هذا فيلم من عالمنا، وعن عالمنا.عن تجبر الإنسان وجبروته واعتدائه المنظم على أخيه الإنسان، عن ذلك الاستغلال البشع للإنسان مع غض النظر عن كل القيم والمعايير الأخلاقية التي أرستها الأديان السماوية.
يعيدنا فيلم فينوس السوداء الذي يناقش موضوع العنصرية، إلى تأمل تلك العلاقة المعقدة بين افريقيا وأوروبا، إلى عصر العبودية، واستغلال الإنسان الأبيض للإنسان الأسود استنادا إلى بعض النظريات التي تدعي "العلمية" التي وضعها الغربيون، والتي تبرر تفوق جنس على جنس آخر.
المشهد الأول من الفيلم، الذي يدور داخل قاعة للمحاضرات في الأكاديمية الفرنسية للعلوم الطبية في باريس عام 1817 يعتبر تمهيدا مباشرا لموضوع الفيلم الذي يستغرق عرضه 160 دقيقة.
في هذا المشهد يقف بروفيسور لكي يشرح الفرق بين الأجناس ويتوقف أمام الجنس الزنجي ليثبت أنه جنس "متخلف" عن الجنس الأوروبي، استنادا إلى الخلافات التشريحية، في شكل الجمجمة ونسبة بروز الفك ونتوء عظام الأنف. وهو يستخدم نموذجا هو تمثال لامرأة "زنجية" خلال شرحه. والمرأة صاحبة التمثال هي بطلة فيلمنا هذا ومحور موضوعه.
ننتقل بعد ذلك مباشرة، أو بالأحرى، نعود إلى لندن عام 1810، وإلى بطلة هذا الفيلم وهي فتاة سوداء تدعى سارتيجي بارتمان (يختصرون اسمها إلى ساره) جاء بها شخص يدعى هندريك سيزار من جنوب افريقيا، حيث كانت تعمل خادمة (في الغالب جارية مستعبدة) تحت إغراء الثروة والشهرة، لكي يستغلها في عروض أقرب إلى عروض السيرك، بل هي عروض السيرك نفسها، فهو يقوم بعرضها داخل قفص مثل القرود والحيوانات المفترسة، ويستخدم سوطا في التعامل معها وترويضها وحثها على أن تفعل ما يأمرها به، ولكن ما يثير اهتمام جمهور لندن من الطبقة الفقيرة بهذه الفتاة أكثر، هو تكوينها الجسماني، وخاصة مؤخرتها وأردافها الكبيرة بشكل غير عادي، وعضوها التناسلي الضخم، وهو ما اعتبر وقتها، دليلا على اختلاف السود عن البيض في كونهم أقرب إلى "الحيوانات"، وأن نساءهم يتمتعن بطاقة جنسية خاصة مثل حيوانات الغابة. وكانت تلك "الأفكار المسبقة" مغروسة عن"الأخر" المختلف من السود، لدى الكثير من الفئات في مجتمعات الغرب، وربما لاتزال حتى يومنا هذا.
ولعل هدف فيلمنا هذا، كشف هذه النظرة الفوقية المسبقة وفضح وحشيتها وعدوانها على الإنسان، ولكن من خلال خصوصية الشكل السينمائي.
تتعرض ساره في عروض السيرك في قلب لندن، لشتى أنواع الانتهاكات الجسدية من جانب الجمهور، ولكنها تبدو رغم ذلك، راضخة، مستسلمة لمصيرها. وهذا هو اللغز الذي لا يكشف لنا الفيلم عن كنهه أبدا. إن "سيدها" يبتزها ابتزازا تارة، ويقدم لها الهدايا تارة أخرى، ثم يخصص لها خادمين (من السود أيضا) لقضاء حاجياتها، ويغريها بالمال الوفير الذي ستدره عليها تلك العروض، مما يمكنها من العودة إلى بلدها حيث "سيصطف الرجال للزواج منها". لكننا نعلم علم اليقين، أنه لا يمنحها سوى ما يبقيها على قيد الحياة وعند اول بادرة للرفض أو إبداء التذمر والتعب، يقوم بالتنكيل بها بوحشية باستخدم اقسى ما يمكن تخيله من عنف بدني ولفظي. لقد أصبحت على ما يبدو، أسيرة لشخص سادي لا تستطيع مقاومته.
ساره المهمومة المجهدة التي تنتهي آخر الليل في غرفتها، تقبل على الشراب والتدخين بكثافة تخفيفا عن نفسها، حتى تتمكن من النوم استعدادا ليوم آخر شاق.
ساره المهمومة المجهدة التي تنتهي آخر الليل في غرفتها، تقبل على الشراب والتدخين بكثافة تخفيفا عن نفسها، حتى تتمكن من النوم استعدادا ليوم آخر شاق.
غير أن هذه المعاملة القاسية أمام الجمهور: استخدام السوط، حث جمهور السكارى من الطبقة العاملة على تحسس مؤخرتها وقرصها والتعامل معها بخشونة والتهليل والهتاف في وجهها، كل هذه الأفعال تلفت أنظار بعض المناهضين للعبودية في لندن خاصة بعد نشر مقال صحفي عن تلك المرأة "النموذجية في سخونتها" التي أصبحوا يلقبونها بـ"فينوس السوداء" أو فينوس الهوتنتوت hottentot، والكلمة الأخيرة مستمدة من لغة بعض قبائل سكان جنوب افريقيا أو من طريقتهم في النطق، وأطلق عليهم هذا الوصف بسبب طريقتهم في الحديث التي بدت للأوروبيين كما لو كانت مجرد لغو فارغ مثل كلمة "هوتنتوت"!.
يصل اعتراض الليبراليين الانجليز إلى مقاضاة سيزار وتنظر الدعوى أمام المحكمة إلا أن ساره تقر أمام القضاة بأنها جاءت من بلدها إلى انجلترا بارادتها الحرة، وأن ما تفعله يوميا أمام الناس ما هو سوى عرض فني، وأنها "فنانة" ولا تعتبر أن العرض يمثل أي اهانة لها. ولا نعرف ما السبب الذي يجعلها تقر بذلك. هل هو الخوف من التشرد والضياع في بلاد غريبة.. ربما.
من لندن ينتقل سيزار بساره بعد تعميدها، إلى باريس حيث يتسلمها منه هناك مساعده رو Reaux الذي يقوم بعرضها في أوساط الطبقة الأرستقراطية فتحقق نجاحا كبيرا وإعجابا من جانب النساء الرجال. هنا يسهب الفيلم كثيرا في رسم صور تفصيلية لمباذل الطبقة العليا الفرنسية، وإستغراقها في العبث واللهو بدرجة جنونية. وينتهي الأمر بعد ذلك بساره إلى العمل في أحد بيوت الدعارة حيث تمرض بعد فترة وجيزة وتموت.
كانت ساره قد رفضت رغبة سيدها المثول أمام مجموعة من العلماء في أكاديمية الطب الفرنسية، والكشف عن أعضائها الجنسية والسماح لهم بفحصها، والآن بعد موتها، يبيع سيدها جثمانها لهؤلاء العلماء لكي يتولوا تشريحه وعمل تمثال مطابق لها يبقى داخل الأكاديمية، باعتبارها نوعا فريدا من الأجناس البشرية!
وفي نهاية الفيلم، من خلال العبارات التي تظهر على الشاشة نعرف أن هذا التمثال ظل في مكانه لمدة 160 عاما إلى أن أزيح من العرض عام 1974. وفي 1994 طالب الرئيس نيسلون مانديلا الفرنسيين بإعادة جثمانها إلى جنوب افريقيا، إلا أن السلطات الفرنسية رفضت، وبعد 8 سنوات، أي في 2002 وضع قانون جديد في فرنسا يسمح باعادة جثمان ساره بارتمان إلى بلدها، ولكن يقيد هذا الحق بالنسبة للآخرين. وقد أعيد الجثمان بالفعل وأعيد دفنه هناك، وتحولت ساره وقصتها إلى أسطورة، صنع عنها فيلم تسجيلي طويل بعنوان "حياة وزمن ساره بارتما"، وصدر عنها عدد من الكتب.
وقد كتب عبد اللطيف كشيش سيناريو الفيلم بالاشتراك مع غالية لاكروا (التي سبق أن شاهدناها كممثلة في عدد من الأفلام مثل "صمت القصور" لمفيدة التلاتلي، و"بزناس" لنور بوزيد، و"موزار إلى الأبد" لكشيش نفسه.
وأهم ملامح السيناريو اهتمامه الشديد بالتفاصيل، بأجواء الفترة، بملامح الشخصيات، بالحرص على الواقعية، بخلق حبكة تقوم على التفاعل المستمر مع الحدث، مع الصورة، وإغناء الصور بالمزيد من التفاصيل، وشحن المتفرج من خلال التأمل العقلي المتأني فيما يشاهده وليس من خلال التصاعد الدرامي العنيف.
ويتطابق أسلوب كشيش في إخراج الفيلم مع أسلوبه الذي بلغ قمته في فيلمه السابق "كسكسي بالسمك": الاعتماد على تجسيد التفاصيل والتناقضات بشكل محسوس، من خلال كاميرا تراقب، وتتسلل، وترقب كل لفتة وحركة وايماءة، مع الاهتمام الشديد بتفاصيل اللقطة، بالتكوين، بقطع الديكور، بحركة الكاميرا في هذا الديكور، بعلاقة الشخصيات الثانوية بالشخصيات الرئيسية، بعلاقة الشخصيات عموما بالمكان، وهو أسلوب يعتمد أيضا على خلق الإيهام بأننا نشاهد ما يجري في الزمن الفعلي الحقيقي، دون تدخل كبير من المونتاج، وهو بالطبع مجرد "إيهام"، فالمونتاج موجود، ودوره لاشك فيه، لكنه لا يرمي إلى الانتقالات السريعة بين اللقطات، ولا يعتمد على التداخل، بل على الربط بين اللقطات والمشاهد في سلاسة كما لو كنا نشاهد الفيلم كله في مجموعة من اللقطات- المشاهد الطويلة، التي تبقى اللقطة فيها على الشاشة لمسافة زمنية أطول من المعتاد، والهدف هو اتاحة الفرصة للتأمل فيما نشاهده، للإحاطة بكل التفاصيل، للتأثير في المتفرج، كما لو كان المخرج يرغب في جعل المتفرج شاهدا على ما يجري داخل المشهد نفسه.
ولاشك أن تجربة كشيش التمثيلية تجعله أيضا يجيد التعامل مع الممثلين، ويتمكن من استخراج أقصى ما لديهم من قدرات على الأداء في مشاهد لا يمكن نسيانها في الفيلم. إنه مثلا يقوم بتدريب وتأهيل تلك الممثلة القادمة من المجهول، أي ياهيما توريس التي قامت بدور ساره، ويدربها ويجعلها تتمكن من التعبير بالفرنسية ولغة الأفريكانا (لغة بيض جنوب افريقيا)، والانجليزية والهولندية، كما تتعرض لمواقف أثناء التمثيل يصعب على أي ممثلة محترفة الصمود فيها، خاصة في لقطات الكلوز أب أي اللقطات القريبة الطويلة المرهقة، لكنها تنجح بل وتتألق في أداء الدور الرئيسي.
أسلوب كشيش قد لا يعجب بعض المشاهدين بسبب ما يعتبرونه نوعا من الإطالة التي لا ضرورة لها، ويعتقدون أن من الأفضل للفيلم لو كانت اللقطات أقصر. وهو رأي لا أتفق معه، فالأسلوب هو الفيلم، والفيلم هو الأسلوب، وليس من الممكن معاملة فيلم مثل هذا كما نتعامل مع أفلام الحبكة التقليدية التي تخضع لنمط محدد خلقته ورسخته هوليوود عبر تاريخها الطويل، وإن كانت لكل قاعدة استثناءاتها، وإلا فكيف يمكننا أن ننظر مثلا إلى فيلم أمريكي خارج عن النمط وعن النوع genre هو فيلم "الثور الهائج" The Raging Bull لسكورسيزي، وقبله إلى فيلم "بوابة الجنة" Heaven’s Gate لمايكل شيمينو، وهما يتجاوزان كثيرا النقاط المحددة لـ"القطع" cut أو الانتقال من لقطة إلى أخرى، حسب قواعد المونتاج في هوليوود؟
إن متابعة مشاهد فيلم "فينوس السوداء" قد تكون مرهقة، ليس بسبب طولها، بل بسبب قسوتها، وخدشها لما أصبح مستقرا الآن في الأذهان من استهجان ذلك السلوك الهمجي الذي كان يصدر حتى من أرقى الأوساط الباريسية كما يصوره كشيش. لكن في تلك القسوة تكمن تحديدا الفكرة التي يرغب في ترسيخها.
ولاشك أن الطاقم الفني الذي تعاون مع كشيش في تجسيد رؤيته قد أبلى بلاء حسنا. خذ مثلا مهندسي الديكور اللذين برعا كثيرا، سواء في إعادة تشييد ديكورات مدينة لندن أوائل القرن التاسع عشر، وكيف كانت تبدو حاناتها الشعبية وساحاتها وبيوتها، أو في تشييد صالونات الأرستقراطية الباريسية ومنتدياتها، كما تمكن مصمم الملابس فابيو بيرون من تقديم ملابس وأزياء الفترة بصورة أخاذة ولكن دون أن تشتت الرؤية. واستخدم مؤلف موسيقى الفيلم، صلاح الدين كشيش، تيمات كلاسيكية تفيض بالحزن والشجن، تسرع إيقاعاتها وقت الحاجة إلى السرعة وتبطيء وقتما يتعين البطء.
ربما تكون الشحنة العاطفية في الفيلم أقل من نظيرتها في فيلم كشيش السابق، وربما يكون تعاطف المخرج أقل مع شخصياته، ونظرته إليها أكثر حسما وبرودة عما كان في افلامه السابقة، لكن طبيعة الموضوع تفرض مثل هذه النظرة. فهو يتجاوز العاطفة، ولا يستدعيها من المتفرج بقدر ما يستدعي العقل والفكر والتأمل. وتلك هي روعة الفيلم.
0 comments:
إرسال تعليق