بقلم: أمير العمري
قبل أن نشاهد أفلاما من السينما الكوبية، كانت فكرتنا عن كوبا عموما، أنها بلد فقير، محاصر، خاضع لنفوذ السوفيت، ليس لديه سوى السكر والسيجار الهافاني الشهير الذي ارتبط به الزعيم الكوبي الأشهر، فيدل كاسترو.
وكان هناك بلاشك، تناقض ما، بين المزارعين
الكوبيين الفقراء في مزارع قصب السكر، وبين السيجار الهافاني الذي لا يدخنه سوى
أثرياء "البورجوازيين". لكن الغريب أن كوبا- الثورية جعلت من
السيجار الهافاني رمزا للثورة، بعد أن اصبح العلامة المميزة ليس فقط لفيدل كاسترو،،
بل للزعيم "الأسطوري" تشي جيفارا الذي كان أيضا رمزا لفكرة
"الأممية" الاشتراكية، فهو أرجنتيني ومع ذلك، فقد حمل السلاح وشارك في
الثورة الكوبية، وبعد انتصار الثورة، لم يشأ أن يستمتع بكرسي الوزارة، بل فضل
الرحيل إلى بوليفيا لاستئناف النضال ضد الامبريالية او الاستعمار الجديد، حيث لقي
مصيره التراجيدي المعروف. وكان هذا الموت العبثي، الذي قيل إنه جاء نتيجة وشاية من
قبل "رفيق" كان معه في غابات بوليفيا، مثار حزن كبير حقا، خلده الشيخ
إمام في ملحمته الغنائية الشهيرة "جيفارا مات" من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم،
كما كتب عنه محمود دياب مسرحية الشهيرة "ليلة مصرع جيفارا". وكان مصرع جيفارا
بمثابة مؤشر أولي على انحسار المد الثوري في العالم الثالث بعد أن ظل هذا المد
يؤرق مضاجع الاستعمار الجديد طوال الخمسينيات والستينيات. لم تكن فكرة "الثورة
الدائمة" التي كان يعتنقها ويبشر بها جيفارا واضحة تماما، فقد كانت
تتنافى مع الفكرة السوفيتية التي كانت قد استقرت حول "إمكانية تحقيق
الاشتراكية في دولة واحدة" أي أنه لا يشترط لضمان نجاح الاشتراكية في دولة
ما، أن تطبق في جميع الدول المحيطة بها كما كان متصورا من قبل، وإن كان الأمل أن
تعم الاشتراكية العالم باعتبارها الفكرة الأكثر إنسانية.
كنا ونحن شباب صغار، في مقتبل العمر، نتطلع
إلى الاشتراكية والفكر الاشتراكي، من الزاوية الإنسانية، من زاوية تحقيق العدالة
الاجتماعية، والمساواة بين البشر، وإقامة مجتمع يسوده التعاون بين البشر، والحب،
وروح تنشد التحقق وتحقيق الرخاء للمجتمع وللفرد أيضا. ولم تكن أبدا، الأفكار
الاشتراكية واليسارية عموما تلاقي هوى لدينا نتيجة ولع بـ"الأيديولوجي" في
حد ذاته، بل كان التوجه يتلاقى مع الوجه الإنساني
للاشتراكية. وكان هذا حلم جيلنا. وأظن أنه كان حلما ينشد تحديث المجتمع بالعلم،
دون أن يهمل القيم الأخلاقية والإنسانية عموما، فهي جزء من التراث الديني والوطني.
ولكننا لم نكن نتخيل، في أسوأ السيناريوهات الممكنة، أنه سيأتي علينا يوم نجد أن
السعي إلى تحقيق التقدم الاجتماعي والإنساني واللحاق بالعصر، قد تحول إلى نوع من
الهستيريا الماضوية، الشبيهة باللوثة التي أخذت تطبق بتلابيبها على كل شيء. لكن ما
حدث كانت أسبابه كامنة في فشل الكثير من المشاريع، أهمها دون أي شك، مشروع احتكار
العمل السياسي باسم الجماهير، سواء من خلال أجهزة أمنية، أو من خلال حزب هو عبارة
عن وعاء مترهل لجهاز الدولة، تحميه أجهزة الأمن أيضا!
وجدت من الضروري أن أسوق هذا المدخل لأن
الاشتغال بالنقد والكتابة والتعبير هو عمل له علاقة وثيقة بالفكر الاجتماعي
والسياسي في عصره، وليس مجرد سباحة تجريدية في "عالم الفن"، أي ليس مجرد
"صرعة" كما قد يتخيل البعض. كنا نود أن نصبح جزءا من العالم، نتفاعل مع
ما يحدث فيه، ونؤثر فيه ونتأثر به أيضا. وكانت السينما، بهذا المعنى، نافذة كبيرة
على الدنيا وعلى العالم.
والآن إلى كوبا، التي لديها تجربة خاصة في
الاشتراكية أظن أنها تجربة ناجحة كثيرا، فقد نجحت في إقامة نظام يحقق التوازن
الاجتماعي في بلد كان يعاني من العبودية والاستغلال البشع من جانب الاحتكارات
الأمريكية التي كانت تستولي على كل ثرواته المحدودة، ولم تكن تترك له سوى الفتات،
وكانت نخبة قليلة العدد من وكلاء رأس المال الأجنبي من العاملين في خدمة الشركات
الاجنبية، من الكوبيين، هي التي تحكم، يمثلها في الحكم ديكتاتور يحمي المصالح
الأجنبية (الأمريكية بوجه خاص)، ويقمع شعبه بكل قوة ووحشية.
جاء النظام الاشتراكي إلى كوبا عن
طريق نضال طويل وصل إلى ذروته في إعلان الثورة المسلحة، إلى أن وصل للحكم، بفضل تأييد
القوى الشعبية العريصة من الفلاحين أساسا، والمزارعين البؤساء، والعاملين بالسخرة.
وكنت أقرأ منذ عام 1972 عن السينما الكوبية،
بل وقمت أيضا بترجمة دراسة طويلة عن هذه السينما وبعض أفلامها، كتبها الناقد
البريطاني ديفيد ثومبسون، كما قرأت كثيرا عن السينما الثالثة، والسينما غير
المكتملة، ودور مؤسسة السينما الكوبية "الايكايك" ICAIC (أو حرفيا
"المؤسسة الكوبية للفنون والصناعة السينمائية")، وتأثير مدرسة الواقعية
الجديدة الإيطالية على سينمائيين كوبيين مثل جارثيا اسبينوزا وجوتييريز آليا
اللذين درسا في معهد السينما في روما. ولكني لم أكن أتخيل أن كوبا يمكنها أن تنتج
أفلاما فيها من الطموح الفني ما نجده، على سبيل المثال، في السينما الأوروبية
المتقدمة بما فيها السينما السوفيتية بالطبع. إلى ان جاء "أسبوع الأفلام
الكوبية" في القاهرة عام 1975 في سينما أوديون، بالتعاون بين العلاقات
الخارجية الثقافية، والسفارة الكوبية في مصر. كان هذا حدثا جللا، فقد اكتشفنا من
خلال متابعة أفلام هذا الأسبوع، التي عرض بعضها أيضا في "نادي السينما"
أننا أمام تجربة متقدمة كثيرا في التعبير من خلال السينما، وليست تلك السينما
البدائية التي كنا نتخيلها.
كانت هناك أفلام مبهرة مثل و"لوسيا"، و"أيام الماء"، وغيرها. وكان يكفي في
الحقيقة مشاهدة فيلم واحد مثل "ذكريات التخلف" لكي تتغير رؤية المرء
تماما لهذه السينما بل لاتلك الدولة الصغيرة التي كانت تكافح من أجل البقاء أمام
حصار أمريكي مفروض عليها منذ 1959.
انتصرت الثورة الكوبية المسلحة في يناير
1959 ونجحت في الإطاحة بنظام الديكتاتور باتيستا الذي فر إلى أمريكا. وفي مارس من العام
نفسه، أنشئت مؤسسة الفنون والصناعة السينمائية (إيكايك، كما تأسست بعد ذلك مدرسة
السينما التي تخرج منها عدد من ألمع السينمائيين في أمريكا اللاتينية.
كان "ذكريات التخلف" Memories of Underdevelopment عملا ملهما، لا مثيل
له من قبل. كان فيلما "حداثيا" بمعنى الكلمة، أوروبيا في ظاهره، ولكنه "لاتيني"
تماما في خصوصية التجربة التي يصورها، وأجوائها، والتساؤلات التي يطرحها.
صحيح أن الكثير من هذه التساؤلات تأتي على
صعيد يبدو وجوديا، ربما تأثرا بأفلام الموجة الجديدة الفرنسية، وأفلام أنطونيوني
أيضا في الستينيات التي كانت تدور حول عزلة "البورجوازي"، وفشله في
إقامة علاقات ناجحة مع المرأة، وتدهوره النفسي بسبب عدم تحققه مما يفعله، وغير
ذلك من الأفكار التي يلعب عليها الفيلم كثيرا في تصوري الشخصي، ولكنه يصوغها
ويصبها، في سياق سياسي اجتماعي نقدي، يتعلق بخصوصية التجربة الكوبية: تاريخ كوبا
الخاص، وتطور الصراع فيها، كما يخرج ويدخل من وإلى أسلوب التداعيات المميز للسينما
الأوروبية في الستينيات، لكنه يستخدم أسلوبا سينمائيا يعتمد اعتمادا أساسيا على
المونتاج، يمزج بين التسجيلي والوثائقي والخيالي، بين الوثيقة الصوتية او المصورة،
وبين التعليق الصوتي المباشر من خارج الصورة، بين الطابع التعليمي الذي يتوقف أمام
بعض المعلومات ذات الدلالة الخاصة في سياق الفيلم، وبين الصور الثابتة والرسومات. ويستخدم أيضا لقطات من الجريدة السينمائية ومن الأرشيف، ويعتمد كثيرا على الكاميرا
الحرة المحمولة على الكتف التي تجعل المنظور مهتزا تماما بغرض إكساب المشهد الطابع التسجيلي
على نحو يذكرنا بالأفلام السوفيتية التي صنعت في عشرينيات القرن الماضي،
ويستوحي من أيزنشتاين، كما يستلهم من جودار. ويمتليء الفيلم بالكثير من الإشارات
إلى الماضي، إلى التاريخ، في بناء جدلي مركب ومثير، ولكن دون أن يفقد الفيلم في أي لحظة، طابعه الحداثي الأخاذ، وقدرته على جذب المتفرج، دون أن ينحرف أبدا عن
هدفه في الكشف عن تناقضات الشخصية الرئيسية التي يدور حولها موضوع الفيلم.
مخرج الفيلم توماس جوتييريز آليا، وكان ألمع
السينمائيين الكوبيين على الإطلاق (توفي عام 1996)، كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى (البورجوازية)
ولكن إلى أسرة "تقدمية"، وقد أيد الثورة الكوبية ووقف معها بقوة من
البداية، وإن لم يحول إيمانه بالثورة، دون توجيه النقد لبعض الممارسات السياسية
والاجتماعية، في بعض أفلامه، وخاصة في "ذكريات التخلف".
ويلعب عنوان الفيلم على كلمة ستصبح فيما بعد
من الكلمات أو الأوصاف الشائعة كثيرا في عالمنا، في وصف البلدان التي تعاني من
مشاكل "التخلف"، خصوصا فيما يسمى بـ" العالم الثالث".
والمقصود هنا "التخلف" من وجهة نظر بطل الفيلم، وهو رجل في نهاية
الثلاثينيات، ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ورث مجموعة من الشقق السكنية يعيش على
الدخل الذي يأتيه من تأجيرها. وقد أممتها الحكومة الجديدة لكنه يستطيع الاستفادة
من دخلها لمدة 12 عاما. هو إذن، "عاطل
بالوراثة"، أي يعتبر "عالة اجتماعية" في مجتمع الثورة والعمل
والبناء، في كوبا الجديدة.
يبدا الفيلم في عام 1961، أي مباشرة بعد الغزو
الأمريكي الفاشل بمساعدة اللاجئين الكوبيين في الولايات المتحدة الذين يطلق عليهم
"المنفيين الكوبيين"، وهي العملية العسكرية الشهيرة التي عرفت باسم
عملية "خليج الخنازير"، وينتهي في أكتوبر عام 1962 وقت بلوغ أزمة
الصواريخ الروسية التي نشرها السوفيت على الأراضي الكوبية، ذروتها، فقد كادت أن
تتسبب في مواجهة نووية بين القوتين العظميين وقتها لولا أن بادر السوفيت وقاموا بسحبها.
الإطار الزماني إذن، يتحدد في فترة ساخنة
سياسيا، شهدت أيضا نزوح الآلاف من البورجوازيين الكوبيين الذين رفضوا الاندماج في
المجتمع الجديد، فهاجروا إلى الولايات المتحدة. ومن بين هؤلاء أصدقاء وأقارب بطلنا
"سيرجيو"، بل وزوجته. وفي المشاهد الأولى من الفيلم نرى طوابير المهاجرين الكوبيين في مطار هافانا،
وبينهم "لاورا" زوجة سيرجيو، وهو معها يودعها، غولكن دون أن يبدو على وجهه أي
شعور بالفقدان، أو بالحزن، بل إننا نلمح نوعا من الشعور بالارتياح.
لقد
ذهبت لاورا ولكن بقيت أشياؤها في بيته، تذكره بنموذجها الذي يرفضه لكنه لا يعرف
غيره، ويشعر بنوع من الحنين لاستعادته على نحو ما.
سيرجيو يرفض مغادرة كوبا، لكنه يرفض أيضا
الانتماء إلى الوضع الثوري الجديد في البلاد، أن يكون جزءا من المجموع من حوله، فهو
يعتبر الكوبيين "متخلفين"، ويصف نفسه بأنه "أوروبي" أكثر منهم
جميعا، وهو كاتب ومثقف، يسجل يومياته وذكرياته باستخدام الآلة الكاتبة، لكي يطرح
الكثير من التشكك والقلق الوجودي المرتبط بشعوره بانعدام الوزن: إنه يرفض طبقته،
لكنه يرفض البديل الآخر، يسخر من الشعارات الجديدة، ويتشكك بوضوح في قدرة هؤلاء
الشباب الذين يضيعون الكثير من الوقت في المناقشات والجدال، ويتطلع إلى الماضي،
إلى علاقته التي لم تكتمل مع الفتاة الوحيدة التي أحبها وكانت "أجمل شيء في
حياته".. يتجول في الشوارع، يتطلع إلى الناس من شرفة مسكنه المرتفع عبر
المنظار: إلى الشاطئ، إلى الحركة الكثيفة في الشارع، إلى تمثال برونزي يتوسط ميدانا قريبا، وتتداعى
الأفكار المتشككة عبر "المونولوج" الذي يأتينا عبر شريط الصوت من
خارج الصورة، وكأن سيرجيو يعبر عن أفكاره التي يدونها ولو بصوت مرتفع.
ما الذي حدث؟ سيرجيو يجيب بتشكك: "لقد
تحررت كوبا.. من كان يصدق". يلمح قمة نصب تذكاري خال من أعلى، ويعلق
"أين ذهبت حمامة بيكاسو.. من السهل أن تكون شيوعيا في باريس.. لقد دبت الحياة
ولن يتوقفوا حتى يصلوا إلى ميامي.. ولكن كل شيء يبدو مختلفا اليوم.. ما الذي تغير؟
اين أصبحت المدينة"؟
لا يروي الفيلم قصة، ولا يعتمد على بناء
درامي تتصاعد فيه الأحداث في سياق رأسي، بل على بناء أفقي، يعرض، ويقدم، ويحلل من
خلال تجسيد التناقض والتعارض بين الصور واللقطات، وهو بناء ثري، لا يهدف للوصول إلى ذروة ما، بل إلى تفكيك الشخصية، وتعريتها، والتوقف أمام أزمتها.. إنه لا
يدين، ولا يبرر، بل يعري، ويكشف، ويفضح ذلك العجز، ويجسده. وهذا هو المدهش في هذا
العمل الكبير في وقته.. أي كيف كان ممكنا ألا يأتي الفيلم الأول المهم من كوبا،
لأهم مخرج سينمائي كوبي، عملا من أعمال "الواقعية الاشتراكية" مثلا،
التي تجسد عادة "البطل الإيجابي"، وتوجه انتقادات مباشرة إلى الماضي،
إلى حقبة باتيستا، لكي تبرر كل ما جاء بعدها، وتتغاضى عن أي نواقص أو سلبيات. على
العكس من ذلك تماما، هنا يصبح مدخلنا إلى "الحالة الكوبية" مدخل فلسفي
وذهني، ولكن من وجهة نظر مثقف من الطبقة الوسطى، عاجز عن حسم أي شيء في حياته.
زوجته رحلت، وهو يعود إلى مسكنه، يتطلع إلى
أشيائها التي ظلت تذكره بها: يدير شريط تسجيل لكي يستمع إلى معابثته لها التي تصل
حد الشجار. وفي لقطة تعكس البناء المركب للفيلم نراه أمام المرآة، يأتينا صوته
عبر شريط التسجيل، وصورته من الماضي الذي يتذكره، وهو يعبث مع زوجته ويثير ضيقها،
يرسم على المرآة بقلم التجميل الأحمر، ويقول لها كما يأتي إلينا عبر الشريط
المسجل: إنني أفضل النساء اللاتي على شاكلتك.. المصطنعات، أكثر من النساء
الطبيعيات.. أفضل الملابس الأنيقة والطعام الجيد، والماكياج والتدليك.. إنك اصبحت
أكثر جاذبية الآن.. لم تعودي تلك الفتاة الكوبية المتخلفة..". هنا يكون هو قد
ارتدى جوربها النسائي في رأسه وأخذ يتأمل صورته المشوهة أمام المرآة.. ثم ينزع
الجورب من رأسه ويجلس في استرخاء وإرهاق على أحد المقاعد.. هذا يحدث في الزمن
الحاضر.. الآن بعد أن ودعها في المطار وعاد لكي يكتشف موت أحد العصافير التي يحتفظ
بها في قفص في شرفة مسكنه، يلتقطه ببساطة ويلقي به من الشرفة المرتفعة إلى أسفل، إلى
الشارع، بينما يردد: إنها لحظة الفراق!
لكن البناء لا يعتمد فقط على التداخل بين
الماضي والحاضر، من خلال سريط الصوت أو شريط الصورة، بل على المزج مع مشاهد
ولقطات تسجيلية تتداعى في الذاكرة الفردية للبطل- اللابطل حينا، أو تستخدم من
زاوية موضوعية وفي سياق نقدي أو "تعليمي" من وجهة نظر الفيلم، كما سنرى.
عمليا لا يفعل "سيرجيو" شيئا في حياته
سوى التأمل والتجوال في الشوارع، ينظر إلى النساء بوجه خاص، يعلق عن طريق الصوت الذي
ياتي من خارج الصورة، يتساءل بتشكك وهو يتطلع إلى عشرات الوجوه للرجال والنساء،
وإلى صور ورسومات لكاسترو على الجدران، لقطات قريبة "كلوز أب" للكوبيات
في العصر الجديد: قلق في العينين، نظرات توتر وعدم ارتياح. ما هذا القلق؟ هو
بالقطع ليس من نوع القلق الذي يعاني منه سيرجيو. إنه يتساءل: ماذا تعني الحياة
بالنسبة لهم؟ بل ماذا تعني الحياة بالنسبة لي؟ ويستدرك: "ولكني لست
مثلهم...".
فيلمنا هذا يمكن القول إنه من نوع
"دراسة الشخصية". ولكي يعمق هذه الدراسة ويسلط مزيدا من الأضواء عليها،
يقوم السيناريو على تقديم بعض الشخصيات التي ارتبط بها بطلنا بشكل او بآخر ولعبت دورا
في حياته. وهو يقدم هذه الشخصيات بادئا بكتابة الأسماء على الشاشة. هناك أولا
"بابلو".. صديق سيرجيو الرافض بوضوح للثورة.. المتشكك في كل شيء يجري
حوله، الذي حسم أمره بالفعل على ضرورة الهجرة الى أمريكا. وهو يعبر عن أفكاره هذه خلال جولاته
بالسيارة مع سيرجيو قائلا إن ما يجري مجرد "لعبة بين الأمريكيين والروس،
لكننا سندفع الثمن.. لا أريد أن أكون موجودا هنا عندما يأتي ذلك الوقت..
سأرحل".
يتوجه بابلو بالسيارة في صحبة سيرجيو إلى محطة
للوقود. هناك بنزين ولكن لا يوجد هناك زيت للمحرك. وبعد هذا المشهد مباشرة يستخدم
المخرج لقطات تسجيلية وصورا ثابتة فوتوغرافية ورسومات تظهر حالة الفقر والتخلف
والمعاناة التي كان الكوبيون يعيشون فيها في الماضي: هناك لوحة تصور بعض العبيد يقيدون
حركة واحد منهم على الأرض، بينما يقف السيد يمسك بالعصا وينهال عليه ضربا. (يأتينا
صوت بابلو من خارج الصورة، يقول لسيرجيو: يقال إن الكوبي يمكنه أن يتحمل اي شيء
سوى الجوع).
نرى لقطات أخرى لرجال جوعى، وأطفال يتضورون
ارتموا على الأرض في ضعف واستكانة شديدتين، امرأة تحمل على صدرها طفلا رضيعا يحتضر
من الجوع. ويأتي التعليق الصوتي "الموضوعي" وكأننا نشاهد فيلما تسجيليا في
التليفزيون: في أمريكا اللاتينية يموت أربعة أطفال بسبب سوء التغذية كل دقيقة. بعد
عشر سنوات سيكون قد مات عشرون مليون طفل، أي ما يوازي عدد القتلى في الحرب
العالمية الثانية".
الحوار بين سيرجيو وبابلو حول المسلحين الكوبيين الذين شاركوا في غزو بلادهم مع
الأمريكيين في "خليج الخنازير" وتم اعتقال بعضهم، يؤدي إلى مشهد آخر،
تسجيلي، يبدأ بالإشارة إلى مسؤولية الفرد في إطار الجماعة.. حسب المفهوم
الماركسي.. ولكن في سياق استعراض السجناء من الكوبيين المسلحين، والتعليق الصوتي
يأتينا قائلا إنه تم اكتشاف تنظيم اجتماعي داخل المنظمة العسكرية للغزاة أي المسلحين المناهضين للثورة وهذا التنظيم يعكس التكوين الاجتماعي و"اخلاقيات البورجوازية".
إنه البطل العاجز المتردد في حسم أمره، الذي
يكتفي بالتطلع عبر التليسكوب من نافذة مسكنه على الناس في الخارج، يبحث بوجه خاص،
عن تجربة عاطفية يستر بها إحساسه بالعجز. وعندما يعثر أخيرا على فتاة تلهب خياله
(إلينا)، تنتمي للطبقة صاحبة المصلحة في الثورة، نراه يحاول أن يحولها ربما دون أن
يدري، إلى نموذج مشابه لنموذج زوجته التي يرفضها. يريدها أن ترتدي ملابسها، وأن
تتصرف مثلها. إنه ذلك "الفكر" المتأصل داخله، الذي يرفض التعامل إلا مع
نموذج المرأة من طبقته بسلوكياتها ومفاهيمها رغم احتجاجه المعلن على هذا النموذج
أيضا وهنا سر أزمته: أي أنه لا يعرف ماذا يريد.. ولذا يظل على الهامش طيلة الوقت،
عاجز عن اختراق المجتمع أو الاتصال مع الآخرين. غنهم جميعا في نظره يجسدون
"التخلف".
هذه الفتاة "إلينا" هي نموذج يلخص
تلك الحالة الجديدة المستعصية على فهمه.. "ابنة الشعب"، ولكن بدلا من
محاولة النفاذ إليها وفهمها، يحاول سيرجيو تغييرها وشدها إلى عالمه، وفي زيارة إلى
المنزل الذي كان يقيم فيه الكاتب الأمريكي إرنست هيمنجواي في هافانا، وتحول إلى
متحف، تتجسد الهوة بين الشخصيتين. وتفشل علاقة الاحتواء المفترضة مع فتاة في
السابعة عشرة من عمرها.
وتكاد مغامرته النزقة مع "إلينا"
أن تؤدي إلى هلاكه، فأهلها يتهمونه باغتصابها، ويقولون إنها كانت عذراء عندما
أغواها ودفعها إلىممارة الجنس دفعا، ويصل الأمر إلى القضاء، لكن القضية تنتهي
بترئة سيرجيو الذي يعود لكي يستعيد لحظات علاقته الساخنة مع إلينا، وحيدا كما كان
دائما، في حين تستعد كوبا لمواجهة تداعيات أزمة الصواريخ، وعلى شريط الصوت يأتينا
صوت الرئيس الأمريكي كنيدي وهو يحذر ويهدد بضربة استباقية نووية، ثم كاسترو بالصوت
والصورة، وهو يلقي كلمة يرفض فيها بشدة الخضوع للتهديدز في هافانا، في ليلة عاصفة،
يتأهب الجميع، ويحسبون أنفاسهم.. تحسبا للخطة التالية.. وينتهي واحد من أعظم
الأفلام في تاريخ السينما.
فصل من كتاب "شخصيات وأفلام من عصر السينما"
0 comments:
إرسال تعليق