‏إظهار الرسائل ذات التسميات ذكريات سينمائية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ذكريات سينمائية. إظهار كافة الرسائل

السبت، 27 أبريل 2013

الثورة والفيلم والسيجار




بقلم: أمير العمري


قبل أن نشاهد أفلاما من السينما الكوبية، كانت فكرتنا عن كوبا عموما، أنها بلد فقير، محاصر، خاضع لنفوذ السوفيت، ليس لديه سوى السكر والسيجار الهافاني الشهير الذي ارتبط به الزعيم الكوبي الأشهر، فيدل كاسترو.
وكان هناك بلاشك، تناقض ما، بين المزارعين الكوبيين الفقراء في مزارع قصب السكر، وبين السيجار الهافاني الذي لا يدخنه سوى أثرياء "البورجوازيين". لكن الغريب أن كوبا- الثورية جعلت من السيجار الهافاني رمزا للثورة، بعد أن اصبح العلامة المميزة ليس فقط لفيدل كاسترو،، بل للزعيم "الأسطوري" تشي جيفارا الذي كان أيضا رمزا لفكرة "الأممية" الاشتراكية، فهو أرجنتيني ومع ذلك، فقد حمل السلاح وشارك في الثورة الكوبية، وبعد انتصار الثورة، لم يشأ أن يستمتع بكرسي الوزارة، بل فضل الرحيل إلى بوليفيا لاستئناف النضال ضد الامبريالية او الاستعمار الجديد، حيث لقي مصيره التراجيدي المعروف. وكان هذا الموت العبثي، الذي قيل إنه جاء نتيجة وشاية من قبل "رفيق" كان معه في غابات بوليفيا، مثار حزن كبير حقا، خلده الشيخ إمام في ملحمته الغنائية الشهيرة "جيفارا مات" من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، كما كتب عنه محمود دياب مسرحية الشهيرة "ليلة مصرع جيفارا". وكان مصرع جيفارا بمثابة مؤشر أولي على انحسار المد الثوري في العالم الثالث بعد أن ظل هذا المد يؤرق مضاجع الاستعمار الجديد طوال الخمسينيات والستينيات. لم تكن فكرة "الثورة الدائمة" التي كان يعتنقها ويبشر بها جيفارا واضحة تماما، فقد كانت تتنافى مع الفكرة السوفيتية التي كانت قد استقرت حول "إمكانية تحقيق الاشتراكية في دولة واحدة" أي أنه لا يشترط لضمان نجاح الاشتراكية في دولة ما، أن تطبق في جميع الدول المحيطة بها كما كان متصورا من قبل، وإن كان الأمل أن تعم الاشتراكية العالم باعتبارها الفكرة الأكثر إنسانية.
كنا ونحن شباب صغار، في مقتبل العمر، نتطلع إلى الاشتراكية والفكر الاشتراكي، من الزاوية الإنسانية، من زاوية تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر، وإقامة مجتمع يسوده التعاون بين البشر، والحب، وروح تنشد التحقق وتحقيق الرخاء للمجتمع وللفرد أيضا. ولم تكن أبدا، الأفكار الاشتراكية واليسارية عموما تلاقي هوى لدينا نتيجة ولع بـ"الأيديولوجي" في حد  ذاته، بل كان التوجه يتلاقى مع الوجه الإنساني للاشتراكية. وكان هذا حلم جيلنا. وأظن أنه كان حلما ينشد تحديث المجتمع بالعلم، دون أن يهمل القيم الأخلاقية والإنسانية عموما، فهي جزء من التراث الديني والوطني. ولكننا لم نكن نتخيل، في أسوأ السيناريوهات الممكنة، أنه سيأتي علينا يوم نجد أن السعي إلى تحقيق التقدم الاجتماعي والإنساني واللحاق بالعصر، قد تحول إلى نوع من الهستيريا الماضوية، الشبيهة باللوثة التي أخذت تطبق بتلابيبها على كل شيء. لكن ما حدث كانت أسبابه كامنة في فشل الكثير من المشاريع، أهمها دون أي شك، مشروع احتكار العمل السياسي باسم الجماهير، سواء من خلال أجهزة أمنية، أو من خلال حزب هو عبارة عن وعاء مترهل لجهاز الدولة، تحميه أجهزة الأمن أيضا!
وجدت من الضروري أن أسوق هذا المدخل لأن الاشتغال بالنقد والكتابة والتعبير هو عمل له علاقة وثيقة بالفكر الاجتماعي والسياسي في عصره، وليس مجرد سباحة تجريدية في "عالم الفن"، أي ليس مجرد "صرعة" كما قد يتخيل البعض. كنا نود أن نصبح جزءا من العالم، نتفاعل مع ما يحدث فيه، ونؤثر فيه ونتأثر به أيضا. وكانت السينما، بهذا المعنى، نافذة كبيرة على الدنيا وعلى العالم. 
والآن إلى كوبا، التي لديها تجربة خاصة في الاشتراكية أظن أنها تجربة ناجحة كثيرا، فقد نجحت في إقامة نظام يحقق التوازن الاجتماعي في بلد كان يعاني من العبودية والاستغلال البشع من جانب الاحتكارات الأمريكية التي كانت تستولي على كل ثرواته المحدودة، ولم تكن تترك له سوى الفتات، وكانت نخبة قليلة العدد من وكلاء رأس المال الأجنبي من العاملين في خدمة الشركات الاجنبية، من الكوبيين، هي التي تحكم، يمثلها في الحكم ديكتاتور يحمي المصالح الأجنبية (الأمريكية بوجه خاص)، ويقمع شعبه بكل قوة ووحشية.
جاء النظام الاشتراكي إلى كوبا عن طريق نضال طويل وصل إلى ذروته في إعلان الثورة المسلحة، إلى أن وصل للحكم، بفضل تأييد القوى الشعبية العريصة من الفلاحين أساسا، والمزارعين البؤساء، والعاملين بالسخرة.  
وكنت أقرأ منذ عام 1972 عن السينما الكوبية، بل وقمت أيضا بترجمة دراسة طويلة عن هذه السينما وبعض أفلامها، كتبها الناقد البريطاني ديفيد ثومبسون، كما قرأت كثيرا عن السينما الثالثة، والسينما غير المكتملة، ودور مؤسسة السينما الكوبية "الايكايك" ICAIC (أو حرفيا "المؤسسة الكوبية للفنون والصناعة السينمائية")، وتأثير مدرسة الواقعية الجديدة الإيطالية على سينمائيين كوبيين مثل جارثيا اسبينوزا وجوتييريز آليا اللذين درسا في معهد السينما في روما. ولكني لم أكن أتخيل أن كوبا يمكنها أن تنتج أفلاما فيها من الطموح الفني ما نجده، على سبيل المثال، في السينما الأوروبية المتقدمة بما فيها السينما السوفيتية بالطبع. إلى ان جاء "أسبوع الأفلام الكوبية" في القاهرة عام 1975 في سينما أوديون، بالتعاون بين العلاقات الخارجية الثقافية، والسفارة الكوبية في مصر. كان هذا حدثا جللا، فقد اكتشفنا من خلال متابعة أفلام هذا الأسبوع، التي عرض بعضها أيضا في "نادي السينما" أننا أمام تجربة متقدمة كثيرا في التعبير من خلال السينما، وليست تلك السينما البدائية التي كنا نتخيلها.
كانت هناك أفلام مبهرة مثل و"لوسيا"، و"أيام الماء"، وغيرها. وكان يكفي في الحقيقة مشاهدة فيلم واحد مثل "ذكريات التخلف" لكي تتغير رؤية المرء تماما لهذه السينما بل لاتلك الدولة الصغيرة التي كانت تكافح من أجل البقاء أمام حصار أمريكي مفروض عليها منذ 1959.
انتصرت الثورة الكوبية المسلحة في يناير 1959 ونجحت في الإطاحة بنظام الديكتاتور باتيستا الذي فر إلى أمريكا. وفي مارس من العام نفسه، أنشئت مؤسسة الفنون والصناعة السينمائية (إيكايك، كما تأسست بعد ذلك مدرسة السينما التي تخرج منها عدد من ألمع السينمائيين في أمريكا اللاتينية.
كان "ذكريات التخلف" Memories of Underdevelopment عملا ملهما، لا مثيل له من قبل. كان فيلما "حداثيا" بمعنى الكلمة، أوروبيا في ظاهره، ولكنه "لاتيني" تماما في خصوصية التجربة التي يصورها، وأجوائها، والتساؤلات التي يطرحها.
صحيح أن الكثير من هذه التساؤلات تأتي على صعيد يبدو وجوديا، ربما تأثرا بأفلام الموجة الجديدة الفرنسية، وأفلام أنطونيوني أيضا في الستينيات التي كانت تدور حول عزلة "البورجوازي"، وفشله في إقامة علاقات ناجحة مع المرأة، وتدهوره النفسي بسبب عدم تحققه مما يفعله، وغير ذلك من الأفكار التي يلعب عليها الفيلم كثيرا في تصوري الشخصي، ولكنه يصوغها ويصبها، في سياق سياسي اجتماعي نقدي، يتعلق بخصوصية التجربة الكوبية: تاريخ كوبا الخاص، وتطور الصراع فيها، كما يخرج ويدخل من وإلى أسلوب التداعيات المميز للسينما الأوروبية في الستينيات، لكنه يستخدم أسلوبا سينمائيا يعتمد اعتمادا أساسيا على المونتاج، يمزج بين التسجيلي والوثائقي والخيالي، بين الوثيقة الصوتية او المصورة، وبين التعليق الصوتي المباشر من خارج الصورة، بين الطابع التعليمي الذي يتوقف أمام بعض المعلومات ذات الدلالة الخاصة في سياق الفيلم، وبين الصور الثابتة والرسومات. ويستخدم أيضا لقطات من الجريدة السينمائية ومن الأرشيف، ويعتمد كثيرا على الكاميرا الحرة المحمولة على الكتف التي تجعل المنظور مهتزا تماما بغرض إكساب المشهد الطابع التسجيلي على نحو يذكرنا بالأفلام السوفيتية التي صنعت في عشرينيات القرن الماضي، ويستوحي من أيزنشتاين، كما يستلهم من جودار. ويمتليء الفيلم بالكثير من الإشارات إلى الماضي، إلى التاريخ، في بناء جدلي مركب ومثير، ولكن دون أن يفقد الفيلم في أي لحظة، طابعه الحداثي الأخاذ، وقدرته على جذب المتفرج، دون أن ينحرف أبدا عن هدفه في الكشف عن تناقضات الشخصية الرئيسية التي يدور حولها موضوع الفيلم. 


مخرج الفيلم توماس جوتييريز آليا، وكان ألمع السينمائيين الكوبيين على الإطلاق (توفي عام 1996)، كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى (البورجوازية) ولكن إلى أسرة "تقدمية"، وقد أيد الثورة الكوبية ووقف معها بقوة من البداية، وإن لم يحول إيمانه بالثورة، دون توجيه النقد لبعض الممارسات السياسية والاجتماعية، في بعض أفلامه، وخاصة في "ذكريات التخلف".
ويلعب عنوان الفيلم على كلمة ستصبح فيما بعد من الكلمات أو الأوصاف الشائعة كثيرا في عالمنا، في وصف البلدان التي تعاني من مشاكل "التخلف"، خصوصا فيما يسمى بـ" العالم الثالث". والمقصود هنا "التخلف" من وجهة نظر بطل الفيلم، وهو رجل في نهاية الثلاثينيات، ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ورث مجموعة من الشقق السكنية يعيش على الدخل الذي يأتيه من تأجيرها. وقد أممتها الحكومة الجديدة لكنه يستطيع الاستفادة من دخلها لمدة 12 عاما.  هو إذن، "عاطل بالوراثة"، أي يعتبر "عالة اجتماعية" في مجتمع الثورة والعمل والبناء، في كوبا الجديدة.  
يبدا الفيلم في عام 1961، أي مباشرة بعد الغزو الأمريكي الفاشل بمساعدة اللاجئين الكوبيين في الولايات المتحدة الذين يطلق عليهم "المنفيين الكوبيين"، وهي العملية العسكرية الشهيرة التي عرفت باسم عملية "خليج الخنازير"، وينتهي في أكتوبر عام 1962 وقت بلوغ أزمة الصواريخ الروسية التي نشرها السوفيت على الأراضي الكوبية، ذروتها، فقد كادت أن تتسبب في مواجهة نووية بين القوتين العظميين وقتها لولا أن بادر السوفيت وقاموا بسحبها.
الإطار الزماني إذن، يتحدد في فترة ساخنة سياسيا، شهدت أيضا نزوح الآلاف من البورجوازيين الكوبيين الذين رفضوا الاندماج في المجتمع الجديد، فهاجروا إلى الولايات المتحدة. ومن بين هؤلاء أصدقاء وأقارب بطلنا "سيرجيو"، بل وزوجته. وفي المشاهد الأولى من الفيلم  نرى طوابير المهاجرين الكوبيين في مطار هافانا، وبينهم "لاورا" زوجة سيرجيو، وهو معها يودعها، غولكن دون أن يبدو على وجهه أي شعور بالفقدان، أو بالحزن، بل إننا نلمح نوعا من الشعور بالارتياح.
 لقد ذهبت لاورا ولكن بقيت أشياؤها في بيته، تذكره بنموذجها الذي يرفضه لكنه لا يعرف غيره، ويشعر بنوع من الحنين لاستعادته على نحو ما.
سيرجيو يرفض مغادرة كوبا، لكنه يرفض أيضا الانتماء إلى الوضع الثوري الجديد في البلاد، أن يكون جزءا من المجموع من حوله، فهو يعتبر الكوبيين "متخلفين"، ويصف نفسه بأنه "أوروبي" أكثر منهم جميعا، وهو كاتب ومثقف، يسجل يومياته وذكرياته باستخدام الآلة الكاتبة، لكي يطرح الكثير من التشكك والقلق الوجودي المرتبط بشعوره بانعدام الوزن: إنه يرفض طبقته، لكنه يرفض البديل الآخر، يسخر من الشعارات الجديدة، ويتشكك بوضوح في قدرة هؤلاء الشباب الذين يضيعون الكثير من الوقت في المناقشات والجدال، ويتطلع إلى الماضي، إلى علاقته التي لم تكتمل مع الفتاة الوحيدة التي أحبها وكانت "أجمل شيء في حياته".. يتجول في الشوارع، يتطلع إلى الناس من شرفة مسكنه المرتفع عبر المنظار: إلى الشاطئ، إلى الحركة الكثيفة في الشارع، إلى تمثال برونزي يتوسط ميدانا قريبا، وتتداعى الأفكار المتشككة عبر "المونولوج" الذي يأتينا عبر شريط الصوت من خارج الصورة، وكأن سيرجيو يعبر عن أفكاره التي يدونها ولو بصوت مرتفع.
ما الذي حدث؟ سيرجيو يجيب بتشكك: "لقد تحررت كوبا.. من كان يصدق". يلمح قمة نصب تذكاري خال من أعلى، ويعلق "أين ذهبت حمامة بيكاسو.. من السهل أن تكون شيوعيا في باريس.. لقد دبت الحياة ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى ميامي.. ولكن كل شيء يبدو مختلفا اليوم.. ما الذي تغير؟ اين أصبحت المدينة"؟
لا يروي الفيلم قصة، ولا يعتمد على بناء درامي تتصاعد فيه الأحداث في سياق رأسي، بل على بناء أفقي، يعرض، ويقدم، ويحلل من خلال تجسيد التناقض والتعارض بين الصور واللقطات، وهو بناء ثري، لا يهدف للوصول إلى ذروة ما، بل إلى تفكيك الشخصية، وتعريتها، والتوقف أمام أزمتها.. إنه لا يدين، ولا يبرر، بل يعري، ويكشف، ويفضح ذلك العجز، ويجسده. وهذا هو المدهش في هذا العمل الكبير في وقته.. أي كيف كان ممكنا ألا يأتي الفيلم الأول المهم من كوبا، لأهم مخرج سينمائي كوبي، عملا من أعمال "الواقعية الاشتراكية" مثلا، التي تجسد عادة "البطل الإيجابي"، وتوجه انتقادات مباشرة إلى الماضي، إلى حقبة باتيستا، لكي تبرر كل ما جاء بعدها، وتتغاضى عن أي نواقص أو سلبيات. على العكس من ذلك تماما، هنا يصبح مدخلنا إلى "الحالة الكوبية" مدخل فلسفي وذهني، ولكن من وجهة نظر مثقف من الطبقة الوسطى، عاجز عن حسم أي شيء في حياته.


زوجته رحلت، وهو يعود إلى مسكنه، يتطلع إلى أشيائها التي ظلت تذكره بها: يدير شريط تسجيل لكي يستمع إلى معابثته لها التي تصل حد الشجار. وفي لقطة تعكس البناء المركب للفيلم نراه أمام المرآة، يأتينا صوته عبر شريط التسجيل، وصورته من الماضي الذي يتذكره، وهو يعبث مع زوجته ويثير ضيقها، يرسم على المرآة بقلم التجميل الأحمر، ويقول لها كما يأتي إلينا عبر الشريط المسجل: إنني أفضل النساء اللاتي على شاكلتك.. المصطنعات، أكثر من النساء الطبيعيات.. أفضل الملابس الأنيقة والطعام الجيد، والماكياج والتدليك.. إنك اصبحت أكثر جاذبية الآن.. لم تعودي تلك الفتاة الكوبية المتخلفة..". هنا يكون هو قد ارتدى جوربها النسائي في رأسه وأخذ يتأمل صورته المشوهة أمام المرآة.. ثم ينزع الجورب من رأسه ويجلس في استرخاء وإرهاق على أحد المقاعد.. هذا يحدث في الزمن الحاضر.. الآن بعد أن ودعها في المطار وعاد لكي يكتشف موت أحد العصافير التي يحتفظ بها في قفص في شرفة مسكنه، يلتقطه ببساطة ويلقي به من الشرفة المرتفعة إلى أسفل، إلى الشارع، بينما يردد: إنها لحظة الفراق!
لكن البناء لا يعتمد فقط على التداخل بين الماضي والحاضر، من خلال سريط الصوت أو شريط الصورة، بل على المزج مع مشاهد ولقطات تسجيلية تتداعى في الذاكرة الفردية للبطل- اللابطل حينا، أو تستخدم من زاوية موضوعية وفي سياق نقدي أو "تعليمي" من وجهة نظر الفيلم، كما سنرى.
عمليا لا يفعل "سيرجيو" شيئا في حياته سوى التأمل والتجوال في الشوارع، ينظر إلى النساء بوجه خاص، يعلق عن طريق الصوت الذي ياتي من خارج الصورة، يتساءل بتشكك وهو يتطلع إلى عشرات الوجوه للرجال والنساء، وإلى صور ورسومات لكاسترو على الجدران، لقطات قريبة "كلوز أب" للكوبيات في العصر الجديد: قلق في العينين، نظرات توتر وعدم ارتياح. ما هذا القلق؟ هو بالقطع ليس من نوع القلق الذي يعاني منه سيرجيو. إنه يتساءل: ماذا تعني الحياة بالنسبة لهم؟ بل ماذا تعني الحياة بالنسبة لي؟ ويستدرك: "ولكني لست مثلهم...".
فيلمنا هذا يمكن القول إنه من نوع "دراسة الشخصية". ولكي يعمق هذه الدراسة ويسلط مزيدا من الأضواء عليها، يقوم السيناريو على تقديم بعض الشخصيات التي ارتبط بها بطلنا بشكل او بآخر ولعبت دورا في حياته. وهو يقدم هذه الشخصيات بادئا بكتابة الأسماء على الشاشة. هناك أولا "بابلو".. صديق سيرجيو الرافض بوضوح للثورة.. المتشكك في كل شيء يجري حوله، الذي حسم أمره بالفعل على ضرورة الهجرة الى أمريكا. وهو يعبر عن أفكاره هذه خلال جولاته بالسيارة مع سيرجيو قائلا إن ما يجري مجرد "لعبة بين الأمريكيين والروس، لكننا سندفع الثمن.. لا أريد أن أكون موجودا هنا عندما يأتي ذلك الوقت.. سأرحل".
يتوجه بابلو بالسيارة في صحبة سيرجيو إلى محطة للوقود. هناك بنزين ولكن لا يوجد هناك زيت للمحرك. وبعد هذا المشهد مباشرة يستخدم المخرج لقطات تسجيلية وصورا ثابتة فوتوغرافية ورسومات تظهر حالة الفقر والتخلف والمعاناة التي كان الكوبيون يعيشون فيها في الماضي: هناك لوحة تصور بعض العبيد يقيدون حركة واحد منهم على الأرض، بينما يقف السيد يمسك بالعصا وينهال عليه ضربا. (يأتينا صوت بابلو من خارج الصورة، يقول لسيرجيو: يقال إن الكوبي يمكنه أن يتحمل اي شيء سوى الجوع).
نرى لقطات أخرى لرجال جوعى، وأطفال يتضورون ارتموا على الأرض في ضعف واستكانة شديدتين، امرأة تحمل على صدرها طفلا رضيعا يحتضر من الجوع. ويأتي التعليق الصوتي "الموضوعي" وكأننا نشاهد فيلما تسجيليا في التليفزيون: في أمريكا اللاتينية يموت أربعة أطفال بسبب سوء التغذية كل دقيقة. بعد عشر سنوات سيكون قد مات عشرون مليون طفل، أي ما يوازي عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية".
الحوار بين سيرجيو وبابلو حول المسلحين الكوبيين الذين شاركوا في غزو بلادهم مع الأمريكيين في "خليج الخنازير" وتم اعتقال بعضهم، يؤدي إلى مشهد آخر، تسجيلي، يبدأ بالإشارة إلى مسؤولية الفرد في إطار الجماعة.. حسب المفهوم الماركسي.. ولكن في سياق استعراض السجناء من الكوبيين المسلحين، والتعليق الصوتي يأتينا قائلا إنه تم اكتشاف تنظيم اجتماعي داخل المنظمة العسكرية للغزاة أي المسلحين المناهضين للثورة وهذا التنظيم يعكس التكوين الاجتماعي و"اخلاقيات البورجوازية".

 إنه البطل العاجز المتردد في حسم أمره، الذي يكتفي بالتطلع عبر التليسكوب من نافذة مسكنه على الناس في الخارج، يبحث بوجه خاص، عن تجربة عاطفية يستر بها إحساسه بالعجز. وعندما يعثر أخيرا على فتاة تلهب خياله (إلينا)، تنتمي للطبقة صاحبة المصلحة في الثورة، نراه يحاول أن يحولها ربما دون أن يدري، إلى نموذج مشابه لنموذج زوجته التي يرفضها. يريدها أن ترتدي ملابسها، وأن تتصرف مثلها. إنه ذلك "الفكر" المتأصل داخله، الذي يرفض التعامل إلا مع نموذج المرأة من طبقته بسلوكياتها ومفاهيمها رغم احتجاجه المعلن على هذا النموذج أيضا وهنا سر أزمته: أي أنه لا يعرف ماذا يريد.. ولذا يظل على الهامش طيلة الوقت، عاجز عن اختراق المجتمع أو الاتصال مع الآخرين. غنهم جميعا في نظره يجسدون "التخلف".
هذه الفتاة "إلينا" هي نموذج يلخص تلك الحالة الجديدة المستعصية على فهمه.. "ابنة الشعب"، ولكن بدلا من محاولة النفاذ إليها وفهمها، يحاول سيرجيو تغييرها وشدها إلى عالمه، وفي زيارة إلى المنزل الذي كان يقيم فيه الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي في هافانا، وتحول إلى متحف، تتجسد الهوة بين الشخصيتين. وتفشل علاقة الاحتواء المفترضة مع فتاة في السابعة عشرة من عمرها.
وتكاد مغامرته النزقة مع "إلينا" أن تؤدي إلى هلاكه، فأهلها يتهمونه باغتصابها، ويقولون إنها كانت عذراء عندما أغواها ودفعها إلىممارة الجنس دفعا، ويصل الأمر إلى القضاء، لكن القضية تنتهي بترئة سيرجيو الذي يعود لكي يستعيد لحظات علاقته الساخنة مع إلينا، وحيدا كما كان دائما، في حين تستعد كوبا لمواجهة تداعيات أزمة الصواريخ، وعلى شريط الصوت يأتينا صوت الرئيس الأمريكي كنيدي وهو يحذر ويهدد بضربة استباقية نووية، ثم كاسترو بالصوت والصورة، وهو يلقي كلمة يرفض فيها بشدة الخضوع للتهديدز في هافانا، في ليلة عاصفة، يتأهب الجميع، ويحسبون أنفاسهم.. تحسبا للخطة التالية.. وينتهي واحد من أعظم الأفلام في تاريخ السينما.

فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"

الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

ذكريات حول تجربة نادي السينما



لقطة من فيلم "لا تلمس المرأة البيضاء"


 

بقلم: أمير العمري



بعض من يكتبون عن السينما لا يحترمون الترجمة، بل إن "المجتمع الثقافي" في مصر أصبح، بشكل عام، لا يحترم الترجمة، فقد صارت الترجمة مهنة على المشاع، أي أصبحت مهنة يمارسها كل من يعرف، ومن لا يعرف. والمقصود بالمعرفة ليس فقط معرفة اللغة الأجنبية التي يترجم عنها، أو أصول اللغة العربية التي تترجم إليها، بل معرفة وإلمام كاف بالمادة موضوع الترجمة، فترجمة كتاب في جانب من جوانب الفن السينمائي مثلا، ليس مثل ترجمة كتاب سياسي يقوم على التحقيق، أو المذكرات، وليس كترجمة كتاب في العلوم الطبيعية. فلكل مادة المتخصصون فيها. ولكن بكل أسف، لم يعد هذا قائما، بل أصبحنا نرى الكثير من الكتب التي تظهر في الغرب تصدر في ترجمات سريعة رديئة استهلاكية، فيها قدر كبير من الضحك على ذقون القراء. ومن هذه الكتب أتذكر على سبيل المثال، كتاب روجيه جارودي "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل" الذي صدرت منه ترجمة رديئة للغاية، معظمها كلام خاطيء أوغير دقيق، إلى أن صدرت ترجمة جيدة منه عن إحدى دور النشر المحترمة في مصر. وهناك أحيانا مترجمون من الكبار، أي من أساتذة الأدب الانجليزي، قد لا يعرفون كنه المادة التي يترجمونها أو يقتبسون منها في كتبهم، رغم معرفتهم باللغة الإنجليزية وآدابها.
ولعل من أجمل ما قرأت في معرض التعبير عن فوضى الترجمة والكتابة، ما كتبه الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل ذات مرة من أننا: "نؤلف في حين أننا نترجم، ونترجم بينما نحن في الحقيقة نؤلف"!
فيما يتعلق بترجمة النقد السينمائي وجوانب الثقافة السينمائية لعل من الغريب جدا أن أقرر هنا أن من أفضل من ترجموا في هذا المجال، ناقد وكاتب، لم يصدر له كتاب واحد، بينما كان يمكن أن يملأ ما ترجمه في السينما، مجلدات. والحديث هنا عن الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله.
كان يوسف يترجم أسبوعيا تقريبا لنشرة نادي السينما بالقاهرة في عصره الذهبي، أي لمدة عشرين عاما، من 1969 إلى 1989. وكانت ترجمات يوسف من مقالات ومقابلات وتقارير ومقالات نقدية ومعلومات وتحقيقات عميقة، متخصصة، عن الظواهر السينمائية في فرنسا والعالم، تثرينا وتغذي ثقافتنا. ويكفي أن يراجع المرء مجلدت نشرة نادي السينما في السنوات المشار إليها، لكي يقف على كنوز من المعلومات والتحليلات التي لم يوجد لها مثيل من بعد، بهذا الشكل الأسبوعي المنتظم والشامل.

كانت ثقافة يوسف السينمائية الموسوعية، وإجادته التامة للغتين، الفرنسية والإنجليزية، إلى جانب معرفته الممتازة باللغة العربية، تساعده على تقديم هذه الترجمات الجميلة، السلسة، الواضحة، الثرية. فضلا عن هذا كله، كان يوسف ولايزال أساسا، من هواة السينما الكبار بلا أدنى شك، ولولا حبه وإخلاصه لما يحب، لما أنتج كل ما أنتجه، بزهد واضح، ودون أي رغبة في الادعاء أو البحث عن الشهرة، فقد كان يكتفي بالنشر في نشرة نادي السينما التي كان يكتب لها أيضا الدراسات التفصيلية عن الأفلام أحيانا مع غيره من كبار النقاد، أو في مجلة "المسرح والسينما" ثم "السينما" إلى أن توقفت. وأظن أنه كتب أيضا لمجلة "الإذاعة والتليفزيون" لفترة، وكان بالطبع قطبا أساسيا في جريدة "السينما والفنون" الأسبوعية التي صدر منها 33 عددا عام 1977 ثم أغلقت بضغوط مباشرة من السلطة. ولم يحدث قط أن وضع يوسف اسمه على أي مادة مترجمة، باعتباره مؤلفها أو كاتبها، كما يفعل كثيرون حاليا، بل كانت المادة المنشورة دائما مشفوعة في النهاية بعبارة "ترجمة: يوسف شريف رزق الله".

السينما الأخرى
كان يوسف من أوائل الذين تولوا تعريفنا، من خلال ما نقله إلى العربية، بعدد من أبرز وأهم السينمائيين في فرنسا وأوروبا عموما، ليس فقط من الأجيال صاحبة التراث المؤثر، بل من التيارات الجديدة التي كانت تظهر من وقت إلى آخر. وقد كنا سعداء الحظ أن نشأنا ونشأ اهتمامنا بالسينما في تلك الفترة من أواخر الستينيات، عندما كانت حركة التجديد في السينما الأوروبية وسينما القارات الثلاث، في أوج مجدها وانتفاضتها على السينما التقليدية القادمة من هوليوود. وكانت فرنسا تحديدا، "كعبة" الحركات الجديدة في السينما، من الموجة الجديدة إلى سينما الحقيقة، إلى السينما النضالية، وغيرها. وكان المخرج الفرنسي الشهير جان لوك جودار قد أعلن وقتذاك، تمرده على السينما القديمة التي كان يصنعها واصفا إياها بـ"السينما البورجوازية"، وأقدم على إخراج تجارب جديدة "ثورية" في الشكل والمضمون. وكانت حركة الاحتجاج العالمية التي تصدرتها جماعات الشباب في العالم ضد حرب فيتنام والوحشية التي كانت تمارسها القوات الأمريكية هناك، قد أضافت رافدا فكريا مثيرا إلى حركات التجديد في السينما، التي بدا ميلها بوضوح في تلك الفترة، بل وربما منذ تلك الفترة أيضا، إلى اتباع أسلوب الفيلم التسجيلي في الأفلام الروائية الطويلة. وعلى سبيل المثال، لم يكن غريبا أن يظهر في تلك الفترة، فيلم مثل "معركة الجزائر" (1969) للمخرج الإيطالي الكبير جيلو بوتيكورفو، لايزال يعد نموذجا على تلك السينما المتمردة العظيمة.
كان يوسف أيضا جريئا جدا فيما ينقل لنا عن الفرنسية، عن مخرجين لم نكن نعرف عنهم كثيرا، مثل جورج كلوزو وجان بيير ميلفيل وأندريه ديلفو (البلجيكي) وماركو فيراري (الإيطالي) وبرتران تافرينييه وكوستا جافراس وبرتران بلييه وفرنسوا تريفو وكلود شابرول وكلود ليلوش، وغيرهم. ولعل من أهم ما نقله لنا يوسف أيضا، الكثير من أدبيات سينما التمرد والغضب التي ارتبطت بحركة التمرد المشهودة في مايو 1968 في فرنسا، بل كان يوسف من أوائل من كتبوا عن تأثير هذه الحركة على السينما، وقدم لنا سردا تفصيليا دقيقا لتطور الأحداث في باريس منذ إعفاء مدير السينماتيك الفرنسية هنري لانجلوا، من منصبه، إلى اندلاع غضب المثقفين والسينمائيين الذين تزعمهم جودار وتريفو، ثم انتفاضة الطلاب، وانضمام العمال إلى الطلاب وإقامة المتاريس في باريس وتحويلها إلى ثكنة عسكرية. وقد نشر هذا في مجلة "المسرح والسينما" وكان عضوا في هيئة تحريرها ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد.



صورة من الأرشيف الشخصي للكاتب من عام 1973 ليوسف شريف رزق الله (اليمين) مع فتحي فرج (الوسط) واحمد رأفت بهجت (على اليسار)



وكان ما عرضه يوسف يأسرنا، أبناء جيلي وأنا، فقد كنا مفتونين بقدرة السينمائيين الشباب على إشعال شرارة حركة ثورية في بلد من أعرق الديمقراطيات في العالم. وكانت ثورة الشباب وقتها في قمة مدها في أوروبا، وكانت مظاهرات الشباب في العواصم الأوروبية ترفع صور ماوتسي تونج (الذي كان قد بدأ الثورة الثقافية في الصين)، وصور ماركس ولينين وكاسترو وجيفارا. وقد امتدت الحركة الثورية أيضا إلى مصر في أول مظاهرات تندلع منذ استيلاء الجيش على السلطة في 1952، احتجاجا على "مجتمع القهر" و"زوار الفجر"، وتطالب بالديمقراطية، وتحمل المسؤولين فيما عرف بـ"الاتحاد الاشتراكي"، والدولة عموما، مسؤولية الهزيمة، بعد أن انكشف حجم ما يكمن من فساد تحت السطح البراق للشعارات السائدة في 1967.
كان يوسف شريف وراء اختيار عدد من أهم الافلام التي عرضت في "نادي السينما"، وهي في معظمها فرنسية، وكانت بالنسبة لأبناء جيلي، الذي جاء بعد جيل يوسف ورفاقه، اكتشافات حقيقية.

 

لا تلمس المرأة البيضاء
من هذه الافلام، التي لازلت أتذكرها وأتذكر ما كتبه وترجمه يوسف حولها، فيلم بديع بعنوان "لا تلمس المرأة البيضاء" Touche pas à la femme blanche لماركو فيراري، وهو من الإنتاج الفرنسي- الإيطالي المشترك.
لم أكن، في ذلك الوقت من عام 1974، قد ذهبت إلى باريس، أو قمت بزيارة أي بلد خارج مصر، فقد كنت في مرحلة الدراسة الجامعية. وكان الفيلم يدور في منطقة عرفت أنها شهيرة جدا في قلب باريس هي منطقة سوق الهال Les Halles وكان الفيلم مزيجا من الخيال المبني على التاريخ القديم والتاريخ الحديث، ففي هذا السوق القديم كان العمال والطلاب قد أقاموا المتاريس، وأخذوا يشنون الهجمات على قوات الأمن الفرنسية. وإذن فقد استخدم السوق كمكان محصن للاحتماء والهجوم المضاد. ولذلك كان من أول القرارات التي اتخذتها السلطات الفرنسية بعد مايو 1968، إزالة السوق من الوجود وفتح المنطقة وتحويلها إلى منطقة سياحية تمتليء بالبوتيكات الحديثة على نحو ما نرى الآن، وهو ما رأيته بعد أن قمت بأول زيارة لي إلى باريس عام 1981.
وفي الفيلم، وهو نوع من "البارودي" parody أي التصوير الساخر، والكثير من الإحالات الفكرية والتاريخية التي تربط بطريقة مضحكة، بين ما يحدث من هدم وتحطيم واقتحام بشع من جانب قوات الشرطة الفرنسية لسوق الهال وتدميره، وما حدث من إبادة للهنود الحمر في أمريكا على يدي الجنرال جورج أرمسترونج كاستر، الذي عرف بلقب "جزار الهنود الحمر". ولكننا نرى هنا "كاستر" معاصرا تماما (يقوم بدوره ميشيل بيكولي) وهو يقود قواته التي تركب الخيول في وسط باريس أثناء هجومها على المكان الذي تحصن فيه عدد من صغار النشطاء والتجار لحماية سوقهم الذي اشتهر تاريخيا، وأظنه كان يستخدم أيضا كمنطقة تحصن في زمن "كوميونة" باريس الشهيرة.
معركة تصفية سوق الهال تحال سينمائيا، إلى نموذج مضحك لما عرف تاريخيا باسم "معركة القرون الصغيرة"، آخر المعارك التي خاضها كاستر ضد الهنود الحمر والتي انتهت بهزيمة قواته ومقتله. وكانت هناك إحالات "بصرية" إلى حرب فيتنام. وفي أحد المشاهد الساخرة، تظهر صورة الرئيس الأمريكي نيسكون.
ومن الجدير بالذكر أن موجة الأفلام التي تعيد للهنود الحمر اعتبارهم، وتنتقد الوحشية التي تعامل بها الأمريكيون البيض مع السكان الأصليين في القارة الجديدة، كانت قد دشنت رسميا عام 1970 بفيلم آخر شهير هو "العسكري الأرزق" Solider Blue اهتم به يوسف شريف كثيرا هو وأبناء جيله من النقاد، بل وأتذكر أيضا أنه دارت حول هذا الفيلم في أوائل السبعينيات معركة نقدية في مصر، فهناك من كان يعتبره فيلما ثوريا جريئا يفضح الإمبريالية الأمريكية، وهناك من جهة أخرى، من اعتبره محاولة لتبرير بل وتجميل الطغيان الأمريكي، بدعوى أن هوليوود لا يمكنها أن تتناقض أصلا مع "المؤسسة" الحاكمة في واشنطن. وسيثبت الزمن وحده فيما بعد، خطأ تلك النظرية الأخيرة، وأن بداية السبعينيات كانت أيضا بداية ظهور "تيارات" متباينة داخل هوليوود، وإنه ليس من الممكن اعتبارها كيانا واحدا مصمتا خاليا من التناقضات.
وأذكر أنه كان هناك في ذلك الوقت، تقليد جميل اقتبسته "سينما مترو" تحديدا، يحاكي التقليد الذي نراه في دور العرض الأوروبية، والفرنسية بوجه خاص، هو أن تضع دور العرض إلى جانب الصور الموجودة للدعاية للفيلم المعروض في مدخلها، اقتباسات من مقالات النقاد البارزين وآرائهم عن الفيلم. وكان هذا على نحو ما، احتفاء بالنقد، وإعلاء من قيمة الكلمة المكتوبة وتأثيرها على مشاهدي السينما.
وكانت مقتطفات من مقالات وكتابات سمير فريد وسامي السلاموني ويوسف شريف وخيرية البشلاوي ومصطفى درويش توضع في مداخل سينما مترو، وكنا نتوقف ونقرأ، ولم تكن السينما تحرص فقط على وضع مقالات الإشادة بالفيلم، بل وأيضا ما يتعارض معه. وقد نال "العسكري الأزرق" نصيبه في هذا المجال.
ي نشرة نادي السينما، التي كانت مجلة سينمائية حقيقية، أسبوعية، عميقة، ومتخصصة، كانت مقالات ودراسات سمير فريد عن تاركوفسكي وجودار وبرتولوتشي وغيرهم، ومقالات فتحي فرج عن جوزيف لوزي وأعلام السينما البريطانية الجديدة مثل كاريل رايز وتوني ريتشاردسون وليندساي أندرسون وبيتر واتكنز وسيناريوهات العبقري الراحل هارولد بنتر، والتغطيات الدورية الحافلة لسمير فريد ورفيق الصبان ويوسف شريف وأحمد الحضري ثم سامي السلاموني في مرحلة لاحقة، لمهرجان كان، مرجعا رئيسيا لنا، نستمد منه معارفنا حول أبرز الاتجاهات في السينما العالمية. وكان الناقد الكبير رءوف توفيق ينشر مقالاته الممتعة عن أفلام مهرجان كان في مجلة "صباح الخير" ثم تصدر فيما بعد، في كتب بديعة.
ما الذي حدث بعد مرور السنين، أين ذهب حماس هؤلاء النقاد للكتابة الجادة عن الأفلام، وإعطاء الفيلم حقه من النقد والتحليل التفصيلي الذي كان يعد من أرقى أنواع النقد وأكثرها فائدة، ولماذا أصبح من ظلوا على قيد الحياة منهم، الذين تتوفر أمامهم فرصة للنشر بدون معوقات، يحجمون عن كتابة النقد السينمائي بهذا المفهوم، إكتفاء بكتابة الخواطر والانطباعات والتعليقات السريعة؟



ماذا حدث؟
أظن أنه تغير المناخ العام، وغياب الأطر التي كانت تجمع النقاد على أهداف واحدة، بغض النظر عن تحقيق المنفعة المادية، بل وغياب الهدف الثقافي الأكبر والأشمل، أي القيام بدور فاعل في الواقع، ونقل المعرفة إلى شرائح أوسع من الشباب، والهرولة بدلا من ذلك، إلى الدخول في "الحظيرة"، والحصول على نصيب من "الكعكة" الرسمية بأقل جهد ممكن، ومن خلال استخدام واستثمار الأسماء التي صنعها أصحابها في ظروف عمل جاد في الماضي، لخدمة المؤسسات الثقافية، الجديدة، الشكلية، التي تأسست دون فعالية، ودون مشروع، بل وفي غياب أصحاب المصلحة الحقيقية، أي الجمهور نفسه.
ولكن هل الذنب هو ذنب ذلك "الزمن" الجديد فقط؟ لاشك أيضا، أن الحياة اختيارات، وأن موقف المثقف يعكس اختياره، وكل مثقف مسؤول في النهاية، عن اختياراته. ولكن المجتمع كله هو الذي يدفع الثمن في النهاية.

صفحات من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"

الخميس، 7 يناير 2010

الحنين إلى "عصر السينما"

مجمع سينما وورنر فيلليج

سينما ريتزي التحفة المعمارية الرائعة في حي بريكستون (لم أزرها بكل أسف حتى الآن)

واجهة سينا بلازا

سينما امباير من الداخل في ليستر سكوير في سالف العصر والأوان قبل تقسيمها

سينما امباير من الخارج حاليا

سينما امباير من الخارج قبل فترة

سينما لندن بافيلون


سينما بيوجراف التي اشار إليها محمد خان وقال انها كانت في فيكتوريا ستريت

واضح إن الموضوع المنشور في هذه الصفحة حول ذكرياتي عن دور العرض اللندنية في الزمن الجميل الماضي (من الثمانينيات) من عصر السينما فعلا (تيمنا بعصر الراديو، وهو عنوان أحد أفلام وودي ألين الجميلة التي أحبها- فنحن الآن كما أظن لم نعد في عصرالسينما بل في عصر الانترنت) أقول إن من الواضح ان الموضوع قد أثار شجونا في نفس صديقي المخرج الكبير محمد خان، وقد سبق أن كتب لي تصحيحا مهما عن سينما "أكاديمي" وكانت من أجمل وأحلى السينمات في لندن واكثرها احتراما، وفيها كنت قد شاهدت عددا من أهم الأفلام منها مثلا فيلم "وتبحر السفينة" لفيلليني عام 1983.
وأتذكر أن عماد الدين أديب، الإعلامي البارز (وكنا نرتبط بصداقة من أيام الجامعة في السبعينيات)، دعاني مع صديقنا الصحفي المصري الرائع حافظ القباني (مازال يقيم ويعمل في لندن) لمشاهدة فيلم في سينما أكاديمي للمخرجة الألمانية الشهيرة مرجريتا فون تروتا اظن كان اسمه (اصدقاء وأزواج).. وكان ذلك في عام 1983، قبل ان آتي للعيش في لندن في العام التالي. وكان عماد وقتها رئيسا لتحرير مجلة "المجلة". وخرجنا بعدها وتوجهنا إلى حيث كان يقطن عماد في حي ماي فير الراقي في لندن لكي نتناقش في الفيلم بينما كان حافظ يعد طعاما شهيا للعشاء.

واجهة سينما جيت نوتنج هيل


المهم أن محمد خان الذي عاش سنوات طويلة في لندن، وسبقني بالطبع كثيرا، تعود ذكرياته بالتالي إلى الزمن الأجمل بلا أي شك، وهي حقبة الستينيات التي غيرت تاريخ الدنيا (هناك بالمناسبة عدد من الكتب المهمة حول تأثير الستينيات وثقافة الستينيات وفنون الستينيات) كما لم تفعل أي حقبة أخرى في القرن العشرين، فقد كانت سنوات للغضب والثورة والتمرد على كل ما هو سائد من فنون، وفيها ظهرت أكبر حركات التجديد في السينما والموسيقى والمسرح وغير ذلك.
أود ايضا أن اقول إنني كنت أريد أن يختتم كتابي "حياة في السينما" بهذا الفصل الحميمي الذي ابتعد فيه عن الهموم المصرية والعربية، وأعود إلى البدء.. أي إلى السينما، وإلى دار العرض السينمائي تحديدا التي ولدنا فيها وتعلمنا في داخلها السينما، أظن أنا ومحمد ايضا، فقد كانت وسيلتنا الأولية لتعلم السينما هي المشاهدة والقراءة والمناقشات سواء في نوادي السينما، أو بعد ذلك في دور السينما الفنية في العاصمة البريطانية التي أحتفظ لها بذكريات رائعة وأعتبرها مدرستي السينمائية بحق.. لكن الاقدار وحدها شاءت الا ينشر هذا الفصل في الكتاب، ربما لكي يصبح متاحا لقراء هذه المدونة بشكل مباشر.
وقد أسعدني أن اتلقى ثلاثة رسائل أخرى من محمد خان يذكرني فيها ببعض دور العرض اللندنية، منها ما أتذكره، ومنها ما لم أعايشه أو الحق به، فقد وصلت بعد أن زال من الوجود أو تحول إلى محلات أخرى.

وأنا أود هنا ان أشيد بذاكرة محمد خان، بل وأتمنى أن يعكف على كتابة مذكراته اللندنية بكل ما فيها من مغامرات في السينما وغير السينما، فسيكون هذا كتابا رائعا لنا جميعا.
المهم.. بعد ان تلقيت رسائل محمد، شعرت شعورا غامضا جميلا، بالرغبة في استعادة كل ما ذكره، بالعثور على صور لدور العرض التي ذكرني بها، كيف كانت وكيف أصبحت، وبدأت رحلة بحث مضنية، وتمكنت من جمع عدد من الصور التي أود ان اقدمها لقراء هذه المدونة من أصدقائي عشاق السينما، وعشاق دور السينما الحقيقية وليس "علب الافلام"، كما أقدمها أساسا، إلى صديقي محمد خان، لدعم هذه الذاكرة المشتركة بيننا، وتزويدها بالجزء المرئي منها، أي الصور. وارجو أن يساعده هذا بل ويحفزه على كتابة ذكرياته. وانا على استعداد لمراجعتها وإعدادها للنشر، والناشر موجود فعلا.
سألني محمد عن الدار السينمائية الملاصقة لسينما امباير في ليستر سكواير، واقول إنها ليست ملاصقة تماما. دار امباير القديمة التي أشار إلى أنها كانت مرقصا في الماضي، لابد أنها قسمت إلى دار عملاقة للسينما (هنا بعض الصور) ومرقص او ديسكو و ربما أيضا كازينو، أما السينما التي تبعد عدة خطوات عن مبنى إمباير فهي تدعى حاليا سينما فيو Vue وكانت من قبل Warner Village بعد أن تم تقسيمها إلى 9 قاعات تحت وفوق الأرض أو ربما 10 أيضا لا أتذكر بالضبط فلست من هواة التردد عليها بعد أن أصبحت مجموعة من العلب، وغالبا كانت تسمى قبل ذلك سينما كلاسيك أي ضمن الشبكة الشهيرة وقبلها كانت جزء من شبكة ABC ايه بي سي. أما سينما بلازا يامحمد فلم يعد لها وجود الآن بكل أسف.. وكذلك السينما الأخرى التي كانت موجودة في شارع هاي ماركيت على ناصية صغيرة، وهي أوديون هاي ماركيت، فقد فوجئت قبل فترة قصير باختفائها من الوجود ايضا، ولاتزال السينما الصغيرة في أول بيكاديللي ستريت موجودة لحسن الحظ.
أنشر هنا رسائل محمد الثلاثة كما وردت.. والصور تجدونها موزعة فوق وتحت هذه الكلمات مع تعليقاتي عليها.
عزيزي محمد: هل هذه هي الدور التي حدثتني عنها في رسائلك؟ رجاء التدقيق والتصحيح إذا وجدت خطأ ما.. وتقبل تحياتي.

لقطة أخرى لسينما بافيلون التي زالت من الوجود قبل ذهابي إلى لندن عام 1984


رسالة (1)
عزيزى أمير
لندن والثلوج أو الضباب أو الأمطار .. هى لندن التى لها وحشة .. فسينماتها من أول زيارة فى ١٩٥٨ تعود فى خيالى .. والبركة فى مقالك.. هل تتذكر السينما التى كانت فى ِإدجوار رود.. على الرصيف المواجه للأوديون ماربل آرش .. هى الآن اعتقد كافيتريا لبنانية لعشاق القهوة التركى والشيشة والشاورما .. بالمناسبة شبكة دور عرض أوديون وقبلها جومونت وبالمناسبة سينما إمباير فى ليستر سكوير قبل ما تقسم كانت اكبر سينما حجما فى لندن وكانت شقيقتها اللازقة بها وناسى اسمها .. ياريت تفكرنى .. المهم إمباير فى الستينات كانت قاعة رقص ضخمة كان لي مغامرات فيها.. أنا طبعا تطرقت للسينمات عموما ومش بالضرورى متخصصة ويمكن لأن السينما عموما كان حالها أجمل بكثير .. سينما ريالتو بقت محل هامبرجر وسينما بافيليون بقت فرع لشبكة محلات الدى فى دى.. وبما انى بقيت فى البيكاديلى منساش السينما الصغيرة على الناصية فى أوائل بيكاديلى ستريت .. أهى دى كانت متخصصة .. وأخيرا كنت من ضمن اللى وقفوا فى الصف الطويل عشان أشوف تحفة هيتشكوك ـ سايكو ـ فى أول عرض وحفلة ظهرا فى السينما اللى لا تزال موجودة فى ليتل ريجنت ستريت "بلازا " وقطعوها حتت زى بقية السينمات .. مقالك تحريض لزيارة لندن .. حتى لما اتقابلنا فى لندن على ما اتذكر فى شيرنج كروس روود كان فيها سينما فى صف مكتبة فويلز متخصصة كذلك .
كفاية سينمات والسلام.
رسالة (2)
ملحق سريع قبل ما أنسى.. شاهدت فيلمين فى نفس البرنامج
Fritz Lang's M
Henri George Cluzot's
Les Diaboliques
هناك سينما كانت مسرحا أصلا وأعتقد عادت لتكون مسرحا.. وهى خلف شيرنج كروس روود ناحية كيمبردج سيركس.
..
أظن كان برنامج مذهل
تحياتي


لقطة أخرى لعل محمد يؤكدها لسينما لندن بافيلون


رسالة (3)
آخر كلام عن السينمات .. الواحد نسى ثلاث سينمات قديمة
Paris Pullman
اكتشافى أنطونيونى بفيلم L'Aventurra
اللى بعده كتبت خطاب الى مجلة films & Filmingونشر عن تأثرى بالفيلم وأيضا كنت مع شادى عبد السلام وعبد العزيز فهمى نتابع عرض "المومياء"، وكان كتابى عن السينما المصرية فى فترينة السينماوده كانت سينما صغيرة وخاصة جدا، وبعدين فيه سينما اكتشفتها فى حى فكتوريا واسمها Biograph ثم فى ويسترن جروف روود كان فيها Roxy أو كانت غيرت اسمها إلى International film Theatre
واكتشفت تروفو فيها وكذلك فيلم نادر لدى سيكا ـ السقف ـ
بقت اعتقد الآن محل بيتزا.. كلهم قفلوا .. وعلى فكرة السينما اللى فى ادجوار روود كان اسمها Gala Royal وتعرفت فيها على بونويل
عشان كده بأعتبر مدرستى الحقيقية كانت سينمات لندن فى الستينات.
تحياتى

سينما ريالتو التي كانت كائنة في كوفنتري ستريت


سينما ريالتو من الداخل التي ذكرها محمد خان ولم أعاصرها

سينما أيماكس أكبر شاشة سينمائية في أوروبا التي تعرض الافلام المجسمة وأحدثها حاليا "افاتار"

السبت، 25 أكتوبر 2008

يوميات مهرجان تطوان السينمائي 2005


اليوم الأول السبت 26 مارس
* يومي الأول هو اليوم الثاني في المهرجان. لماذا؟ السبب يرجع إلى عدم توفر أماكن شاغرة على الطائرات من أوروبا إلى طنجة بسبب عطلة عيد الفصح في أواخر مارس.
* الطريق من مطار طنجة إلى تطوان يستغرق ساعة ونصف الساعة تقريبا. تعرفت في السيارة على المخرجة سيمون بيتون، وهي إسرائيلية- فرنسية هجرت إسرائيل ضيقا من عنصريتها، وتخصصت في إخراج أفلام تسجيلية عن الفلسطينيين، وقد حضرت إلى مهرجان تطوان للمشاركة بفيلمها الجديد "الجدار" عن الجدار الفاصل الذي شيدته إسرائيل في الضفة الغربية.
سيمون ودودة وتمتلك الكثير من روح المرح، والأهم أنها تفهم روح السخرية irony، وبدون ذلك ليس من الممكن إجراء أي حوار حقيقي في رأيي مع أي إنسان متحضر!

* عرفت من مرافقي أثناء الرحلة من مطار طنجة إلى تطوان أن أعضاء الوفد المصري وصلوا في اليوم السابق لكنهم فشلوا في اللحاق بحفل الافتتاح بسبب تأخرهم داخل مطار الدار البيضاء (قبل انتقالهم بالسيارات إلى تطوان) لعدة ساعات، ربما بسبب إنهاء مشاكل التأشيرات أو ما إلى ذلك من مظاهر التخلف العربي الضارب بأطنابه.
وصلنا إلى الفندق وهو حديث البناء ممتاز. إلا أنه بعيد جدا عن المدينة حيث يوجد المهرجان (حوالي 40 كيلومترا)، وهو خطأ سنظل جميعا ندفع ثمنه يوميا حتى النهاية. وأظن ان هذا أبعد فندق نزلت به في حياتي عن أي مهرجان حضرته، فهو في واد والمهرجان في واد ىخر تماما. وكانت ابعد نقطة اتصورها عن موقع مهرجان ما هي عندما نزلت خلال حضوري مهرجان فارنا في بلغاريا عام 1987 في فندق على شاطئ يدعى "الرمال الذهبية" (بالمناسبة كل بلد في العالم تطل على بحر لديها رمالها الذهبية!) كان يبعد عن وسط مدينة فارنا حيث "هيصة" المهرجان حوالي 22 كيلومترا. أما فندق مهرجان تطوان (ذو النجوم الخمس) فهو يبعد حوالي 40 كيلومترا!

اليوم الثاني الأحد 27 مارس
* في مطعم الفندق ألتقي بالصديق القديم العتيد جدا.. "بريان دي بالما- مصر" كما أطلق عليه أو المخرج "الكبير جدا" محمد خان، ومعه هذه المرة زوجته الجديدة الشابة كاتبة السيناريو الموهوبة وسام التي كتبت فيلم "أحلى الأوقات". إنسانة رقيقة عذبة وحالمة، لا أعرفها من قبل فهي تنتمي للأجيال الجديدة التي نشأت وترعرعت وأنا خارج مصر. مهرجان تطوان يكرم محمد خان وهو تكريم يستحقه بالتأكيد. لم يفكر فيها أصحابنا إياهم في مهرجانات مصر ربما لأنهم لا يعتبرونه مصريا أصلا حسب تصنيفهم العنصري المحدود!
* الممثلة بوسي موجودة بحكم عضويتها في لجنة التحكيم. كنت قد التقيت بها من قبل مع نور الشريف في لندن قبل 16 سنة. صعب أن تتذكر.
* ألتقي أيضا بالصديق "التاريخي" محمد كامل القليوبي الذي تمتد معرفتي به إلى أكثر من 34 عاما.. هل هذا ممكن!
* هناك كذلك الصحفي الموهوب وائل عبد الفتاح، والناقدة الصحفية علا الشافعي (من الأهرام العربي) التي كنت قد قابلتها مرات معدودة في مصر، والمذيعة بسنت حسن من التليفزيون المصري.. لا أدري ماذا تفعل هنا حيث لا كاميرا ولا فريق تصوير ولا يحزنون. وكان هناك أيضا المخرجة هالة خليل التي أسعدني التعرف عليها كثيرا بسبب حلاوة روحها وشخصيتها القوية الطبيعية دون افتعال أو ادعاءات. وقد حضر أيضا المخرج سعد هنداوي والمخرج أسامة فوزي ولمها فيلمان في المهرجان داخل وخارج المسابقة.
* الموسيقار العراقي الموهوب نصير شمة موجود أيضا بدماثته وخلقه الرفيع ضمن أعضاء لجنة التحكيم الرسمية التي تضم اثنين من المغرب: ناقد ومخرج، جريا على عادة مهرجانات العالم العربي.
* الوفد المصري أجمع على اختيار "الأستاذ" فوزي سليمان رئيسا له.. يالشجاعة فوزي وشبابه وقدرته العظيمة على أن يقطع أرجاء الأرض، لا يستسلم للتقدم في السن أبدا.. وهو دائما ذلك الإنسان الرائع المحب للسينما، المخلص لها دون طمع في جاه أو نفوذ أو شهرة تقوم على الأكاذيب والادعاءات.
* في المقر الصحفي للمهرجان: أعرف من صديق مغربي بالخبر المأساوي: توفي أحمد زكي أخيرا فجر اليوم. مهرجان تطوان يبدأ وتنتهي حياة أحمد زكي كما كنا جميعا نتوقع لكن كنا نتشبث بالأمل. انتهت معاناته الآن مع المرض اللعين. خسارة فادحة للسينما المصرية والعربية دون أدنى شك.. هذا هو شعور كل الحاضرين هنا في تطوان.
* أحمد حسني مدير المهرجان يطلب أن يتحدث معي على انفراد. يخبرني أن علي أبو شادي رئيس المركز القومي للسينما – طلب أن يدعى للمهرجان لمصاحبة الوفد المصري، فأرسلوا له الدعوة، لكنهم فوجئوا به يطالب بضرورة إرسال تذكرة الطائرة على الدرجة الأولى متذرعا بأنه وكيل وزارة، وقال أحمد حسني إن أبو شادي كان عنيفا في حديثه معه، فأضطر إلى تذكيره بأن المهرجان لا يرسل تذاكر على الدرجة الأولى. بعد ذلك عرف أحمد حسني أن أبو شادي أخذ يضغط على السينمائيين والنقاد المصريين لحثهم على إلغاء سفرهم، وقد وصل إلى المهرجان بالفعل اعتذار من ليلى علوي وكذلك من بوسي ومحمود حميدة بل ومحمد خان وغيره، إلا أن جماعة تطوان تمكنوا من شرح الأمر لهم وإقناعهم بالمشاركة في المهرجان، باستثناء حميدة الذي تعلل بأنه مشغول، كما علموا أن أبو شادي أرسل أيضا للسفارة المصرية في الرباط يتنصل من مسؤوليته عن الوفد المصري والأفلام، ودفع السفارة لإرسال "فاكس" تطالب بتذاكر درجة أولى لكل أعضاء الوفد وإلا قاطعت مصر المهرجان!
أضاف أحمد حسني أنه اتصل غاضبا بعلي أبو شادي وقال له إنه إذا كان من حقه ألا يحضر إلا أنه ليس من حقه على الإطلاق تحريض الآخرين على مقاطعة المهرجان، وسأله: لماذا لا تدفع لك وزارته فرق السعر!
وقد انتهت الأزمة وأعلنت ليلى علوي أنها ستحضر غدا الاثنين، ثم سيحضر أيضا هاني سلامة ثم هند صبري في الختام. أما علي أبو شادي فلم يحضر.

* "فيلم "الجدار" تسجيلي كلاسيكي لكنه شديد التعاطف مع القضية الفلسطينية. لا بأس إذن.
* سعدت جدا بوجود الناقد الصديق صلاح هاشم المقيم في باريس والذي لم أره منذ لقائنا في مهرجان كان 2003. صلاح لا يزال يحتفظ بحماسه للسينما الجميلة، وحرارته التي تجعلني أغفر له هفواته الصغيرة دائما، وهي بالفعل صغيرة، فهو يعدك بأمر ما ثم قد يختفي عنك سنوات فتظن أنه يقاطعك لأمر ما، ثم تلتقيه فتكتشف أنه كما هو ببراءة الأطفال.. فقط هذا تكوينه كفنان أصلا.
* فيلم "الأمير" التونسي للمخرج محمد زرن فيلم جديد قديم. جديد بمعنى أنه يحاول "تطبيع" السينما التونسية مع الرومانسية، وقديم لأنه لا يضيف شيئا إلى التراث الرومانسي القديم.

اليوم الثالث الاثنين 28 مارس:
* في المكتب الصحفي: العادة العربية المزمنة واضحة.. إهمال تام للخدمات الصحافة والاتصالات لحساب حفلات الطعام.
* مشوار طويل عريض من السينما إلى المطعم في الغذاء، ونذهب و"نعيش" في المطعم إلى أن تلقي بنا الحافلات مرة أخرى في وسط المدينة أمام السينما. وهكذا إلى ما بعد منتصف الليل.
* أتذكر أنني أيضا عضو في لجنة تحكيم النقاد المكونة من خمسة نقاد من مصر والمغرب وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا. لكن الايطالي أمبرتو روسو لم يحضر بسبب إجراء عملية جراحية له، والناقدة الأسبانية لن تستمر حتى الختام، ومنسق اللجنة غير متفرغ، لذا فشلنا حتى الآن في عقد اجتماع تمهيدي، بل اكتفيت بتبادل الرأي مع الناقد المغربي.
طلب مني أحمد حسني قبل فترة طويلة من انعقاد المهرجان- تقديم ندوة عن المشهد الحالي للنقد السينمائي العربي، أقارن فيها بين ما عرضته قبل عشر سنوات في ندوة مشابهة، وما هو قائم اليوم. لكن المشكلة أنهم لم يعلنوا عن الندوة، لا في الكتالوج ولا في البرنامج.
نبهت أحمد حسني لهذه المشكلة متسائلا عما إذا كانت قد ألغيت فربما يكون هذا أكثر وضوحا. أحمد - الذي يبدو كالمسحور - أصر على أن الندوة قائمة وأنهم سيخبروني بموعدها في أقرب وقت!
* عرض فيلم "بحب السيما" في المساء بحضور بطلته ليلى علوي التي تستقبل استقبالا هائلا حقا مع المخرج أسامة فوزي. ترحيب علني قبل عرض الفيلم بمعظم أعضاء الوفد المصري.
نجح عرض الفيلم الذي يعتبر أحد أهم ما قدمته السينما المصرية في السنوات الأخيرة.
اليوم الرابع الثلاثاء 29 مارس:
* الناقد خليل الدمون رئيس جمعية نقاد السينما في المغرب وهو صديق قديم أيضا، موجود وحاضر من خلال مجلة "سينما" التي يصدرها مع الصديق أيت عمر المختار وآخرين عن الجمعية وبدعم من المركز المغربي للسينما باللغتين العربية والفرنسية. وهي مجلة ممتازة الطباعة وليست كراسة متواضعة مثل مجلة "السينما الجديدة" التي كنا نكافح لإصدارها وقت رئاستي لجميعة نقاد السينما المصريين.
* الناقدة الأسبانية تقول لي أنها تفضل منح جائزة النقاد لفيلم عربي، تشجيعا لسينما في حاجة إلى تشجيع. نتفق معها على ذلك.
* مناقشة فيلم "بحب السيما" في ندوة عامة تبدأ على استحياء كالعادة. يتكلم بعض الصحفيين من المغرب. يركزون على الطابع "المسيحي" للفيلم –كما يقولون- وعلى نقده للكنيسة. أسامة فوزي يحاول الرد. ليلى علوى تتكلم كلاما جميلا أيضا لكنها تشير إلى فكرة العالمية وإلى أننا لا نقل عالمية عن غيرنا. أقرر أن أتكلم فأقول إن الفيلم لا يتناول موضوعا دينيا بل فكرة القهر والحرية من خلال عدد من الثنائيات في بناء متعدد المستويات. أتحدث بانفعال حقيقي وأنفى المفهوم السائد للعالمية: تستطيع أن تكون عالميا إذا نجحت في غزو شبكات التوزيع في السوق الأمريكية (أكثر من 20 ألف دار للعرض).
* أحمد حسني مدير المهرجان يخبرني أن الندوة "الموعودة" ستنعقد غدا في الثانية عشرة وأنهم أعلنوا عنها.
* فيلم "ليلة حب" لسعد هنداوي يثير الأسى والحسرة. هذا مخرج كان يبشر بتفجر موهبة لا تقبل المساومة لكنه يقبل صنع عمل أقرب إلى "الفيديو كليب" لكي يصبح مخرجا للأفلام الروائية الطويلة. فيلم من أفلام الوجبات السريعة "تيك أواي" بكل أسف، غير أنني لا أستطيع أن أمنع تعاطفي مع سعد. قسوة الظروف، والسينما ليست وحدها التي تدهورت. في مناخ آخر يمكن أن يجد سعد هنداوي نفسه بالتأكيد، أما المناخ الفاسد الحالي فنحن جميعا في انتظار أن يرحل الكابوس عن القصر!
* حديث طويل عن السينما المصرية وأزماتها المزمنة مع ليلى علوي وسعد هنداوي في بهو الفندق. ليلى تقول إن كلامي في ندوة "بحب السيما" غير مسار الندوة بالكامل. أنجح في إثارة شهيتها لحضور ندوة النقد السينمائي غدا.

اليوم الخامس: الأربعاء 30 مارس:
* ندوة النقد تتأخر ساعة كاملة بسبب انشغال القاعة. أصعد إلى المنصة وأقول ساخرا إن العالم العربي يعيش "أزهى عصوره" ولذا فقد تأخرت الندوة ساعة فقط ولم تلغ تماما ويتم طردنا من هنا، وعلينا بالتالي أن نكون شاكرين. لست واثقا تماما أن السخرية التي تحملها الكلمات قد وصلت إلى الجميع حقا!
لم يحضر أكثر من نصف الصحفيين والنقاد المصريين، بل ولا حتى محمد خان والقليوبي، وهو أمر لم يدهشني على الإطلاق فقد فضلوا الذهاب للتسوق. وهو أمر يحدث دائما في أحسن المهرجانات!
* حضر - باهتمام شديد - فوزي سليمان وسعد هنداوي وصلاح هاشم، كما حضر الصحفي أشرف بيومي.
فجأتني ليلى علوي وحضرت فعلا بعد بداية الندوة بقليل وظلت حتى النهاية. غريب أن النجمة تحضر ويغيب "المثقفون" أو ليس غريبا!
خضت في قضايا النقد والصحافة والتوزيع وأكدت على أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني المستقلة، وأهمية التكنولوجيا الجديدة في تقدم السينما (الكاميرات الرقمية، والنقد عبر الانترنت).
* أكثر الأسئلة صعوبة سؤال يتعلق بسلطة الناقد. قلت إنني لا أحب كلمة سلطة. أفضل مسؤولية. ربما تكون السلطة في القدرة على دفع الناس لمشاهدة فيلم والاعراض عن فيلم آخر، وهو ما لا يتوفر لأي ناقد عربي حتى الآن.. ربما لحسن الحظ أيضا وإلا لأصبح البعض ممن يجيدون استغلال هذه "السلطة من أصحاب الملايين!
* أثار ما أعلنته في الندوة من تحد للحكومات العربية أن تعلن عن خطة حقيقية لبناء "سينماتيك" دهشة الحاضرين.
* فيلم "أحلى الأوقات" مصنوع برقة وبلمسة خاصة ومن خلال سيناريو محكم، إلا أنني كنت أتمنى أن تتمكن مخرجته الموهوبة هالة خليل من التوقف في لحظات للصمت لكي تتيح لنا بعض لحظات للتأمل خلال المتابعة اللاهثة لمصائر الشخصيات الثلاث الرئيسية.

اليوم السادس: الخميس 31 مارس:
* صلاح هاشم أصر على ضرورة إجراء مقابلة صحفية صاخبة وطويلة معي للمرة الأولى في تاريخ علاقتنا في ضوء تصريحاتي المدوية في ندوة النقد. صلاح يبدو شديد الحماس.. هل يستمر حماسه طويلا أم يفتر كعادته بعد أن نفترق!
* تكريم المخرج محمد خان. محمد ينتهز الفرصة لكي يحول التكريم إلى تأبين لصديقه أحمد زكي بطل ستة من أفلامه. لمسة إنسانية جميلة ومؤثرة.
* أتفق مع الناقد المغربي نجيب الرفايف على ترشيح "بحب السيما" و"طرفاية أو باب البحر" المغربي لجائزة النقاد. الاسبانية ماريا لوس رشحت "طرفاية" و"معارك حب". أما الناقد الفرنسي ميشيل سيرسو فقد رشح فيلمين أوروبيين وهجر الأفلام العربية. "طرفاية" يكسب بالأغلبية إذن وهو يستحق بالفعل!
* أذهب لمشاهدة فيلم "كليفتي" لمحمد خان لكني أجده (أي خان طبعا وليس كليفتي) واقفا على باب دار الثقافة التي يفترض أن يعرض فيها الفيلم. لقد فشل المنظمون في العثور على جهاز عرض من نوع ديجيتال فيديو عرض الفيلم. محمد ليس ساخطا، بل هو قلق أكثر على زوجته التي تأخرت عن موعدها معه. أنتظر معه. ألتقي بمندوبة مهرجان مونبلييه الفرنسي. لقد جاءت أيضا لمشاهدة الفيلم. أسألها: هل يحدث لديكم أمر مشابه لما حدث الآن مع فيلم محمد خان؟ تنفي ببساطة. أعود لسؤالها: ولماذا؟ لا تعرف بم تجيب، ربما شعورا منها بالحرج. أقول لها إن السبب ربما يرجع إلى أنهم يعيشون في"شمال المتوسط" بينما نعيش نحن في جنوبه، العيب إذن في البحر المتوسط الذي يفرق بيننا وبينهم، واسألها ما رأيك في اختفاء المتوسط؟ ترد ضاحكة إنها تفضل بقاء المتوسط. لديها كل الحق بكل تأكيد!

اليوم السابع: الجمعة 1 أبريل:
* جولة مع القليوبي في الحي القديم من تطوان. نفس الأزقة والطرق الملتوية المبلطة والمنازل المتلاصقة والدكاكين الضيقة التي تستطيع أن تتكهن بأنها تؤدي إلى البيوت من الخلف. شاهدت نفس المعمار في أصفهان ودمشق وفي الجزائر وتونس والرباط. لم يشيد الأوروبيون شيئا مشابها إلا في فينيسيا. القليوبي رأيه أن هذا التصميم قصد منه تسهيل الدفاع عن المدن.
*على طعام الغذاء تحضر الممثلة المتألقة هند صبري التي وصلت من القاهرة اليوم لحضور الختام.
* حفل الختام: يتصف كالعادة بالطول والاستطرادات وكلمات المسؤولين الكثيرة المليئة بالشعارات. وزير الإعلام المغربي يتعهد في كلمته بتأسيس معهد للسينما في تطوان.
يبدأ تقديم لجنة التحكيم على المسرح. أفاجا بأنهم ينزلون بسرعة. ومن سيوزع الجوائز؟ انتظر وسترى.
ينادون على هاني سلامة الذي غادر تطوان عائدا للقاهرة لتقديم جائزة ما. وينادون على محمد خان مرتين. ولدهشتي ينادون علي للصعود إلى المنصة مع أعضاء لجنة تحكيم النقاد لا لتقديم جائزتنا بل للفرجة على الناس وإتاحة الفرصة للناس لكي يتفرجوا علينا.
* نفس الأخطاء المعتادة في المهرجانات التي تقام في "جنوب المتوسط" (إذا استدعينا تعبير عبد الرحمن منيف): اعلان الجوائز كتب بالفرنسية دون العربية وتعلثمت ليلى علوي ومحمد خان في القراءة، والرقص البلدي الشعبي بدون داع في مهرجان سينما، وبينما يتعرف كل الحاضرين في المسرح الجميل على هند صبري التي تجلس أمامي ، لا يتعرف عليها مقدما الحفل ولا منظمو المهرجان، لذلك لا يطلب منها الصعود على المسرح لتحية الجمهور أو لتقديم إحدى الجوائز.. لماذا دعوها للحضور إذن؟
* المفاجأة فوز الفيلم المغربي "الذاكرة المعتقلة" بالجائزة الكبرى، وخروج "بحب السيما" من المولد بلا حمص رغم مستواه الفني الذي لا شك فيه.
* المفاجأة الثانية هي أن لجنة التحكيم تمنح جائزة التمثيل النسائي لممثلة فرنسية بدلا من أن تحصل عليها ليلى علوي الحاضرة بقوة: في الفيلم وفي المهرجان، في حين تمنح اللجنة محمود حميدة جائزة أفضل ممثل عن دوره في "بحب السيما" وهو الذي غاب عن الحضور.
* أشعر بالأسف لأسامة فوزي. لقد سبق أن خرج من قرطاج أيضا دون الجائزة التي يستحقها. وقد فاز "الذاكرة المعتقلة" أيضا بجائزتي الشباب ودون كيشوت، وهو ما جعلني أداعب أصدقاءنا المغاربة بقولي: جوائزنا عادت إلينا.. أليس كذلك!
* أجمل ما في حفل الختام ذلك العرض الجميل الذي صاحبه العزف الحي الجميل من نصير شمة – لصور ولقطات من حياة وأعمال الراحل أحمد زكي، وكان ينبغي الاكتفاء بذلك وشطب كل الخطب الرنانة وتقديم المسؤولين وغير ذلك من تفاهات المهرجانات العربية "الفولكلورية".
* انتهى إذن المهرجان، وعلينا الآن أن نحتفل بالفائزين ونفرح معهم في قاعة حفل العشاء الكبير الذي أقيم في نهاية الليلة وامتد حتى الثانية صباحا أو بعد ذلك.
وعلينا أيضا أن نقنع أنفسنا بأن المهرجان نجح وأصبحت السينما العربية في طريقها إلى العالمية.
* في اليوم التالي. معاناة ما بعدها معاناة في انتظار الحافلة التي ستقل الوفد المصري إلى مطار طنجة. لا تأتي إلا متأخرة كثيرا. طائرتي أنا بعدهم بثلاث ساعات تقريبا فلماذا اذهب معهم. أكدت على القائمين على المهرجان أكثر من مرة ضرورة ارسال سيارة (المطار على بعد ساعة ونصف من الفندق). غادرت حافلة الوفد المصري مكتظة لا مكان فيها لليلى علوي ولا لبوسي أو اسامة محمد فحملهم السفير المصري معه في سيارته وغامر في الطريق اسلحلي في صبيحة ممطرة.
* السيارة التي يفترض أن تنقلني لم تأت. وبعد تحطيم أعصاب وعشرات المكالنات التليفونية التي لا يرد عليها أحد فأصحاب مهرجان تطوان أرهقهم التعب فاستغرقوا في نوم عميق ونسوا امر ضيوفهم.
* وصل أخيرا الأخ محمد ضياء السوري مسؤول العلاقات العامة في المهرجان لاصطحابي بسيارته. أخبرني الخبر المشؤوم أن سيارة السفير سقطت في هوة جبلية وعرة وأصيبت بوسي اصابات شديدة وكذلك ليلى علوي واسامة فوزي إلا أنهم جميعا نجوا بأعجوبة من موت محقق!
* نصل إلى المطار متأخرين بعد أن تكون الطائرة قد أقلعت إلى لندن. تكون النتيجة أن أعود لقضاء ليلة سيئة في طنجة ثم أستقل طائرة في الصباح الباكر إلى الدار البيضاء لاجلس لمدة 7 ساعات فوق مقعد في المطار حتى تقلع طائرة أخرى من الدار البيضاء إلى لندن. رحلة الأهوال التي لن تعود أبدا..
ألم أقل لكم أن العالم العربي يعيش حقا أزهى عصوره!

السبت، 4 أكتوبر 2008

"قلوب في دوامة" وتأملات في السينما والحياة




الماضي في مواجهة الحاضر وثنائية الأب - الإبن، والحب - الكراهية

تحفة إيليا كازان وكيف ساهمت في تشكيل الوعي بالسينما والعالم


قبل فيلم "الترتيب" The Arrangement لم تكن السينما واردة في ذهني بوضوح كاف. كانت مجرد فكرة أو مجموعة أفكار نظرية وجمالية ترتبط بعدد قليل من الأفلام التي كانت تعرض بين وقت وآخر في دور العرض القاهرية أو كنا نقرأ عنها في مجلة "السينما والمسرح".
كانت دور العرض قد شهدت موجة من الأفلام الجديدة في عهد مدير الرقابة مصطفى درويش مثل "انفجار" Blow Up لأنطونيوني الايطالي، و"زوربا اليوناني"لكاكويانيس اليوناني، و"الحياة للحياة" لكلود ليلوش الفرنسي، و"الخريج" لمايك نيكولز الأمريكي، و"قابلت الغجر السعداء" لألكسندر بتروفيتش اليوغسلافي . وكان هناك انفتاح واضح على السينما الأوروبية في تجاربها الفنية الجيدة. وكان نادي القاهرة للسينما قد بدأ أيضا في عرض أفلام مختلفة تماما عما اعتدنا مشاهدته ونحن أطفال مثل أفلام رعاة البقر وأفلام المعارك الحربية والمغامرات مثل "معركة آلامو" و"ريو برافو" و"ثورة على السفينة باونتي".
كانت أفلام نادي السينما في بداياته تأتي في معظمها من بلدان أوروبا الشرقية مثل الاتحاد السوفيتي والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، بحكم النشاط المكثف لمراكزها الثقافية في القاهرة، والاتفاقيات الثقافية التي كانت مصر قد وقعتها مع تلك البلدان. وقد بهرنا جميعا في ذلك الوقت، على سبيل المثال، بالفيلم التشيكي "ماركيتا لازاروفا" Marketa Lazarova برؤيته البصرية المدهشة وطابعه الملحمي وجرأته في استخدام الجسد البشري في التعبير وغير ذلك من العناصر الفنية التي لم يكن من السهل بالنسبة لشاب في مقتبل العمر مثلي أن يجد لها تفسيرا شاملا.


جيل الغضب

كنت في ذلك الوقت في بدايات الدراسة الجامعية، وكنت مشغولا مع أبناء جيلي، بالقراءة والبحث والتمرد وبفكرة التغيير، تغيير العالم بالسينما، أو تغيير السينما نفسها كمقدمة لتغيير العالم. وكانت فكرة التغيير ملحة بعد صدمة هزيمة 1967 التي أفاقتنا من الحلم الوردي الجميل المخدر بمجتمع القوة ودولة التفوق التي أطاحت بدول كبرى في 1956 وجعلتها "دولا من الدرجة الثانية ومن الدرجة الثالثة" حسب تعبير الرئيس جمال عبد الناصر الشهير.
كنا نتاجا بشكل ما، لتيار الغضب والتمرد الذي أعلن عن نفسه بوضوح في 1968، وكان عاما شهد فيه العالم باسره أحداثا صاخبة، وشهدت فيه مصر للمرة الأولى منذ يوليو 52 مظاهرات عارمة تعلن غضب الشباب ثم العمال على ما حل بالبلد بعد أن انكشف الغطاء وانفضح ما كان يرقد تحت السطح من عفن وجمود وغش وانتهازية، لعل يوسف شاهين عبر عنها أفضل تعبير في فيلمه "العصفور" الذي كتبه لطفي الخولي. وكانت السينما المصرية أيضا تمر بفترة تحول، من القديم إلى الجديد، من التسلية المطلقة الفارغة إلى الحديث بجرأة وشجاعة عن الكثير من الظواهر السلبية في حياتنا بصراحة للمرة الأولى منذ أن وعينا عليها.

اكتشاف الفيلم
غير أن ظهور فيلم "الترتيب" كان له عندي تأثير آخر أكثر قوة من تأثير اكتشاف السينما نفسها في بدايات الطفولة، فقد كان الفيلم اكتشافا للعلاقة بين الذات والعالم، الحلم والواقع، التعبير الحميمي عن النفس، والتعبير القاسي عن رفض السائد. وكان قبل هذا كله، اكتشافا للغة جديدة للسينما، مدهشة ومبهرة ومثيرة للعقل والخيال إلى أقصى درجة. وقد جاء الفيلم الذي انتج عام 1969 إلى مصر وعرض للمرة الأولى عام 1970 تحت اسم "قلوب في دوامة". ولم يستمر عرضه طويلا في دار سينما راديو التي كانت تعرضه من توزيع شركة وورنر على ما أتذكر، فقد ذهبت فيما بعد إلى مقر الشركة لاستئجار الفيلم لكي أعرضه في نادي السينما بكلية الطب الذي أسسته وأدرته عام 1971.
كان "الترتيب" (أو ترتيب الأمور) من بطولة نجم أمريكي شهير هو كيرك دوجلاس الذي كان اسمه محفورا في الذاكرة منذ سنوات الطفولة، منذ أن شاهدناه في دور سبارتاكوس في الفيلم الشهير. وكان معه في الفيلم ديبرا كير وفاي دوناواي وريتشارد بون. ودوناواي كانت ممثلة جديدة وقتها، وكانت قد لفتت الأنظار بقوة في دور بوني في الفيلم الشهير "بوني وكلايد" عام 1967.

إيليا كازان
وكان المخرج إيليا كازان، وهو من أصل يوناني، هو مخرج هذا الفيلم، وكنت قد شاهدت له فيلما آخر وأنا طفل ولم أعرف قيمته وأهميته وأنه من اخراج ايليا كازان إلا بعد أن كبرت وأصبحت أقرأ وأطلع، وهو فيلم "أمريكا.. أمريكا" (أو ابتسامة الأناضول) من عام 1963. وكان مصورا بالأبيض والأسود في صورة بديعة. وقد بذلت قبل فترة جهدا كبيرا في البحث عن هذا الفيلم، إلى أن تمكنت من الحصول على نسخة رقمية نادرة منه (DVD) استوردتها من الولايات المتحدة ولا أظن أنها متوفرة حاليا، وشاهدته وكم دهشت من حيويته الشديدة ورونقه الخاص.
المهم أن كازان الذي هاجر من شرق تركيا (وهو كما ذكرت يوناني الأصل) كان يروي في فيلمه هذا جانبا من حياته. وقد تلطخت سمعة كازان خلال فترة معينة بعد أن تحول إلى شاهد على رفاقه في الحزب الشيوعي الأمريكي خلال حقبة التفتيش ومحاكمات الفكر التي عرفتها الولايات المتحدة وهوليوود بوجه خاص في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي وارتبطت بالسيناتور اليميني جوزيف مكارثي الذي قاد الحملة وقتها ضد اليساريين، ورأس ما عرف باسم "لجنة النشاط المعادي" او "غير الأمريكي" في زمن الحرب الباردة وعرفت بـ"المكارثية" نسبة إليه، وهي حملة انتقلت بشكل معدل، إلى مصر في زمن السادات في السبعينيات.

لقطة من فيلم "امريكا.. أمريكا"

نعود إلى فيلمنا هذا الذي شاهدته بعد ظهر يوم في قاعة سينما راديو بوسط القاهرة وقت أن كانت بحق قاعة يمكن التباهي بها ومقارنتها مع أرقى دور العرض في العالم، وقبل تقطيع أوصالها وتحويلها إلى مسرح لم ادخله في حياتي، ودار سينما صغيرة منكمشة تجعلك تخرج وأنت تعاني من تصلب في عضلات الساقين!
العقل والخيال
وقد غادرت سينما راديو الجميلة وأنا في حالة صدمة جميلة ، فقد اكتشفت السينما يومها.. السينما الحقيقية التي تثير العقل والخيال، وأخذت أتساءل: كيف أمكن لإيليا كازان ذلك المخرج الذي أتى أساسا من المسرح، أن يصنع هذا الفيلم الذي ينحت لغة سينمائية جديدة تماما على هوليود تحديدا، وعلى الفيلم الأمريكي عموما، ومن خلال امكانيات الإنتاج الكبير وليس في نطاق السينما التجريبية أو سينما "تحت الأرض" التي عرفتها مدينة نيويورك في ذلك الوقت. لكن كان هناك بالتأكيد تاثير سينما "الأندرجروند" كما كان هناك تأثير السينما الأوروبية التي سعت هوليوود وقتذاك لاستقطاب الكثير من مخرجيها مثل أنطونيوني وروسيلليني فيما كان قد غادرها بسبب الحملة المكارثية سينمائيون عظماء قضوا باقي حياتهم في أوروبا إلى حين وفاتهم مثل جوزيف لوزي وجول داسان وشارلي شابلن وغيرهم، وكانوا ضمن "القائمة السوداء".

حملت تساؤلاتي وعدت لمشاهدة الفيلم مرة ثانية في عرض السادسة مساء في اليوم نفسه، وخرجت بانطباعات وأفكار وتساؤلات أكثر وأكثر، فهل كان ما يشدني إلى هذا الفيلم أسلوبه الطليعي المتقدم والمختلف تماما مع السينما الأمريكية السائدة، أم أن فيه أيضا اشياء أخرى قريبة من نفسي ومن خيالي الشخصي؟

ملصق فيلم "امريكا.. أمريكا"

الفرد والمجتمع
يناقش الفيلم، وهو مستمد من رواية لإيليا كازان فيها قدر لا بأس به من "السيرة الذاتية"، العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الرجل والمرأة (الزوجة من ناحية، والعشيقة من ناحية أخرى)، كما يعود إلى طفولة البطل وعلاقته بوالده وأمه وعمه وشقيقته، خاصة وأنه ينتمي لأسرة من المهاجرين من الشرق (يونانيون من تركيا). ويجسد السيناريو أزمة بطله (إيدي أندرسون) الذي يقوم بدوره كيرك دوجلاس من المشهد الأول في الفيلم قبل نزول العناوين، حيث نرى إيدي وهو أمام عجلة القيادة يقود سيارته في طريق سريع يمتلئ بالسيارات المسرعة، وهو يبتسم في سخرية ولامبالاة ثم ينحرف فجأة بعجلة القيادة لكي يصطدم بالشاحنة الضخمة التي تسير إلى جواره. إنه يرغب بوضوح في الخلاص من حياته، والأسباب كثيرة ونعرفها على مدار الفيلم.

إنه مدير ناجح للدعاية في إحدى شركات السجائر الأمريكية الكبرى، لكنه غير سعيد في مهنته بل كان يود لو اتخذت حياته مسارا آخر، فهو يمارس الكذب يوميا في الدعاية لسلعة لا يرى أن لها أي قيمة حقيقية في حياة الانسان بل على العكس، ولكنه مضطر للتفنن في الترويج لها إلى أن أصبح في نظر رؤسائه رجلا لا يمكن الاستغناء عنه. لقد بلغ قمة النجاح بالمفوم الاستهلاكي الأمريكي: أصبح ثريا، لديه منزل كبير فخم وآخر ريفي، متزوج من امرأة ثرية من الطبقة الوسطى، هي "فلورنس" لكنه لا يشعر معها بالسعادة فهي جزء من "الديكور" الاجتماعي المطلوب. ولذلك يهرب باستمرار إلى "جوين" (فاي دوناواي) الشابة الممتلئة بالحيوية والحياة والحب والتي تفهمه أكثر وتشعر بعذابه الداخلي. إن كل ما يشغل الزوجة هو تحقيق الصعود المادي والحياة المترفة في مجتمع لا يعترف إلا بالأقوياء الذين يستندون إلى أسس مادية صلبة. أما جوين فهي لا تريد إلا الحب والاطمئنان والسعادة لكنها اضطرت لقطع علاقتها معه لأنه حائر لا يستطيع أن يحسم أمره، وأقامت علاقة مع رجل آخر لا تحبه بقدر ما تريده سترا لطفلها غير الشرعي الذي لا تعرف ما إذا كانت قد أنجبته من "إيدي" أم من الرجل الآخر!
لا ينجح إيدي في الهروب من حياته بالانتحار، وتقنعه جوين باستئناف عمله في الشركة، فيعود ولكن بعقلية أخرى، يسيطر عليها الرغبة في التدمير، مما يؤدي إلى أن تخسر الشركة بسبب لامبالاته الملايين. إنه يبدو كما لو كان يحقق انتقامه الشخصي من تلك الشركة التي تسيطر عليه وتأكل روحه. ربما كان في داخله شخص آخر يريد أن يتحرر وأن يحتضن العالم، فنان بوهيمي منطلق يعانق الطبيعة والبشر، ويبتعد عن أجواء النفاق والرسميات والمغالاة في إدعاء النجاح والتفوق بالمفهوم المادي. وربما كان الدافع يكمن في طفولته القاسية كإبن لأسرة مهاجرة، تعرض لضغوط كثيرة من اجل دفعه دفعا إلى النجاح، فالنجاح في المهجر ضرورة لمن يريد البقاء وسط مجتمع الأقوياء الذي لا يرحم الغرباء وخصوصا الفاشلين منهم.

حب- كراهية
تدريجيا يكشف لنا السيناريو المركب للفيلم، من خلال مشاهد العودة إلى الماضي، كيف كانت علاقة إيدي بوالده الذي كان يقسو عليه ويضربه دافعا اياه إلى النجاح: إنها علاقة حب وكراهية من أكثر من صورته السينما قوة.. حب طبيعي بين أب يرغب في رؤية ابنه إنسانا ناجحا يحقق ما عجز الأب في شبابه عن تحقيقه، وابن لا يمكنه بحكم كل التقاليد التي تربى عليها، أن يخالف أباه أو يعصيه، وكراهية لأن هذا الأب نفسه لا يريد أن يقترب أبدا من ابنه للتعرف على رغباته الحقيقية، ويرفض الاستجابة لما يحبه، بل يريد أن يخلق منه نموذجا للنجاح طبقا لمفهومه الشخصي: التعليم الراقي والعمل الناجح والوظيفة المرموقة والثروة.


الماضي والحاضر
لحظات المواجهة بين الإبن والأب يقدمها إيليا كازان في لقطات تجمع بين الماضي والحاضر، أي بين زمنين مختلفين في نفس اللقطة، فنحن نرى إيدي الكبير في الزمن المضارع وهو يواجه نفسه شابا يافعا يقف منكس الرأس أمام أبيه في الزمن الماضي في لقطة واحدة. وكان هذا الأسلوب جديدا تماما علينا في ذلك الوقت، وإن لم يكن جديدا على السينما الأوروبية مثلا كما اكتشفنا بعد ذلك في أفلام فيلليني وبرجمان وأنطونيوني وأدركنا أن لغة كازان هنا كانت متأثرة بلغة السينما الأوروبية أي أن ذلك كان "التأثير الأوروبي" على السينما الأمريكية في وقت كانت هوليوود تعاني من مضاعفات مرحلة ما بعد زوال عصر الاستديو أو نهاية الدور الحاسم لمديري الاستديوهات أو شركات الإنتاج الكبيرة في تحديد الشكل النهائي للفيلم، وكانت هوليوود بالتالي ترغب في تجديد شبابها. وقد عاد إيليا كازان نفسه إلى تناول مرحلة "سطوة" مديري الاستديوهات في فيلمه البديع "التايكون الأخير" The Last Tycoon الذي قام ببطولته روبرت دي نيرو عام 1974.

في اللقطات التي نرى فيها إيدي وهو يمارس الجنس مع زوجته كنوع من أداء الواجب، نراه يتخيل أنه يمارس الحب مع عشيقته ينطلق انطلاقا هائلا يجعله يبدو مثل طفل صغير، وأحيانا يتخيل اشياء شبيهة بما نراه في أفلام الرسوم المتحركة، ويستخدم كازان بالفعل لقطات مصورة بتقنية أفلام الرسوم مع وضع كلمات عابثة كالتي تظهر في مجلات الرسوم التي يقرأها الصغار مثل "بوووم... وطاااااااااخ".. وغير ذلك.

إيدي أندرسون يتمادى في تمرده، فيهجر البيت والعمل والأسرة ويذهب إلى والده في المصحة التي يرقد فيها بعد أن تقدم في العمر وأصبح يعاني من أمراض الشيخوخة، وهناك يكتشف أن والده مازال يعيش في وهم أنه يمكن أن يبدأ حياة جديدة، وان يشرع في بدء تجارة تجعله مليونيرا، ويحلم باستيراد السجاد من إيران وبيعه في أمريكا. يستجيب إيدي لأبيه في لحظات حب وصفاء ووفاء وعرفان بالجميل، فيصطحبه خارج تلك المصحة الكئيبة، ويأخذه للإقامة في بيت الأسرة الريفي في لونج أيلاند، وهناك تتداعى الذكريات المريرة من المواجهة بين الأب والإبن.. ونرى كيف كان الأب يعامل إيدي وهو صغير بخشونة وقسوة، وكيف كانت أمه تتستر عليه وتخفي عن الأب ما كان يفعله بعيدا عن الاستجابة لتعليمات والده. لكن الأب رغم ذلك، لايزال يعامل ابنه باعتياره طفلا، يصفعه صفعة مباشرة قوية تجعل الإبن في لحظة انهيار نفسي يعلن للأب في موقف يصرخ بالكثير من المشاعر المتضاربة: "إنني أشعر بالعار لكوني ابنك" وهو أقسي ما يمكن أن يقوله ابن لوالده. هنا تنهار كل مقاومة لدى الأب وتدمع عيناه ويستسلم في لقطة لا تنسى.

رحلة الهروب
يصطحبه إيدي إلى مبنى ناطحة السحاب المعروفة "إمباير ستايت" في نيويورك لكي يسحب أمواله من البنك آملا في بدء تجربته الجديدة، حتى لو كان على عتبات الموت. أما إيدي فإنه يواصل رحلة هروبه من عالمه القديم ولكن بلا جدوى، فسرعان ما تتآمر عليه زوجته وابنته بالتعاون مع محامي الأسرة، ويستصدرون حكما قضائيا بقضي بأنه "غير متوازن عقليا" وبالتالي يصبح مبررا وضعه تحت الوصاية والاستيلاء على ممتلكاته وأمواله. وفي لحظة إحساس بالغضب الشديد والرغبة في الانسلاخ من الماضي بأسره، يشعل إيدي النار في منزل الأسرة، ويتعين عليه بعد ذلك أن يدفع الثمن، فيقنعون السلطات بأنه فقد عقله واصبح خطرا عليهم وعلى المجتمع بأسره، يصدر حكم بوضعه في مصحة للأمراض العقلية حيث يستلقي لساعات طويلة، لا يتحدث إلى أحد، يتأمل فقط فيما يعرض على شاشة التليفزيون من أفلام تسجيلية عن الحيوانات المفترسة وهي تلتهم الحيوانات الوديعة.

الأب يموت.. وجوين تذهب لإقناع إيدي بضرورة الخروج من المصحة وحضور جنازة الأب. وفي الجنازة التي يصورها إيليا كازان في مقبرة تقع وسط تقاطع غابة من الطرق الاسفلتية الشيطانية المتداخلة في ضواحي لوس أنجليس، يدفن الأب، ويشعر إيدي، ربما للمرة الأولى في حياته، بأنه قد اصبح حرا، يمكنه أن يفعل ما يريد، لكننا لا نعرف ماذا سيفعل الآن. هل يعود لاستئناف حياته كما أراد له الآخرون، أم يعود إلى المصحة حيث الصمت الثقيل الأبدي والوحدة المخيفة!
فيلم المؤلف
كان هذا الفيلم بكل تركيبه الشكلي وتعقيداته في السرد، تحديا جديدا ومدهشا في تناول الدراما النفسية الاجتماعية، وايضا نموذجا "كبيرا" في الهجاء السياسي للمجتمع الأمريكي بقيمه الاستهلاكية وتأثيرها المدمر على الفرد. وفي الوقت نفسه كان فيلم "قلوب في دوامة" أو "الترتيب" فيلما نموذجيا في تعبيره عن الاتجاه الذي شاع في أوروبا وفي فرنسا تحديدا لما عرف بـ"سينما المؤلف" التي طرحت كبديل لسينما المخرج المنفذ (أو الصنايعي الحرفي الذي ينفذ سيناريوهات يكتبها آخرون بعيدة عنه وعن اهتماماته وأفكاره الشخصية ورؤيته الخاصة للدنيا من حوله). وكانت تهلمنا في ذلك الوقت كتابات صبحي شفيق وفتحي فرج في مجلة "السينما" في هذا المجال.
فقد كتب إيليا كازان سيناريو فيلمه بنفسه عن روايته، ولا شك أن جانبا أساسيا في الفيلم مستلهم من السيرة الذاتية لإيليا كازان نفسه. وكان هذا أهم كثيرا بالنسبة لي ولأبناء جيلي وقتها، من موقف كازان السياسي الذي شابه بعض الغبار بسبب موقفه أمام لجنة ماكارثي، فقد كنا نرغب في تغيير السينما وجعلها وسيلة للتعبير الذاتي والشخصي عن موقفنا من العالم، وكنا نود الانطلاق من السينما لتغيير العالم نفسه.

شاهد بالفيديو المشهد الأول من فيلم "الترتيب"

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2008

جماعة "السينما الثالثة" والتحليق فوق الواقع

لقطة من الفيلم الكوبي الذي كان يلهمنا "ذكريات التخلف"

* خصوصية النموذج الأمريكي في الحياة والسينما

* محاولة التأسيس لسينما ثورية في مناخ مضاد

بعد فشل محاولة العمل من خلال جماعة "سينما الغد"، جاءت في 1977- 1978 محاولة أخرى لتأسيس كيان سينمائي جديد تماما، يعتمد على أفكارنا ونظرتنا الخاصة في ذلك الوقت، للسينما والعالم. كانت تلك تجربة لم يقدر لها النجاح، مثل تجارب كثيرة خضناها معا في تلك السنوات الحبلى التي أجهضت، من أواخر السبعينيات، لكنها تستحق في تصوري، أن تروى لما لها من مغزى يصب في سياق عالم الثقافة السينمائية والسياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان سائدا في مصر في حقبة معينة. وقد أطلقنا على التجربة اسم "جماعة السينما الثالثة". وكانت متأثرة بفكرة "السينما الثالثة" التي اشتهرت في أوساط مثقفي اليسار في الستينيات في أوروبا وأمريكا.
وقد نشأت الفكرة والتجربة أصلا في أمريكا اللاتينية، وأنتجت تجاربها المبهرة التي وصل بعضها إلينا من خلال العروض التي كانت تنظم، إما داخل بعض المراكز الثقافية الأجنبية، أو خلال أسابيع الأفلام التي كانت تقام بالتعاون بين وزارة الثقافة، وبين دول كانت تعتبر "صديقة" مثل كوبا.
كانت الفكرة "الأصلية"، ثم فكرتنا التي تبنيناها بالكامل وعقدنا جلسات طويلة ومضنية لبحثها ودراستها والاختلاف حولها أيضا، تقوم ببساطة على أن هناك نوعين، أو مدرستين من السينما: هناك أولا السينما التقليدية التي تأتي من قلعة صناعة السينما في الولايات المتحدة أي هوليوود، وتنتشر وتسود وتسيطر على أذواق جمهور السينما في العالم. وهذه السينما تركت تأثيرها الكبير البارز على سينمات أخرى كثيرة في بلدان مختلفة رغم اختلاف الثقافات، مثل السينما الهندية في تيارها العريض مثلا، أو السينما المصرية (ربما حتى الوقت الحالي). فالنموذج الأمريكي مبهر في كل شئ: الصناعة والعلوم والتكنولوجيا والعمارة والاقتصاد، وبالتالي يجب أن تكون السينما الأمريكية (التقليدية) هي السينما الأكبر، والأعظم، والأهم، والنموذج الذي يجب ان يحتذى، وإلا فلن نحقق شيئا. وإذا كان الفيلم الأمريكي قد وصل إلى "العالمية" أي إلى أسواق العالم، فلن نصل مثله إلا إذا تبنينا فكره وأسسه.. هذه الأفكار تسيطر على الكثير من عقول المثقفين منذ بروز أمريكا ككقوة ضخمة بعد الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا.

النموذج الأمريكي
هذه النظرة تعكس انبهارا بالنموذج الأمريكي في الحضارة، رغم أنه نموذج شديد الخصوصية وغير قابل للتكرار في أي مكان آخر من العالم بحكم استحالة توفر نفس الشروط والمعطيات والظروف التاريخية والبشرية وغير ذلك من العوامل التي أدت إلى نشوء أمريكا كظاهرة أو كدولة حديثة "لها خصوصيتها الشديدة".
كان من الكتب المهمة التي تركت تأثيرها الكبير على تفكيري وأنا في مرحلة البحث والسعى إلى المعرفة، كتاب "العرب والنموذج الأمريكي" للدكتور فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس، ورئيس تحرير مجلة ثقافية مهمة قديمة هي مجلة "الفكر المعاصر". وكان الدكتور زكريا يشرح ويحدد بالتفصيل في كتابه هذا، وهو كتاب صغير الحجم، عظيم الفائدة، أسباب انبهار العرب تحديدا بالثقافة والحضارة الأمريكيتين، أو باختصار بالنموذج الأمريكي، ورغبتهم العنيدة بل والمستحيلة، في إعادة إنتاجه وتكراره. وكان يحلل استحالة تحقيق ذلك للأسباب العديدة التي قام بشرحها بإسهاب وقوة في كتابه هذا الذي لايزال يعد مرجعا لا غنى عنه في فهم "الظاهرة الأمريكية".
وكان الدكتور زكريا يشرح ويحلل ويدقق في تبيان كيف أن نشأة أمريكا نفسها، بثرواتها الطبيعة الهائلة، وتركيبتها السكانية، واعتمادها على الاحتكارات الهائلة والمشروع الفردي العملاق بديلا عن الدولة التقليدية، يجعلها نموذجا فريدا في العالم.
وقد عاد الكاتب محمد حسنين هيكل إلى شرح خصوصية أمريكا من زوايا أخرى في كتابه "الإمبراطورية الأمريكية" الذي يقول فيه بالحرف: إن "الولايات المتحدة حالة فريدة من نوعها من حيث النظام السياسي، فهي لم تتشكل كدولة مثل كل الدول، بل كمجموعة ولايات، الكثير منها كان عبارة عن شركات منذ القرن السابع عشر، تحولت الشركة إلى ولاية ووضعت لها قوانينها التي لا تختلف كثيراً عن قوانين الشركة، ثم اتحدت تلك الولايات لتشكل نظاما شق لنفسه تجربة جديدة ليعبر عن مصالح الولايات مجتمعة أو الشركات".
السينما الأولى
السينما الأولى إذن، أو النموذج الأمريكي في السينما هو نموذج له خصوصيته، لأنه يعتمد أولا على سوق هائلة متعددة الشركات، ترتبط معا بشبكة عملاقة من دور العرض السينمائي التي تشمل عددا من القاعات (أو الشاشات المستقلة المنفصلة) يبلغ في الوقت الحالي ما يقرب من أربعين ألف قاعة (38.794 قاعة عرض تحديدا) تمتلكها 10 شبكات كبرى، يبلغ معدل التردد عليها سنويا 1400 مليار تذكرة سينما، وبلغت حصيلة شباك التذاكر 9.629 مليار دولار (حسب إحصائيات عام 2007 التي نشرها الاتحاد الأمريكي لأصحاب دور العرض السينمائي، وهي متوفرة لمن يرغب في الاطلاع عليها).
ثانيا: سوق بهذا الحجم وهذه المداخيل المالية تتعامل مع الفيلم كما تتعامل مع منتج تجاري ضخم، ويمكنها الاستثمار فيه بميزانيات تصل إلى أكثر من 300 مليون دولار أحيانا للفيلم الواحد دون التخلي عن إنتاج أفلام أخرى موازية في خطة الشركات المنتجة، وتستطيع تحقيق النجاح التجاري الذي يكفل الاستمرار في الإنتاج. هذا الحجم من الاستثمارات لا يمكن لأي جهة أخرى في العالم أن تواكبه ناهيك عن أن تنافسه.
ثالثا: لا تكتفي السوق السينمائية الأمريكية فقط باستيعاب الأفلام، بل تستغل صناعة الأفلام لترويج للكثير من السلع الأخرى "الاستكمالية" أو الموازية، مثل الألعاب والدمي، وبرامج الكومبيوتر، وموسيقى الأفلام وأغانيها، والفانلات من نوع "تي شيرت"، والصور والملصقات، والمشروبات الخاصة.. وغير ذلك الكثير من السلع التي يدخل أيضا الإعلان التجاري فيها كاستثمار رئيسي.
رابعا: الفيلم الأمريكي يحقق مكاسبه أساسا من السوق الداخلي، أي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، سواء من التوزيع العام، أو من خلال المئات (إن لم يكن الآلاف حاليا) من محطات التليفزيون وشبكات "الكابل" والشبكات التي توزع عن طريق الانترنت، وبيع اسطوانات الديجيتال المعروفة بـ"الدي في دي" DVD التي حلت محل شرائط الفيديو. وقد أصبحت هذه السلع كلها أخيرا، صناعة ضخمة توازي بشكل ما، صناعة السينما نفسها، وكانت بالتالي أساس الإضراب الشهير للسينمائيين الأمريكيين وخصوصا كتاب السيناريو في أوائل عام 2008، الذين كانوا يطالبون بحصة من مداخيل العروض التي تتم من خلال هذه الوسائل الحديثة التي ظهرت مؤخرا ولم تنعكس في العقود الموقعة معهم بعد.
وأي مكاسب تتحقق للفيلم الأمريكي من الأسواق الخارجية، خاصة في اليابان وأوروبا وأمريكا الجنوبية، تمثل دخلا إضافيا، علما بأن حجم سوق الشرق الأوسط وشمال افريقيا بالنسبة للفيلم الأمريكي لا تتجاوز نسبة ضئيلة للغاية من حجم السوق العالمي، أساسا بسبب ندرة دور العرض السينمائي، وتدني قيمة العملات المحلية في البلدان غير النفطية، وهامشية سوق بلدان الخليج وضعفه الشديد بسبب بنيته السكانية الضعيفة والهجينة أيضا (نسبة كبيرة من الهنود الذين يفضلون مشاهدة الأفلام الهندية).
والسؤال هنا: أمام سوق أمريكية بهذه المواصفات، وبهذه المداخيل، وأمام آلية إنتاجية تتعامل مع الأفلام كما لو كانت تشيد مصانع للإنتاج بالجملة، هل من الممكن تكرار أو منافسة النموذج الأمريكي؟ ومن أين يمكن توفير المواد التي تكفل تحقيق تلك المواصفات؟ وهل يملك الرأسمال المصري، أو الأوروبي، أو حتى الياباني، إمكانيات هوليوود الضخمة: المالية والتكنولوجية والتسويقية التي تكفل له الاستمرار؟
فرناندو سولاناس في 2008

السينما الثانية
كان هذا عن "السينما الأولى" أو الأمريكية. أما "السينما الثانية" فهي السينما الأوروبية أو سينما الفن الرفيع التي تعتمد على رفض نظام النجوم الأمريكي، ورفض اعتبارالمخرج مجرد منفذ أو محرك لمجاميع من المنفذين، وبالتالي رفض فكرة أنه "حرفي" في ورشة، لا يملك ان يعكس على الفيلم "رؤيته" الخاصة، بل إن تجربته الشخصية لا قيمة لها طالما أن الفيلم أساسا، منتج تجاري يخضع لدراسات جدوى، ويراعى فيه تلبية أغراض ومتطلبات سوق ذي مواصفات معنية.

أما المخرج السينمائي في "السينما الثانية" فقد أصبح هو أساس الفيلم، عقله وروحه، واصبح الفيلم نتاجا لفكره ورؤيته مثل الرسام والموسيقار والشاعر، واصبح هو المسؤول عن معظم العمليات الفنية الأساسية: يتدخل في السيناريو إن لم يكتبه من الأصل، ولا يعتمد على أصل أدبي بل يكتب مباشرة للسينما، يتولى الإشراف على المونتاج على عكس ما يحدث في هوليوود حيث يسند المونتاج إلى "حرفيين منفذين" وتنتهي علاقة المخرج بالفيلم مع نهاية التصوير.
كانت هذه التقاليد سارية، على الأقل، عند ظهور فكرة "السينما الثالثة" في الستينيات. ولاشك أن هوليوود تطورت ولم تعد تعامل "كبار" مبدعيها طبقا للسياسة القديمة التي كانت تتبعها الاستديوهات الكبيرة، إلا أن نظام تقسيم العمل الصارم، ونظام "الأنواع" genres أي تقسيم الأفلام إلى أنواع لها مواصفات محددة يخضع الإنتاج لها ويلبيها ولا يمكن الخروج عنها في "شطحات" فلسفية وسرد غير مقولب لا يزال يحكم "فلسفة" هوليوود الإنتاجية. هذه التقيسمات أو التصنيفات تدور عادة حول تسميات مثل "الفيلم الحربي" و"الفيلم التاريخي" و"الفيلم العاطفي" وفيلم "الدراما الاجتماعية".. إلخ
بيان السينما الثالثة
استندت "السينما الثالثة" التي ظهرت في أمريكا اللاتينية، في مناخ ثوري شديد الاختلاف عن المناخ السينمائي الشائع في الغرب، على رفض النموذجين السابقين: رفض النموذج الأول بدعوى أنه "نموذج للتسلية بهدف تحقيق الأرباح" يتوجه إلى جمهور سلبي من خلال قصص هروبية. وفي زاوية أخرى سياسية منه، نظر إليه باعتباره نموذجا للسينما "الكولونيالية" التي تكرس عبودية الإنسان للمال والكسب بأي ثمن ، وتبرر السيطرة والاستغلال والتوسع واستيلاء الكبير على ممتلكات الصغير. أما النموذج الثاني فقد رفضته السينما الثالثة باعتبار أنه يعلي من شأن التعبير الذاتي الفردي سعيا وراء خلق نموذج "بورجوازي" للسينما الفنية.

الصورة: فرناندو سولاناس في السيتنيات وكان وراء فكرة السينما الثالثة اثنان من السينمائيين من الأرجنتين هما فرناندو سولاناس وأوكتافيو جتينو. وهما اللذان نشرا ما اعتبر "مانيفستو" أو"بيان السينما الثالثة" في الستينيات تحت عنوان "نحو سينما ثالثة". وقد صدروه بعبارة مقتبسة من فرانز فانون تقول "يجب أن نناقش، يجب أن نبتكر". وقد رفضا في بيانهما كلا من السينما الهروبية (الأمريكية) وسينما الفن الأوروبية التي تقوم على التعبير الذاتي، وطرحا في مقابلهما سينما جديدة تقوم على تصوير تجارب الوعي الجمعي المشترك، وتعرية الحقائق والتحريض على رفض الواقع والسعي إلى تغييره.

الصورة: أوكتافيو جتينو
وقد دعا بيان "السينما الثالثة" أيضا إلى ضرورة خلق نظام جديد لتوزيع الأفلام وعرضها، يتخلص من الشبكات التقليدية في المدن، ويعتمد على المبادرات الجماعية وعلى البحث عن وسائل جديدة للعرض في الكنائس والمصانع والساحات الشعبية في القرى، وإشراك الجمهور في المخاطرة بحماية الأفلام التي يتم تهريبها خارج نظام الرقابة بإخراجها من دائرة العرض التقليدية.

(ملحوظة: بيان السينما الثالثة والبحث في جمالياتها منشور كاملا في كتاب "أفلام ومناهج" لبيل نيكولز الذي ترجمه حسين بيومي وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في 3 أجزاء).
ولكن ربما يكون مناسبا هنا أن أوضح ايضا أن السينما الثالثة ليس تعبيرا "جغرافيا" أي أنها ليست مرادفا لسينما العالم اللثلث، فقد توجد أفلام السينما الأولى في دول تنتمي إلى العالم الثالث، وقد توجد أفلام تنتمي للسنيما الثالثة في العالم الأول، والأمثلة كثيرة بالطبع. ولعل النموذج الأبرز الذي يأتي إلى ذهني الآن فيلما يتعلق بنماذج السينما الثالثة في مصر مثلا الأفلام التسجيلية الجريئة التي صنعتها عطيات الأبنودي. لكن يتعين الاستدراك بأن السينما الثالثة ليست سينما تسجيلية فقط بل وروائية بشكل أساسي.

السينما الجديدة
في مصر كانت "جماعة السينما الجديدة" التي تأسست في أواخر الستينيات، انعكاسا لمطالب أجيال من السينمائيين الذين درسوا السينما في معهد القاهرة للسينما وخرجوا لا يجدون فرصة للعمل. وكانت أيضا تلبية لطموحات عدد من هؤلاء ومن غيرهم الذين جاءوا من التليفزيون وغيره، يريدون تقديم أشكال جديدة وتجارب تتحرر من سطوة النجوم ومن تدخل المنتجين في الفيلم وتحديد عناصره. وكانت "السينما الجديدة" بهذا المعنى إلحاحا مهنيا من ناحية، ومحصلة، من ناحية أخرى، لعصر من الثقافة السينمائية انفتح كثيرا على التجارب السينمائية الجديدة في العالم مثل الموجة الجديدة في فرنسا، والسينما الحرة في بريطانيا، وسينما ألأندرجروند في الولايات المتحدة، وتجارب سينما أوروبا الشرقية.
وكانت تلك تجربتهم، وكان ذلك إسهامهم. أما نحن فلم نكن قد لحقنا بالسينما الجديدة التي حدث لها ما حدث للـ "الموجة الجديدة". فبعد التغيرات السياسية التي شهدتها مصر خلال السبعينيات، استوعب النظام السينمائي معظم فرسان السينما الجديدة الذي بدأوا بحماس في "تجديد" و"تلميع" السينما القديمة، فالتحق زعيم الجماعة محمد راضي مثلا بالآلية الإنتاجية للسينما "القديمة "، والتحق معه عدد كبير من فرسان الجماعة بعد أن تغير العصر ولم يعد على ما كان عليه، وانتهت تجربة مؤسسة السينما (الحكومية) التي كانت وراء تبني حركة السينما الجديدة.
أصبحت "السينما الجديدة" في أواخر السبعينيات "سينما قديمة" تبتكر في الأنماط والقوالب لكنها لا تهدمها، تماما كما كانت "الموجة الجديدة" قد أصبحت موجة قديمة جدا قبل أواخر السيتينيات بعد أن استوعبها النظام السينمائي في فرنسا ونجح في تقليص حجم طموحاتها واستخادمها في تجديد قوالب السنيما التقليدية نفسها. وكان لابد أن نفكر في شئ آخر.. حركة جديدة أخرى. وهنا جاءت فكرة "السينما الثالثة".
كان يقف وراء جماعة "السينما الثالثة" التي لم تكتب لها الولادة الطبيعية والحياة، أربعة اشخاص هم: فتحي فرج ومحمد كامل القليوبي، وأحمد قاسم، وأمير العمري (كاتب هذه السطور). ويستحق الثلاثة الأوائل أن أتوقف أمامهم وأقدمهم في عجالة سريعة للقارئ الصبور الذي يود أن يعرف، لأن لكل قصة شخصياتها، ولا يمكن فهم طبيعة أي حدث إلا بعد فهم طبيعة الأشخاص الذي اشتركوا فيه وسعوا لتحريكه.

فتحي فرج
كان فتحي فرج من جيل أسبق بكثير على جيلي، فقد ولد عام 1936، وبدأ نشاطه الثقافي في منتصف الخمسينيات، وخاض تجارب كثيرة في العمل السياسي والفكري. ورغم فارق السن والتجربة والخبرة إلا أنني ارتبطت معه بصداقة عمر. دخلت بيته وناقشته واختلفت واتفقت معه، وتحمل هو حدتي وغضبي أحيانا، وكان يترك لي الحرية كاملة في الإدلاء برأيي ويناقشني بهدوء، ويبدي إعجابه بـ"جنوني" كما كان يقول أي بجنوحي الحماسي لتحقيق شئ، وكنا نبحث معا كل شئ: كل ما يسمى بالمسلمات في الأدب والفن والسياسة والمجتمع والتاريخ، نمشي معا نذرع شوارع المنطقة التي كان يقطن بها في مصر الجديدة لساعات وساعات ونتناقش في كل شئ. وكنت معه في بيته في ذلك اليوم عندما توجه الرئيس أنور السادات بالطائرة إلى إسرائيل في زيارته التي وصفت بـ"التاريخية" وانتهت بتوقيع اتفاق سلام اعتبر ناقصا، مع إسرائيل. وكنا نتمزق وننفعل ونصرخ ونتشاجر معا ونحن لا نصدق أن ما نراه حقيقي، وأن السادات يصافح حقا جولدا مائير وشمعون بيريز ومناحيم بيجين وموشي ديان في مطار اللد!
درس فتحي فرج الفلسفة، وكان بالفعل مهموما بالفكر والتأمل الفلسفي ومستقبل مصر. وانضم في شبابه إلى الإخوان المسلمين أو بالأحرى حاول الاقتراب منهم، ولكنه سرعان ما وجد نفسه بعد ان نضج فكريا، يطرح تساؤلات خطيرة تسبب الارتباك للكثير من قيادات الإخوان، فيعجزون عن الرد عليها.

وقد روى لي أنه ذهب إلى المستشار الهضيبي ذات يوم لكي يناقشه، ولكن يبدو أنه ذهب في مناقشته معه أبعد مما كان يتصور الهضيبي فكان أن طُرد فتحي من مكتب المرشد العام بل ومن جمعية الإخوان المسلمين كلها! وقد وجد فتحي نفسه تدريجيا أقرب إلى اليسار، لكنه لم ينضم لتنظيمات يسارية لأنه كان قد اكتوى بفكرة التنظيم وضرورة "سماع كلام الكبار" فآثر أن يظل مستقلا، وقد ظل كذلك، يتقلب في أفكاره واهتماماته إلى حين وفاته المفاجئة في فبراير 2001.
ولعل من أغرب ما رواه فتحي فرج لي أنه اعتقل في الخمسنيات، في أعقاب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في ميدان المنشية في الاسكندرية على اعتبار أنه من الإخوان المسلمين. ولكن ضباط المباحث فشلوا في العثور على أي صلة تربطه بالإخوان، ثم اكتشفوا أن له ملفا آخر يصنفه على أنه من الشيوعيين. لكنه ايضا ليس عضوا في أي تنظيم شيوعي من التنظيمات السرية التي كان بعض أفرادها يضطرون تحت وطأة التعذيب للاعتراف على بعضهم البعض. وهنا وُضع فتحي فرج تحت بند "نشاط معادي" أي غير محدد الهوية ثم أفرج عنه!
مشبوه سياسي
وروى فتحي أنه كلما كان الرئيس جمال عبد الناصر يعتزم إلقاء خطاب في ميدان عابدين كانت المباحث تقبض عليه ويضعونه مع أمثاله، في الصفوف الأولى من السرادق المقام في الميدان، ويجلس بين كل "مشبوه سياسي" وزميله، عسكري أو مخبر لكي يتأكد أنهم يسمعون ويصفقون بحرارة. وبعد أن ينتهي الخطاب، كان ممنوعا أن يتحدث أحدهم إلى زميله، بل كان كل منهم يسير في اتجاه يحاول بقدر الإمكان أن يجعله متباعدا عن زميله.. فقد كانت العيون تتابعهم. وكان مطلوبا من فتحي لفترة ما في حياته، أن يوقع في قسم الشرطة مساء كل يوم لإثبات وجوده في الحي وأنه لم يهرب من بيته أو من المراقبة المفروضة عليه.
ولعل من مهازل النظام الإداري في مصر أن فتحي فرج الذي درس الفلسفة، انتهى يعمل موظفا في وزارة المالية. لكنه أبدى اهتماما كبيرا بالسينما كفن، فالتحق بندوة الفيلم المختار التي كان يشرف عليها الأديب يحيى حقي في الخمسينيات وتخرج منها عدد كبير من نقاد السينما والباحثين، والمخرجين فيما بعد منهم، مثل هاشم النحاس وفريد المزاوي وأحمد راشد وأحمد الحضري وغيرهم. وبدأ فتحي ينشر النقد السينمائي في صحيفة "المساء" القاهرية في الخمسينيات، ثم أصبح من أبرز اعضاء جماعة السينما الجديدة التي تأسست عام 1968 وأصبح رئيسا لتحرير مجلة "الغاضبين" لسان حال الجماعة التي كانت تصدر في 4 صفحات ضمن مجلة الكواكب وقت أن كان رجاء النقاش رئيسا لتحريرها في أواخر الستينيات.

بعد انقلاب شيلي واعتقال المعارضين السياسيين في ستاد سانتياجو قبل المذبحة

وقد كتب فتحي سلسلة من المقالات النارية في مجلة "الغاضبين" شن فيها حملات شديدة ضد من وصفهم بـ"أساطين السينما القديمة" وأخذ يعرض للنظريات الجديدة لسينما المخرج- المؤلف كبديل لسينما المخرج -الحرفي أو "الصنايعي"، وشبه هذا النوع بالصبي الذي يتعلم في ورشة ويتدرج إلى ان يصبح "أسطى". وقد أثارت مقالات فتحي فرج في تلك الفترة غضب الكثير من السينمائيين القدامى مثل حسن الإمام الذي أتذكر أنني قرأت له ردا عنيفا على مقالات فتحي وصف فيها أعضاء الجماعة بأنهم "الذين يريدون أن يحجبوا الشمس". وبعد أن أخرج علي عبد الخالق أول أفلام الجماعة "أغنية على الممر" أخذ الإمام يسخر منه في أحاديثه ويطلق على فيلمه "أغنية علي المر".
وبعد أن تأسس جهاز "الثقافة الجماهيرية" في الستينيات (الذي أصبح يعرف حاليا باسم الهيئة العامة لقصور الثقافة)، ورأسه في ذلك الوقت يساري معروف هو سعد كامل، أظن ان فتحي فرج بدأ يتبدى أمامه طريقا لتحقيق مشروعه الكبير، مشروع شبكة نوادي السينما في مصر. وكان سعد كامل من الشيوعيين الذين قضوا 5 سنوات في المعتقلات مع عدة مئات آخرين (قيل إن عددهم بلغ أكثر من ألفي شخص) إلى أن أطلق عبد الناصر سراحهم على شرط أن يحلوا حزبهم قبل الإفراج عنهم، ويتبرأوا من أفكارهم ومعتقداتهم، ويعلنوا ولاءهم للاشتراكية الناصرية وينضموا للاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الرسمي الوحيد) كأفراد وليس ككتلة أو كتنظيم، وعُين البعض منهم في أجهزة الإعلام والثقافة إلى أن طردهم السادات من وظائفهم بعد ما عرف بـ "انقلاب مايو" 1971 على التجربة الناصرية.
نوادي السينما
لا أعرف كيف بدأت بالضبط فكرة نوادي السينما في مصر في تلك الفترة فقد كنت صغيرا يافعا لا أطلع كثيرا على الشأن العام. ولكن ما أعرفه أن فتحي فرج هو الذي وضع خطة إنشاء 16 ناديا من نوادي السينما في محافظات مصر، ووضع ايضا آلية لإرسال الأفلام السينمائية الرفيعة من الشرق ومن الغرب، للعرض في تلك النوادي، وإيفاد ناقد سينمائي مع كل فيلم، يناقشه مع جمهور النادي في قصر ثقافة المحافظة، ووضع أيضا خطة إصدار مجلة "سينما النوادي" التي صدرت ورأس تحريرها وكانت مسؤولة، هي وتجربة النوادي بالتأكيد، عن ظهور وإبراز الكثير من نقاد السينما الجادين في مصر الذين تحول قسم كبير منهم فيما بعد، إلى كتاب للسيناريو ومخرجين.
لقطة من فيلم "مفقود" لكوستا جافراس

وقد بلغ عدد تلك النوادي 18 ناديا بعد ذلك، وأصبحت لها إدارة خاصة في الثقافة الجماهيرية يرأسها فتحي فرج الذي كان قد انتدب من وزارة المالية للعمل في وزارة الثقافة. وأصبحت نوادي السينما تستقطب كل المهتمين بالسينما، وتواصل عملها إلى أن طالتها التغييرات الجذرية في البنية الثقافية المصرية التي كانت قد بدأت منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973.

كانت "الثقافة الجماهيرية" قلعة ثقافة اليسار في وزارة الثقافة. ولكن يوسف السباعي الذي جاء به السادات وزيرا للثقافة عام 1974 كان يخطط لضربها. وقد بدأ أولا بضرب وإغلاق عدد من المنابر الثقافية المعروفة، بل وقبض على رموزها ووضعوا في السجون، ثم أغلق بعض المجلات الثقافية مثل "الكاتب" ثم "الطليعة" وطرد أعضاء مجالس تحريرها من كبار الكتاب والمفكرين والصحفيين. وقد اضطر الكثير من هؤلاء الكتاب إلى الهجرة خارج مصر لسنوات طويلة منهم غالي شكري وأمير اسكندر وأحمد عباس صالح والفريد فرج ومحمود أمين العالم ومحمود السعدني وبكر الشرقاوي وغيرهم.
وقد بدأت السلطات أيضا تتعامل مع الثقافة الجماهيرية بطريقة الإحلال والتبديل، فأقالت الوجوه اليسارية والوطنية التقدمية التي يمكن أن تكون معارضة بشكل ما لسياسة السادات ونواياه في التقارب من إسرائيل. ومع تزايد الضغوط بعد تغير الإدارة العامة للهيئة قدم فتحي فرج طلبا للعودة إلى وزارة المالية والغاء انتدابه. وقد عاد بالفعل إلى وزارة المالية، وتولى إدارة السينما بعده مساعده علي أبو شادي. لكن فتحي لم يستمر طويلا في العمل الوظيفي في مصر، فقد لحق بطابور المهاجرين خارج مصر حين ذهب للعمل بإحدى الدول العربية وظل هناك لأكثر من عشر سنوات في "منفاه" الاختياري.
وقد كان فتحي هو الذي شجعني على خوض تجربة "السينما الثالثة". وكان رأي الناقد سمير فريد أيضا مع فكرة أن تقوم جماعة أخرى، من جيل أكثر شبابا، بتكوين جمعيتها التي تعبر عن فكرها وتطلعاتها بعد فشل تجربة "سينما الغد" التي كانت تدور في إطار "السينما البورجوازية الجميلة". وقد استهوتنا فكرة السينما الثالثة، وبدأنا نقرأ ونناقش، ونشاهد أفلاما كان سمير فريد يأتينا بها في جمعية النقاد التي ضمني فتحي فرج إليها وأنا بعد طالب جامعي (وكان فتحي سكرتيرها العام في ذلك الوقت، وكان رئيسها هو المخرج والناقد المخضرم من جيل الأربعينيات أحمد كامل مرسي).

الصورة: المخرج الكوبي سانتياجو ألفاريز
كان سمير فريد يعرض أفلاما في إطار برامج سينمائية خاصة تنظمها الجمعية ويتعاون الأعضاء في إقامتها مثل "دراسات ووثائق".. الأسبوع الذي أقيم تضامنا مع شيلي التي كانت قد شهدت انقلابا عسكريا دمويا ضد الحكومة الاشتراكية بزعامة سلفادور ألليندي قتل خلاله أكثر من مائة الف شخص. وقد شاهدنا خلال ذلك الأسبوع الحافل الذي أقيم بـ "المركز القومي للثقافة السينمائية"، أفلاما مثل "النمر قفز وقتل لكنه حتما سيعود" للسينمائي الكوبي العظيم سانيتاجو ألفاريز.. أحد أعظم التسجيليين في تاريخ السينما. كما شاهدنا أفلاما صورت سرا للإنقلاب ووقائع ستاد سانتياجو الدموية، وهي الوقائع التي أعاد كوستا جافراس تصويرها دراميا في فيلمه الروائي الشهير "مفقود" (Missing (1981.
كان محمد كامل القليوبي يعمل مهندسا، بعد أن تخرج من هندسة عين شمس، ولكنه كان قد أكمل أيضا دراسته بمعهد السينما في القاهرة (حصل على الماجستير) ويرغب في الذهاب لتحضير رسالة الدكتوراه في السينما في معهد موسكو السينمائي.

وكان أحمد قاسم قد عاد للتو من باريس حيث درس السينما في جامعة فانسان المعروفة باتجاهها اليساري الراديكالي. وقد قضى أحمد، وهو ابن لأم فرنسية وأب مصري، سنوات طويلة في فرنسا، واعتقد أنه عاصر أيضا انتفاضة 68 في باريس وتأثر بها، وكان أحمد يميل إلى الفكر التروتسكي.
وقد اجتمعنا مع فتحي لفترة، ثم تركنا فتحي على أساس أنه ينتمي إلى جيل آخر وتجربة أخرى وأنه يتعين علينا أن نعثر على طريقنا بأنفسنا. وقضينا أشهر نتناقش ونختلف. وكان أساس الخلاف أن أحمد قاسم كان يرفض الالتزام بجدول عملي لبناء وتأسيس الجمعية، وكان يميل أكثر إلى الجانب التحريضي والنظري، ويعتقد أن بحث الجوانب العملية فيه نوع من البيروقراطية، وأن المسائل البيروقراطية يمكن حلها بسهولة، أما المسائل الايديولوجية فهي الأساس. وكنت أختلف معه تماما، فقد كنت أعتقد أن البناء والتأسيس لازمان لأن الخلافات الفرعية حول "النظرية" لن تحسم في يوم وليلة، بل يمكن أيضا أن تترك مفتوحة لكي يبحثها أعضاء الجمعية بعد أن ينضموا إليها، وأن من المهم أن نعثر على أساس عملي ونبدأ في ضم الأعضاء ووضع تصورات لبرنامج للعروض وللإنتاج السينمائي أيضا، أي إنتاج أفلام تسجيلية تعبر عن فكر الجمعية. وكنا نتناقش كثيرا في "البيان" الذي بدأت في كتابته لكنه لم يكن "ثوريا" بما فيه الكفاية من وجهة نظر أحمد قاسم، وكان القليوبي أيضا يميل إلى أنه يجب أن نكون أكثر راديكالية مقللا من شأن الجوانب العملية، وكان القليوبي أيضا عضوا في جماعة أدباء الغد التي ضمت لفيفا من الأدباء والكتاب والشعراء الشباب اليساريين.

محمد كامل القليوبي

ويبدو أنني كنت في عجلة من أمري، فقد كان القليوبي يعتذر كثيرا في آخر لحظة عن عدم حضور الاجتماعات، بحكم انشغاله في أعمال أخرى كثيرة منها أنه كان يواصل العمل كمهندس في كوبري 6 أكتوبر في منطقة تقع عند نهاية شارع الجلاء، وأظن أنه كان شاهدا على "اغتيال وتدمير" أثر تاريخي هائل هو" كنيسة كل القديسين" الرائعة البناء التي كانت كائنة في نهاية الشارع قرب نهر النيل، وكنا نجلس على المقاعد الخشبية الطويلة في انتظار "مترو" مصر الجديدة، لكي نتأمل في هذا المعمار الفريد الذي قرر المهندسون إزالته لتحميل الكوبري القبيح الشكل جدا مكانه.
وكان القليوبي أيضا مشغولا بالاستعداد للسفر إلى موسكو. أما أحمد قاسم فكان أيضا يبحث عن إطار ينطلق منه لعمل أفلام تسجيلية طبقا لمفهومه الخاص في سينما التحريض الثورية الملتهبة. وكان القليوبي لا يفصح في الكثير من الأحيان عن رأيه.

آفاق السينما
وجريا وراء فكرة التأصيل النظري فكرت مع فتحي فرج في نفس الفترة في إصدار مجلة سينمائية فصلية تتخلص تماما من مشكلة التوزيع، فقد قررنا أن نجعلها توزع على المشتركين فقط، على أن نؤمن لها مسبقا ألف اشتراك. وحسبنا حساباتنا على أساس أننا إذا تمكنا من جمع ألف اشتراك مضروبا في مبلغ معين (قيمة الاشتراك السنوي وقتها حددناها على ما أتذكر بجنيهين) فسوف يكفل لنا مبلغ الألفي جنيه أن نصدر مجلة محترمة.
وقمنا بطبع إيصالات للاشتراكات، وتعهد كل منا بحماس زائد، بالعمل على جمع عدد محدد طموح من الاشتراكات. وأخذنا نتصل بأصدقائنا، وبعدد من السينمائيين الشباب وأعضاء جماعة السينما الجديدة وجمعية الفيلم وبعض المثقفين والمهتمين وطلاب الجامعة. ولكننا عجزنا بعد ثلاثة أشهر، عن تجاوز ثلث الألف المطلوب اشتراكهم ضمانا لتوزيع المجلة بالبريد على كل المشتركين. وكنت قد اخترت لها اسم "آفاق السينما" (فوجئت بعد سنوات باختيار نفس الإسم لسلسلة كتب سينمائية تصدر من هيئة قصور الثقافة). ووافق فتحي فرج، وقام بحماس بطبع دفاتر خاصة بالمجلة يحمل اسمها، وخاتما مطاطيا لختم الإيصالات، ولم يدخر وسعا في الاتصال بأصدقائه وإقناعهم بالاشتراك مثل رأفت الميهي وماهر السيسي وعلي بدرخان ومدكور ثابت وغيرهم، وكان يوقف البعض منهم الذي نلتقيه في الشارع ويطلب منه دفع الاشتراك.
السادات مع كارتر وبيجين بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد

قفزة السياسة
زار السادات القدس في نوفمبر 1977، وأجرى محادثاته التي تعثرت لكنه أراد أن يجعلها تبدو وقد نجحت بأي ثمن، وأعلن أن "حرب أكتوبر هي آخر الحروب". وأصبحنا شهودا على نهاية عصر كامل من التاريخ المصري، وعلى هزيمة أحلام جيلنا الذي لم يحارب في 67 ولم يهزم في "الحرب"، كما لم يعبر القناة في 73 ولم يؤخذ رأيه في "السلام". وبدأت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تصبح شديدة الوطأة.
القليوبي أعلن في 1978 أنه ذاهب إلى موسكو لاستكمال دراسته السينمائية. وأحمد قاسم ذهب يبحث عن مشاريع جادة لعمل أفلام مع مركز الأفلام التسجيلية ثم مع شركة يوسف شاهين. وفتحي فرج قرر السفر إلى السعودية للعمل هناك في الصحافة والإعلام ودراسة "شكل التحولات القادمة إلى المنطقة انطلاقا من تلك الدولة التي لا نعرف عنها شيئا والتي أصبحت قوة مالية ضخمة لابد أن يكون لها دور سياسي مواز". وأنا.. أصبح مطلوبا مني العمل خارج القاهرة في أقاصي الصعيد المصري في منطقة نائية في محافظة أسيوط حيث حرمت من الكهرباء لمدة ستة أشهر (ربما على سبيل العقاب!).

وقمنا بتكليف الصديق التاريخي الراحل "نديم ميشيل" بمساعدتنا على إعادة الاشتراكات إلى أصحابها، وهي دورة عكسية مأساوية شاقة لا أظن أن لها سابقة في تاريخ الصحافة السينمائية وغير السينمائية في أي بلد من بلدان العالم!
نهاية الطريق
في تقديري، وأنا أكتب الآن في 2008، أن تجربة "السينما الثالثة" لم تفشل فقط بسبب إحباطاتنا الشخصية، بل أساسا لأنها كانت حركة تريد أن تزرع نفسها في مناخ معاكس تماما، فقد أحدثت المتغيرات السياسية في مصر زلزالا قلب كل القيم والمفاهيم، وبدأ تطبيق سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي تعني عمليا تخلي الدولة عن الإنتاج وتركه للرأسماليين، وأصبح الحصول على سلع من المنطقة الحرة في بورسعيد أهم من مليون قصر ثقافة، وأصبح المقابل الذي يحصل عليه الناقد من كتابة مقال طويل عريض في جريدة "المساء" (وهو 5 جنيهات) لا يكفي لتناول وجبة عشاء بعد أن كانت تكفي لعدة أيام.
وكانت تلك التجربة التي بدت "ثورية جدا" تريد أن تعثر لها على تربة في مناخ أبعد ما يكون عن البيئة الثورية، بل هو بحق، مناخ الثورة المضادة المتوحشة التي أخذت تطارد وتغلق وتحاصر، وتضرب بيد من حديد ومن صفيح، وبكل الطرق، وكان مجرد التجمع لسماع أغاني الشيخ إمام في بيت أحد الأصدقاء كفيلا بأن يخرج علينا العشرات من كلاب السلطة لمطاردتنا!
الفشل بهذا المعنى كان موضوعيا تماما، فقد كانت "السينما الثالثة" تجربة تتجاوز الواقع وتسعى بأي طريقة، وبحسن النوايا والاندفاع الشخصي وحماس الشباب وحده، إلى التحليق فوق الواقع، فكان أن سقطت قبل أن تحلق. لكن نهايتها كانت أيضا إعلانا عن غروب عهد، وبزوغ عهد آخر.. سنغترب فيه ونصبح بعيدين.. بعيدين.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger