلم الجمال، كمجال اختصاص للسيميولوجيا، يمكن إيجادها في مدرسة براغ عموماً، وفي أعمال Hjelmslev ومدرسة كوبنهاجن.

إذا كان ينبغي استخدام مفهوم "اللغة"، فلابد أن يكون استخدامه على نحو علمي وليس ببساطة كمجاز فضفاض وغير دقيق، حتى وإن كان إيحائياً. الجدل الذي دار في فرنسا وإيطاليا حول أعمال رولان بارت، كريستيان ميتز، بيير باولو بازوليني، أمبرتو إيكو، يمتد في هذا الاتجاه.
الباعث الرئيسي وراء أعمال هؤلاء النقاد والسيميولوجيين ينشأ من كتاب فرديناند دي سوسير "دروس في علم اللغة". كان سوسير قد توفى سنة 1913، وقام تلامذته في جامعة جنيف بجمع محاضراته ومخطوطاته، إضافة إلى ملاحظاتهم، وتركيب المادة في عرض منهجي، نشر في جنيف سنة 1915.
في هذا الكتاب يتنبأ سوسير بعلم جديد، علم السيميولوجيا: "العلم الذي يدرس حياة العلامات داخل المجتمع هو ممكن تصوره. سيكون جزءاً من السيكولوجيا الاجتماعية، وبناءً على ذلك، جزءاً من السيكولوجيا العامة.. سوف أسميه السيميولوجيا (المشتقة من الكلمة الإغريقية semeion والتي تعني "علامة"). السيميولوجيا سوف تعرض ما يؤلّف العلامات، القوانين التي تحكمها.
بما أن العلم لا يوجد بعد، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم ما الذي سيكون عليه، غير أن له الحق في أن يوجد، في أن يكون مشدوداً سلفاً إلى مكان ما. علم اللغة مجرد جزء من علم السيميولوجيا العام. القوانين التي ستكتشفها السيميولوجيا ستكون ملائمة للغويين، وهؤلاء سوف يعينون حدود منطقة هي محددة جيداً ضمن مجموعة من الحقائق الأنثروبولوجية".
سوسير، الذي كان متأثراً بأعمال إميل دوركهايم (1858- 1917) في السوسيولوجيا، شدّد على أن العلامات يجب دراستها من وجهة نظر اجتماعية، وأن اللغة كانت مؤسسة اجتماعية والتي امتنعت على الإرادة الفردية. النظام اللغوي – ما يمكن تسميته هذه الأيام بـ "الشفرة" – سبق في الوجود الفعلَ الفردي للخطاب، "الرسالة". بالتالي فإن دراسة النظام لها أولوية منطقية.
سوسير شدّد، بوصفه مبدأه الأول، على الطبيعة الاعتباطية للعلاقة. الدال ليس له علاقة طبيعية مع المدلول. العلاقة، وفقاً لتعبير سوسير، هي "ليس لها محرّض". إن سوسير لم يكن واثقاً أي التضمينات الكاملة للطبيعة الاعتباطية في العلامة اللغوية كانت لصالح السيميولوجيا.
"عندما تصبح السيميولوجيا منظّمة كعلم، فإن سؤالاً سوف ينشأ عما إذا هو يحتوي على نحو ملائم طرائق من التعبير مبنية على علامات طبيعية تماماً، مثل البانتومايم. لنفترض أن العلم الجديد يرحّب بها، سيظل اهتمامه الرئيسي المجموعة الكاملة من النظم المعتمدة على اعتباطية العلاقة. في الواقع، كل وسيلة تعبير مستخدمة في المجتمع هي مبنية، من حيث المبدأ، على السلوك الاجتماعي أو على العادة المتبعة. الصيغ المهذبة، على سبيل المثال، مع أنها غالباً ما تكون مشرّبة بتعبيرية طبيعية معينة (كما في حالة الصيني الذي يحيّي الإمبراطور بالانحناء حتى الأرض تسع مرات) هي مع ذلك مثبّتة من قِبل قانون. هذا القانون وليس القيمة الجوهرية للإيماءات هو الذي يرغم المرء على استخدامها. العلامات التي هي اعتباطية تماماً تدرك على نحو أفضل من الأخرى غايات العملية السيميولوجية: لهذا السبب اللغة، الأكثر تعقيداً وشمولية من بين كل نظم التعبير، هي أيضاً الأكثر تميّزاً. بهذا المعنى، بإمكان علم اللغة أن تصبح النمط الرئيس لكل فروع السيميولوجيا مع أن اللغة ليست إلا نظاماً سيميولوجياً واحداً".
لقد كان على علم اللغة أن يكون إقليماً خاصاً للسيميولوجيا، وفي الوقت نفسه، النمط الرئيسي للأقاليم المتعددة الأخرى. مع ذلك، كل الأقاليم – أو على الأقل، المركزية منها – كان عليها أن تملك، كهدف لها، نظماً "معتمدة على اعتباطية العلاقة". لكن يتضح أن من الصعب العثور على هذه النظم.
السيميولوجيون وجدوا أنفسهم مقيدين بلغات مصغّرة، مجهرية، كما في لغة إشارات المرور، لغة المراوح، نظم إشارات السفن، لغة الإيماءة بين رهبان دير "لا تراب" الصائمين عن الكلام، ضروب متنوعة من إشارات ضوئية.. وغير ذلك. هذه اللغات المصغّرة ثبت أنها حالات محدودة جداً، قادرة على ربط نطاق دلالي ضئيل جداً. العديد منها كان متطفلاً على لغة شفوية مناسبة.
الاثنين، 26 يوليو 2010
التعبير السينمائي تعبير أولي سابق على التعبير اللغوي

ويبدو أن علاقة الصورة السينمائية باللغة ستظل مناط بحث ودراسة، خاصة أن هناك علم قائم بذاته يدعى بـ"السيميولوجيا البصرية"، وهو علم يرد كل أنظمة الاتصال، بما فيها الفنون البصرية، إلى اللغة. وهو ينظر إلى اللغة على أنها النظام التواصلي المتكامل الذي أنبنى عليه كافة الأنظمة الأخرى، والتي ترد في النهاية إليه.
ومعظم محاولات تطوير نظرية دي سوسير في السيميولوجيا تركزت في البداية حول اللغات الصغيرة Micro language مثل شفرة الطريق العام، والنظم الإشارية للسفن، ولغة الصم والبكم....ومع ذلك، فمن الواضح أن هذه الحالات محدودة ومشتقة بالفعل من اللغة اللفظية نفسها. وقد توصل رولان بارت في بحثه عن لغة الأزياء "نظام الموضة" أنه فقط في حالات نادرة جدا استطاعت اللغة غير اللفظية أن توجد دون دعم إضافي من الكلمات.
وربما تكون النقاشات حول العلاقة بين اللغة والصورة السينمائية سابقة على ظهور النظريات التي تؤيد أو تعارض مثل هذه العلاقة. وقد انطلقت هذه النقاشات في وقت مبكر من ظهور السينما وكانت معظمها تدور حول مدى أصالة الفن السينمائي ومدى استقلاله عن باقي الفنون السابقة عليه، خاصة فنون الأدب. وكما هو معروف فقد نظر إلى فن السينما في بداية نشأته على أنه فن هجين تابع يعتمد على كافة الفنون الأخرى من أدب وموسيقى وتشكيل.....إلخ. وقد وصل الأمر بجراهام جرين إلى القول: لسنا في حاجة إلى اعتبار السينما كفن جديد فهي في شكلها الروائي لديها نفس غرض الرواية مثلما للرواية نفس غرض الدراما. وقد غالى البعض من النقاد والكتاب ومؤرخي السينما في محاولاتهم إيجاد التشابه بين السينما والأدب إلى درجة أن بعضهم قد دفعته هذه المغالاة إلى المناداة بوجود تطابق بين مفردات كل منهما. فالكادر السينمائي يقابل الكلمة، ولااللقطة هي بمثابة الجملة، والفقرة في مقابل المشهد، والفصل لا يختلف عن الفصل، أما المونتاج فيعتبر بمثابة القواعد النحوية وأدوات الربط....إلخ. وقد رد موريس بيجا في كتابه "الفيلم والأدب" هذا الرأي بشدة متسائلا في استنكار "إذا كان هذا صحيحا وكانت الكلمات هي المقابل للكادرات فأين القاموس الذي يستطيع أن يحدد معنى كل صورة". وهو رد مقنع إلى حد كبير.
لقد أظهر لنا الناقد الكبير محمد رضا، ومن قبله الأستاذ قيس الزبيدي، خصوصية التعبير في الصورة السينمائية، ولعل مثال كلمة "أنا" الذي اعتمدت عليه مداخلته قد أوضح لنا الاختلاف الجذري بين التعبير اللساني والتعبير السينمائي (وأنا أفضل استخدام كلمة لسان للإشارة إلى النظام اللغوي الكلامي، لأن اللغة أوسع نطاقا وأكثر رحابة من الكلام)، ولعل هذا يدفعني إلى القول ان اللغة السينمائية (وأنا استخدم كلمة لغة هنا للإشارة إلى أن الصورة السينمائية في النهاية تهدف إلى التعبير، أي أنها وسيلة اتصال معبرة، فهي لغة غير كلامية)، هي لغة سابقة على النظام اللغوي الكلامي، أي أنها لا تخاطبنا من خلال الكلام أو اللسان، بل من خلال نظام مختلف نابع من داخل مكونات الصورة السينمائية ذاتها (وهو ما سنوضحه)، ولهذا السبب لا يمكن الاعتماد على الحوار فقط في الفيلم السينمائي وإهمال باقي المكونات الأخرى للصورة، فالصورة السينمائية في الأساس صورة ممتدة زمانيا ومكانيا وهو ما يجعل لها خصوصية فريدة. وربما يكون من قبيل التطرف في الرأي أن أقول أن هناك جزء من الوعي، وربما من العقل، لم يتحرر ولم يعمل بصورة كاملة إلا مع ظهور السينما.
أشار الأستاذ قيس الزبيدي في مقالته إلى الفيلسوف والمنظر السينمائي الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) على اعتبار أنه اتخذ موقفا نقديا من التحليل اللغوي للفيلم وتحديدا لدى كريستيان ميتز ويوري لوتمان، فقد كان دولوز مؤمنا بخصوصية التعبير السينمائي واختلافه جذريا عن أي نظام تواصلي آخر وفي مقدمته اللغة. ولأنني معني بصورة كبيرة بجيل دولوز، فقد كان موضوعا لأطروحتي في الدكتوراه، فإنني أريد أن أختم مداخلتي بعرض تفصيلي لرأيه بصدد العلاقة بين اللغة والصورة السينمائية.
عندما نشر دولوز كتابه عن الرسام الإنجليزي "فرنسيس بيكون"، كان مصحوبًا بجزء آخر يضم صورًا لسبعة وتسعين لوحة. لكن الملفت للنظر هو أنه عندما وضع كتابيه عن السينما، (الصورة- الحركة) و(الصورة- الزمن)، لم يضمنهما أي صور أو لقطات كادر أو زوايا تصوير... إلخ. وهذا بعكس المتبع في معظم المؤلفات التي تتناول السينما. وقطعًا فإن هذا الأمر كان مقصودًا في ذاته، إذ الصورة نفسها لا تجسد شيئًا من الخصائص السينماتوجرافية، فالعلاقة بين الصورة الساكنة والسينما واهية. بل يمكن القول إن الصورة الثابتة تزيف أو تقضي على الخاصية الفريدة للصورة السينمائية: الحركة- الزمن. إذن فوفقًا لدولوز لا يمكن تجزئة الصورة السينمائية أو عزلها "إن الصورة لا تقوم وحدها والمهم هو العلاقة بين الصور". وهذا بعكس ما ذهب إليه منظر السينما الفرنسي "كريستيان ميتز" Metz، الذي أراد أن يطبق النموذج اللغوي على "الفيلم السينمائي" وذلك بتقسيم الصورة السينمائية إلى وحدات يمكن التعامل معها وفقًا لمنظومة العلامات اللغوية.
في الفصل الثانى من كتابه "الصورة- الزمن" خصص دولوز حديثه لنقد التحليل اللغوي للفيلم الذي تبناه ميتز وبازولينى وسار على نفس النهج منظر السينما الروسي يورى لوتمان. وينطلق هؤلاء جميعًا من فكرة أن السينما وسيط أو وسيلة اتصال مثلها في ذلك مثل اللغة، وبالتالي فهي تحمل رسالة.. أو بالأحرى إنها هي "الرسالة" التي يقف وراءها "مرسل" وتكون موجهة إلى "مستقبل". وهذا هو نموذج جاكوبسون الذي حاول السيمولوجيون تطبيق على كل أنظمة الاتصال. يقول لوتمان "ثمة ما يدفع للاعتقاد بتكافؤ هذين البديلين (الرسالة المكتوبة lettre- الصورة image) فكلتاهما تؤلف عملية اتصال، كلتاهما تنقل معلومة معينة مشفرة من قبل مرسل نص إلى المستقبل الذي يقوم بفك شفرتها. فالرسالة المكتوبة والصورة يشكلان النص أو الرسالة. وكلاهما ذو طبيعة سيميائية، ذلك أنهما لا يتضمنان الأشياء ذاتها بل بديلاتها".
على أن دولوز رغم انتقاده للتحليل اللغوي للفيلم لا ينفي أن الفيلم هو مجموعة من العلامات، لكنها علامات غير لغوية أو بالأحرى "علامات قبل لغوية" pré lingustique، تحمل المعنى دون أن تعبر عنه". فطبيعة اللغة تفرض قيام علاقة ثنائية بين اللفظ –الذي يحل محل الأشياء والموجودات في العالم الواقعي، وبين المعنى الذي يدركه العقل، ولكن الأمر في السينما يختلف وعلى نحو أكثر تعقيدًا، ذلك أنه إذا كانت اللغة تفترض قيام علاقة ثنائية (double articulation)؛ فإن السينما تؤسس لعلاقة ارتباط ثلاثية (triple articulation) حيث إن الفيلم هو نظام من الإشارات والرموز على مستوى اللقطة أو مجموعة اللقطات، لكنه غير مطابق لسيميولوجيا الواقع، فهو يتفوق عليها لأنه يختزلها، وبكثافة، داخل إطار اللقطة؛ ومن ثم فإن السينما لا تعيد إنتاج الواقع من خلال التطابق أو التماثل أو التمثل، ولكنها تضيف عليه قوة تعبيرية لم تكن موجودة في الأشياء أو الموجودات كما هي في الواقع. وقد ذهب الروائي والفيلسوف الإيطالي "إمبرتو إيكو" في تعليقه على دراسة بازولينى "سينما الشعر" 1965 ودراسة ميتز "اللغة السينمائية" 1965 إلى أننا إذا أردنا أن نؤسس كيانًا لغويًا سينمائيًا فإننا لا نحتاج إلى نظام العلاقة الثنائية أو الارتباط الثنائي الذي يطبقه اللغويون على اللغة اللفظية، ولكن "بالبحث عن أدوات ارتباط جديدة أو نظام مختلف عما هو معمول به داخل حقل اللغة اللفظية، وبالعمل على أن يستنبط هذا النظام روابطه وقواعده الخاصة".
الخلاصة إذن أن دولوز لا يجعل من الصورة مرادفًا للغة، وإذا كان البعض (كميتز وبازولينى ولوتمان) قد قصر استخدام علم العلامات- اعتمادًا على دى سوسير- في تحويل ما هو مرئي إلى ما هو لغوي؛ فإن دولوز يجعل من علم العلامات- اعتمادًا على بيرس- ميدانًا أكثر اتساعًا يستوعب ما هو سينمائي دون رده إلى ما هو لغوي، انطلاقًا من أن السينما تعمل من خلال مفاهيم تتجاوز حدود اللغة. ولا يعنى هذا أن التحليل اللغوي قد فشل أو عجز في تطبيق منهجه على الأفلام، فقد قدم ميتز ولوتمان تحليلات دقيقة للعديد من الأفلام، لكنهم في الوقت الذي فعلوا فيه هذا جردوا السينما من خصائصها الفريدة، وتعاملوا معها بأسلوب كمي مجرد، في حين أن الحركة والزمن يتجاوزان ما هو لغوي وما هو كمي.
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com