الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

هاملت يدخن السجائر وجيرترود تشرب الويسكي على خشبة المسرح القومي البريطاني!



معالجة جديدة للمسرحية الشهيرة

استمتعت أخيرا بمشاهدة الإنتاج الجديد لمسرحية شكسبير الشهيرة "هاملت" التي تعرض حاليا على مسرح أوليفييه التابع لدار المسرح القومي البريطاني National theatre في لندن.
قدمت هاملت منذ أن كتبها شكسبير عام في 1601 آلاف المرات، في المسرح وفي السينما، في معالجات وتفسيرات مختلفة، وقام بالدور الرئيسي عدد من ألمع الممثلين في تاريخ المسرح البريطاني مثل لورنس أوليفييه وجون جيلجود وكنيث برانا وغيرهم.
أما العرض الجديد فيقدم هاملت مختلفا تماما عما سبق تقديمه. إنه هاملت عصري بكل معنى الكلمة، فهو أقرب الى طالب يعيش في غرفة غير منظمة، يلقي الكتب هنا وهناك، يدخل السجائر، يسعى بكل الطرق لمعرفة من الذي قتل والده ملك الدنمارك، ويصر على إنزال العقاب بالقاتل وهو عمه كلاوديوس الذي تزوج والدته جيرترود.
هاملت العصري هنا، شاب متمرد يعيش في عالم أصبح يمتليء بالعنف. كلاوديوس يبدو مثل حاكم ديكتاتور أو رجل أعمال يمتلك امبراطورية صناعية، يوظف حراسا مدججين بالسلاح، وشرطة خاصة تراقب هاملت وجميع الشخصيات الأخرى في المسرحية، تستخدم أجهزة الاتصال الحديثة.
هذه المعالجة العصرية، بالملابس الحديثة، وبلغة رفيعة ولكن قريبة من المشاهد العادي، لغة كل يوم مع إيحاءات شعرية خاصة، تنجح تماما في تقديم مضمون معاصر للدراما الشهيرة.
عندما ينطق هاملت بمونولوجه الشهير "تكون أو لا تكون" يجعله المخرج نيكولاس هيتنر يدخن سيجارة، بل هو يشعل كثيرا من السجائر خلال العرض، كما يجعل أمه جيرترود وقد أقبلت على احتساء الويسكي في محاولة للتغلب على احساسها بالذنب إزاء ابنها، بعد ان تزوجت قاتل أبيه.
أما أوفيليا هنا فهي فتاة من الممكن أن تكون ابنة الجيران: وعندما تفقد عقلها تجوب خشيبة المسرح وهي تدفع عربة من عربات التسوق التي نستخدمها في"السوبرماركيت". وبدلا من أن تموت غرقا في حادث عرضي، هناك اشارات واضحة الى أن الشرطة الخاصة التابعة لكلاوديوس هي التي قامت باغراقها.
وعلى الرغم من الطابع التراجيدي المعروف لمأساة "هاملت" أمير الدنمارك- وهو العنوان الأصلي للمسرحية، إلا أن شخصية هاملت بتكوينها الخاص، كشاب شديد الحساسية، يمتلك خليطا من البراءة والتمرد على الواقع، بين ذكاء المثقف وحسه الساخر، وجموح الابن الذي يرغب في انزال الانتقام بخصمه.

الإعداد الدرمي والمعالجة الدرامية تجعل شخصيات "هاملت" متعددة الأجناس فدور أوفيليا مثلا تؤديه ممثلة هندية بلكنتها، وهوراشيو يؤديه ممثل أسود، ولاريتيس يؤدي دوره ممثل من أصول لاتينية ينطق الانجليزية أيضا بلكنة اجنبية واضحة، وهكذا، في إشارة لا تخفي دلالتها على أننا أمام لوحة درامية معاصرة لما يحدث في العالم.
هذا العرض لاشك ان من أهم ما يميزه ذلك الأداء المميز للممثل الشاب روي كينيار في دور هاملت، فهو يحمل العرض باكمله على كتفيه، ينوع ويجدد في استخدام الحوار، يعرف أين يتوقف، وكيف يمط الكلمات حينا، أو يضغط عليها حينا آخر، يمزج بين الحس المأساوي والحس الكوميدي، يبدو واعيا بما يوجد حوله من شرور، لكنه أيضا يتمتع بوجود أقرب الأصدقاء بالقرب منه "هوراشيو".
إن هذا العرض يعد ميلادا حقيقيا لممثل كبير سيمضي موهبة راسخة في المسرح والسينما البريطانية بلاشك.
ولعل من المثير للاهتمام أيضا أن نعرف أنه بدءا من التاسع من الشهر القادم ستعرض هذه المسرحية في مئات من دور العرض السينمائي في الولايات المتحدة وبريطانيا على الشاشات بعد تصويرها بكاميرا الفيديو، في تطور من الواضح أنه سيصبح سمة راسخة من سمات العلاقة بين المسرح والسينما في المستقبل.

الجمعة، 12 نوفمبر 2010

"فينوس السوداء": بلاغة الأسلوب

كان الفيلم الفرنسي "فينوس السوداء" Venus noire للمخرج التونسي الأصل عبد اللطيف كشيش، أحد أهم وأفضل ما عرض من أفلام في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير.
هذا فيلم من عالمنا، وعن عالمنا.عن تجبر الإنسان وجبروته واعتدائه المنظم على أخيه الإنسان، عن ذلك الاستغلال البشع للإنسان مع غض النظر عن كل القيم والمعايير الأخلاقية التي أرستها الأديان السماوية.
يعيدنا فيلم فينوس السوداء الذي يناقش موضوع العنصرية، إلى تأمل تلك العلاقة المعقدة بين افريقيا وأوروبا، إلى عصر العبودية، واستغلال الإنسان الأبيض للإنسان الأسود استنادا إلى بعض النظريات التي تدعي "العلمية" التي وضعها الغربيون، والتي تبرر تفوق جنس على جنس آخر.
المشهد الأول من الفيلم، الذي يدور داخل قاعة للمحاضرات في الأكاديمية الفرنسية للعلوم الطبية في باريس عام 1817 يعتبر تمهيدا مباشرا لموضوع الفيلم الذي يستغرق عرضه 160 دقيقة.
في هذا المشهد يقف بروفيسور لكي يشرح الفرق بين الأجناس ويتوقف أمام الجنس الزنجي ليثبت أنه جنس "متخلف" عن الجنس الأوروبي، استنادا إلى الخلافات التشريحية، في شكل الجمجمة ونسبة بروز الفك ونتوء عظام الأنف. وهو يستخدم نموذجا هو تمثال لامرأة "زنجية" خلال شرحه. والمرأة صاحبة التمثال هي بطلة فيلمنا هذا ومحور موضوعه.
ننتقل بعد ذلك مباشرة، أو بالأحرى، نعود إلى لندن عام 1810، وإلى بطلة هذا الفيلم وهي فتاة سوداء تدعى سارتيجي بارتمان (يختصرون اسمها إلى ساره) جاء بها شخص يدعى هندريك سيزار من جنوب افريقيا، حيث كانت تعمل خادمة (في الغالب جارية مستعبدة) تحت إغراء الثروة والشهرة، لكي يستغلها في عروض أقرب إلى عروض السيرك، بل هي عروض السيرك نفسها، فهو يقوم بعرضها داخل قفص مثل القرود والحيوانات المفترسة، ويستخدم سوطا في التعامل معها وترويضها وحثها على أن تفعل ما يأمرها به، ولكن ما يثير اهتمام جمهور لندن من الطبقة الفقيرة بهذه الفتاة أكثر، هو تكوينها الجسماني، وخاصة مؤخرتها وأردافها الكبيرة بشكل غير عادي، وعضوها التناسلي الضخم، وهو ما اعتبر وقتها، دليلا على اختلاف السود عن البيض في كونهم أقرب إلى "الحيوانات"، وأن نساءهم يتمتعن بطاقة جنسية خاصة مثل حيوانات الغابة. وكانت تلك "الأفكار المسبقة" مغروسة عن"الأخر" المختلف من السود، لدى الكثير من الفئات في مجتمعات الغرب، وربما لاتزال حتى يومنا هذا.
ولعل هدف فيلمنا هذا، كشف هذه النظرة الفوقية المسبقة وفضح وحشيتها وعدوانها على الإنسان، ولكن من خلال خصوصية الشكل السينمائي.
تتعرض ساره في عروض السيرك في قلب لندن، لشتى أنواع الانتهاكات الجسدية من جانب الجمهور، ولكنها تبدو رغم ذلك، راضخة، مستسلمة لمصيرها. وهذا هو اللغز الذي لا يكشف لنا الفيلم عن كنهه أبدا. إن "سيدها" يبتزها ابتزازا تارة، ويقدم لها الهدايا تارة أخرى، ثم يخصص لها خادمين (من السود أيضا) لقضاء حاجياتها، ويغريها بالمال الوفير الذي ستدره عليها تلك العروض، مما يمكنها من العودة إلى بلدها حيث "سيصطف الرجال للزواج منها". لكننا نعلم علم اليقين، أنه لا يمنحها سوى ما يبقيها على قيد الحياة وعند اول بادرة للرفض أو إبداء التذمر والتعب، يقوم بالتنكيل بها بوحشية باستخدم اقسى ما يمكن تخيله من عنف بدني ولفظي. لقد أصبحت على ما يبدو، أسيرة لشخص سادي لا تستطيع مقاومته.

 ساره المهمومة المجهدة التي تنتهي آخر الليل في غرفتها، تقبل على الشراب والتدخين بكثافة تخفيفا عن نفسها، حتى تتمكن من النوم استعدادا ليوم آخر شاق.
غير أن هذه المعاملة القاسية أمام الجمهور: استخدام السوط، حث جمهور السكارى من الطبقة العاملة على تحسس مؤخرتها وقرصها والتعامل معها بخشونة والتهليل والهتاف في وجهها، كل هذه الأفعال تلفت أنظار بعض المناهضين للعبودية في لندن خاصة بعد نشر مقال صحفي عن تلك المرأة "النموذجية في سخونتها" التي أصبحوا يلقبونها بـ"فينوس السوداء" أو فينوس الهوتنتوت hottentot، والكلمة الأخيرة مستمدة من لغة بعض قبائل سكان جنوب افريقيا أو من طريقتهم في النطق، وأطلق عليهم هذا الوصف بسبب طريقتهم في الحديث التي بدت للأوروبيين كما لو كانت مجرد لغو فارغ مثل كلمة "هوتنتوت"!.
يصل اعتراض الليبراليين الانجليز إلى مقاضاة سيزار وتنظر الدعوى أمام المحكمة إلا أن ساره تقر أمام القضاة بأنها جاءت من بلدها إلى انجلترا بارادتها الحرة، وأن ما تفعله يوميا أمام الناس ما هو سوى عرض فني، وأنها "فنانة" ولا تعتبر أن العرض يمثل أي اهانة لها. ولا نعرف ما السبب الذي يجعلها تقر بذلك. هل هو الخوف من التشرد والضياع في بلاد غريبة.. ربما.
من لندن ينتقل سيزار بساره بعد تعميدها، إلى باريس حيث يتسلمها منه هناك مساعده رو Reaux الذي يقوم بعرضها في أوساط الطبقة الأرستقراطية فتحقق نجاحا كبيرا وإعجابا من جانب النساء الرجال. هنا يسهب الفيلم كثيرا في رسم صور تفصيلية لمباذل الطبقة العليا الفرنسية، وإستغراقها في العبث واللهو بدرجة جنونية. وينتهي الأمر بعد ذلك بساره إلى العمل في أحد بيوت الدعارة حيث تمرض بعد فترة وجيزة وتموت.
كانت ساره قد رفضت رغبة سيدها المثول أمام مجموعة من العلماء في أكاديمية الطب الفرنسية، والكشف عن أعضائها الجنسية والسماح لهم بفحصها، والآن بعد موتها، يبيع سيدها جثمانها لهؤلاء العلماء لكي يتولوا تشريحه وعمل تمثال مطابق لها يبقى داخل الأكاديمية، باعتبارها نوعا فريدا من الأجناس البشرية!
وفي نهاية الفيلم، من خلال العبارات التي تظهر على الشاشة نعرف أن هذا التمثال ظل في مكانه لمدة 160 عاما إلى أن أزيح من العرض عام 1974. وفي 1994 طالب الرئيس نيسلون مانديلا الفرنسيين بإعادة جثمانها إلى جنوب افريقيا، إلا أن السلطات الفرنسية رفضت، وبعد 8 سنوات، أي في 2002 وضع قانون جديد في فرنسا يسمح باعادة جثمان ساره بارتمان إلى بلدها، ولكن يقيد هذا الحق بالنسبة للآخرين. وقد أعيد الجثمان بالفعل وأعيد دفنه هناك، وتحولت ساره وقصتها إلى أسطورة، صنع عنها فيلم تسجيلي طويل بعنوان "حياة وزمن ساره بارتما"، وصدر عنها عدد من الكتب.
وقد كتب عبد اللطيف كشيش سيناريو الفيلم بالاشتراك مع غالية لاكروا (التي سبق أن شاهدناها كممثلة في عدد من الأفلام مثل "صمت القصور" لمفيدة التلاتلي، و"بزناس" لنور بوزيد، و"موزار إلى الأبد" لكشيش نفسه.
وأهم ملامح السيناريو اهتمامه الشديد بالتفاصيل، بأجواء الفترة، بملامح الشخصيات، بالحرص على الواقعية، بخلق حبكة تقوم على التفاعل المستمر مع الحدث، مع الصورة، وإغناء الصور بالمزيد من التفاصيل، وشحن المتفرج من خلال التأمل العقلي المتأني فيما يشاهده وليس من خلال التصاعد الدرامي العنيف.
ويتطابق أسلوب كشيش في إخراج الفيلم مع أسلوبه الذي بلغ قمته في فيلمه السابق "كسكسي بالسمك": الاعتماد على تجسيد التفاصيل والتناقضات بشكل محسوس، من خلال كاميرا تراقب، وتتسلل، وترقب كل لفتة وحركة وايماءة، مع الاهتمام الشديد بتفاصيل اللقطة، بالتكوين، بقطع الديكور، بحركة الكاميرا في هذا الديكور، بعلاقة الشخصيات الثانوية بالشخصيات الرئيسية، بعلاقة الشخصيات عموما بالمكان، وهو أسلوب يعتمد أيضا على خلق الإيهام بأننا نشاهد ما يجري في الزمن الفعلي الحقيقي، دون تدخل كبير من المونتاج، وهو بالطبع مجرد "إيهام"، فالمونتاج موجود، ودوره لاشك فيه، لكنه لا يرمي إلى الانتقالات السريعة بين اللقطات، ولا يعتمد على التداخل، بل على الربط بين اللقطات والمشاهد في سلاسة كما لو كنا نشاهد الفيلم كله في مجموعة من اللقطات- المشاهد الطويلة، التي تبقى اللقطة فيها على الشاشة لمسافة زمنية أطول من المعتاد، والهدف هو اتاحة الفرصة للتأمل فيما نشاهده، للإحاطة بكل التفاصيل، للتأثير في المتفرج، كما لو كان المخرج يرغب في جعل المتفرج شاهدا على ما يجري داخل المشهد نفسه.
ولاشك أن تجربة كشيش التمثيلية تجعله أيضا يجيد التعامل مع الممثلين، ويتمكن من استخراج أقصى ما لديهم من قدرات على الأداء في مشاهد لا يمكن نسيانها في الفيلم. إنه مثلا يقوم بتدريب وتأهيل تلك الممثلة القادمة من المجهول، أي ياهيما توريس التي قامت بدور ساره، ويدربها ويجعلها تتمكن من التعبير بالفرنسية ولغة الأفريكانا (لغة بيض جنوب افريقيا)، والانجليزية والهولندية، كما تتعرض لمواقف أثناء التمثيل يصعب على أي ممثلة محترفة الصمود فيها، خاصة في لقطات الكلوز أب أي اللقطات القريبة الطويلة المرهقة، لكنها تنجح بل وتتألق في أداء الدور الرئيسي.
أسلوب كشيش قد لا يعجب بعض المشاهدين بسبب ما يعتبرونه نوعا من الإطالة التي لا ضرورة لها، ويعتقدون أن من الأفضل للفيلم لو كانت اللقطات أقصر. وهو رأي لا أتفق معه، فالأسلوب هو الفيلم، والفيلم هو الأسلوب، وليس من الممكن معاملة فيلم مثل هذا كما نتعامل مع أفلام الحبكة التقليدية التي تخضع لنمط محدد خلقته ورسخته هوليوود عبر تاريخها الطويل، وإن كانت لكل قاعدة استثناءاتها، وإلا فكيف يمكننا أن ننظر مثلا إلى فيلم أمريكي خارج عن النمط وعن النوع genre هو فيلم "الثور الهائج" The Raging Bull لسكورسيزي، وقبله إلى فيلم "بوابة الجنة" Heaven’s Gate لمايكل شيمينو، وهما يتجاوزان كثيرا النقاط المحددة لـ"القطع" cut أو الانتقال من لقطة إلى أخرى، حسب قواعد المونتاج في هوليوود؟
إن متابعة مشاهد فيلم "فينوس السوداء" قد تكون مرهقة، ليس بسبب طولها، بل بسبب قسوتها، وخدشها لما أصبح مستقرا الآن في الأذهان من استهجان ذلك السلوك الهمجي الذي كان يصدر حتى من أرقى الأوساط الباريسية كما يصوره كشيش. لكن في تلك القسوة تكمن تحديدا الفكرة التي يرغب في ترسيخها.
ولاشك أن الطاقم الفني الذي تعاون مع كشيش في تجسيد رؤيته قد أبلى بلاء حسنا. خذ مثلا مهندسي الديكور اللذين برعا كثيرا، سواء في إعادة تشييد ديكورات مدينة لندن أوائل القرن التاسع عشر، وكيف كانت تبدو حاناتها الشعبية وساحاتها وبيوتها، أو في تشييد صالونات الأرستقراطية الباريسية ومنتدياتها، كما تمكن مصمم الملابس فابيو بيرون من تقديم ملابس وأزياء الفترة بصورة أخاذة ولكن دون أن تشتت الرؤية. واستخدم مؤلف موسيقى الفيلم، صلاح الدين كشيش، تيمات كلاسيكية تفيض بالحزن والشجن، تسرع إيقاعاتها وقت الحاجة إلى السرعة وتبطيء وقتما يتعين البطء.
ربما تكون الشحنة العاطفية في الفيلم أقل من نظيرتها في فيلم كشيش السابق، وربما يكون تعاطف المخرج أقل مع شخصياته، ونظرته إليها أكثر حسما وبرودة عما كان في افلامه السابقة، لكن طبيعة الموضوع تفرض مثل هذه النظرة. فهو يتجاوز العاطفة، ولا يستدعيها من المتفرج بقدر ما يستدعي العقل والفكر والتأمل. وتلك هي روعة الفيلم.

السبت، 6 نوفمبر 2010

إسرائيل والمثقفون العرب: المسكوت عنه في موضوع التطبيع


ليزلي دودوين
 حول ما حدث في مهرجان أبو ظبي

بقلم :أمير العمري


مرة أخرى تنفجر قضية التطبيع في وجوهنا. هذه المرة يثار الموضوع من جانب ما يسمى باتحاد نقابات المهن الفنية في مصر، الذي أصدر بيانا عنتريا يوم الخميس 4 نوفمبر 2010 يهاجم فيه مهرجان أبو ظبي السينمائي ويعلن مقاطعته له ويهدد أعضاءه، أي أعضاء الاتحاد من الفنانين المصريين، بالطرد من عضويته وبالتالي منعهم من ممارسة العمل، إذا شاركوا في المهرجان بعد ذلك. وليت الأمر توقف عند هذا الحد بل وصل الأمر برئيس الاتحاد، إلى توجيه انتقادات عنيفة ضد الصحفيين والنقاد المصريين الذين حضروا المهرجان ولم ينسحبوا بسبب وجود منتجة "اسرائيلية" هناك!
ورئيس الاتحاد ممدوح الليثي ضابط شرطة سابق وصادر ضده حكم من القضاء المصري في جريمة مخلة بالشرف حتى لو نجح هو فيما بعد في شطب الحكم بعد تدخل قيادات معروفة بالفساد، تماما كما تدخلت نفس القيادات في عمل القضاء لتخفيف الحكم بالاعدام الصادر ضد المحرض البلطجي هشام طلعت مصطفى الذي دفع الملايين لقتل المغنية سوزان تميم في القضية التي يعرف حقائقها الشعب المصري بكل طوائفه وأركانه، وكذلك الالتفاف الحكومي الرسمي بعد ذلك على الحكم ببطلان عقد بيع أراضي الدولة لاقامة مدينة سكنية لنفس الشخص، أي القاتل الذي ثبتت ادانته بما لا يدع أي مجال للشك، بأسعار "رمزية"، قامت الحكومة على إثر ذلك الحكم باعادة بيعها له بنفس الأسعار تقريبا وبقرار سيادي من أعلى مستوى في دولاب الفساد القائم في مصر.
وبدايةً، فإن ما أكتبه هنا لا علاقة له، من قريب أو بعيد بالدفاع عن مهرجان أبو ظبي أو غيره من المهرجانات، فموقفي من هذه المهرجانات مكتوب ومنشور ومعلن، بما لها وما عليها، ويستطيع المهرجان على أي حال أن يرد أو يبرر، وهذا شأنه إذا فعل. وإنما أنا أتحدث لأنني أولا كنت أحد هؤلاء المصريين الحاضرين في المهرجان، وثانيا لأنني أرى رأيا مخالفا في قضية التطبيع التي تحولت إلى ألعاب صبيانية، وإلى نوع من المزايدة على الشرفاء، يستخدمها الانتهازيون وبعض عملاء الأجهزة الأمنية لوصم المعارضين الذين ليسوا على استعداد لأي نوع من المساومة أو الدخول إلى "الحظيرة" بتلك التهمة الشيطانية التي تحولت إلى فزاعة، أي تهمة التطبيع، دون أن يكون لهذا أي أساس. ولا أستبعد أن ينالني البعض بهجومه بعد هذا المقال، لكني لا أقيم وزنا لمثل هذه الترهات، ولا أظن ان مثل هذه الاتهامات لها أي قيمة وهي على أي حال، لن تكون الأولى ولا الأخيرة!
تتعلق القصة أساسا بهذا النوع من المزايدات المستمرة من جانب فصيل في المجتمع المصري، يظن نفسه، الحارس على الوطنية، والذي يمكنه أيضا أن يلقن العرب خارج مصر أيضا، معنى الصمود والمقاطعة ورفض التطبيع ربما بسبب عقدة الاحاساس بالعجز عن منع وجود سفارة اسرائيلية في قلب العاصمة المصرية نفسها.
ويتسم الخطاب الصادر عن هذا الفصيل دائما بالتهديد والوعيد والهستيريا التي تخلط الأوراق، وتفتش عن رائحة التطبيع في كل زاوية وتحت كل حجر، بما يصل أحيانا إلى مستوى الإرهاب الفكري، والابتزاز السياسي للشرفاء والوطنيين الذين لا يستطيع أي شخص أن يشكك في ولائهم لوطنهم، وعدائهم الدائم والمستمر للصهيونية.
لقطة من فيلم "الغرب هو الغرب"
وليس بوسع أي مخلوق أن يشكك في كاتب هذه السطور شخصيا، فيما يتعلق بهذه المواقف تحديدا، وبوسع أي متشكك أن يبحث ويراجع تاريخ الكاتب الشخصي منذ أكثر من 30 عاما، وما قدمه ويقدمه في قضية التصدي للصهيونية وإسرائيل، ويقارن مع ما قدمه من إسهام فكري، وبين ما قدمه غيره من حفنة المطبلين والمهللين لبيان اتحاد الفنانين فقط لمجرد أنهم لم يتلقوا دعوة من مهرجان أبو ظبي تتيح لهم الفرصة لالتقاط صور تذكارية مع النجوم الحاضرين، ولعق بقايا أطباق الطعام، أو تصفية لحسابات معروفة ومنشورة، بينهم وبين أحد العاملين بالمهرجان، وصل من ناحيتهم إلى حد التشكيك في انتمائه العربي والادعاء بأن له أصولا يهودية!
وبكل أسف وجدت أيضا الناقد الزميل سمير فريد، في إطار الرغبة في توجيه ضربة لإدارة مهرجان أبو ظبي الحالية، يهاجم المهرجان ويصور الأمر على أن "المهرجان يمنح 30 ألف دولار لمنتجة إسرائيلية" ويذكرنا بما حدث عندما كان يعمل مستشارا للمهرجان في دورتيه الأوليتين وحاول المهرجان أن يأتي بفيلم "إسرائيلي" هو "زيارة الفرقة الموسيقية" (بالمناسبة سمير من أشد المعجبين به ويعتبره تحفة فنية وهو بالطبع حر في رأيه!) ويقول لنا للمرة الأولى، إنه كان مسؤولا عن وقف عرض الفيلم بالمهرجان بعد أن هدد بالاستقالة، متساءلا عن صمت الذين سبق ان هاجموا المهرجان لهذه الخطوة هذه المرة فيقول بالحرف:  في عموده بجريدة "المصري اليوم" (6 نوفمبر)"ومن اللافت الآن صمت بعض الذين حضروا ختام المهرجان عن الدعوة التى تمت ٢٠١٠ بينما كان صوتهم عالياً عن الدعوة التى لم تتم ٢٠٠٧".
والقصة ببساطة شديدة أن المنتجة البريطانية ليزلي يودوين (أؤكد البريطانية، فهي من مواليد مدينة برمنجهام الانجليزية) جاءت إلى المهرجان بصحبة فيلمها "الغرب هو الغرب" West is West وهو فيلم جيد سبق أن تناولته في هذه المدونة في اطار الكتابة عن المهرجان، ولا علاقة له من قريب أو بعيد باسرائيل أو بالعرب، بل يروي قصة ذات دلالة، عن العلاقة بين المسلمين (من باكستان) والإنجليز، ويصور بشكل كوميدي التناقضات بين المجموعتين، في اطار كوميدي يسعى للتصالح والفهم المتبادل، وليس الى ازكاء نيران الحقد العنصري بين الشعوب، وهو من تأليف كاتب هندي وبطولة ممثل هندي شهير، ويعد استكمالا لفيلم آخر بريطاني أنتج في 1999 بعنوان "الشرق هو الشرق".
هذه المنتجة وقفت في الندوة الصحفية لمناقشة الفيلم أو ربما خلال اعلان فوز فيلمها بجائزة الجمهور (ولم أحضر أي منهما شخصيا ولم أعرف عما حدث شيئا الا بعد أن انتهى المهرجان وعدت إلى لندن حينما قرأت ما نشرته بعض الصحف بعد انتهاء المهرجان بأيام).. فقد قالت المنتجة البريطانية حسب ما نقلته بعض الصحف إنها إسرائيلية الجنسية، وإنها تفخر بذلك. وذكرت تلك المصادر أن “ليزلى” قالت أنها أرادت أن تقضى على التعصب والانغلاق العقلى لدى البعض نتيجة التعميمات التى تطلق على أى شخص لمجرد أنه إسرائيلى فهى ليست مسؤولة عن تصرفات الدولة التى جاءت منها.
والواضح الجلي من هذه القصة أن ليزلي يودوين ممن يطلق عليهم "مزدوجي الجنسية" أي أنها بريطانية يهودية، حاصلة على الجنسية الاسرائيلية، وإن كانت قد ولدت وتقيم وتعمل في بريطانيا، وللعلم، ففيلمها شاركت مؤسسة بي بي سي البريطانية طرفا في انتاجه مع جهات بريطانية أخرى، وعرض في عدد من المهرجانات الدولية أحدثها مهرجان لندن السينمائي.

ممدوح الليثي
هذه النظرية
ولا أظن أن خطيئة المهرجان أنه أتى بفيلم بريطاني ودعا منتجته "البريطانية" ثم وقفت هي لتقول فجأة، إنها تحمل الجنسية الإسرائيلية. فما هو المطلوب في هذه الحالة؟ هل يجب أن تتدخل أجهزة المخابرات العربية في عمل مهرجانات السينما وتفتش في التاريخ الشخصي لكل المدعوين لتضمن ألا تتسلل شخصية تحمل الجنسية المزدوجة للمهرجان؟ والمعروف أن الكثيرين ممن يأتون إلى المهرجانات العربية مثل القاهرة وقرطاج ومراكش، هم من الاسرائيليين الذين يحملون جوازات سفر أمريكية وغير أمريكية، دون أن يعلنوا ذلك، بل ويتردد على مهرجان القاهرة السينمائي تحديدا عدد من السينمائيين الإسرائيليين منهم ليا فان لير مديرة مهرجان القدس السينمائي (وقد شاهدتها بنفسي عدة مرات)، ولكن بدون دعوة رسمية، ويجرون اتصالات مع بعض ضيوف المهرجان، وربما أيضا يشترون تذاكر يشاهدون بها بعض الافلام، فماذا فعل اتحاد الفنانين في مواجهة ذلك "الاختراق" العظيم الهائل الخطير جدا الذي يهدد أسس الثقافة المصرية والعربية – ياحسرة- بالانهيار والتصدع أكثر مما يهددها مثلا الفكر الوهابي المتخلف الزاحف من أعمق مجتمعات التصحر والبداوة والانغلاق، أو ديكتاتورية نظام هو الذي يقيم معاهدة مع عدو الشعب المصري التاريخي أي إسرائيل، ويسمح لها بافتتاح وتشغيل سفارة تعمل باستمرار تحت سمع وبصر ممدوح الليثي وحفنة الأفواه المريضة المحيطة به، دون أن يصدر الليثي وأعوانه بيانات التنديد والشجب والادانة والمقاطعة، ودون أن نرى لاتحاده المزعوم أي دور في معارضة نظام يقوم على القمع وإلغاء الآخر وشطبه من التاريخ، ويفتح ذراعيه وساقيه لإسرائيل وعملاء إسرائيل في أجهزة الإعلام والثقافة!
وللزميل الكبير سمير فريد أقول إن هناك فرقا كبيرا بين عرض فيلم بريطاني حول العلاقة بين الشرق والغرب، وبين عرض فيلم إسرائيلي حول العلاقة بين الإسرائيليين والمصريين، وإن هناك فرقا كبيرا أيضا بين أن يتخذ فيلم "زيارة الفرقة" الإسرائيلي وسيلة لعبور الأفلام الإسرائيلية للعالم العربي، وهو أمر مرفوض تماما حاليا، حتى لو رفع شعار السلام، وبين فيلم إنساني جميل يدعو للتفاهم بين الانجليز (الذين يعيشون بعقدة الامبراطورية القديمة) وبين الهنود أو الباكستانيين الذي لا يمكنهم الثقة في الانجليز. وأما ما يلوح به سمير فريد من أن جائزة الثلاثين ألف دولار فازت بها منتجة إسرائيلية، فهذه هي جائزة الجمهور وليست جائزة لجنة التحكيم ولا المهرجان، وهي لم تذهب لفيلم إسرائيلي كما أوضحنا. فماذا لو قلنا لسمير وغيره إن المنتجة ليزلي يودوين أدانت في كلمتها السياسة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وقالت إنها توجه انتقاداتها للمسؤولين الإسرائيليين الذين تلتقي بهم حول خطورة ما يفعلونه من تكريس للكراهية في حين أنهم يتعين عليهم أن يعيشوا مع الفلسطينيين وأن يفهمونهم. وهذه هي باقي تصريحات يودوين التي لم تنقلها بكل أسف، الصحف العربية التي تسعى وراء الاثارة السطحية فقط.
وقد كان هناك في المهرجان نفسه، كما في الدوحة، وربما سيكون في القاهرة أيضا، فيلم "ميرال" الذي شاهدناه معا في فينيسيا وأعجبنا به، وهو من إخراج مخرج أمريكي يهودي ليس مستبعدا أن يكون أيضا حاملا للجنسية الإسرائيلية، فكيف يمكننا أن نعرف، علما بأن كاتبة الفيلم فلسطينية، وأن عددا كبيرا من العاملين به هم من الفلسطينيين، فهل نحكم عليهم جميعا بالخيانة الوطنية أيضا!

ما المطلوب؟
ماذا كان مطلوبا من النقاد المصريين الحاضرين في المهرجان: أن ينسحبوا لمجرد وجود امرأة بريطانية- إسرائيلية جاءت بفيلم بريطاني.. وما الذي يجديه هذا الانسحاب؟ وما الذي يجديه أساسا، أي انسحاب من أي محفل دولي أمام الإسرائيليين، ولماذا يتعين على الطرف "العربي" دوما أن ينسحب في حين يتبجح الإسرائيلي ويتوغل ويصمد وينتقد ويفرض ويعرض وجهة نظره؟ هل أصبحت هذه السياسة التافهة التي تمارس منذ الخمسينيات بقرة مقدسة غير قابلة للمراجعة من أجل التوصل إلى مواقف أكثر فعالية وأكثر جدية في مواجهة الصهيونية والأنظمة التي تتعامل معها؟ وهل يجرؤ ممدوح الليثي، المسؤول عن جهاز الانتاج السينمائي الرسمي في مصر، على مواجهة إسرائيل بالفعل وليس بالقول، وتمويل الأفلام "الحقيقية" التي تفضح ممارسات إسرائيل "الحقيقية" داخل مصر نفسها؟ أم أنه سيتوجه أولا إلى أولياء نعمته وزملائه القدمي في مباحث أمن الدولة لكي يطلب رأيهم، وهل سيتناقض أمن حسني مبارك مع مواقف حسني مبارك؟
إن موضوع التطبيع أصبح بكل تأكيد في حاجة إلى تحديد علمي بعد أن أصبح حديث حق يراد به باطل، وأصبح كل من هب ودب من صحفيي آخر زمن، يستخدمه للصراخ في وجه الشرفاء.
يشارك الممثل خالد النبوي في فيلم أمريكي هو "لعبة عادلة"Fair Game (وهو بالمناسبة من أفلام الهجوم على السياسة الأمريكية في العراق) الذي اشتركت فيه ممثلة إسرائيلية، فتقوم قيامة البعض.
يذهب الممثل عمرو واكد لتمثيل دور في مسلسل بريطاني كبير عن صدام حسين، يشارك فيه ممثل إسرائيلي، فتقوم القيامة أيضا.
فما هو المطلوب: أن يمتنع كل الممثلين العرب عن العمل ويتركوا الفرصة، كل الفرصة، أمام الإسرائيليين للتواجد والتعبير وتقديم أنفسهم للعالم، ولماذا لا ينسحب الإسرائيليون الذين نقول عنهم إن لا تراث لديهم ولا ثقافة ولا تاريخ، وبأن دولتهم تقوم على التلفيق؟ لماذا لا ينسحب الطرف الإسرائيلي "الضعيف" تخاذلا وجبنا عن مواجهة الطرف "العربي" الأكثر رسوخا من الناحية التاريخية والثقافية، ولماذا يتعين ان ينسحب ويتوارى دائما هذا الطرف (العربي) ويترك المجال أمام الإسرائيليين؟ أليست هذه السياسة نفسها امتدادا لسياسة الانسحاب بدون معركة من هضبة الجولان، بل ومن سيناء في 1967 قبل أي اشتباك حقيقي مع العدو؟ وهل أدت هذه الانسحابات إلى تعزيز القضية الفلسطينية والى تحرير الأرض؟!
لقطة من الفيلم الإسرائيلي "زيارة الفرقة الموسيقية"
هذه المكارثية الجديدة
تذهب الممثلة هند صبري لزيارة الفلسطينيين في الضفة الغربية فتقوم القيامة: كيف تحصل هند على إذن بالعبور من السلطات الإسرائيلية، فممن كان يتعين أن تحصل هند على التصريح؟ من المخابرات المصرية مثلا في حين أن السيد عمر سليمان مدير المخابرات المصرية، لا يستطيع عبور مصر إلى غزة بدون استئذان الإسرائيليين.. بل ويحصل الرئيس الفلسطيني السيد محمود عباس نفسه على إذن للانتتقال داخل الأراضي الفلسطينية أليس كذلك؟ وأليس هذا هو الواقع المؤسف المخزي الجدير باهتمام كل القوى السياسية التي تسعى للتغيير الحقيقي في أرض الواقع وليس التشدق بشعارات تافهة، ثم الغرق بعد ذلك في غيبوبة المخدرات والخمر!
بكل أسف اقول إن عددا من المثقفين المصريين من أصحاب الصوت العالي، والفهم السطحي الذي لا يعرف كيف يفكر العالم فينا وكيف ينظر إلينا، فرضوا إطارا ضيقا يتعلق بنظرتهم للتطبيع، يرفض التواجد ويرفض المواجهة الحقيقية في ميادين النزال: الفكري والثقافي والفني والسينمائي، ويفضل دائما أن تبقى إسرائيل وحدها، تقدم نفسها للعالم- كذبا وادعاء- كنموذج على "التحضر، والهدوء، والعقلانية" في كل هذه المجالات.
إنه نوع من المكارثية الجديدة التي تفتش في العقول والقلوب والأفكار، وتتولى توزيع صكوك الوطنية أو سحب الوطينة وتخوين الكتاب والفنانين الوطنيين نتيجة فرضيات مضحكة ومضللة تؤدي إلى تقوية الطرف الآخر في الصراع طيلة الوقت، وتجعلنا أضحوطة امام العالم، وغريب أنها أيضا تصدر من جانب طرف هو الأدعى أن نتشكك فيه بحكم ولاءاته لسلطة قمعية غير وطنية أصلا، فقدت شرعيتها منذ دهر، وسقوطها مؤجل فقط.
ودعونا نطرح هذه الأسئلة: 
لماذا لا تنسحب الدول العربية من الأمم المتحدة؟ ومن منظمات الأمم المتحدة التي توجد فيها إسرائيل، ولماذا لا ينسحب ممثلو الدول العربية (المناضلة ضد اسرائيل) من أي اجتماع دولي يوجد فيه الطرف الإسرائيلي؟ ولماذا يطلب من الممثلين العرب الانسحاب امام أي وجود اسرائيلي في أي عمل فني؟ هل اشتراك خالد النبوي في فيلم أمريكي مع ممثلة اسرائيلية الأصل، معناه أن خالد النبوي أصبح ببساطة، جاسوسا لإسرائيل، وانه أعلن اعتراف العالم العربي بها، وهل معنى قبوله الدور أن المثقفين المصريين أصبحوا من "المطبعين" مع إسرائيل؟
وما معنى "التطبيع" تحديدا؟ وما هي حدوده وقيوده؟ ومن الذي يحددها؟ وكيف يضر التطبيع القضية الفلسطينية؟ وما هو منطق المقاطعة؟ وهل المقاطعة لكل ما هو يهودي الديانة، أم صهيوني داعم لاسرائيل فكريا وماديا ومعنويا، حتى لو كان أوروبيا مسيحيا، أو هنديا هندوسيا، أو حتى عربيا مسلما، وماذا لو كان هناك إسرائيلي يرفض السياسة الإسرائيلية ويؤيد القضية الفلسطينية، كيف سنتعامل معه، هل نتعامل معه على أنه إسرائيلي يهودي لا يجوز مصافحته، أم على أنه نصير ورفيق درب، هل كل ما يأتي من داخل إسرائيل (وهو مجتمع شديد التناقضات) شر مطلق يجب أن نتجنبه، وكل ما يأتي من داخل الدول العربية خير مطلق؟ وماذا لو صدر كتاب اسرائيلي معادي للصهيونية وفاضح للممارسات العنصرية الاسرائيلية، هل نرفضه ونرفض مؤلفه لأنه "إسرائيلي" وننضم بذلك لطابور الحقى والأغبياء في العالم العربي وهو طابور طويل، وهل المواجهة على جبهة الثقافة تغني بالفعل عن المواجهة الأشمل والأعمق على جبهة السياسة؟ وماذا يستطيع المثقف العربي أن يفعل في مواجهة الساسة المتخاذلين الذين يقبلون يوميا يد إسرائيل لكي تقبل الجلوس معهم، ومع الطرف الفلسطيني المغلوب على أمره؟!
كل هذه الأسئلة ينبغي طرحها بكل جرأة وصراحة، والاجتهاد في تقديم إجابات علمية عنها، بعيدة عن الشعارات والمزايدات الفارغة التي لا تؤدي سوى إلى مزيد من الهزائم والانكسارات.
وقديما قالوا "خذوا الحكمة من أفواه المجانين".. لكننا لا يمكن أن نتعلم الوطنية من بيانات الـ........!

الأربعاء، 3 نوفمبر 2010

"التجلي الأخير لغيلان الدمشقي" لهيثم حقي


بقلم: أمير العمري

شاهدت أخيرا  الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج السوري الكبيرهيثم حقي، وهو من أعلام الإخراج والإنتاج التليفزيوني في سورية، وقد أخرج عشرات المسلسلات والأفلام التليفزيونية خلال أكثر من ثلاثين سنة، إلا أن دراسته الأساسية وعشقه الأول للسينما، وليس لمسلسلات التليفزيون، ولكن الوضع السينمائي في سورية وظروفه المعروفة فرضت عليه الابتعاد، لسنوات طويلة، عن إخراج أفلام سينمائية.
غير أنني بعد أن شاهدت فيلمه السينمائي "التجلي الأخير لغيلان الدمشقي"، الذي أنتجه وكتب له السيناريو وأخرجه، أدركت أن هيثم يتمتع بحس سينمائي رفيع، يتبدى في اهتمامه بالعناصر التشكيلية في تكوين اللقطات، وإحكام الإيقاع داخل المشاهد المختلفة لفيلمه، والانتقالات المحكمة في الزمن، بين الماضي والحاضر، وتحريك الكاميرا برقة ورصانة ودون إفراط، والاقتصاد في الحوار، والتعامل الواثق مع الممثلين بحيث يستخرج منهم أفضل ما عندهم، والأكثر تعبيرا عما يريد تجسيده. كما أنه يهتم كثيرا بشريط الصوت، وأساسا، بالموسيقى التي تضفي جوا خاصا سحريا على الفيلم، خاصة وأن الفيلم يدور في المساحة الواقعة بين الوعي واللاوعي، أو أن هذا على الأقل، هو استقبالي الشخصي له، ولا أدري ما إذا كان هذا صحيحا تماما، لكني لا أميل إلى التعامل مع هذا الفيلم ومحاسبته على أساس واقعيته، أو قربه من الواقع "الفوتوغراف"، فهناك مثلا الكثير من السمات الكاريكاتورية التي يضفيها على الشخصية الرئيسية، طبقا لرؤيته لتلك الشخصية وليس حسب علاقتها بالواقع.
مفهوم الواقعية لا يحتاج مني إلى مزيد من الشرح، فليس المهم أن يتطابق الفيلم مع الواقع، بل الأهم أن يكون مستمدا من الواقع، بمادته الخام، يتفاعل معه، ويقدم "رؤية" خاصة هي رؤية المخرج له، وهو ما يحاول هيثم حقي تقديمه هنا.
إنه فنان سينمائي يعبر من خلال الشخصيات التي يجسدها، ومن خلال الصور وتعاقبها وطريقة توليفها معا، عن "إحساس ما" يلف الفيلم، دون أن تكون هناك تلك "الرسالة" المباشرة التي تلخص لنا ما يريد أن يقوله.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية "سامي" (يقوم بدوره فارس الحلو) الذي يبدو وقد تجاوز الخمسين من عمره، لكنه يقول إنه لا يزال في الخامسة والثلاثين، فلا نعرف ما إذا كان صادقا أم كاذبا: وفي الحالتين، تعيش شخصية سامي مأزقا وجوديا دون شك.. وهو مأزق يتعلق بالعجز عن التحقق الذاتي، وعن التفاعل مع الواقع. إنه موظف في إحدى الإدارات الصحية، لكنه على ما يبدو، لا يقيم أي علاقة مع مكان عمله أو مع الشخصيات التي تتردد عليه، بل يكتفي بمراقبة الجميع والتحليق في عالم الخيال طوال الوقت. وهو يقوم بتحضير رسالة دكتوراه عن المعتزلة، موضوعها هو غيلان الدمشقي، القائم على بيت المال في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وقصة خلافه الشهيرة مع هشام بن عبد الملك، وكيف رفض الامتثال لسلطة يراها خارجة عن جوهر الدين، أي العدل، وكيف يتصدى لها ويدفع حياته ثمنا لدفاعه عن العدل والحرية وتصديه لجبروت الخليفة الذي يحكم باسم الدين في حين يعيث هو ورجاله، في الأرض فساده، يستولي على المال العام لنفسه، وينشر الخوف والارهاب في الديار، وينتقم بقسوة من كل من يعارضه. وتكون نتيجة الصراع إقامة حد الحرابة على غيلان الدمشقي: تقطيع أطرافه ثم لسانه، ثم صلبه حتى الموت، دون أن يتخلى عن مبادئه وإخلاصه لمبادئه.
هذه القصة الرمزية بالطبع، نراها مجزأة عبر لحظات مفصلية معينة خلال السياق الذي ينتقل بين الحاضر في مدينة دمشق المعاصرة، والماضي من عهد الخليفة الآموي. إننا نرى في الحاضر بطلنا سامي، نموذجا للإنسان الفارغ، الخاوي، الجبان، الذي لا يملك حرية اتخاذ أي قرار، والشيء الوحيد الذي يمارسه في حياته هو الأكل بنهم، ربما تعويضا عن رغباته الجنسية العارمة المكبوتة التي لا يستطيع أن يحققها بسبب عجزه عن إقامة أية علاقة حقيقية مع المرأة، يهرب دائما إلى الخيال.
إنه من جهة، واقع في غرام جارته الشابة الحسناء "سناء" التي ترمز للبراءة والحلم بالمستقبل، لكن سناء ترتبط بعلاقة حب مع شاب مثلها من الباحثين عن الأمل ولو من خلال أغنيات تعبر عن التمرد والرغبة في الانعتاق والتحرر، ومن ناحية أخرى لا يفتأ سامي يتلصص على الجارة الأخرى العاهرة، يراقب كيف يستغلها قواد ومقامر (ربما يكون زوجها) ينكل بها ويقسو عليها لكي تعطيه كل ما تكسبه من مال، في حين تبدو هي مضطرة للانفاق على ولديها وتستسلم بالتالي لمصيرها.. غير أن سالم لا يحرك ساكنا وهو يراها يوما بعد يوم، عرضة للضرب والتنكيل والإيذاء، ويكتفي بالتلصص من مكمنه في المنزل المجاور، يشتهيها لكنه عاجز حتى عن مخاطبتها.
إنه يشعر بالقهر بسبب عجزه المزدوج، وكما أنه عاجز عن البوح بحبه لجارته الشابة، وعن تفريغ المكبوت الجنسي. وقد يكون "سامي" في هذا السياق نموذجا للإنسان المتوسط، الذي تكون في واقع محدد، يقمع الإنسان ويلغي شخصيته، ويصادر حتى قدرته على الاختيار، ويترك له فقط حرية اختيار الطعام والشراب. لقد أصبح مسخا مجردا، يتحرك في دوائر طوال الوقت، كلامه قليل، لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه، وحركنه تدور داخل دوائر مغلقة محدودة، كامن معظم الوقت في مكانه يكتفي بالتلصص، فالعجز هو السمة المميزة له.
هذه الحالة من الاحباط والعجز والضياع تجعله لا يستطيع الدخول في أي مناقشة: هو مثلا يستمع إلى جدال في المقهى بين مجموعة من الشباب حول ما يحدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين ودخول القوات الأمريكية، لكنه لا يتدخل في المناقشة لأنه فاقد للرأي، يهرب من الواقع إلى الخيال، يتخيل نفسه في دور غريب تماما عليه هو دور غيلان الدمشقي بشجاعته وقوة شخصيته وبطولته الأسطورية.
وفي الفيلم دون شك، الكثير من الإشارات الرمزية حول السلطة التي تأتي (بالوراثة).. عندما نرى كيف يتم توريث عمر بن عبد العزيز، ويبايعه الدمشقي على أساس رد أموال المسلمين إلي المسلمين، وإصلاح حال العباد، أي أن المبايعة تكون هنا مشروطة. ولكن عندما يأتي خليفة فاسد، يكون هناك موقف آخر، هو موقف الرفض والمقاومة.
إلا أن المشكلة التي واجهتني وأنا أشاهد هذا الفيلم، تتمثل في أنني أحسست بغياب المنطق الدرامي في الربط بين شخصية سامي بتكوينها "الحشري" (نسبة الى الحشرات)، إذا جاز التعبير، وبين ما يمكن أن تتمثله أو تدرسه أو تحلم به بديلا، أي شخصية قوية مثل شخصية غيلان الدمشقي، خاصة وأن شخصية سامي لا تواجه سلطة غاشمة مباشرة أو قضية تتعلق بالعدالة مثلا لكي ترتد إلى الحلم بشخصية غيلان وتمثلها، بل الأمر لا يخرج عن مجموعة متراكمة من الإحباطات العاطفية التي تجعل شخصية سامي تفقد حتى القدرة على الانفعال عند وفاة أقرب الناس إليه، أي أمه. إنها ولاشك، مشكلة قد تعود إلى بناء السيناريو نفسه وبناء الشخصية الرئيسية بملامحها المحددة. إن الانتقال في الخيال إلى صور وانماط مغايرة للحقيقة، كان نشاهد عندما يرى سامي نفسه مثلا، خليفة للمسلمين يسهر ويأكل ويشرب، ويغازل إحدى جارياته التي يرى فيها صورة جارته الشابة "سناء"، لكن أن يرتد طوال الفيلم، إلى الجانب الإيجاني الرافض في شخصية غيلان، فإن هذا يبدو بتكوينه الفكري المعقد، بعيدا عن تكوين شخصية سامي البسيطة الأقرب إلى البلاهة، والبعيدة بكل تأكيد عن الذكاء أو الفطنة والمعرفة. والدليل أنه لا يستطيع أن يكتب صفحة واحدة في رسالة الدكتوراه التي يعدها، بل يسرح بخياله بعيدا أثناء المحاضرة الوحيدة التي أتيح له حضورها للاستماع إلى أستاذ متخصص في تاريخ المعتزلة.
لكن لا بأس فربما يكون هذا أقصى ما يمكن تحقيقه في ظل الأوضاع الرقابية القائمة التي حالت رغم ذلك، بين الفيلم والجمهور وحظرت عرضه في سورية بعد أن وصلت الرسالة.
التحكم في الأداء التمثيلي واضح في الفيلم. ولاشك أن هيثم كان موفقا في اختيار فارس الحلو في الدور الرئيسي، وهو ما يذكرنا في الكثير من المشاهد بأداء الممثل البريطاني الراحل أوليفر ريد، بتعبيرات وجهه الموحية، وقوة صوته، وبروز شخصيته في دور غيلان الدمشقي، وضعفه وتهافته الذي يدعو حينا إلى الشفقة، وحينا آخر إلى القرف.
وقد أحببت أيضا تعبيرات وجه كنده علوش في دور سناء، وهي التي بدت كفراشة محلقة في سماء الفيلم، تمنحه عبقا خاصا وبراءة وجمالا، بضعفها الظاهري في دور سناء.. الجارة الحسناء التي تبدو قريبة، لكنها بعيدة جدا في الوقت نفسه. ولكن يتعين على كندة أن تبتعد عن تلك الصورة النمطية وتقتحم مناطق جديدة في الأداء التمثيلي، لأن هناك الكثير مما يغري بتكرار ظهورها (أو بالأحرى إظهارها) في مثل هذه الشخصيات الناعمة الأحادية.
وربما يكون المشهد الذي يدور داخل الملهى الليلي قد أخل بالإيقاع العام للفيلم، وبدا نمطيا وبعيدا عن الأسلوب العام للفيلم أيضا.
في هذا المشهد نرى مجموعة من الراقصات، وكيف يتم استغلال السياح العرب (من الخليج تحديدا) الذين يتصرفون كالعادة، بنزق، يغمرون الراقصات بالأوراق النقدية، مع أغنية استعراضية مبتذلة، تتغزل من خلالها الفتيات في كرم ومروءة العرب من جميع البلدان، لكي ينهض أحدهم ويغمر الراقصة الأولى في الفرقة بالأوراق المالية التي تتناثر على الأرض. هذا المشهد كان ينبغي التخلص منه بالكامل في مرحلة المونتاج لأنه لا يضيف جديدا إلى الفيلم، بل ويخرجه عن طابعه الرمزي البسيط.
لكن هذا لا يقلل مما بذل من جهد كبير في الفيلم، سواء من جانب المخرج، أم طاقم الممثلين جميعا، والتجربة تستحق، دون شك، أن تتكرر، ونحن في انتظار الفيلم القادم لهيثم حقي.. لعله لا يتأخر كثيرا هذه المرة!

الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

مهرجانات وجوائز وموالد!

من الظواهر الملفتة للنظر في مهرجانات السينما الدولية التي تقام في العالم العربي، تعدد الجوائز وتكاثرها على نحو محير ومربك في الكثير من الأحيان ودون أي ضرورة أو اعتبار فني، وهو أمر لاشك أنه يلقي بالكثير من الشكوك على نوايا تلك المهرجانات، ويقلل كثيرا من مصداقيتها بل ويجعل من جوائزها مادة للقيل والقال، فعادة ما يوصف الكثير من هذه الجوائز المتعددة المتوالدة، بأنها تهدف أصلا إلى مجاملة أكبر عدد ممكن من أصحاب الأفلام دون أن يكون لها بالضرورة أي علاقة بالمستوى الفني للأفلام نفسها.
الأصل في جوائز المهرجانات أن تكون محدودة في عددها، لكي تكتسب قيمة ما، خاصة عندما لا تكون متبوعة بقيمة مالية. الجائزة الرئيسية عادة هي جائزة أحسن فيلم، وهي الجائزة الكبرى التي يتذكرها الجميع، كما نتذكر جميعا مثلا، جائزة السعفة الذهبية أو الدب الذهبي أو الأسد الذهبي في مهرجانات كان وبرلين وفينيسيا. وقد ابتكرت جائزة لجنة التحكيم الخاصة التي تمنح للفيلم التالي في أهميته للفيلم الأفضل في المسابقة. وبعد ذلك هناك جائزتا أحسن ممثل وأحسن ممثلة. وربما جائزة العمل الأول. أما غير ذلك من الجوائز الفرعية مثل الإخراج والسيناريو فأحيانا تمنح وأحيانا أخرى لا تمنح. وشخصيا لا أرى أي منطق في منح جائزة لأحسن إخراج إذا كنا منحنا جائزة لأحسن فيلم، فما معنى أن يكون الاخراج هو الأحسن دون أن يحصل الفيلم على جائزة أحسن فيلم. فالمعروف أن الاخراج يشمل كل العناصر الفنية في الفيلم.
لكننا في حالة مهرجانات العالم العربي نجد أولا تعددا مخيفا في المسابقات (خمس وست مسابقات متشعبة ومحيرة). أنظر مثلا إلى مهرجان أبو ظبي الأخير ستجد أن هناك مسابقة الأفلام الروائية، ومسابقة قسم "آفاق"، ومسابقة الأفلام الوثائقية، ومسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة أفلام من الامارات، وجائزة أحسن فيلم عربي، وجائزة الجمهور المبتدعة.
وأما مهرجان قرطاج فيمنح حزمة هائلة من الجوائز للأفلام الروائية والتسجيلية والقصيرة وأفلام الأطفال أو الأفلام التي تشكل لها لجنة تحكيم من الأطفال (وهي بدعة جديدة)، وأفلام المرأة، ومسابقة الأفلام التونسية، وجائزة الجمهور!
أما جوائز المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة فتتعدد على نحو مخيف وتتشعب وتبتكر لها لجان التحكيم جوائز أخرى ليس منصوصا عليها في لائحة المهرجان، كما حدث مثلا في دورة عام 2008 من مهرجان قرطاج مثل جوائز الأمل، وجوائز التصوير والموسيقى والمونتاج، وجائزتي التمثيل الثانوي، والتانيت الخاص، وجائزة راندة الشهال، وأخرى على اسم المخرج التونسي الراحل الياس الزرلي، وغير ذلك من الجوائز والأهازيج.
ولا يختلف مهرجان دمشق أو القاهرة أو الاسكندرية عن هذين المهرجانين في تشعب وتعدد الجوائز ولجان التحكيم، ومحاولة إرضاء الجميع، ومنح كل المشاركين جوائز تفقد قيمتها، خاصة وأن معظمها ليست له قيمة مالية بل قيمة رمزية فقط. ومعروف أن القيمة الرمزية تكون محفوظة عندما تنحصر الجوائز في عدد محدود من الأفلام، أما عندما ينفرط العقد وتتوالد الجوائز فيفقد الجميع الاهتمام بالأمر، ويضيع أسماء الأفلام الحاصلة على الجوائز.. وينفض المولد، دون أن يبقى في الذاكرة شيء.
وفكرة تعدد الجوائز تأتي من مسابقة الأوسكار الأمريكية التي لا تعد مهرجانا بل مسابقة مقصود منها تقييم الجوانب المختلفة في الصناعة السينمائية الأمريكية، وهي جوائز يمنحها اتحاد السينمائيين لأعضائهم الأكثر بروزا خلال العام. وهذا هو السبب الوحيد في تعددها وشمولها جوانب تقنية مثل مونتاج الصوت، تصميم المناظر، المؤثرات الخاصة.. إلخ
وبسبب تعدد الجوائز للترضية والمجاملات، وتعدد لجان تحكيم معظم أعضائهالا يتمتعون بأي قدرة على تقييم الأفلام أو الحكم عليها مع استبعاد نقاد السينما المتخصين لأنهم (مثقفون) أي يمكن أن يفسدوا العرس والاحتفال الكبير الذي لا يليق سوى بـ"النجوم" من عينة الهام وسلاف وموزيان ولبلبة وأخواتها، تكتسب المهرجانات العربية الدولية سمعة سيئة يوما بعد يوم، وتفقد المصداقية والاحترام، فالمشكلة ليست فقط أنها تسير على تقاليد بالية متخلفة، بل في أنها لا تستمع إلى ما يكتبه النقاد الصادقون الذين يسعون إلى التطوير لا الهدم، وإلى تعديل صورتنا أمام العالم.. وحتى لا نخجل من الذين يسخرون منا سرا وعلانية، ويعتبروننا من "كذابين الزفة"!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger