الجمعة، 5 ديسمبر 2014

صوتك أيها الممثل!





أمير العمري





يعتقد كثيرون، ومنهم بعض النقاد والمتخصصين في الشأن السينمائي، أن الممثل السينمائي لا يشترط بالضرورة أن يكون لديه صوت مميز. والاعتقاد السائد أن الممثل السينمائي أداة ثانوية يستخدمها المخرج بواسطة الكاميرا ويوظفها في الفيلم مركزا بشكل أساسي على حركات جسده وعلاقة حركته أمام الكاميرا بباقي الممثلين في المشهد. ويعتقد الكثيرون أيضا أن الإضاءة يمكن أن تعلب دورا كبيرا في إبراز ملامح الشخصية التي يؤديها الممثل.

ولاشك أن بعض هذه الأقوال صحيح جزئيا، خصوصا بعد أن انتشرت في الماضي، فكرة أن الفيلم الحداثي الذي يقوم على تداعي الصور وتداخل الأزمنة، لا يعتمد بالضرورة على الممثل، بل على رؤية المخرج، خصوصا وأن مخرجا كبيرا مثل فيلليني كان يستخدم الكثير من الأشخاص العاديين في أدوار صغيرة، طبقا لأشكالهم التي تتناسب مع الأجواء الغريبة التي يريد التعبيرعنها في أفلامه الشهيرة مثل "ساتيريكون" و"روما فيلليني" و"أماركورد" وغيرها. ومعروف أن المخرجين الإيطاليين بشكل عام، كانوا- ومازالوا- يستخدمون طريقة "الدوبلاج" الصوتي أي الاستفادة من أشكال الممثلين ثم يقومونبتركيب أصوات ممثلين آخرين عليها، بحيث تعطي التأثير المطلوب.

لكن هذه الطريقة الايطالية تختلف تماما عما هو سائد في السينما الأمريكية والبريطانية وغيرهما حيث يجب أن يتمتع الممثل بالقدرة على الأداء الصوتي القوي، وقد أصبح لكل الممثلين العظام بصمة صوتية خاصة تميزهم عن غيرهم. وسنرى في هذا المجال أن الممثلين البريطانيين الذين حققوا شهرة كبيرة في السينما، جاءوا أصلا من المسرح وبعد أن تلقوا تدريبات صوتية جعلت لهم مثل أداء صوتيا لا ينسى. لدينا على سبيل المثال السير أليك جينيس، ومن ينسى أداءه الصوتي المميز الخلاب في دور الأمير فيصل في فيلم "لورانس العرب"، أو بيتر أوتول وأداؤه في الفيلم نفسه في دور لورانس. ومن الذي يمكنه أن يغفل التأثير الخاص لصوت مارلون براندو وطريقته الخاصة في التعبير في فيلم "الأب الروحي"، وهناك كذلك فانيسيا ريدجريف وأنطوني هوبكنز وآل باتشينو واليزابيث تايلور وغيرها. وفي السينما المصرية هناك محمود المليجي (مازال الجمهور يتذكر مونولوجه الطويل المعبر في فيلم الأرض) وزكي رستم  وأمينة رزق ونجيب الريحاني وعبد الله غيث (وكلهم من ممثلي المسرح أصلا).

ليس صحيحا أن صوت الممثل لا يهم، وأن المسرح غيرالسينما، وأن من الواقعية أن يمضغ الممثل الكلمات في فمه بحيث لا نفهم شيئا مما يقوله، فالفيلم- أي فيلم- يخلق واقعه السينمائي الخاص، الذي يختلف بالقطع عن الواقع الفعلي. وإذا أراد الممثل أن يكون مؤثرا  فيجب أن يتمتع بقدرة خاصة على نطق عبارات الحوار بطريقة مؤثرة.

اما واقعية الفيلم فموضوع آخر يستحق مقالا منفصلا.


الاثنين، 24 نوفمبر 2014

"المفاوضة".. المافيا والدولة وكشف المحظور





                                                     
(هذا المقال نشر أولا في موقع الجزيرة الوثائقية)



من أهم ما عرض من أفلام وثائقية في الدورة الـ 71 من مهرجان فينيسيا السينمائي فيلم "المفاوضة" La Trattativa الإيطالي للمخرجة سابينا جوزانتي Sabina Guzanti. ولعل أفضل ترجمة ممكنة للعنوان من أصله الإيطالي هو "المفاوضة" وليس "التفاوض"، فكما أن الكلمة تعني التفاوض على شكل من أشكال التعاون الذي يخدم المصالح المشتركة بين طرفين أو أكثر، فهي تحمل أيضا معنى "المقايضة"، أي التنازل عن شي مقابل الحصول على شيء. وهذا هو المعنى المقصود تحديدا في هذا الفيلم الوثائقي الممتع الذي أثار أكبر اهتمام صحفي وإعلامي من بين أفلام المهرجان من جانب الصحافة الإيطالية، رغم أنه عرض خارج نطاق المسابقات والجوائز.
قبل أن نتناول الفيلم نفسه يجب أن نشير إلى أن مخرجته سابينا جوزانتي، ممثلة ومقدمة برامج ساخرة ومخرجة ومنتجة وكاتبة سيناريو إيطالية (من مواليد )1963، وهي إبنة باولو جوزانتي، النائب السابق في البرلمان الإيطالي عن حزب "فورزا إيطاليا" (أي قوة إيطاليا) وهو حزب رئيس الوزراء السابق سلفيو بيرلسكوني أكبر محتكر للشبكات الإعلامية في إيطاليا والذي تولى رئاسة الحكومة مرتين. لكن الرجل اختلف مع بيرلسكوني واستقال، بعد أن وجه انتقادات شديدة لسياسات الحزب.
تصدت سابينا من قبل لكشف مخالفات بيرلسكوني والسخرية من شخصيته قبل أربع سنوات من خلال فيلمها الوثائقي الشهير "دراكيلا: إيطاليا تهتز" وكانت تستخدم أسلوب الصحافة الاستقصائية التليفزيونية في تصوير كيف استغل بيرلسكوني، رجل الدعاية البارع، الزلزال المدمر الذي وقع في بلدة لاكيلا وأدى إلى مقتل 300 شخص وتشريد 70 ألف آخرين، من أجل استعادة شعبيته المتراجعة، وكيف توجه مباشرة إلى موقع الزلزال، وأخذ يتعهد بتوفير مسكن بديل لكل أسرة بحلول الخريف، ويشرح أمام كاميرات التليفزيون كيف ستكون كل شقة مفروشة بالكامل بما في ذلك التفاصيل الصغيرة، بل ومع "كعكة كبيرة وزجاجة شمبانيا في الثلاجة" أيضا، لكننا نرى كيف أرغم السكان على مغادرة المدينة، وأرسلت السلطات 30 ألفا منهم للإقامة في فنادق على الشاطئ البعيد بشكل مؤقت، حتى أولئك الذين لم تتضرر منازلهم، كما أرسلت باقي السكان للإقامة داخل خيام في منطقة معزولة، تحاصرها قوات الجيش التي تحظر عليهم الاتصال بالصحافة والإعلام.
تعود سابينا في فيلمها الجديد على صعيد أكبر من حيث الطاقات الإنتاجية التي توفرت والإتقان الحرفي أيضا بعد أن أصبحت أكثر مهارة في استخدام الأساليب الحديثة المتطورة في صياغة الفيلم الوثائقي، فهي تستخدم الوثائق المصورة، مواد الأرشيف التي تقتضي بحثا مكثفا وعميقا، الممثلين الذين يقومون باعادة تمثيل أدوار الشخصيات الحقيقية التي يدور حولها موضوع الفيلم (وهي شخصيات عديدة) نراهم وهم يتناقشون مع المخرجة قبل التصوير كيف سيقومون بأداء الدور، أو وهم يتوقفون أثناء الأداء أمام الكاميرا، ويعلقون على حدث ما أو جانب ما من جوانب تلك الأحداث الدامية التي شغلت الرأي العام في إيطاليا ولاتزال، منذ 30 يناير عام 1992 الذي يعتقد كثير من الإيطاليين أنه "اليوم الذي غير تاريخ إيطاليا". 

المخرجة الجميلة سابينا جوزانتي في مهرجان فينيسيا

في ذلك اليوم إنتهت المحكمة إلى إصدار حكمها على أحد أكبر زعماء عصابة "كوزا نوسترا" التي تعرف بـ "المافيا". وعلى الفور بدأت المافيا سلسلة من التفجيرات والاغتيالات شملت عددا من المدن الايطالية والشخصيات البارزة. وكانت تلك الأعمال موجهة لاحراج رجال السياسة من الديمقراطيين المسيحيين والاشتراكيين الذين جاءوا الى البرلمان والسلطة، عن طريق دعم المافيا لهم، لكنهم خضعوا للضغوط التي تطالب بالتشدد في التصدي لنشاطات المافيا والقبض على زعمائها ومحاكمتهم وإنزال العقاب بهم.
أغتيل أولا القاضي باولو بورسالينو في انفجار شديد ثم أعقبه اغتيال القاضي الذي حل محله في محاكمة زعماء المافيا، جيوفاني فالكون. من هنا بدأت "المفاوضة" بين ممثلين على مستوى عال داخل الحكومة الايطالية، وبين زعامات داخل تنظيم المافيا، على وقف التفجيرات والاغتيالات مقابل التغاضي عن إصدار قوانين كان من المقرر أن يترتب عليها الحد من نشاطات العصابة الدولية الرهيبة.
قبل يومين من عرض فيلم سابينا جوزانتي في مهرجان فينيسيا الأخير، كانت تلك "المفاوضة" مجرد تكهنات أو أقوال قد تكون مرسلة، لا دليل على صحتها، غير أن كبير زعماء المافيا المدعو سلفاتوري رينا Salvatore Riina الذي يعرف بـ "توتو" وهو يقضي عقوبة في السجن منذ 1993، صرح من داخل السجن لاحدى الصحف الإيطالية الكبرى، بأنه شخصيا اجتمع سبع مرات مع رئيس الحكومة الايطالية الأسبق جوليو اندريوتي. وكان رينا قد اتهم من قبل بمقابلة أندريوتي عام 1987 وتبادل قبلة معه أيضا، كما اتهم أندريوتي نفسه وخضع للتحقيق بتهمة التعامل مع المافيا وإقامة اتصالات مع رينا، لكن المحكمة برأت ساحته. وقد توفي عام 2013.
تعيد سابينا جوزانتي في فيلمها بناء الأحداث بتسلسلها المنطقي في فيلمها المثير، فتبدأ بأحد أفراد المافيا، كان قد تحول داخل السجن من مجرم إلى اعتناق الكاثوليكية، وأبدى ندمه وتوبته وأصبح مستعدا للشهادة ضد زعماء العصابة. ونحن نرى الممثل الذي يقوم بدوره وهو يجلس أمام المحققين في حضور المخرجة وفريق الفيلم يراقب كأنهم أعضاء هيئة المحلفين، ,أحيانا يتدخلون أو تتدخل المخرجة وهي توجه سؤالا أو أكثر الى الشاهد. ويروي هو تفاصيل عمليات القتل والتصفية والاغتيالات التي شارك فيها، وأهمها بالطبع تفجير سيارة القاضي فالكون وثلاثة من ضباط الشرطة كانوا يحرسونه، ثم التفجير الذي حدث خارج منزل والدة القاضي بورسلينو في باليرمو وادى إلى مقتله.
تظهر سابينا جوزانتي في بداية الفيلم تواجه الكاميرا مع فريقها من الممثلين وتقول مخاطبة الجمهور: إننا مجموعة من العاملين في صناعة التسلية. وهي تحذر الجمهورمما سيأتي خلال الفيلم، وتقول إنه رغم أن الأحداث معروفة ومنشورة إلا أنها ستكشف للمرة الأولى عن مسارها حسب الترتيب الزمني، وتقدم صورة واضحة للمؤسسات والأفراد الذين ظلوا طويلا في الظل، وتبين ادوارهم المحتملة في تلك الأعمال، بتركيز خاص على الصفقة أو "المفاوضة".
إنها تجعل من مشاهدة إعادة التمثيل متعة خاصة تقرب المشاهدين من المادة الوثائقية التي تُروى الآن في شكل قصصي درامي، ولكن مع استخدام الوثائق والمواد المصورة وقصاصات الصحف التي تم تجميعها معا بحيث تربط بين الوقائع المفككة وتجعل لها منطقا مفهوما الآن، كما تستخدم ممثلين يلعبون أدوار القضاة والمحققين والسياسيين والقساوسة وضباط الشرطة الفاسدين ومجرمي المافيا أو ضحاياهم (تظهر أيضا الزوجة الحقيقية للقاضي فالكون في تصريحات مصورة لها تليفزيونيا عقب اغتيال زوجها مباشرة).


ويصل الفيلم إلى ذروته عندما نرى من أكثر من زاوية، دلائل على أن حزب "فورزا إيطاليا" الذي أسسه جماعة من السياسيين ورجال الأعمال وضباط شرطة سابقون، كان هدفه الأساسي مواجهة ما أطلق عليه بيرلسكوني نفسه "القضاة الحمر" أي الشيوعيين، فقد كان يرى أن كل من يقضي بمواجهة الفساد القائم في الدولة شيوعيا يجب التصدي له، ورغم أنه لم تكن لبيرلسكوني أي صلات بالمافيا ولذلك اختير زعيما للحزب الجديد حتى لا يلفت الأنظار، يعتبر الفيلم أن هذا هو أكبر دليل على أن بيرلسكوني كان على صلة بالمافيا، وانه كان الأصلح بالتالي لتولي قيادة الحزب الذي كان تأسيسه أصلا بغرض وقف محاكمة كبار زعماء المافيا وتخفيف الأحكام الصادرة عليهم، بل تصل سابينا جوزانتي في فيلمها الى التدليل على أنه تم في الكثير من الأحيان إهمال التحقيق مع الكثير منهم، أو تغاضي القاضي عن تمحيص الأدلة. وكانت سياسة التفاوض بين الحكومة والعصابة هي التي تمكنت من وقف التفجيرات في النهاية لكن الثمن الذي دفع كان باهظا.
يربط الفيلم بين الوقائع المختلفة في سلاسة وبراعة كبيرين، من خلال المونتاج الذهني الذي ينتقل ويتابع ويعود إلى نقطة البدء ويجعل المشاهد نفسه طرفا في الفيلم عندما يترك له مساحة للتساؤل، والتأمل.
فيلم "المفاوضة" نموذج فذ لدور الفيلم الوثائقي في المجتمع. وكان من الطبيعي أن يرفض المهرجان عرضه في المسابقة لما يمثله من إحراج واضح للحكومة الايطالية ولبعض المسؤولين الحاليين والسابقين. ولكن هذا لا يمنع من أن الفيلم واجه بعض ردود الفعل السلبية التي اتهمت مخرجته بالاستناد في بعض مزاعمها على "نظرية المؤامرة"، وبأنها أضرت بجدية الموضوع عندما لجأت الى استخدام وسائل الدعاية السياسية المباشرة، خاصة عندما ظهرت في الفيلم أكثر من مرة في دور بيرلسكوني نفسه على سبيل السخرية. لكن لعل شهادة رينا الدامغة أبلغ دليل على أن الفيلم لم يخترع الأشياء وأنه لابد وأن تكون له مزيد من التداعيات على أرض الواقع السياسي الايطالي المليء بالزخم دوما. ولننتظر ونرى!

السبت، 27 سبتمبر 2014

في مهرجان سان سباستيان السينمائي أسرار وألعاب غريبة "تحت الأرض"!





أمير العمري- سان سباستيان

سيكون هذا بلاشك، "فيلم العام"، فمنذ عرضه في مهرجان فينيسيا- البندقية، اكتسب هذا الفيلم قوة دفع جعلته يحل بالترحاب على مهرجان سان سباستيان وسط إقبال كبير من عشاق سينما الصدمة والغرابة وتحديدا، أفلام المخرج النمساوي الشهير أولريش سيدل.
عنوان الفيلم بالألمانية هو
Im Keller الذي يمكن ترجمته إلى "الطابق الأسفل" أي الذي يقع تحت مستوى الأرض. ويشار عادة إلى "الطابق الأسفل" الذي يقع تحت أرض البناية، باعتباره مكانا لإقامة وسكنى الفقراء وطبقة حراس العمارات في المدن العربية، بينما يبدو الأمر مختلفا في الثقافة الأوروبية وثقافة المجتمع النمساوي بوجه خاص، فالطابق الأسفل هنا امتداد طبيعي لمنازل طبقة بورجوازية المدن. صحيح أنهم لا يقيمون فيه، إلا أنه يعد لدى الكثيرين، الجزء الأهم من المنزل، الذي يختزنون فيه أسرارهم وخباياهم. الطابق الأسفل في فيلمنا هذا بالمفهوم الفرويدي، هو المقابل لما يطلق عليه فرويد "الأنا السفلى" أي الرغبات التي لا يمكن للمرء التعبير عنها أمام الآخرين، أسراره الداخلية، سلوكياته التي تتناقض مع صورته "الرسمية" على السطح، فهي تختزن الكثير من الأسرار التي تصل إلى أقصى درجات القسوة والشذوذ والانحراف.
ربما لا يمكنك أن تعرف تماما ما إذا كان فيلم "الطابق الأسفل" تسجيليا أم روائيا، فالنوعان يختلطان هنا على نحو محير يدفع إلى التساؤل عما إذا كان المخرج يستمد أيضا من خياله الخاص أحيانا. يفترض أنه فيلم تسجيلي، لكن مخرجه يكتب على الشاشة في بدايته أنه "يستند إلى مفهوم وفكرة أولريش سيدل وفيرونيكا فرانز"- شريكته في كتابة الفيلم. وفي مقابلة منشورة معه يقول إنه كان يدخل أحيانا بعض التعديلات على سلوكيات بعض الشخصيات الحقيقية التي تعيش في مناطق متفرقة من النمسا، مذكورة بالإسم، دون أدنى ممانعة من جانبها للظهور والكشف عما تخبؤه تحت الأرض.
يتدرج الفيلم، من تقديم سلوكيات غريبة حقا ولكن "مقبولة" نسبيا، إلى سلوكيات أخرى تصل إلى أقصى درجات العبث بالذات وبالجسد البشري وبالآخر، وهو "عبث" غرضه تحقيق المتعة، فهذه الشخصيات تجد في الغرابة والانحراف عن السلوك السائد، لذة خاصة، لكن الفيلم بالطبع، يستخدم ما يصوره لكي يكشف ويفضح ويسخر من تلك الطبقة وتوجهاتها التي تصل إلى أقصى حدود الشذوذ والعنف. ورغم ما في الفيلم من قسوة، إلا أنه يتضمن الكثير من العبث المضحك الساخر، والتعليق الذي يأتي من الصورة داخلها.
لاشك أن الفيلم جاء متأثرا باكتشاف حالة النمساوي جوزيف فريتزل عام 2008، عندما توجهت امرأة في الثانية والأربعين من عمرها، تدعى اليزابيث فريتزل، للشرطة وقالت إنها تمكنت من الفرار لتوها من قبو داخل منزل الأسرة، احتجزها فيه والدها لمدة 24 سنة وأخذ يعتدي عليها جنسيا بانتظام لسنوات، ومارس كل أشكال العنف، وأنها أنجبت نتيجة لذلك، سبعة أطفال من والدها. لكن المؤكد أن حالة فريتز ليست وحيدة.

في الفيلم نرى أولا رجلا في السبعين من عمره، يهبط إلى الطابق الأسفل من منزله لكي يمارس هوايته في غناء الأوبرا وحده، ثم يدعو أصدقاءه للحاق به حيث يمارسون جميعا هواية إطلاق الرصاص، ويتناقشون حول المسلمين والقرآن، بما يكشف عنصريتهم ورسوخ الصورة النمطية في عقولهم عن "الآخر" وميلهم الدفين للعنف.
وهناك امرأة شابة (بدينة شأن كل نساء أفلام المخرج سيدل!) تظهر عارية داخل دورة المياه الموجودة في الطابق الأسفل، تقول إنها انتقلت من العمل في سوبرماركت إلى مجال أفلام "البورنو" الإباحية، ثم إلى بائعة للجنس، ولكنها تحب أن تختلي بصديقها (الذي نراه نحيفا جدا) تمارس معه كل الأشكال الجسدية الغريبة.
وهناك إمرأة تجاوزت الخمسين من عمرها، تقيم مع زوجها في الطابق الأعلى، ولكننا نراها يوميا، في المساء، تغلق الباب المؤدي الى الطابق الأسفل باحكام، وتتسلل الى أسفل، إلى غرفة مليئة بالصناديق الكرتونية تحتفظ داخلها بدمى على شكل أطفال رضع، تفتح واحدة منها وتتناول دمية منها، تداعبها وتهدهدها في حنان الأم، وتغني لها وكأنها طفلة حقيقية.
وهناك رجل في السبعين متزوج لكنه يقضي أمسياته في الأسفل مع أصدقائه، يشربون ويستعيدون معا "الأمجاد النازية" القديمة، وهو يعلق على الجدارن الكثير من الشعارات والصور والشارات النازية، ويكشف ذات مرة، عن صورة ضخمة معلقة على الجدار لهتلر يقول إنها أعظم هدية تلقاها في عيد ميلاده، وسط إعجاب وتهليل الحاضرين الذين يشربون معا "نخب الفوهرر"!
وننتقل إلى امرأة "مازوكية" بدينة عارية، تقول إنها تحب كل أنواع العنف، وإن الرجل لديها هو الرجل العنيف الذي يمكنه أن يسيطر عليها ويهينها، ونرى رفيقها يضربها بالسوط بينما هي تقوم باحصاء عدد الضربات!
وهناك زوجان يفخران بما جلباه من رحلات صيد الى جنوب افريقيا، وقد علقا كل ما يمكن تخيله من رءوس الحيوانات التي اصطادوها، فوق جدار "الطابق الأسفل" وكذلك كل أدوات القنص والصيد. وفي مشهد آخر نرى امرأة تقيم مع رفيقها الذي يستمتع باذلالها له، ونراها وهي ترغمه على تنظيف الحمام يوميا ولعق زجاج الحمام بلسانه عاريا تماما، يزحف على الأرض في دعة واستكانة وهي تناديه بـ "الخنزير" وتأمره أن يؤدي أشياء غريبة.
لقطات الفيلم طويلة الكاميرا فيها ثابتة، والشخصيات تقف أمامها وكأنها تسجل للتاريخ دونما خجل أو وجل، بل بنوع من الفخر أيضا. وقد اقتضى الأمر من المخرج سنوات من البحث إلى أن تمكن من اقناع هؤلاء بالظهور في فيلمه، دون أن يدركوا بالطبع أنه يستخدم تلك المادة، لتقديم صورة ساخرة من الطبقة الوسطى النمساوية التي يتهمها بالنازية والتطرف، رابطا بين الموقف السياسي وبين الانحراف الجنسي والسلوكي.

يستخدم سيدل المونتاج في الانتقال بين المشاهد ويربط بينها ببراعة، بحيث لا تشعر بالملل، بل ويمكنك أيضا العثور على سمات مشتركة بين هذه الشخصيات المتفرقة، وهو مثلا يفاجئك بأن من يهوى العزف على آلة موسيقية ما، من عشاق إطلاق النار، وأن من يعشق هتلر ومازال يؤمن بعبقريته، يقود فرقة موسيقية. وهو يترك صاحب المنزل يصحبه بالكاميرا من أعلى إلى أسفل، يقدم بنفسه وصفا لمنزله ولطابقه الأسفل بنوع من الزهو، ويستعرض ما يحتفظ فيه من أسرار، ربما باستثناء المرأة التي تعشق دمى الأطفال، التي يعترف سيدل بأنها كانت تحتفظ بتلك الصناديق في الطابق الأعلى من منزلها لكنه طلب أن يصورها في الطابق الأسفل.
يقول سيدل: ربما يكون عدد قليل هم من يحتفظون بصورة لهتلر يضعونها على جدران منازلهم، لكن الرفض والكراهية أو اللامبالاة تجاه الآخر، يمكن العثور عليها في كل مكان".
ويعلق على ما يتضمنه الفيلم من "نكات" لفظية كثيرة يلقيها الرجال- بقوله إن الضحك موجود في كل أفلامه لكن الجديد في هذا الفيلم هي النكات القذرة التي يلقيها الرجال "إنهم يعبرون عن الهواجس الجنسية لدى الذكور، عن العنصرية، والنظرة المتعالية الى الجنس الآخر، في سياق يبدو "تعبيرا مرحا، مقبولا اجتماعيا. عادة قبل أن أقوم بتصوير مشهد ما أسال نفسي: هل يتعين علي الضحك أم البكاء؟ ربما يجب أن أتابع هذه النقطة، وربما يوما ما أخرج فيلما فقط عن النكات القذرة التي يلقيها الرجال!


الاثنين، 8 سبتمبر 2014

جوائز مهرجان البندقية.. احتفاء بالشعر والإنسان


  روي أندرسون يحمل الاسد الذهبي
                                                          


أمير العمري-البندقية



وفقت لجنة التحكيم الدولية برئاسة الموسيقار الفرنسي ألكسندر ديشبلات عندما منحت الجائزة الكبرى لمهرجان البندقية السينمائي -وهي جائزة "الأسد الذهبي"- لفيلم "حمامة تقف فوق غصن تتأمل الوجود" للمخرج السويدي روي أندرسون.
هذا فيلم يقترب من لغة الشعر السينمائي الرفيعة التي تتكون من الصور والإشارات والعلاقات البصرية متحدثة عن نفسها، فالحوار في الفيلم ليست له وظيفة مباشرة في التعبير عن العلاقات بين البشر، بل عن ما وصلت إليه العلاقات الإنسانية، خاصة في المجتمعات الأوروبية، من برودة وانفصال وانعدام القدرة على التواصل، والأهم عدم القدرة على تفهم المأزق الذي يعيشه الآخر، والذي قد يكون مكثفا لمأزق أكبر وأشمل.
فيلم روي أندرسون هو خاتمة ثلاثية بدأها هذا المخرج البالغ من العمر 71 عاما بفيلم "أغنيات من الطابق الثاني" عام 2000، ثم ثناها بفيلم "أنت.. الذي تعيش" عام 2007، وتتميز أفلامه -خصوصا فيلمه الأخير- بطابعها السيريالي الساخر، ومشاهدها الثابتة ولقطاتها الطويلة التي لا تصطف ضمن سياق درامي تقليدي، بل تعتمد على ذكاء المتفرج في التقاط العلاقات الذهنية بين الشخصيات والأماكن التي تظهر فيها، وتحمل نبرة سخرية تميز أسلوب الكوميديا السوداء التي تنتمي لها.
هنا، يقسو أندرسون في هجائه الإنسان الأوروبي، متخلصا تماما من تلك النزعة المركزية الأوروبية، معلنا استنكاره حتى لتاريخ من الانتصارات الزائفة والممارسات الاستعمارية البشعة، ومصورا المستعمر البريطاني تحديدا وهو يقدم تسلية لطبقة رجال الأعمال الأوروبيين عن طريق شواء مجموعة من نساء ورجال وأطفال إحدى المستعمرات الأفريقية داخل أسطوانة نحاسية ضخمة تدور، وتحتها نيران مشتعلة.

ساعي البريد
كما منحت لجنة التحكيم جائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج للمخرج الروسي المرموق أندريه كونتشالوفسكي عن فيلم "ليالي ساعي البريد البيضاء" الذي تدور أحداثه في قرية نائية في أقاصي الشمال الروسي، حيث يعيش الأهالي هناك في عزلة تامة عن ما يحدث في روسيا والعالم، ولم تلمس التغييرات التي وقعت منذ سقوط الاتحاد السوفياتي حياتهم ولم تغير فيها شيئا، وسيلتهم الوحيدة للاتصال بالجانب الآخر في المدينة هو ساعي البريد الذي يأتي إلى قريتهم راكبا دراجته النارية، حاملا بعض الخطابات والرسائل التي قد لا تحمل سوى الأخبار السلبية.
ويتميز الفيلم بأسلوبه الذي يموج بين الروائي والوثائقي، ويقوم بالدور الرئيس فيه، أي دور ساعي البريد، موظف حقيقي يعمل ساعيا للبريد في المنطقة، كما استعان المخرج بالكثير من سكان المنطقة للقيام بأدوارهم الحقيقية.
وذهبت جائزة أحسن ممثل إلى الأميركي آدم درايفر، وجائزة أحسن ممثلة إلى زميلته الممثلة الإيطالية ألبا روروتشر، صاحبي الأداء المتميز كثيرا في فيلم المخرج الإيطالي "قلوب جائعة" الناطق بالإنجليزية، وهو الفيلم الذي رشحه عدد من النقاد للجائزة الكبرى، وعلى الرغم من أنه من الممكن اعتباره فيلما من أفلام الرعب فإن أسلوب المعالجة السينمائية لموضوعه الإنساني ترك تأثيرا لا شك فيه على المشاهدين.
ويصور الفيلم كيف ترغب زوجة أنجبت حديثا في حرمان وليدها الصغير من تناول أي طعام بروتيني من أي نوع، وتكتفي بتدليك جسمه بزيت نباتي معين، فهي النباتية تعتقد أن المأكولات الغنية بالبروتين تقتل الإنسان، في حين يشاهد والده كيف يتضاءل جسد ابنه يوما بعد يوم، ويضطر لسرقة الطفل والخروج به بعيدا عن عيني الأم لكي يطعمه بنفسه، ومع تطور شخصية الأم تزداد حالتها النفسية سوءا مع تصاعد رغبتها في الاستحواذ على الطفل وتربيته بطريقتها الخاصة بما يشي بجنونها، ويحاول الأب مستعينا بوالدته انتشال الابن من المصير الذي ينتظره، وذلك على نحو يذكرنا بفيلم "طفل روزماري" لرومان بولانسكي (من عام 1968).


مذابح إندونيسيا
وذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة إلى المخرج الأميركي جوشوا أوبنهايمر عن فيلمه التسجيلي الطويل "نظرة الصمت" الذي يستكمل فيه ما بدأه في فيلمه الوثائقي السابق "فعل قتل" (الحاصل على الأوسكار)، ولكن في حين كان الفيلم السابق يعرض اعترافات مباشرة لأشخاص شاركوا في مذابح إندونيسيا ضد أعضاء الحزب الشيوعي في أعقاب انقلاب عام 1965 على الرئيس سوكارنو، يعرض الفيلم الجديد القصة ولكن ليس من خلال وجهة نظر القتلة، بل من وجهة نظر الضحايا والشهود على تلك المذابح التي لا تزال موضوعا يثير الجدل في إندونيسيا حتى اليوم.
ومنحت لجنة التحكيم جائزة أحسن سيناريو إلى المخرجة رخشان بني اعتماد وفريد مصطفاوي كاتبي سيناريو فيلم "حكايات" الإيراني لمخرجته بني اعتماد الذي تلخص فيه ما جاء في أفلامها السابقة منذ فيلم "نرجس" من شخصيات تعاني وطأة الضغوط الاجتماعية والبيروقراطية، ولكن من خلال النقد الاجتماعي الخفيف الذي لا يصل إلى توجيه النقد لجوهر النظام وطبيعته الاستبدادية.
أما جائزة "مارسيللو ماتسروياني" التي تمنح لأحسن ممثل أو ممثلة في الدور الأول فقد ذهبت إلى الممثلة الفرنسية روان بول عن دورها في الفيلم الفرنسي "ضربة المطرقة الأخيرة" الذي تقوم فيه بدور أم انفصلت عن زوجها وأصبحت مسؤولة عن تربية ابنهما المراهق الذي يرغب في استئناف علاقته بأبيه رغم أنه لم يره منذ عشر سنوات، كما أن الأم تعاني من سرطان الدماغ وتستعد لإجراء عملية جراحية.
والفيلم عمل شديد الرقة والتأثير، يفيض بالمشاعر الإنسانية ويقدم صورة شديدة الصدق والواقعية لصبي يتطلع إلى الالتحاق بعالم الكبار لكنه يقاوم البقاء في كنف أمه الوحيدة.
وقد نظر كثيرون إلى الجائزة الخاصة التي منحتها لجنة التحكيم للفيلم التركي "سيفان" على أنها جائزة تحمل نوعا من المجاملة بمناسبة الاحتفال بمائة عام على بدء تاريخ السينما في تركيا، أما الفيلم نفسه فهو عمل غير متميز سينمائيا، كما أنه يمتلئ بالمشاهد التي تثير النفور كتعذيب وإيذاء الحيوانات، وكيف ينساق طفل وراء الكبار في الولع بمصارعة الكلاب حتى الموت.
نشر في موقع الجزيرة

الأحد، 24 أغسطس 2014

"القانون في هذه الأجزاء": شريعة الاحتلال!







هل المهم أن يطبق المحتل القانون الذي وضعه، أم أن القانون وضع أصلا كأداة شكلية لتحقيق الانتقام من "العدو" حتى لو كان هذا العدو مغلوبا على أمره، وجد نفسه ذات يوم تحت الاحتلال؟ هل المحاكمة تؤدي إلى إظهار الحقيقة، أم أنها محاكمة محكوم فيها من قبل أن تبدأ بفعل ثقافة "الانتقام" التي تسخر فيها فكرة العدالة، لإنزال العقاب بـ "الآخر".. الفلسطيني حتى لو لم تكن هناك أدلة على مخالفته القانون سوى شهادات ضباط الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) ضده؟ هل القانون في خدمة العدالة أم في خدمة الاحتلال، وهل يمكن أن يضع المحتل نظاما قانونيا ينصف المحتل ويعترف بـ "إنسانيته" وبحقه المشروع حسب القانون الدولي في "مقاومة الاحتلال"، أم سيعتبره دائما "إرهابيا" لا يجوز له ما يجوز لغيره في مكان آخر؟
هذه التساؤلات وغيرها هي ما تطرح في سياق الفيلم الوثائقي الإسرائيلي "القانون في هذه الأجزاء" The Law in These Parts للمخرج رعنان ألكسندروفيتش Ra'anan Alexandrowicz الذي يتخذ في هذا الفيلم وجهة غير مسبوقة، فهو من خلال أسلوب عقلاني تحليلي استقصائي، وبناء جدلي شبه تعليمي، يكشف ويعري ويفضح منظومة القهر التي تخضع لها حياة ملايين الفلسطينيين، من خلال تقنين الاحتلال، وتشريع ما يبدو ظاهريا أنه يحقق لهم نوعا من العدالة، لكنه في حقيقة الأمر – كما يكشف هذا الفيلم- ينتهي إلى أن يضرب بالقانون نفسه عرض الحائط، لكي تعلو فقط شريعة المحتل.
ينتمي الفيلم إلى تلك الموجة من الأفلام الإسرائيلية التي تحاول- من وقت إلى آخر- أن تطرح تساؤلات جادة حول ديمقراطية إسرائيل المزعومة، وهل هي ديمقراطية للجميع، وهل يمكن أن يوجد نظام قانوني عادل يطبق القوانين التي وضعها خبراء التشريع الإسرائيليون، على المحتل، تماما كما يطبقه على المحتلين.
ولكن الفيلم، بدلا من التركيز على "الضحايا" أي على الطرف الفلسطيني وما يتعرض له منذ 1967، يركز على "صناع القانون" ومن يقومون بتطبيقه. يختار المخرج مجموعة من خبراء القانون والقضاة العسكريين، وكلهم كانوا يعملون في القضاء العسكري، وكان مطلوبا منهم من أول يوم لاحتلال الضفة وغزة في 1967 وضع منظومة قوانين تنظم- كما يقولون- العلاقة بين السلطات العسكرية الاسرائيلية والفلسطينيين الذين أصبحوا الآن واقعين تحت الاحتلال.

شكل تخيلي
فوق منصة  يضع المخرج بنفسه في أول مشاهد الفيلم، منضدة ومقعدا على خلفية من شاشة خضراء، ويتناوب القضاة العسكريون والقانونيون الجلوس واحدا وراء الآخر فوق المقعد، أمام المخرج الذي يطرح الأسئلة عليهم، وقد أصبحوا الآن (خارج الخدمة) بعد أن تقاعدوا. وهو يترك لهم المجال للحديث والتبرير ومواجهة أنفسهم، دون تدخل كبير من جانبه، وعلى الشاشة الموجودة خلفهم يعرض لقطات معظمها مصور بالأبيض والأسود، للكثير من الأحداث والوقائع والقضايا التي تعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة بعد 67، منها بعض الحالات التي يناقشها مع هؤلاء القانونيين الإسرائيليين الذين يتخذون مقعد الشاهد. ويستخدم أيضا الوثائق والأوراق التي تتضمن وقائع الكثير من الدعاوى القانونية والأحكام القضائية، يقرأ منها ونراها مصورة أمامنا على الشاشة، ويقتبس من الأحكام ومبرراتها، ويناول الأواراق للشخصية التي تجلس أمامه لكي ينعش ذاكرتها.
يقسم المخرج فيلمه هذا الفيلم الوثائقي الطويل (98 دقيقة) إلى خمسة أقسام، يكتب عنوان كل منها على الشاشة، وبعد أن يضع الطاولة والمقعد، تظهر على الشاشة لقطات لقوات الاحتلال تحرس عشرات المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية بعد احتلالها عام 1967. ويستخدم المخرج التعيلق الصوتي، بصوته، وباستخدام ضمير الأنا، فيقول إن الفرق بين الوثائقي والروائي أن الأول يتناول الحقائق بينما يعبر الثاني عن الخيال، ويستطرد: "قد يكون هذا صحيحا لكنه ليس دقيقا تماما". والمقصود كما سنعرف فيما بعد، التشكشك في صدق الكثير من "الوثائق" التي يعرضها. وهو يقدم فيلمه بقوله إن القانون يفترض أن ينظم الحياة بين الأفراد بعضهم بعضا وبينهم وبين السلطات، وإنه سيستعرض في فيلمه النظام القضائي الذي أنشيء بعد الاحتلال من خلال الذين أنشاوه وطبقوه وطوروه وحافظوا عليه.
القسم الأول من الفيلم بعنوان "الأوامر والبلاغات". يمسك أحد القضاة العسكريين بوثيقة يقدمها له المخرج مكتوبة بالعبرية والعربية.. إنها الوثيقة الأولى التي أعلنت على شكل بلاغ رسمي بعد الاحتلال مباشرة في يونيو 67، لكنه يفجر مفاجأة حينما يقول إن هذا البلاغ العسكري كان قد أعد قبل سنوات من الاحتلال الإسرائيلي في 67، وقد طبع منها عشرات الآلاف من النسخ ووضعت في صناديق تابعة للجيش الى حين يأتي موعد استخدامها. وتتضمن الوثيقة أن الأراضي الفلسطينية أصبحت الآن تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي، وأن كل ما يصدر عن الحاكم العسكري قانون يجب الانصياع له.
ثم نرى لقطات توضح كيف فرض الجيش على الفلسطينيين إصدار بطاقات جديدة للهوية. ثم يأتي تنظيم جمع الضرائب وإعادة تنظيم البريد والاتصالات ونظم التأمين وقانون المرور وتحويل التعامل النقدي الى العملة الاسرائيلية.
يوجه المخرج سؤالا إلى أحد الخبراء القانونيين حول السبب الذي جعلهم يسنون قوانين خاصة للأراضي الفلسطينية في حين كان يمكن تطبيق القوانين الاسرائيلية، فيقول الرجل إنهم إذا فعلوا ذلك لأصبح الفلسطينيون في الضفة والقطاع مواطنين إسرائيليين بالضرورة، فليس من الممكن تطبيق القانون على الأرض دون البشر!


شيطنة الآخر
الفصل الثاني يحمل عنوان "إرهابيون ومجرمون". نرى لقطات من الجريدة الإخباريةالعسكرية الاسرائيلية التي تصف زيارة موشيه ديان الى الفلسطينيين المصطافين على شاطيء البحر في يافا (كذا!)، ثم جانبا من المحكمات العسكرية التي تجري يوميا للفلسطينيين، ولقطات من داخل ساحات المحاكم وقاعاتها، ويناقش المخرج مع أحد المدعين العسكريين قضية تعود إلى عام 1969 كان يمثل الادعاء فيها ضد 8 من الفلسطينيين أعضاء منظمة فتح، أتهموا بمحاولة تفجير مطار بن جوريون، ويركز على قائد المجموعة الذي يقول انه ولد في القدس لكنه اضطر للمغادرة الى الأردن، وإنه كان يقاوم الاحتلال، لكنه حوكم كإرهابي. ويتساءل المخرج لماذا لا يطبق عليه القانون الدولي الذي يبيح للواقعين تحت الاحتلال المقاومة؟ فيكون رد الخبير القانوني الاسرائيلي: ليس من الممكن اعتبار أمثال هؤلاء أسرى حرب حسب اتفاقية جنيف لأنهم يقتلون المدنيين!
يتوقف الفيلم أيضا أمام قضية امرأة فلسطينية تدعى عريفة ابراهيم (من عام 1976) اعتقلت بتهمة الاشتراك في اعمال ارهابية في حين أن كل ما فعلته أنها كانت تقدم الطعام والشراب الى مجموعة من الفدائيين الذين تسللوا من الأردن وكانوا يختبئون قرب قريتها.
يتحدث القاضي دوف شيفي عما يطلق عليه "الحيطان لها آذان" أي كيف يعتمد الجيش على عملاء وسط الفلسطينيين، ويناقشه المخرج حول ما يدلي به هؤلاء العملاء من شهادات ولماذا يجب تصديقها دائما، وهل كان القضاة يناقشون مثل هؤلاء الشهود، وكيف يأخذ القضاة بأقوال شهود لم تتح لهم فرصة مناقشتهم، ولكن الرد يكون دائما ان هذه السرية مقصودة حماية للعملاء كمصدر مهم للمعلومات عند الجيش.
في أحد المشاهد يعترف أحد القانونيين منفعلا بعد أن يحاصره المخرج بالأسئلة، بأن القضاء العسكري في النهاية يعمل عند الجيش الاسرائيلي، وأن هناك فارقا بين العدالة وبين النظام، وليس شرطا أن يتفق الاثنان دائما.
في القسم الثالث يصور الفيلم بدايات تطبيق سياسة الاستيطان في الضفة والقطاع، وكيف تلقف إريل شارون نصيحة من أحد القضاة العسكريين (يظهر في الفيلم ويتحدث عن التجربة) تعيد استخدام مادة في القانون العثماني تتعلق بما يطلق عليه "أرض ميتة" أي اعتبار كل أرض مهملة لا يزرعها أصحابها أرضا ميتة يجوز للجيش الاستيلاء عليها وتشجيع المستوطنين على البناء فوقها، وهو ما نراه عمليا في الفيلم من خلال الوثائق المصورة.
في الجزء الرابع بعنوان "حلول مناسبة" يصور الفيلم الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 وكيف كانت السلطات الاسرائيلية تطور في التشريعات والتطبيقات وتتجاوز الكثير لكي تواجهها وتقضي عليها. 
وفي أحد أهم المشاهد الوثائقية في الفيلم تدور الكاميرا في لقطات بالألوان على عدد من السجناء الفلسطينيين داخل زنازين مختلفة من وراء القضبان ويسألهم المصور واحدا وراء الآخر: لماذا أنت هنا فتأتي اجاباتهم جميعا متطابقة: لقد كانوا ضمن الانتفاضة. الأول يقول انه كان يلقي بالأحجار، وعندما يسأله المخرج: وما الحكم الذي صدر عليك؟ يقول: 14 شهرا. والثاني كان يوزع منشورات ويكتب على الجدران شعارات مناهضة للاحتلال، وقد ناله حكم بالسجن لمدة سنتين ونصف، والثالث قام بالقاء الاحجار وتوصيل أحد الفلسطينيين بسيارته وقد ناله حكم بالسجن لستة أشهر ونصف، وغرامة 500 شيكل!!

جهد توثيقي
يصور الفيلم في مونتاج جدلي مثير مع مزج على مقاطع من المقابلات مع القانونيين العسكريين، وعلى خلفية من موسيقى البيانو التي تبدو كالنذير بايقاعاتها الرتيبة، نسف البيوت الفلسطينية، مواجهة المظاهرات بأقصى درجات العنف، عمليات الترحيل الجماعي عبرالحدود، إقامة الحواجز والتفتيش وقطع الصلات بين المناطق والمدن الفلسطينية، وكلها اجراءات يراها القانونيون "ضرورية" اي أنهم يقرون بسياسة العقاب الجماعي للسكان.
من الواضح أن المخرج رعنان الكسندروفيتش، بذل جهدا هائلا مع فريق عمله من أجل توفير كل ما يلزم من وثائق ولقطات تدعم رؤيته التي لا يشوبها أي غموض من البداية، فهو يتخذ وجهة نظر المحقق الذي يبحث ويحاسب ويدقق ويوجه الأسئلة الموجعة، لهؤلاء اللذين يتحدثون بلغة القانون في حين أنهم يتجاوزون كل القوانين الانسانية المعروفة، ويبرون ما لا يمكن تبريره من ممارسات.
ليس في الفيلم ما هو زائد، كما لا ينقصه شيء، بل يبدو متماسكا من ناحية الايقاع رغم غزارة المادة البصرية وكثافة المقابلات المصورة التي يتم تقطيعها على مسار الفيلم وفصوله المختلة بذكاء وبحيث ينجذب المشاهد إلى الفيلم ويظل يتابع ما يكشف عنه كل مشهد من ملوماة جديدة أو وثيقة مصورة نادرة، وينجح في توصيل فكرته الفيلم الأساسية التي تتلخص في: كيف يتم "طبخ" القوانين من أجل تكريس سلطة الاحتلال، وهي قضية أخلاقية كما هي سياسية بالطبع.
ورغم الثبات الراسخ لدى قضاة الجيش الاسرائيلي وخبرائه القانونيين الذين يظهرون غير نادمين بالمرة في الفيلم، إلا أن بعضهم لا يملك أمام إلحاح المخرج بأسئلته القاسية الباردة تماما التي تأتي من خارج الكادر لتحاصر الشخصية التي يحاورها ، سوى الإقرار بأن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه ليس من الممكن دائما الحديث عن العدالة بينما تكون أنت كقاض- تعمل لدى جيش احتلال. وهذه هي خلاصة رسالة الفيلم التي تصل الى الملايين عبر العالم.
جدير بالذكر أن هذا الفيلم حصل على جائزة أحسن فيلم وثائقي في مهرجان صندانس الأمريكي كما نال جوائز دولية أخرى.  

نشر أولا في موقع "الجزيرة الوثائقية"
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger