السبت، 29 مايو 2010

كن لوتش يستأصل جذور الفساد من العراق في "الطريق الأيرلندي"


أنشر هنا ما كتبه الناقد البريطاني المعروف ديريك مالكولم عن فيلم "الطريق الأيرلندي" وقد قرأته مؤخرا بعد عودتي من كان، في إطار استكشاف آراء نقاد بريطانيا في الافلام البريطانية الثلاثة التي عرضت داخل وخارج المسابقة. ولدهشتي اكتشفت وجود الكثير من الآراء المشتركة.. وياله من أمر جدير بالتأمل حقا. وإليكم المقال:
عندما يتحدث كن لوتش ، تميل الجماهير في مهرجان كان للاستماع، فالمخرج البريطاني صاحب "الريح التي تهز الشعير" الحاصل على السعفة الذهبية في عام 2006 هو أحد المخرجين الأكثر شعبية وتأثيرا من كل صناع السينما الذين يزورون المهرجان.
وكان فيلمه، الذي ضم للمسابقة في آخر لحظة ويتناول الوضع المثير للجدل لرجال الأمن - ومعظمهم من الجنود السابقين – الين يعملون في العراق، واحدا من أسخن الأفلام في الكروازيت.
الفيلم من تأليف بول لافرتي، الذي يكتب سيناريوهات لوتش بانتظام، ومن بطولة مارك ووماك، الذي يقوم بدور ضابط سابق في القوات الخاصة (إي ايه إس) ينضم إلى شركة أمن في بغداد مقابل عشرة آلاف جنيه إسترليني خالية من الضرائب شهريا.
هذا الشاب من ليفربول، يقنع صديقه القديم بالانضمام إليه، والآن هذا الصديق قتل على الطريق الايرلندي، الذي يعتبر الأكثر خطورة في العالم. فيعود إلى ليفربول ويواجه صديقة القتيل (أندريا لوي)، يحاول معرفة كيف ولماذا مات صديقه، وكلما ينقب في المأساة، يكتشف المزيد من الفساد والنفاق.
فيلم لوتش مثل فيلم شخصي جدا عن مدينة مليئة بالدولارات الأمريكية، وبالتالي تمتليء بالفساد والجشع والعنف. وهناك موضوع فرعي هو تأثير الحرب على الرجال المقاتلين، الذين نجوا من هذه الظروف، بل والحرب نفسها.
بعد فيلمه الكوميدي السابق، "البحث عن إريك"، هنا عودة إلى المشاعر الأخلاقية القوية التي ميزت أفلام لوتش السابقة، ولكن هذا الفيلم ليس مصنوعا بشكل جيد كما كان الفيلم الذي حاز السعفة الذهبية، وينقصه الكثير في مجال راوية قصة،لا تميل إلى التشويش علينا وعلى بطله ضابط القوات الخاصة السابق.
لا شك في أن موضوع أولئك الذين يبيعون خبراتهم في العراق مقابل كميات كبيرة من الاموال يلقى صدى في بريطانيا، ولكن "الطريق الايرلندي" يفتقر إلى القوة التي كانت تميز أفلام كن لوتش الجيدة.
وفقط أود أن أسجل أنه لم يكن هناك أي فيلم صنعه لوتش يحتوي على هذا الكم من الكلمة المكونة من الحروف الاربعة fuck وبالتأكيد لم يسبق أن استخدم التعذيب عن طريق الإغراق بالماء كما يفعل بطله.

((صحيفة "ذي إيفننج ستاندراد" The Evening Standard بتاريخ 19 مايو 2010 ))

الجمعة، 28 مايو 2010

البحث عن الإبن المفقود في "رجل يصرخ"


كان الفيلم الإفريقي الوحيد في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ63 بل وفي كل أقسام المهرجان المختلفة، هو فيلم "رجل يصرخ" A Screaming Man للمخرج التشادي محمد صالح هارون.

ويعتبر هارون الرائد الحقيقي للإخراج السينمائي في تشاد، ولا أقول للسينما، فلا توجد هناك صناعة سينمائية أو إنتاج سينمائي له صفة الاستمرارية والدوام في تشاد، بل وقد دمرت معظم دور العرض في البلاد خلال سنوات الحرب الأهلية. وقد أخرج هارون ثلاثة أفلام روائية طويلة قبل فيلمه الجديد هي "باي باي أفريقيا" Bye Bye Africa، و"أبونا" Abouna و"موسم الجفاف" Dry Season أو "دارات" Darat، وكل أفلامه من الإنتاج الفرنسي. وتدور أحداثها في أجواء الحرب الأهلية التي تمزق تشاد، وهي الخلفية الرئيسية لفيلمه الجديد الذي يتنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان.الفيلم السابق لهارون وهو فيلم "موسم الجفاف" كان عملا فيه الكثير من الطموح، لتناول موضوع يدور حول فكرة الثأر وجدواها، وهل يمكن أن يتوصل المرء إلى الإحساس بالتسامح حتى مع من قتل والده، دون أن يفقد احترامه لنفسه، خاصة وأنه يحيا في ظل تقاليد قبلية عتيقة تضع الكثير من القيود حول عنقه.
أما فيلمه الجديد "رجل يصرخ" فهو يتناول التأثير النفسي للحرب الدائرة بين القوات الحكومية وقوات المتمردين، على العلاقة بين الأب والإبن، بين "آدم" الذي يعمل مشرفا على حوض السباحة في أحد الفنادق الفخمة في العاصمة نجامينا، وولده الشاب "عبد الله" الذي يساعده في العمل. ومن المشهد الأول الذي نرى فيه آدم يقود دراجته النارية في شوارع المدينة في طريقه إلى العمل، نلمح أجواء الصراع المسلح، مع انتشار نقاط التفتيش على الطرق، وأمام الفندق، وتعرض آدم للتفتيش اليدوي في الشارع. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن هناك إدرارة جديدة صينية للفندق جاءت بعد أن اشتراه رجل أعمال صيني، وهذه الإدارة تريد خفض العمالة، وتبدأ بصديق آدم "ديفيد" الطباخ الذي قضى زهرة شبابه في العمل بمطبخ الفندق، فيجد نفسه وقد أصبح بلا عمل، مما يؤدي إلى وقوعه صريع المرض.
وسرعان ما يأتي دور آدم عندما يتم نقله من الإشراف على حوض السباحة، الذي نرى عائلات ضباط الأمم المتحدة الأوروبيين وأطفالهم يلهون ويمرحون وهم يسبحون فيه، إلى تناوب الحراسة على مدخل الفندق.وتنهار حياة آدم انهيارا تاما، ويسيطر عليه الاكتئاب، فحوض السباحة، كما يقول للمسؤولة الصينية مدام وانج، هو حياته بأسرها، وهو كان بطلا للسباحة في منطقة إفريقيا الوسطى في الستينيات. ويكاد عقله يطير من رأسه عندما يعلم أيضا أن ابنه "عبد الله" هو الذي سيحل محله في الإشراف على الحوض.الإبن وجل، متردد، بل ومتلعثم ومرتبك، لا يمكنه مواجهة والده.


يجلس الإثنان أمام الأم/ الزوجة "مريم" في البيت، عاجزان عن الكلام. عبد الله يشعر بالذنب لاستيلائه على مهنة والده، لكنه يبرر ذلك بقوله: إنه أيضا من حقه الحصول على عمل مناسب لأن أمامه مسؤوليات في انتظاره. وآدم لا يمكنه قبول الانسحاب من موقع يعتبره ملكا أبديا له بحكم تاريخه الشخصي!

وتقع الطامة الكبرى التي تزلزل حياة الأسرة كلها عندما يساق الإبن عبد الله، لأداء الخدمة العسكرية، ووالده آدم، يراقب الجنود يسوقونه بالقوة، من نافذة حجرة النوم، دون أن يتحرك لمساعدته أو حتى لتوديعه، بينما أمه تصرخ وتولول، وتستنجد بآدم دون جدوى.تحضر ضيفة جديدة تحل على الأسرة المحطمة، هي حبيبة الإبن التي تحمل أيضا في أحشائها جنينا منه، ويرحب بها آدم ومريم ويرعيانها كإبنة لهما. والمسكينة لا تكاد تصدق أن عبد الله اختفى هكذا ببساطة. وفي لحظة مواجهة مع الذات ممزوجة بنوع الإحساس بالندم العميق، يعترف لها آدم بأنه هو الذي أبلغ السلطات في ابنه.

وطول الوقت، نلمح آثار الحرب الأهلية غير المعلنة في البلاد، الراديو يبث الكثير من الأخبار عن المتمردين الاستيلاء على بلدتين، ونفي الحكومة، ومسؤول الحكومة المحلية يمارس ضغوطا على آدم من أجل التبرع بالمال لصالح المجهود الحربي للقوات الحكومية، وأصوات القذائف وإطلاق النار هنا وهناك، ومع اتساع التهديد الذي تمثله قوات المتمردين، يهرع السكان في هلع، إلى الفرار من المدينة حاملين معهم أمتعتهم، بينما مسؤول الحكومة يخاطبهم عبر مكبر الصوت، داعيا إياهم إلى البقاء، مؤكدا أن الوضع "تحت السيطرة".
آدم، مدفوعا برغبته في التكفير عن الذنب، يذهب للبحث عن ولده إلى أن يعثر عليه جريحا في صدره وقد غطت وجهه الضمادات، فيقوم بتهريبه ومساعدته على النجاة والعودة به إلى حبيبته. وينتهي الفيلم تلك النهاية التي يمكن للبعض أن يعتبرها سعيدة، غير أنها تشير إلى استمرار المأساة وامتدادها في تشاد.
في الفيلم أجواء افريقية صرف، من خلال الشخصيات المختلفة التي تنتمي إلى بلدان أخرى، مثل الطباخ ديفيد الذي يقول إنه من الكونغو، وحبيبة عبد الله التي جاءت من مالي، كما يصور هارون كعادته، الكثير من العادات والتقاليد، ويستخدم إيقاعا بطيئا يعتمد على اللقطات الثابتة أكثر، وعلى الحركة البطيئة للكاميرا، وعلى الإبقاء على اللقطة زمنا أطول على الشاشة، كما يهتم بالتكوين، وبالإضاءة خاصة في المشاهد الليلية، وينتقل من المدينة إلى الصحراء، ومن الداخل إلى الخارج، دون أن يفقد التدرج اللوني الطبيعي في إطار الشاشة العريضة التي تساهم في إضفاء طابع ملحمي على الفيلم.
ويعتمد هارون أيضا على براعة ممثليه الذين يبرز من بينهم بوجه خاص الممثل يوسف جاورو الذي يؤدي دور آدم برصانة وحزن عميق في عينيه.إلا أن مشكلة هذا الفيلم أن مادته الدرامية البسيطة لا تساعد على التعمق في الفكرة ومنحها أبعادا أكثر شمولية، سواء على الصعيد الفلسفي أو الإنساني. فهناك الكثير من الغموض الذي يلف سلوك الشخصيات: لماذا يبدو عبد الله مثلا مبتهجا إلى هذا الحد بعد أن تتم ترقيته من مساعد لوالده إلى مسؤول عن حوض السباحة؟ وما الذي يمكن أن يمثله حوض السباحة أصلا في الموروث الثقافي الافريقي لكي تنهار حياة آدم بعد إبعاده عن العمل بجواره؟ وهل أبلغ آدم السلطات فعلا عن ابنه لكي يسوقونه إلى الجيش؟ وهل كان الإبن متهربا أصلا من أداء الخدمة، علما بأنه العائل الوحيد لوالده المتقدم في العمر؟ وما موقف الزوجة مريم، أكثر من تكرار التعبير عن استيائها من أن أحدا منهما، أي الإبن والزوج، لا يطري طهيها، ولا يقبل على تناول الطعام، دون أن تسعى لفهم حقيقة ما حدث. وما هذه الصدفة التي تجعلنا نكتشف وجود حبيبة لعبد الله، تحمل أيضا طفلا منه؟ وما هو المغزى الخاص لاستيلاء رجل أعمال صيني على الفندق؟
وربما يكون الإيقاع أيضا أكثر بطئا مما يمكن احتماله في العديد من المشاهد، حتى أنه بدا مفتعلا، لإضفاء سمة خاصة على الفيلم، كما أن كثرة تكرار التركيز، من خلال لقطات قريبة (كلوز أب)، على وجه آدم، أفقدت هذه اللقطة قوتها التعبيرية الخاصة بل ودفعت أحيانا إلى الشعور بالملل من ذلك التكرار الذي لا يضيف جديدا.
ولعل القتامة الشديدة في أحداث الفيلم، كانت تقتضي كسر هذا الطابع الثقيل من خلال ابتكار بعض المواقف التي تتسم بروح المرح، وإن كان المخرج- المؤلف قد حاول في المشهد الذي نرى فيه ديفيد يقول لآدم إنه أخبر للسيدة وانج إنه يفرط في وضع الملح في الطعام، فقط عندما يقع في الحب، وإن بعض الناس لا يعرفون غير الكلام فقط!
ولاشك أن مشاركة فيلم "رجل يصرخ" في مسابقة مهرجان دولي كبير مثل كان، تعيد تسليط الأضواء على السينما الإفريقية المنسية التي لم تعد تحظى بأي اهتمام حقيقي (في العام الماضي كان هناك فيلم واحد أيضا من افريقيا السوداء في كان هو فيلم "قل لي من أنت؟" للمخرج سليمان سيسي من مالي.
أخيرا ربما تجدر الإشارة إلى أن المخرج محمد صالح هارون (مواليد 1960) عانى كثيرا أثناء الحرب الأهلية، فقد اختطف عمه، وأصيب هو بجروح وتمكن من الهرب من بلده على عربة يدفعها شخص استأجره. وهو يقول إنه يعرف الكثير من الأشخاص الذين قتلوا زمن الحرب الأهلية أثناء حكم الرئيس حسين حبري، ويقدر عددهم بـ40 ألف شخص.
يقول هارون: "البعض ينظر إلى القارة الإفريقية على أنها ضاحية من ضواحي العالم. ولكن البعض منا يرى أحيانا أنه يمكن لهذه الضاحية أن تعيد الحياة إلى منتصف العالم".

الثلاثاء، 25 مايو 2010

هوامش كان 2010

12 مايو * مشكلة مهرجان كان المزمنة أنه يريد أن يلبي طلبات جميع الصحفيين والنقاد الذين يرغبون في تغطية أحداثه، إلا أن قاعاته المخصصة للعروض الصحفية لا تشهد أي تطوير أو توسيع منذ سنوات عديدة، لذا يضطر الجميع للاصطفاف قبل الهنا بسنة أي قبل ساعة أحيانا من موعد عرض الفيلم لكي يضمنوا الدخول وإلا فقد يواجه المرء بالكلمة الحاسمة (كومبليه مسييه) أي كامل العدد يامولانا! والحل في رأيي، واحد من اثنين، إما يخفض المهرجان عدد الصحفيين الذين يقبلهم لتغطية أحداثه ويرفض أي طلبات جديدة أو يشطب من القدامى الذين أصبح معظمهم مجرد ديكور أي لا يقومون بأي مهمة صحفية حقيقية بل يتفرجون على الأفلام بصحبة أصدقائهم من الزمن الخالي، وهؤلاء بالمناسبة معظمهم من الفرنسيين الذين اعتادوا على كان واعتاد المهرجان عليهم، ومنهم كما أشرت، من تقاعد تماما عن الكتابة. أما الحل الثاني فهو الأصعب، أي بناء قاعة جديدة كبيرة تتسع لكل هذه الأعداد الضخمة أو نقل معظم العروض الصحفية إلى قاعة لوميير الضخمة التي تتسع لأكثر من 2500 شخص، وهو حل صعب أيضا لأنه يتطلب تقليص عدد العروض الرسمية أو نقلها. المهم أن يبدأ المهرجان في مواجهة المشكلة بشرط أن يعترف أولا بأنها قائمة وحقيقية. أستدرك مع هذا لأقول، إن هناك الكثيرين الذين يرون أن الازدحام والتدافع أصبحا جزءا أساسيا من مناخ مهرجان كان، يضفي حيوية عليه ونوعا من الإثارة أيضا، وهؤلاء لا مانع لديهم من المزاحمة والنضال من أجل مشاهدة فيلم، أي فيلم، ولكنك قد ترى نفس الصحفي الذي أنفق وقتا وجهدا لأجل مشاهدته، يغادر قاعة العرض بعد دقائق من عرضه لأنه لم يستسغه! 13 مايو * فاجأ تييري فيرمو عند تقديمه فيلم افتتاح قسم "نظرة خاصة" الجمهور بتقديم فيلم قصير (3 دقائق) سبق عرض فيلم مانويل دي أوليفيرا، ويصور مقابلة مع المخرج الإيراني جعفر باناهي المعتقل، منذ مارس الماضي، في إيران بسبب تأييده لانتفاضة دعاة الإصلاح الديمقراطي في البلاد. وفي الفيلم يتحدث باناهي عن المضايقات والاستجوابات التي تعرض لها خلال القفترة التي سبقت القبض عليه. ويروي في الفيلم كيف أن المحقق أخذ يوجه له أسئلة سخيفة ثم فاجأة بقوله: لكني أحببت فيلمك "الدائرة". وكان السينمائيون الأمريكيون قد طالبوا باطلاق سراح باناهي، كما اصدر الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية بيانا قبيل افتتاح مهرجان كان، يستنكر اعتقاله وبقاءه رهن الاحتجاز حتى الآن ويطالب بسرعة إطلاق سراحه. تعليقي الشخصي على هذا أن الأمريكيين والأوروبيين، يبادرون عادة بإدانة ما يقع من تجاوزات في إيران، ولكنهم يغضون الطرف كل يوم عما يقع من اعتداءات بشعة على الديمقراطية في مصر وسورية والجزائر وغيرها من الدول التي تحكمها مافيا البيزنس بالتعاون مع العسكريتاريا وتحت حمايتها. فهل يتذكر أحد في الغرب الآن مذبحة سجن أبو سليم في ليبيا التي قتل فيها 1100 معارض سياسي لنظام القذافي الذي أصبح اليوم صديقا لسبيلبرج ورئيسه، أو مذبحة الـ300 ناشط وكادر من كوادر الحزب الشيوعي الجزائري الذي قتلتهم قوات بومدين في 1966 رميا بالرصاص في مذبحة جماعية على شاطيء البحر خارج الجزائر العاصمة؟ أنا بكل تأكيد ضد النظام الفاشي في إيران، لكن المواقف لا تتجزأ. وإذا ان الموضوع مضوع سينما فلماذا لم نسمع كلمة من سبيلبيرج أو غيره احتجاجا على قمع الحريات السينمائية عندما أغلق مهرجان جدة في اليوم الاول قبيل افتتاحه مباشرة! * السوق الدولي للأفلام يعرض 900 فيلم وليس 400 كما ذكرت من قبل، منها أفلام تعرض للمرة الأولى. وهي فرصة ذهبية لاستكمال ما يمكن استكماله من أفلام مثل الفيلم الجديد للمخرج الروسي أندريه كونتشالوفسكي الذي يقال إنه أغلي فيلم في تاريخ السينما الروسية (تكلف 90 مليون دولار) وهو بعنوان "كسارة البندق والملك الفأر" وهو مصور بتقنية الأبعاد الثلاثة، ومخرجه موجود حاليا في كان للترويج لفيلمه .
14 مايو كل الدنيا تبدو حاضرة هنا في كان. عدد هائل من السينمائيين لدرجة أنني كدت أن اصطدم اليوم رأسا برأس مع مارتن سكورسيزي وهو يهرول عبر مقر المهرجان من قاعة لوميير إلى قاعة ديبوسي، وحوله بالطبع عدد كبير من المصورين. وسكورسيزي ليس من الممكن أن تخطؤه العين بسبب نظاراته السميكة المميزة التي أجدها شخصيا، قبيحة للغاية، ويمكنه بلاشك، إذا أراد، أن يعثر على بديل أفضل كثيرا بدون هذا الإطار السميك الأسود الذي يجعله يبدو مثل صانع الساعات. لكن للناس فيما يعشقون مذاهب فعلا. المهم أنني اعتذرت بسرعة للأستاذ سكورسيزي صاحب البصمة المميزة في السينما، وكدت أن أناشده العودة إلى تقديم أفلامه التي أحببناها ! * كل الناس هنا لاشك.. بدليل أنه عند تقديم الفيلم الروماني البديع "أورورا" Aurora اليوم (3 ساعات كاملة) ظل المدير الفني للمهرجان تيري فيرمو، ينادي على الأسماء ويصعد إلى المنصة واحد واثنان وثلاثة لكي يصل عدد الممثلين والمنتج والمخرج والكاتب..إلخ عشرين شخصا بالتمام والكمال، معظمهم لممثلين وممثلات ظهروا في مشهد واحد في الفيلم. تخيلوا كل هذا الكرم الحاتمي.. أو ربما يكون الطرف المنتج (هناك طرف فرنسي في الإنتاج) هو الذي تحمل تكاليف الدعوة إلى كان لهؤلاء جميعا، من أجل ترويج الفيلم. المؤتمر الصحفي للمخرج الأمريكي أوليفر ستون كان حاشدا أيضا، فقد حضره مايكل دوجلاس بطل الفيلم، وباقي أبطال الفيلم وبينهم البريطانية الشابة كاري موليجان.
15 مايو شبح بولانسكي يحلق في سماء كان * أصبحت قضية المخرج البولندي الأصل رومان بولانسكي، أحد المشاغل الرئيسية لدى الكثير من المتابعين والمعلقين هنا في مهرجان كان، فقد بدأ الجدل حول القضية التي يحتجز بشأنها المخرج الكبير تحت الإقامة الجبرية في سويسرا منذ عدة أشهر، عندما وقع عدد من السينمائيين الحاضرين في المهرجان، عريضة احتجاج على احتجازه تمهيدا لترحيله إلى الولايات المتحدة لكي يقضي عقوبة السجن، وعلى رأس هؤلاء الموقعين جان لوك جودار، المخرج الفرنسي الذي أعاد كتابة تاريخ السينما الفرنسية، كما يقف على رأس الحملة المساندة لبولانسكي الفيلسوف والكاتب هنري برنارد ليفي الذي خصص موقعا على شبكة الانترنت لدعم بولانسكي. غير أن الممثل الأمريكي مايكل دوجلاس الموجود في كان حاليا مع فيلمه "وول ستريت"(وهو يهودي مثله في ذلك مثل كل من بولانسكي وليفي) صرح للاذاعة الفرنسية يوم الجمعة، بأنه يرفض التوقع على تلك العريضة لأنه لا يمكنه أن يؤيد رجلا خرق القانون في بلاده بهروبه من المحاكمة أثناء وجوده طليقا بكفالة. وعادت القضية إلى الأضواء مجددا بقوة بعد أن أعلنت الممثلة البريطانية شبه المغمورة شارلوت لويس (42 عاما) أن بولانسكي اعتدى عليها جنسيا في شقته في باريس عندما كان عمرها 16 عاما، "بأسوأ طريقة ممكنة". وجاءت هذه التصريحات ضربة لجهود فريق الدفاع عن بولانسكي مما دفع محاميه إلى اتهامها بالكذب بل والتهديد بمقاضاتها على تصريحاتها، بل وتساءل أحد المحامين في تشكك، كيف قامت بدور في فيلم بولانسكي "القراصنة" بعد ثلاث سنوات من تاريخ اعتداء بولانسكي "المزعوم" عليها! أما جيل جاكوب رئيس مهرجان كان (يهودي أيضا) فقد اكتفى بالإمساك بالعصا من المنتصف عندما قال "إننا لا نعلم شيئا عن تفاصيل القضية وإن هناك فرقا بين بولانسكي السينمائي العظيم، وبولانسكي المواطن، ولا يمكن أن يكون هناك مواطن فوق القانون". والجدل لايزال قائما! * أستغرب أن تختفي فجأة السينما المصرية من مهرجان كان تماما، بعد أن كانت حاضرة بشكل أو بآخر، خلال السنوات الماضية، ولو من خلال المشاركة بأفلام جديدة في السوق الدولية للأفلام. وكان عماد الدين أديب صاحب شركة جودنيوز قد بدأ هذا التقليد عام 2006 عندما أتى بصحبة فيلمي "عمار يعقوبيان" و"حليم". وكان الانفاق المالي يتم على الذين أحضرهم معه من مرافقين وممثلين وصحفيين، عن سعة شديدة كما علمنا وقتها. أما وقد اختفت جودنيوز تقريبا من سوق الانتاج السينمائي بشكل مفاجي كما دخلت، بعد السقوط المالي المروع في الأسواق العالمية وبداية الانكماش، فقد اختفى أيضا غير عماد أديب من سوق كان، مثل المنتج كامل أبو علي الذي حضرالعام الماضي مع فيلم خالد يوسف "دكان شحاتة" وأتاح لنا الفرصة عن قرب للتأمل في الجميلة المغوية "هيفاء وهبي" على الطبيعة وبعيدا عن الكاميرات والأضواء المبهرة التي تطاردها عادة أينما حلت في عالم العرب. * لاتزال "التحفة" الكبيرة غائبة عن عروض المهرجان، رغم أننا شاهدنا عددا من أفلام العمالقة مثل وودي ألين ومايك لي وريدلي سكوت وأوليفر ستون ومانويل دي أوليفيرا. لكن الفيلم الأبقى في الذاكرة من كل هذه الأفلام حى هذه اللحظة، من وجهة نظري الشخصية، وبتواضع شديد، هو الفيلم الروماني الذي يحمل عنوانا غريبا هو "أورورا" Aurora للمخرج الكبير كريستي بيو (صاحب موت السيد لازارسكي) وهو أيضا فيلم شديد الغرابة، لا يشبه فيلما آخر، ويستحق بالتأكيد وقفة خاصة في مناسبة تالية. 16 مايو ديكتاتورية المواطن جاكوب! * حتى الآن أعجبني الفيلم الروماني الكبير "أوروا" الذي أرى أنه كان جديرا بالعرض في المسابقة، ولا تجوز مقارنته أصلا بفيلم محدود المستوى والهدف من أفلام الفقاعات الصابونية مثل الياباني "غضب" لتاكيشي كيتانو، أو حتى الفيلم الفرنسي التاريخي السطحي "أميرة مونبسينيه" ولو أنه من إخراج برتران تافرنييه، وهو أحد كبار مخرجي السينما الفرنسية، ولا أعرف ما الذي أغواه بالوقوع في شراك تلك القصة أو بالأحرى، "التوليفة" التي لا تصنع حبكة ولا إثارة ولا متعة من أي نوع، رغم مشاهد الإبهار الضخمة، والمبارزات بالسيوف، وأجواء الدسائس والمكائد التي تجري داخل القصور، والفتنة المتمثلة في الممثلة الصاعدة بقوة صدرها، وليس قوة موهبتها، ميلاني ثييري، فلا أظن أنها موهوبة أصلا. * من أفلام المسابقة أعجبني فيلم "الخادمة" من كوريا الجنوبية، لأنه يروي قصة بأسلوب تقليدي ولكن بسيطرة مدهشة على كل أدوات الإخراج. وأعجبني كثيرا الفيلم الوثائقي "العملية من الداخل" Inside Job الذي يتناول الأزمة الاقتصادية، و"دراكيلا" الإيطالي الوثائقي الذي يسخر من بيرلسكوني وسياساته.. وقد عرض الفيلمان خارج المسابقة. لست من المعجبين بفيلم وودي ألين، ولا بفيلم أوليفر ستون، وقد أعجبني كثيرا فيلم مايك لي وإن كنت لا أراه مختلفا كثيرا عن أفلام مخرجه البارزة، طبعا مع استبعاد "فيرا دراك" الذي وجدته عملا ساذجا مملا، وفيلم "سعيدة ومحظوظة" Happy Go Lucky الذي وجدته عملا بسيطا لا يبقى كثيرا في الذاكرة. * نحن في انتظار ما سيسفر عنه عرض فيلم جودار "الاشتراكية"، وفيلم "جميل" Biutiful لأليخانرو جونزاليس إيناريتو (هو مصر على كتابة اسمه الثلاثي المرهق على كل أفلامه والأفضل أن يعثر له على إسم آخر خفيف مكون من كلمتين فقط).. وهو يتحذلق في التلاعب بكلمة "جميل أو جميلة بالانجليزية فيكتبها باستخدام حرف خطأ محاكيا تارنتينو العام الماضي في عنوان فيلمه "أوغاد مجهولون" Inglorious Basterds ويبدو أننا أصبحنا نعيش في عصر تحطيم الكلمات، والتعبير المكسر عن الأشياء! * رئيس مهرجان كان سيحضر الإثنين عرض فيلم تسجيلي عنه بعنوان "المواطن جاكوب" طبعا يمجد دوره كمدير لمهرجان كان لنحو ثلاثين عاما، والآن كرئيس له لدرجة ارتباط المهرجان بشخصه. الديكتاتورية ليست في العالم العرب فقط بل هنا أيضا، لكي لا يشعر العرب بأنهم متفردين. * وبمناسبة العالم العربي (الذي يفضل القوميون تسميته الوطن العربي على اعتبار أن كل العرب كيف- كيف، أو في الهوا سوا، وهو ما لا أتفق معه!) ورد في التعريف بالمغرب العربي في تحقيق منشور عن السينما التونسية في مجلة "فاريتي" (التحقيق والملحق كله مدفوع كإعلانات للدعاية للمنتج التونسي العملاق "ماليا" طارق بن عمار).. أن المغرب العربي "تعبير يطلق على البلدان الناطقة بالعربية في شمال افريقيا"! ولكن التعريف لم يقل لنا بالمناسبة: ماذا بشأن الناطقين بالفرنسية من "سكان" تلك البلدان! 17 مايو جودار وعباس والقذافي!
* دخلت إلى قاعة العرض لمشاهدة فيلم المخرج السينمائي الكبير جان لوك جودار "الاشتراكية" (الذي يمكن جدا أن يكون وصيته الأخيرة، فوجدت رجلا وامرأة، فرنسيين إلى جواري. بدأت المرأة تتكلم، ولا تريد أن تكف عن الكلام، ثم أخرجت شيئا، نوعا من الحلوى من حقيبة يدها، أعطتها للرجل، الذي أخذ يفض عنها غلافها مما جعله يصدر صوتا مزعجا، استمر وقتا طويلا، في حين أن أمثالي من الذين اعتادوا على مشاهدة الأفلام وسط سكون تام وهدوء كامل في قاعات العرض البريطانية في لندن، ربما يكون إحساسهم زائدا بعض الشيء عندما يحضرون مهرجانات تقام في بلدان الجنوب الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، فهؤلاء "اللاتينيون" لا يقيمون وزنا كبيرا للآخر الذي إلى جوارهم. كدت أتوجه إلى السيدة المبتهجة وزوجها أو صديقها، وأحاول لفت نظرهما إلى ما يسبباه لي من إزعاج وأنا أريد أن أعيش في محراب السينما الذهنية الخالصة مع عمنا الكبير جودار. إلا أنني سرعان ما تراجعت تماما عن الفكرة، فمن حق السيدة أن تبتهج، وأن تحتفل، فهذا أولا مهرجانهم، هم الذين أقاموه وهو موجه أساسا لهم، وهو أهم مهرجان سينمائي في العالم، يستقطب البشر من عشرات الأجناس والأنواع والفصائل البشرية، فهل لدينا مثله أو نجحنا حتى في محاكاته من توفير شروط عرض مثالية (من حيث القاعات وأجهزة العرض والشاشات وباقي التجهيزات الأساسية)؟ وثانيا، وربما هذا هو الأمر الأساسي، أن جودار "إنتاج فرنسي من الطراز الأول، عالي الجودة، ومعروف عالميا". صحيح أن لنا في جودار جزءا بحكم اهتمامنا الكبير به منذ أن كنا صبية يافعين، وبحكم تدريسنا له في معاهدنا ونوادي السينما لدينا. لكن جودار مع ذلك، يبقى "اختراعا فرنسيا" بشكل أساسي، وهو يعد فخرا لفرنسا، ومن حق الفرنسيين أن يبتهجوا بالأستاذ والمعلم، الذي يكاد يختم مسيرته السينمائية الحافلة وهو على مشارف الثمانين من عمره، متعه الله بالصحة والعافية ومد في عمره مثلما مد في عمر البرتغالي مانويل دي أوليفيرا. أما الفيلم الجوداري نفسه، فهو يقتضي وقفة طويلة خاصة لأنه فيلم من نوع خاص، من النوع الذي لا يروق إلا لمن يدرك أن السينما "أداة تعبير ثقافي وفكري وفلسفي" إلى جانب كونها بالطبع، أداة للتسلية والفرجة والمتعة. * كان اليوم يوم الأفلام الثقيلة بدون شك. شاهدت كالعادة أربعة أفلام بداتها بفيلم المكسيكي الذي أصبح شهيرا اليخاندرو إيناريتو جونزاليس، ثم فيلم البريطاني ستيفن فريريز "تمارا درو"، ثم فيلم جوادر "الاشتراكية"، وختمت اليوم بفيلم عباس كياروستامي "نسخة موثوقة". لم يعجبني على الإطلاق فيلم فريرز، بل ووجدته أيضا ثقيلا ومملا وسخيفا ولم يضحكني رغم أنه أضحك بعض من يغرمون بهذا النوع من الميلودرامات الفكاهية المصممة على وتيرة مسرحية، وتصلح أساسا للعرض في الصندوق box (وهو التعبير المناسب الذي يستخدمه الأمريكيون في إشارة إلى جهاز التليفزيون). ولا غرابة في ذلل فالفيلم من إنتاج تليفزيون بي بي سي، بمساعدة من المجلس البريطاني الثقافي وأيضا من جزء من أموال مسابقة أوراق اليانصيب أو ما يعرف باللوترية. أما فيلم جونزاليس (صاحب بابل) فهو يستحق مزيدا من التأمل قبل الكتابة عنه، وقد أعجبني فيه الكثير. وهزني فيلم جودار بقوته وجرأته في التعبير وكأنه يجرب وهو بعد لايزال في العشرين من عمره، لكنه تجريب "المعلم الكبير" الذي يعرف تأثير كل لقطة، ويريد أن يصدم المتفرج ويبقي على ذهنه مستيقظا لنحو ساعتين. وأخيرا لم يعجبني أبدا فيلم الأخ كياروستامي الذي يجد فيه بعض العرب تعويضا عن غياب سينماهم، لدرجة أنهم جعلوا منه بطلا "من أبطال العرب" ربما لأن اسمه عباس! أقول قولي هذا وأستدرك لأضيف أن هذا مع ذلك، يعتبر أيضا أقل أفلام كياروستامي ثقلا في وطأته، وأكثرها تحررا من القالب المفتعل الذي يعمل فيه عادة، ربما لأنه مصور في أوروبا بممثلين أوروبيين ولا علاقة له بإيران لا من قريب، ولا من بعيد، إلا أن البعض هنا (من أبناء يعرب) مازلوا يتكلمون عنه أيضا باعتباره "الفيلم الإيراني في المسابقة"! والله لنتكبن عنه قريبا كما نشاء، ونقول فيه ما يجب أن يقال! * أخيرا.. لا أريد أن أصدم أحدا من الذين يترددون على هذه الصفحة، بأن أقول لهم أن الصفحة الأولى من مجلة "فاريتي" التي تصدر يوميا أثناء المهرجان، نشرت صورة للعقيد الليبي معمر القذافي (الآن هو سيحتج على كلمة عقيد بعد سقوط جيوش العرب، وعلى كلمة ليبي بعد أن أعلن نفسه ملك ملوك افريقيا!) والمناسبة أن هناك فيلما هوليووديا ضخم الإنتاج يروي حسبما نشرت الصحيفة "القصة الحقيقية للشعب الليبي" بعنوان "برقة Cyrnacia : الحدود المفقودة". وتشير الصحيفة إلى أن الفيلم الملحمي سيروي رحلة صحفي (أمريكي غالبا) عام 1928 من اسبانيا عبر المغرب إلى ليبيا لكي يشهد على ما ترتكبه قوات موسوليني من قتل وتدمير في القرى الليبية المحاصرة. وتقول المجلة في تبرة دعائية واضحة إن هذه هي المرة الأولى منذ "لورنس العرب" و"بن هور" التي يقدم فيها أحد ستديوهات هوليوود على تجربة إنتاج فيلم بهذا الحجم في الصحراء "لصنع تحفة حقيقية". وتتساءل المجلة هل ستعود الحكومة الليبية إلى تمويل الفيلم بعد أن كانت طرفا في الانتاج ثم تراجعت. والواضح أنها محاولة لإسالة لعاب القذافي واستدراجه للوقوع كعادته، في الفخ والحصول منه على عشرات الملايين من أموال الشعب الليبي، وإلا بدا متراخيا في تمجيد التاريخ الليبي، وتمويل فيلم أمريكي تجني من وراءه شركة الإنتاج أرباحا طائلة قبل أن شرع في التصوير، ثم تمنح العقيد شريطا يوزعه على ضيوفه في فنادق ليبيا بالعافية، مع نسخ من الكتاب الأخضر وشروحه، تصل إلى حجم عدد من صناديق الأحذية! 18 مايو رسائل وتعليقات * الصديق خالد عمر أرسل يسألني لماذا لا أقدم نقدا تفصيليا يوميا للأفلام التي أشاهدها؟ وردي البسيط على سؤاله أنني أشاهد يوميا من 4 إلى 5 أفلام وهو أمر يستغرق الكثير من الوقت والجهد، خاصة وأننا نضطر للاصطفاف أمام قاعات العرض قبل نصف ساعة على الأقل من أجل ضمان مقعد.، وأحاول أن أكتب يوميات أسجل فيها انطباعاتي عن معظم هذه الأفلام، لكني لا أريد أن أحرقها في نقد متعجل بسبب ضيق الوقت المتاح للتأمل والتفكير والكتابة التفصيلية خاصة وأنني، لحسن الحظ، غير "مضطر" للكتابة اليومية التفصلية هذا العام لجهة محددة، ولذلك قررت مشاهدة أكبر عدد ممكن من الأفلام التي أقوم بتدوين ملاحظاتي بدقة عنها سواء أثناء المشاهدة أو بعدها، على أن أعود للكتابة عن معظمها بعد انتهاء المهرجان. والكتابة بمزاج "رايق" أفضل كثيرا من الكتابة المتعجلة، ودليلي في هذا نقدي لفيلم ايليا سليمان "الزمن الباقي" العام الماضي، فقد كتبت ونشرت عنه في اليوم التالي لعرضه في المهرجان، ثم عدت بعد عودتي وتأملت فيه أكثر لكي أكتب مقالا تحليليا مختلفا تماما عن مقال المتابعة النقدية في المهرجان، ويستطيع القاريء مراجعة المقالين في هذا الموقع لمعرفة ما أقصده بشكل عملي ملموس. والأمر الآخر أو لعله الأخير ياعم خالد، هو أننا لسنا في سباق حول من يكتب أكثر أو أطول، وكأننا سنربح جوائز في نهاية الأمر. الكتابة أساسا، على الأقل بالنسبة لي، متعة شخصية وليست فرضا وواجبا مقدسا، فإن انتفت المتعة، انتفت القدرة على الإمتاع أيضا.. أليس كذلك. عليك إذن أن تكتفي بما أقدمه هنا مبدئيا إلى حين أعود لافصل فيما بعد. * الأخ عمر منجونة أرسل يقول لي ألا يمكن اعتبار فيلم "الخارجون عن القانون" جزائريا كما نعتبر أفلام يوسف شاهين ويسري نصر الله مصرية؟ أقول له إن شاهين-مثلا- كان ينتج أفلامه بنفسه من خلال شركته المصرية، بتمويل فرنسي، وبتقنيين وممثلين مصريين. أما رشيد فهو يعتمد بالكامل على الإنتاج الفرنسي والتقنيين الفرنسيين، وتعد فرنسا هي "بلد المنشأ لأفلامه" ومركز توزيعها للعالم، بينما في حال شاهين ويسري نصر الله فأفلامهما مركزها وشركات انتاجها في مصر، ولذا فالوضع يختلف، أما ثقافيا فطبعا يمكن اعتبار أفلام رشيد بوشارب التي تدور في الجزائر أو عنها، أفلاما جزئرية بالمفهوم الثقافي نعم.. وليس في ذلك أي تناقض. عمر يتساءل أيضا عن أسباب كل هذا الابتهاج بمهرجان كان رغم وجود أفلام رديئة، أو شيئا من هذا القبيل حسبما فهت من رسالته. الأفلام ليست رديئة بشكل قاطع، بل تختلف حولها وجهات النظر، فما لا يعجبني مثل أفلام كياروستامي، يعجب غيري، ولديهم وجهة نظرهم الشخصية وحجتهم على ذلك الإعجاب، والسينما بطبيعتها فن ديمقراطي لا يفرض شيئا محددا عليك. وإذا كنت أنا لا أحب أفلام تاكيشي كيتانو مثلا فهناك آلاف البشر هنا من "أهل الصنعة" يعشقونها. والمهرجان لا يأتي بأفلام الفن الرفيع فقط بل بكل أنواع الأفلام، ويبقى "كان" أهم مهرجانات السينما في العالم لأسباب كثيرة نعرفها كلنا، تتعلق بالبرنامج والتنظيم والسوق والمطبوعات والحضور المباشر للسينمائيين الكبار، ولقدرته على أن يأتي بأحدث الأعمال التي يفترض أنها مهمة لهؤلاء السينمائيين الكبار مثل وودي ألين وأوليفر ستون ومايك لي وكن لوتش وغيرهم، واذا جاءت أفلام هؤلاء ناقصة، أو لم تعجبني تماما فليس معنى هذا أن المهرجان فاشل بل العيب في اختيارات هؤلاء السينمائيين. أما بخصوص قدرة مانويل دي أوليفيرا على توفير تمويل لأفلامه. أولا أفلامه عادة تنتج بميزانيات محدودة. وثانيا تعتمد هذه الأفلام على الإنتاج المشترك بين عدة شركات في دول مختلفة، وهناك الكثير من جهات الإنتاج في أوروبا وأمريكا اللاتينية التي ترحب كثيرا بإنتاج أفلام أوليفيرا، الذي يعد علما من أعلام السينما الفنية في العالم. ومن يقول له لا، يكون هو الخاسر. وأخيرا لماذا يرفضون والرجل صحته جيدة، وباستطاعته الوقوف والمشي والحركة والحديث بشكل طبيعي تماما، ويفكر ويحلم ويتخيل مثل أي إنسان شاب بل ربما أفضل كثيرا، ويكتب سيناريوهات افلامه عادة بنفسه. وقد صرح في المؤتمر الصحفي بأنه انتهى من كتابة سيناريو فيلمه القادم. إنه يتحدى الموت بالسينما وبالحياة في السينما! * تلقيت اليوم رسالة من هاوي السينما العظيم صالح الجاردوي من البحرين يقول لي فيها: فقط أريد أن تعلم أنك تقدم لنا تحديثات في وقت مبكر يوميا عن الأفلام التي تعرض في في مهرجان كان من خلال موقعك، وأنا واثق من انها تأخذ الكثير من الوقت والجهد منك، ونحن سعداء لرؤية التحديث بشكل يومي. حقا إنها مهمة عظيمة، ونحن نشكرك على ذلك لأنك تضعنا في قلب المهرجان. صالح الجارودي وكان صالح قد كتب قبل أيام يقول: "أود أن أقول لك إنني أتابع بشكل يومي، وأحيانا على مدار الساعة، كل ما تكتبه من مهرجان كان، وخصوصا ما ينشر في العمود الأيمن من الصفحة. بالأمس شاهدت فيلم "روبن هود" ولم يعجبني لأنني لم أشعر أنه أضاف لي أي جديد. لقد رصدوا له ميزانية وامكانيات ضخمة حقا، لكن من الناحية الإنسانية، على الأقل بالنسبة لي، لا يوجد شيء. وحتى الععلاقة بين راسل وكيت لم تبد لي متسقة. شكرا على الإضافات اليومية التي تضعنا في قلب المهرجان". لك كل الشكر ياصالح وليتك كت معنا هنا في هذه المعمعة لكي تدرك مشقة المهمة، ولكني أستمتع بما يهمني ويثير اهتمامي من أفلام، وأكتب عنها بدون حساب لأهمية المخرج أو تاريخه وما يقوله عنه نقاد الغرب. * قرأت أن سبب استبعاد فيلم جودار "الاشتراكية" من المسابقة ووضعه في قسم "نظرة خاصة" هو أولا رفض جودار حضور المهرجان ومناقشة فيلمه في مؤتمر صحفي، ولابد أن لديه أسبابه في ذلك التي لا نعلم عنها شيئا. ثانيا أنه وضع 4 دقائق من فيلمه على موقع يوتيوب ودافع في حديث منشور أجري معه، عن حق الجمهور في الحصول على المعرفة ورفض اعتباره نوعا من القرصنة، أي أنه باختصار يدافع عن القرصنة ويرفض فكرة حماية الملكية الفكرية ويضع مقابلها حماية حقوق المعرفة الفكرية. وجهة نظر جديرة بالتأمل. ولكن لماذا يفترض المهرجان أن جودار يريد المشاركة في التسابق مع أحد.. أليس هو بمستواه، خارج المنافسة مع المبتدئين والعابثين بالسينما مثل كيتانو وأمثاله. بالمناسبة جودار قال إن عدم تمكنه من الحضور إلى المهرجان جاء "لسبب يوناني"! * لم تكن مسابقة الأفلام القصيرة (9 أفلام) على مستوى جيد بل شديد التواضع. وفيلم "فالنتين الأزرق" قال لي الناقد التونسي الصديق الطاهر الشيخاوي أنه كارثي. 19 مايو سياحة سينمائية الذين يتساءلون عن "حجم" مهرجان كان سينمائيا، يجب أن يعلموا أن المهرجان لا يعرض أكثر من 100 فيلم في كل برامجه وأقسامه، هذا صحيح، لكنه يعرض في السوق الدولية للأفلام 900 فيلم، تعرض على مدار 12 يوما، والعروض تبدأ في الثامنة والنصف صباحا، وتنتهي في الثانية صباحا. وتدور آلات العرض في عشرات من قاعات العرض السينمائي، داخل قصر المهرجان وخارجه، في دور السينما الموجودة بالمدينة التي تعرض أفلام السوق، وغير ذلك من القاعات التي ابتدعت خلال السنوات الأخيرة مثل سينما الشاطيء، وغيرها. وتشهد كان يوميا حوالي 250 عرضا سينمائيا (وليس فيلما حتى لا يفهم خطأ)، أي أن الأفلام تدور في آلات العرض السينمائي في كل القاعات 250 مرة أو أكثر. وتتحول المدينة كلها إلى حالة احتفال جماعي بالفن السينمائي، ولا أظن أن هناك في أي جهة على الأرض، شيئا مشابها لما يوجد في كان، لهذا فإنه مهرجان فريد من نوعه. وقد أصبح بالتالي، يستقطب الكثير من الباحثين عما يمكن أن نطلق عليه "السياحة السينمائية". وهؤلاء السياح الذين يزورون المهرجان تحت دعوى اهتمامهم بالسينما، يبحثون عن أي وسيلة كانت، للحصول على أي نوع من أنواع البطاقات، لمشاهدة بعض الأفلام، وإن لم يكن، فيكتفون على الأقل، بالتواجد في الحلبة، بالقرب من النجوم والسينمائيين وخبراء السينما في العالم من النقاد ومديري المهرجانات. وهناك بالطبع الباحثات عن الشهرة عن طريق الحصول على فرصة لدخول عالم التمثيل من أوسع أبوابه، أي عن طريق مقابلة المنتجين في الفنادق الراقية المتراصة على طول شاطيء الكروازيت. وتبذل كل واحدة من هاته الفتيات عادة، كل ما يمكنها، وتدخر لشراء ملابس على أحدث صيحة، تبرز الكثير جدا من مفاتنها، وتخفي أقل القليل، لعلها بذلك تلفت أنظار المنتجين، فربما ظهرت في دور "كومبارس" تسير في ملهى ليلي مثلا في الفيلم القادم من سلسلة أفلام جيمس بوند. لكن الطريف أننا وجدنا خلال السنوات الأخيرة توافد عدد من الممثلين الشباب أيضا، ومن العالم العربي، الباحثين عن فرص للظهور في أفلام يكون مطلوبا فيها شاب يتكلم بالعربية أو يبدو عربي المظهر والسحنة خاصة مع توالد الأفلام التي تتناول "الإرهاب" و"الإسلام السياسي" والحرب في العراق وأفغانستان، وغير ذلك، مما أوجد "سوقا" لهؤلاء، أهمها بالتأكيد، سوق مهرجان كان.. وكل في كان، يغني على ليلاه! * الفيلم الكوري الثاني في المسابقة الرئيسية للأفلام الطويلة هنا، التي تتنافس أفلامها الـ19 على السعفة الذهبية، كاد عن حق، أن يطيح بمصداقية لجنة الاختيار في كان، فهو فيلم ضعيف وبطيء وممل إلى درجة النعاس، وقد بذلت شخصيا جهدا كبيرا للصمود ساعتين و17 دقيقة أمام الشاشة علما بأن المهرجان ارتكب خطأ فادحا ببرمجته في الثامنة والنصف صباحا. والفيلم بعنوان "شعر"، عن امرأة "عادية تماما" تجاوزت الستين من عمرها، تريد أن تعبر عن نفسها من خلال الشعر، فتذهب لتعلم الشعر (!) ويكون الدرس الأول والأخير أنها يجب أن تنظر إلى الأشياء من منظار مختلف عن نظرتها العادية وأن تبحث عن الجمال حتى في القبح. والفكرة أدبية تماما، ولم ينجح المخرج لي تشانج دونج في نقلها إلى لغة السينما بأي درجة من درجات إثارة الوجدان و الخيال، بل بطريقة آلية باردة خالية من الحرارة والسحر الذي تخلقه لغة الشعر، واكتفى بأن جعلها تردد كلمات قصائدها التي تنقل إلينا بالطبع، عبر الترجمة فلا يصبح لها أي معنى في الواقع! 20 مايو كان يخسر وفينيسيا يكسب هناك استطلاعان لتقييم النقاد الحاضرين في مهرجان كان من قبل مجلتين هما "الفيلم الفرنسي" (لنقاد فرنسا)، و"سكرين انترناشيونال" (نقاد من العالم). التقييم يعتمد على الطريقة البسيطة التي تتلخص في منح نجوم لكل فيلم. ويجري استطلاع الآراء يوميا عن كل أفلام المسابقة الرسمية. وحتى الآن ولم يعد باقيا سوى ثلاثة من أفلام المسابقة لم تعرض بعد، يتصدر نتائج الاستطلاعين فيلم "عام آخر" البريطاني لمايك لي، يليه مباشرة الفيلم الفرنسي "عن البشر والآلهة" لزافييه بوفواه وهو الفيلم الذي أعجبني شخصيا أكثر من فيلم مايك لي لأنه يعتمد على التعبير السينمائي الأصيل الذي يبلغ مرتبة الشعر الصوفي، وفيه بلاغة موحية في الصورة، وإن كنت أيضا من المعجبين بفيلم مايك لي، غير أنه يعتمد أساسا على تحريك الممثلين وعلى الحوار والأداء التمثيلي. المشكلة ليست في وجود فيلمين فقط هما اللذان يستقطبان اهتمام النقاد بل في وضوح الفرق بينهما وبين باقي الأفلام المعروضة في المسابقة، وهو فرق كبير وشاسع. * الحوار التالي دار أمامي اليوم بعد مشاهدة الفيلم البريطاني "الطريق الأيرلندي" لكن لوتش، بين ثلاثة من النقاد الانجليز: - فيلم كله ثرثرة - بل كله صياح - بل كله شتائم - الأصح أن تقول إن كله يمتليء بكلمة واحدة هي fucking هذا الحوار المقتصد جدا يلخص للأسف "حالة استقبال الفيلم" الذي أدخلوه المسابقة في اللحظة الأخيرة، فظلموه، كما ظلمونا. * على مسؤليتي الشخصية أستطيع أن أؤكد أن مسابقة كان هذا العام هي الأسوأ منذ نحو عشرين عاما، وكأنما السينما العالمية أصبحت عاجزة عن إدهاشنا بالجديد المثير والممتع.. أو وكأن "ذراع" المهرجان الطويلة، عجزت عن الحصول على كل ما هو مهم. هذا العجز يلعب دون شك، لصالح مهرجان فينيسيا الذي بات مؤكدا حاليا أنه سيحصل على كل ما عجز "كان" عن الحصول عليه، لأسباب مختلفة منها عدم انتهاء العمل في بعض الأفلام. والأفلام التي تأكد ذهابها إلى فينيسيا هي "الأمريكي" بطولة جورج كلوني واخراج أنطون كوربن، و"نسخة بارني" بطولة داستين هوفمان واخراج ريتشارد لويس، و"سالومي المتوحشة Wild Salome ثاني فيلم يخرجه آل باتشينو، بعد "ريتشارد الثالث" عام 1996. وسيكون في فينسي أيضا أحدث أفلام كلينت ايستوود كمخرج "الآخرة". وستذهب أيضا إلى فينيسيا أفلام "فينوس السوداء" لعبد اللطيف قشيش (التونسي الذي يعمل في إطار السينما الفرنسية)، و"فالازاسكا" إخراج ميشيل بلاسيدو، و"في مكان ما" لصوفيا كوبولا، و"الطريق إلى لا شيء" لمونت هيلمان، و"ميرال" لجوليان شنابل، و"رافان" للمخرج الهندي ماني راتنام. 21 مايو مظاهرات وأفلام وتهديدات مظاهرتان مختلفتان كل الاختلاف عن يعضهما البعض شهدهما مهرجان كان السينمائي، أو بالأحرى، شاطيء الكروازيت الشهير حيث يقام المهرجان الذي يستقطب أكثر من خمسة وثلاثين ألف ضيف وصحفي وسينمائي. المظاهرة الأولى كانت في اليوم التالي ليوم الافتتاح، وهي مظاهرة لضباط الشرطة في بلدية مدينة كان، وكانت تهدف إلى الاحتجاج على الأحوال المتدنية التي يمارس فيها رجل الشرطة في المدينة عملهم، في حماية ضيوف المؤتمرات والمهرجانات الدولية. وهم يشكون من تدني مستوى ما هو متوفر لهم من خدمات وظروفهم الأمنية وأحوالهم المادية. وقد تمت المظاهرة أيضا في حماية الشرطة، أي أن الشرطة قامت بحماية متظاهريها في يوم أصروا فيه على إبراز معاناتهم أمام ضيوف المهرجان. ووالله الذي نفسي بيده، لو وقعت مثل هذه المظاهرة في أي من بلدان "جنوب أو شرق المتوسط" لفتحت النيران بدون أدنى تردد، ولوقع عشرات القتلى وربما أعلنت أيضا حالة الطواريء ونزلت قوات الجيش لكي تحتل المدينة وترهب وتروع سكانها، وهو ما يؤكد فرضية الدكتور الفيلسوف مراد وهبة في أن الفرق بيننا وبينهم يبلغ 1600 سنة.. ويضيف البعض عليها كلمتي "ضوئية طبعا"! أما المظاهرة الثانية فقد وقعت اليوم، الجمعة، وهي مظاهرة نظمها حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف الذي يتزعمه جون ماريه لوبان، وجاءت احتجاجا على عرض فيلم "خارج عن القانون" الجزائري- الفرنسي المشترك، في مسابة المهرجان بل وفي المهرجان كله. وسبب الاحتجاج الذي شارك فيه نحو 1200 شخص، حسب تقديرات الشرطة، يعود إلى أن الفيلم يصور وقائع مذبحة مدينة سطيف التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين على أيدي قوات الاحتلال الفرنسي والمستوطنين الفرنسيين في 8 مايو 1945. وكان الجزائريون قد خرجوا للتعبير عن رغبتهم في استقلال بلادهم، ومطالبة فرنسا بالوفاء لها بوعدهم خلال الحرب العالمية الثانية، ضمانا لوقوف الجزائريين إلى جانب فرنسا ضد النازيين. ويتهم اليمين الفرنسي فيلم رشيد بوشارب بـ"تزييف التاريخ"، ويقولون إن الجزائرىيين هم الذين بدأوا الاضطرابات باعتدائهم على عدد من المستوطنين في يوم واحد، وإن قوات الأمن تدخلت لفرض النظام، وإنها لم تقتل أكثر من 1200 شخص، في حين تقول الأرقام الجزائرية أن العدد يصل إلى 45 ألف قتيل. مظاهرة الجبهة الوطنية اليمينية مرت بسلام، إلا أننا فوجئنا ونحن نصطف للدخول إلى قاعات العرض السينمائي لمشاهدة عروض الأفلام بعد الظهر، برجال الأمن يقومون بتفتيش يدوي لكل حقائب اليد، ويستبعدون منها كل زجاجات السوائل والمياه المعدنية، ثم يتم تفتيش الحقائب مرة أخرى قبل الدخول إلى القاعة بالإضافة إلى التفتيش اليدوي للأجساد. وقيل إن هذه الإجراءات جاءت تحسبا لقيام أنصار اليمين المتطرف بتفجير أحد مقار المهرجان أو إحدى قاعاته. هذا ما نتج عن عرض فيلم "خارج عن القانون".. أما الفيلم نفسه فهناك الكثير الذي يمكن أن يقال عنه، وهو ليس في صالح الفيلم، لا من الناحية الفنية، ولا من الناحية الفكرية، وسنتاوله في مقال خاص ينشر فيما بعد. وعموما يمكنني القول إن الفيلم كان مفاجاة "صادمة" بالنسبة لمعظم الحاضرين من النقاد والسينمائيين العرب الذين يتابعون أعمال المهرجان. وهو بمثابة انتكاسة في مسيرة مخرجه الذي تألق هنا قبل 4 سنوا بالضبط بتحفته الرائعة "البلديون" (أو أيام المجد). وهو يستخدم نفس مجموعة الممثلين الذين ظهروا في هذا الفيلم، ولكن شتان ما بين سياق وسياق آخر، وبين لفكر وفكر، وبين رؤية ورؤية.. والمرء يشعر بالحسرة وهو يكتب هذه الكلمات الآن! * لم يتبق سوى عرض الفيلم الأخير في المسابقة وهو الروسي "حرقته الشمس- 2" الذي يعد الجزء اثاني من الفيلم الذي أخرجه نيكيتا ميخالكوف قبل ستة عشر عاما. وقد عرض اليوم الفيلم المجري في المسابقة بعنوان "الإبن الحنون: مشروع فرانكشتاين".. وليس فيه ما يوحي بالرغبة في الكتابة عنه، بل يضيف كارثة أخرى من الكوارث إلى أفلام المسابقة. التكهنات بدأت بشكل جدي الآن حول ما هو الفيلم الجدير بالسعفة الذهبية؟ أنا شخصيا أميل إلى ترجيح كفة الفيلم الفرنسي- التحفة "عن البشر والآلهة" بسبب مستواه الفني الكبير. ولكن ربما يكون حظ فيلم "عام آخر" لمايك لي هو الأكبر. وقد تحدث مفاجأة كالعادة ويحصل فيلم "شعر" Poetry الكوري مثلا على الجائزة، أو ينالها أي فيلم لا يخطر على بال أحد، فما أكثر القرارات الغريبة التي تصدر عن لجان التحكيم، خصوصا عندما يغيب عنها "عقل" يمكنه ترشيدها وتوجيهها الوجهة السليمة. وسنرى ما ستسفر عنه مداولات لجنة تيم بيرتون على أي حال. 22 مايو * توقفت المجلات اليومية التي تصدر خلال المهرجان قبل يومين أو ثلاثة وكأنها قد استنفذت ميزانيتها المرصودة للتغطية اليومية وهو موضوع أثار تساؤلات عديدة هنا، خاصة بالنسبة ليومية هوليوود ريبوتر التي تتابع المهرجان. فجأة كأن هذه المجلات أصابتها سكتة قلبية. * شاهدت الليلة فيلم الختام الذي سيعرض الأحد مساء. وهو فيلم "الشجرة" للمخرجة الفرنسية الأصل الاسترالية جولي بيرتوتشيللي. فيلم يصلح كسهرة تليفزيونية، موضوعه حول امرأة فقدت زوجها حديثا وتربي ثلاثة أبناء، أصغرهم "سيمون" التي تغرم بالشجرة الكبيرة التي تقع في زمام المنزل، وهي تعتلي تلك الشجرة الضخمة الأسطورية، وتتصور أن والدها الراحل يحدثها ويهمس لها عن طريقها. والأسرة تحرص كل الحرص على عدم تخفيف فروع تلك الشجرة رغم أنها تهدد المنزل بعد أن بدأت تزحف عليه. وعندما تقوم عاصفة، تتسبب الشجرة بفروعها في تحطيم محتويات المنزل مما يدفع الأسرة إلى مغادرته. المرأة تحاول اقامة علاقة مع رجل يميل إليها ويساعدها في تسيير أمورها اليومية، غير أن هذه العلاقة تواجه برفض من سيمون المرتبطة بوالدها الراحل كثيرا، فتنتهي العلاقة لكن النهاية تظل مفتوحة، فمن الممكن أن تعود المرأة واسمها"دون" (أي فجر) لاستئنافها مجددا. فيلم فيه من السذاجة أكثر مما فيه من العمق، وهو يكمل دائرة الاختيارات السيئة للأخ تييري فيرمو، ويجعلنا نتحسر على العصر الذهبي للمهرجان تحت إدارة جيل جاكوب.. ذلك العصر الذي شاهدنا فيه كيروساوا يقدم آخر أفلامه "مادادايو"، وولادة تشين كايجي بالفيلم الكبير "الوداع ياخليلتي"، والأرجنتيني المخضرم فرناندو سولاناس يقدم تحفته "الجنوب" El Sur.. كانت أيام كنا فيها نتطلع إلى العلا! * فنادق كان رفعت أسعارها خمسة أضعاف السعر العادي لاستنزاف ضيوف المهرجان متصورين انهم جميعا من المليونيرات ومنتجي الأفلام، وهو تصور من أحط ما يمكن في دولة يفترض أن نسبة "التعليم" فيها مرتفعة، لكنه الجشع الفرنسي التقليدي والرغبة الشرسة في الاستغلال، ولكن المدهش أن البلدية والسلطات تغض الطرف باستمرار عن هذا الاستغلال البشع، تحت شعار "حرية السوق" أي حريتي كتاجر في نهش لحمك. فنادق النجمتين التي يبلغ إيجار الليلة الواحدة في موسم الذروة أي في عز أشهر المصيف، 60 يورو، رفعت أسعارها إلى 250 يورو في الليلة، شريطة أن تقضي 12 يوما أيضا، فإذا أردت أن تبقى أسبوعا فقط، فليس لك مكان إلا لو كنت على استعداد لدفع قيمة الـ12 يوما كاملة. وهناك فندق من فنادق النجوم الثلاثة يتقاضي أصلا 80 يورو في الليلة رفع سعره إلى 400 يورو في الليلة مرة واحدة، هكذا بكل وقاحة، دون أن يجرؤ أحد على الاعراض. المشكلة أن نقاد السينما والصحافة السينمائية ليس لهم جهة يمكنها أن تتدخل لصالح حماية مصالحهم، بل ان ادارة المهرجان يبدو أيضا أنها تتواطأ مع أصحاب الفنادق والمطاعم من اللصوص، مقابل حصول المهرجان على نسبة معينة من الغرف مجانا للضيوف المحظوظين الذين يدعوهم المهرجان وينزلهم في الفتادق القريبة. ولعل الأمر الإيجابي أن نسبة الإشغال في الفنادق تراجعت كثيرا جدا هذا العام بسبب هذا الارتفاع المخيف في الأسعار، لعله يرغم اللصوص على الحد قليلا من حجم سرقاتهم. كان هناك صديق لنا يقول إن المرء يجب أن يذهب إلى كان حتى لو نام في خيمة على البحر!

الاثنين، 24 مايو 2010

دهشة في كان بعد إعلان الجوائز

كثير النقاد وخبراء السينما الموجودون في مهرجان كان شعروا بنوع من الدهشة والإحباط عقب إعلان نتائج المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة لمهرجان كان السينمائي مساء الأحد.
هذه المسابقة تستقطب الأنظار عادة بسبب الأسماء الكبيرة لمشاهير الإخراج والتمثيل الذين يشاركون في أفلامها.
في الدورة الثالثة والستين من المهرجان، شارك 19 فيلما تتنوع وتختلف فيما بينها، من فيلم التعبير الذاتي عن العالم، إلى الفيلم السياسي، إلى الفيلم الخيالي إلى الفيلم التاريخي، وغير ذلك.
وكان التوقعات قد انحصرت خلال الأيام الأخيرة من المهرجان (الذي يستغرق 12 يوما) في خمسة أفلام هي على وجه التحديد: "عام آخر" للبريطاني مايك لي، و"عن البشر والآلهة" للفرنسي زافييه بوفواه، و"جميل" للمكسيكي أليخاندرو جونزاليس إيناريتو، و"نسخة موثقة" للمخرج الإيراني عبس كياروستامي، وأخيرا "الشعر" للمخرج الكوري لي تشانج دونج.
لم تخرج الترشيحات عن هذه الأفلام، وربما يكون البعض قد راهن على إمكانية حصول البريطاني كن لوتش على جائزة الإخراج أو التحكيم الكبرى، لكن أحدا لم يتوقع أبدا حصول فيلم "العم بونمي الذي يمكنه تذكر حيواته الماضية" Uncle Boonmee Who Can Recall His Past Lives وهو الفيلم الذي يحمل أطول عنوان بين أفلام المهرجان كلها، على السعفة الذهبية أي على الجائزة الكبرى للمهرجان الشهير. والفيلم من إخراج المخرج التايلاندي أبيشتابونج ويراثيكول. وهو معروف هنا في كان، فقد سبق أن حصل في 2002 على جائزة أحسن فيلم عرض في قسم "نظرة خاصة" هو فيلم "صديقك الأبدي"، وفي 2004 حصل على جائزة لجنة التحكيم في المسابقة عن فيلمه "مرض استوائي".

الأحد، 23 مايو 2010

جوائز مهرجان كان 2010 : السعفة الذهبية خيبت كل التوقعات



خيبت نتائج لجنة التحكيم التي رأسها المخرج الأمريكي تيم بيرتون، توقعات الكثيرين بعد أن منحت السعفة الذهبية لفيلم لم يأخذه أحد أصلا على محمل الجد، وإن كان معروفا عن مخرجه أنه "صياد جوائز"، تأتيه من حيث لا يحتسب. وكانت أكبر المفاجآت خروج فيلم مايك لي البريطاني "عام آخر" من سباق الجوائز دون أي ذكر، وخروج فيلم ايناريتو المكسيكي "جميل" من قائمة الجوائز الرئيسية بل وحتى جائزة أحسن إخراج التي لم يحصل عليها اكتفاء بمنح بطله خافيير بارديم جائزة التمثيل مناصفة. وهذه هي نتائج المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة:
* أحسن إخراج: المخرج الفرنسي ماتيو أمالريك عن فيلم "جولة فنية" Tourne
* أحسن سيناريو: الفيلم الكوري "الشعر"
* أحسن ممثلة: جوليت بينوش عن دورها في فيلم "نسخة معتمدة" لعباس كياروستامي
* أحسن ممثل: مناصفة بين خافيير بارديم عن دوره في فيلم "جميل" لأليخاندرو جونزاليس ايناريتو، واينيو جيرمانو عن دوره في فيلم "حياتنا" الايطالي اخراج دانييل لوشيتي
* جائزة لجنة التحكيم الخاصة: فيلم "رجل يصرخ" لمحمد صالح هارون (تشاد- فرنسا)
* الجائزة الكبرى للجنة التحكيم: الفيلم الفرنسي "عن البشر والآلهة"
* السعفة الذهبية لأحسن فيلم: الفيلم التايلاندي "العم بونمي الذي يمكنه تذكر حيواته الماضية"

يوميات كان 11: في انتظار إسدال الستار

من فيلم "عام آخر" لمايك لي

انتهت عروض مسابقة مهرجان كان السينمائي الثالث والستين. الختام اليوم الأحد، بفيلم فرنسي بعنوان "الشجرة" ليس له مستوى يذكر (إقرأ تعليقي على الفيلم في العمود الأيمن).
العروض الأخيرة في المسابقة كانت مثيرة للاستياء ومنها الفيلم التايلاندي "العم الذي يمكنه أن يتذكر ماضيه"، والفيلم المجري "مشروع فرانكنشتاين". وجاء فيلم "الحياة قبل كل شيء" من جنوب افريقيا لكي يعوض رداءة أفلام المسابقة بشكل عام، وهو عمل بسيط وبديع، تتألق فيه طفلة في السادسة عشرة من عمرها في الأداء بدرجة مثيرة للإعجاب، كما يعد الفيلم، الذي يروى دراما تدور في قرية انتشر فيها مرض الإيدز، من أكثر الأفلام شجاعة في تناول هذا الموضوع والتحذير من خطورة تفشي المرض اللعين، مع تصويره بروح نقدية ساخرة، كيف يغرض سكان القرية في الخرافة، ويعتبرون أيضا أنه ينبغي التخلص من المصابين بالمرض، بل ويشعرون بالعار من مجرد أن يوجد مصاب به في الأسرة، ومن ثم ينبذونه بل ويستبعدونه من المجتمع تماما. وفي مقابل ذلك تأتي هذه الفتاة الصغيرة المتعلمة المتفتحة ذهنيا، لكي تتحدى تلك القيم والتقاليد والعادات المتخلفة (التي لا تزال ترتبط بالسحر والشعوذة وطرد الثعابين من البيوت بالاستعانة بالحواة..إلخ).
المؤكد أيضا أن ختامها مسك كما يقولون، فقد كان آخر أفلام المسابقة وهو الفيلم الروسي "حرقته الشمس 2" لنيكيتا ميخالكوف، عملا مبدعا يسعى مخرجه إلى استكمال ما بدأه في فيلمه الأول عن الموضوع نفسه قبل 14 عاما بنفس أبطاله بعد أن كبروا وامتدت الأحداث لتنتقل من فترة التصفيات الستالينية المرعبة في الثلاثينيات، إلى بداية الأربعينيات ثم الاجتياح الألماني للاتحاد السوفيتي في إطار توسع نطاق الحرب العالمية الثانية.
فيلم بديع، فيه الكثير من الإبهار والمشاهد الكبيرة التي تستخدم فيها مجاميع هائلة من الممثلين الكومبارس، بما لا يقل عن أي فيلم من هوليوود. وربما يجد فيه كثيرون بعض المبالغات، وربما توجه انتقادات إلى مخرجه بتمتعه بدعم الدولة بسبب قربه من السلطة، لكن هذا كله يظل خارج الفيلم الذي استمتعت به كثيرا واجده أيضا جديرا بإحدى الجوائز المهمة.
ويبقى بالطبع فيلم "عن البشر والآلهة" الفرنسي الذي تدور أحداثه في الجزائر في التسعينيات (يستحق كما أشرت من قبل مقالا خاصا)، ويتناول قصة الرهبان الكاثوليك الفرنسيين الذين اختطفتهم الجماعة الإسلامية المسلحة وقيل إنها قتلتهم، وفيلم البريطاني مايك لي "عام آخر" الذي يعد استمرارا لنوع الأفلام الاجتماعية التي تقدم لنا مجتمع الطبقة الوسطى الانجليزية من الداخل، باحباطاتها وأحزانها التي تختلط بالسعادة والنجاح والتحقق. وقد ينال الفيلم السعفة الذهبية خصوصا وأن من أبرز عناصره التمثيل، ولا ننسى أن هناك 4 من أعضاء لجنة التحكيم من الممثلين والممثلات!

والفيلمان (عام آخر، وعن البشر والآلهة) على رأس الأفلام المرشحة لنيل السعفة الذهبية. وهناك كثير من النقاد أيضا يرشحون الفيلم الكوري "الشعر" الذي رأيته فيلما أدبيا مثيرا للملل، ولم ألمح فيه تلك الأجواء الخاصة الشاعرية التي أثارت إعجاب البعض، ولكن، كما قلت من قبل، هذه مسألة ثقافة وتكوين وأذواق، هي التي تحكم اختيارات وتفضيلات ناقد عن غيره، والاتفاق ليس واردا كشرط لاستقامة عملية النقد كما يتخيل البعض، بل إن الاختلاف مطلوب لكي نرى الأشياء من زواياها وخلفياتها المختلفة. ولعل من ميزات التواجد في كان، ما يدور يوميا من حوارات بين النقاد الحاضرين، من بلدان وثقافات مختلفة، مما يثري المعرفة بشكل عام.

عباس كياروستامي

ويرى البعض هنا أيضا أن فيلم "نسخة موثقة" لعباس كياروستامي قد يستحق الحصول على السعفة الذهبية، أو أنه كما يرى، قد يحصل عليها ليس لأنه يستحقها، بل لأنه تدشين رسمي لتدجين كياروستامي "الأوروبي" أي بداية الطريق لصنعه أفلام "غير إيرانية" ناطقة بالإنجليزية والفرنسية، وإخراجه بالتالي من عالمه الخاص. وإن كان نقاد فرنسا تحديدا، يهيمون حبا بأسلوب ولغة كياروستامي ويبالغون كثيرا في تفسير خواء أفلامه وفراغها، وجنوحها إلى التجريد، وافتقادها المرعب إلى روح السخرية والمرح، وتركيزها على "الريفي" و"البدوي"، وابتعادها المتعمد، عن تناول أي مشاكل اجتماعية قائمة، وتغييبها المرأة على نحو ما، بحيث يمكن أن نقول إن كياروستامي هو المسؤول عن تيار الالتفاف على الرقابة، وصنع تلك "السينما المحجبة" التي يعتبرها نقاد فرنسا والغرب عموما، معادلا لسينما "الآخر" الغريب، الإسلامي، الذي لا يمكن أن نفهمه أبضا بموجب قوانين المجتمع الحديثة بل يجب أن نخترع له قوانين خاصة.. وسأتناول هذه الأسطورة في مقال تفصيلي فيما بعد.

رشيد بوشارب


فيلم "الطريق الأيرلندي" البريطاني لكن لوتش عن العراق وشركات الأمن الخاصة يرشحه البعض هنا أيضا لنيل جائزة لا أرى في الحقيقة أنه يستحقها، بل كما قلت من قبل، أرى أنه أسوأ أفلام مخرجه السياسية حتى الآن. ويعكس تراجعا في الفكر والخيال، بل إن هناك من يرى أيضا أنه يبرر العمليات الإرهابية الانتحارية على نحو ما. لكن حكمي عليه مبني على أسس فنية وسينمائية محض وليس على رؤيته السياسية.
ومن الممكن جدا أن يحصل الفيلم الاسباني "جميل" لمخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس ايناريتو على السعفة الذهبية التي يرى البعض أنه كان يستحقها قبل 4 سنوات عن فيلمه الشهير "بابل". ولاشك في جمال فيلمه الجديد (الذي أجلت كتابتي عنه) لكنه ليس بمستوى أفلامه البديعة السابقة مثل "أمروس بيروس" و"21 جراما" و"بابل".
أيا كان الأمر، سيتوقف الجدل بعد إعلان الجوائز في حفل يقام مساء اليوم، وبعد أن تعلن لجنة التحكيم أسماء الأفلام الفائزة، وأتوقع مسبقا، حدوث بعض المفاجآت، كما تعودنا في كان كثيرا، فليس كل ما يرشحه الناقد من أفلام، تكون عادة هي الأفلام التي تفوز بالجوائز كما حدث في السنوات الماضية، بل يمكن أن يحصل على السعفة الذهبية أي فيلم من الأفلام لـ19 التي جاهد تييري فريمو، المدير الفني للمهرجان، من أجل الحصول عليها. لا أعرف لماذا هذا الجهاد كله في الحقيقة، رغم توفر أفلام أخرى كثيرة خارج المسابقة، أفضل من كثير مما عرض في المسابقة، منها "أورورا الروماني، و"الحياة قبل كل شيء" من جنوب افريقيا مثلا.
قلت من قبل إن فيلم "الخارجون عن القانون" للمخرج رشيد بوشارب، جاء مخيبا للآمال، وليس معنى وجود رد فعل عنيف من جانب اليمين واليمين الفرنسي المتطرف ضد الفيلم، أن الفيلم صائب، أو أنه عمل جدير بالتأييد، فكما قلت، التقييم والحكم يتم هنا على أسس سينمائية تتعلق بالصياغة والتجسيد وبناء الفيلم وكيفية تقديمه لنا في صور ومشاهد، ومن حيث المضمون، لا مجال أصلا للمقارنة بأي شكل، بين ما يقوله المستعمرون السابقون الذين يبررون ما ارتكبوه من مذابح بحق الشعب الجزائري، وبين موقف الضحايا الذين تعرضوا لاستعمار استيطاني أراد محو الهوبة بالكامل، ولم يكن ممكنا أن يخرج سوى بالعنف. أما تجسيد الموضوع في السينما، فهو موضوع آخر سنتاوله تفصيلا فيما بعد أن تهدأ الضجة.

السبت، 22 مايو 2010

يوميات كان 10:"حياتنا" وحياة الآخرين!

الفيلم الإيطالي "حياتنا" La Nostra Vita (هناك لعب واضح في العنوان على فيلم فيلليني LA Doce Vita) من الأفلام "البريئة"، والبسيطة الجميلة القليلة في المسابقة. وهو ليس عملا عظيما أو تحفة خالدة، بل فيلم متماسك، يمكنك بالتأكيد، متابعته حتى النهاية باهتمام وترقب وتعاطف أيضا مع أبطاله جمعا، الصالح منهم والطالح.
مخرج الفيلم (وهو نفسه مؤلفه) هو دانييل لوشيتي، الذي أخرج حتى الآن 11 فيلما أشهرها "يحدث غدا" (1991)، و"شقيقي هو الإبن الوحيد".
وفيلم "حياتنا" يروي ببساطة ولكن حساسية خاصة وكثير من التلقائية في الأداء، والبراعة في الصورة والإخراج، كيف تتداخل مصائر الأفراد، وتتشابك وتتعقد، ثم تنفرج في النهاية، وكيف يمكن أن يفاجأ الإنسان وهو بعد في منتصف الطريق، بفقدانه زوجته الشابة الجميلة المتألقة بالحيوية والحياة، التي يختطفها الموت وهي تضع مولودا ثالث، لكي تترك الزوج الشاب/ الأب، وحوله ثلاثة من الأطفال في حاجة إلى رعاية، وهو أيضا لايزال يتلمس طريقه في دنيا المقاولات وبناء المساكن.
صحيح أن الأسرة موجودة: الشقيق والشقيق، كلاهما يساعدان بطلنا ويقفان إلى جواره في محنته الأسرية الشخصية، والمالية أيضا بعد أن تتكالب عليه الديون ولا يعرف كيف يدفع أجور عمال البناء من المهاجرين غير الشرعيين رغم تدني أجورهم. كيف ينتقل إلى علاقة أخرى لكي تستمر الحياة، وكيف ينتقل البطل بصعوبة ومشقة من الطبقة العاملة إلى طبقة المقاولين الصغار، وما هو وضع المهاجرين الأجانب الذين عندما يسقط أحدهم ويلقى مصرعه، يصبح الأمر كأن لم يكن، فليس من الممكن إبلاغ السلطات بالحادث، وإلا ترتبت على ذلك نتائج خطيرة.
ولكن الصحيح أيضا أن المرء لا يمكنه أن يعتمد فقط دائما على الآخرين بل يتعين عليه أن يساعد نفسه.
البناء في الفيلم تقليدي، يعتمد على تفجير أزمة البطل، ولكن بحسابات أخرى غير حسابات الفيلم الدرامي الأمريكي التقليدي الذي يسير في تصاعد محسوب نحو ذروة ما قبل أن تنفك ونصل إلى الحل.
الفيلم يصور العلاقة بين الأبناء والآباء، بين الأب الغائب، والإبن الذي جاء للبحث عن أب بعد أن نما وشب وأصبحت له حياته الخاصة. والمرأة الوحيدة الأجنبية (من رومانيا) التي تبحث عن الأمان في مجتمع إيطاليا الغريب عليها، وتريد أن ترى أيضا ابنها من علاقتها غير الشرعية بأبيه الراحل، وقد عثر على طريق واضح، يسلكه في الحياة يجنبه شر ما حل بأبيه.
كل هذه العلاقات، التي نراها من خلال ثلاث أسر عادية، تعيش مفارقات ومتاعب الحياة العادية اليومية، بكل ما فيه من لحظات سعادة ولحظات شقاء، يتمكن المخرج- المؤلف، من استدراجنا داخلها حتى نجد أنفسنا وقد أصبحنا مشغولين بما يواجهه الأبطال من معاناة أو مشاكل، نشترك معهم في التفكير في طريقة لحل هذه المشاكل، لكن كلنا ثقة بأن الحياة، حياتهم وحياتنا، قادرة دوما، على الاستمرار إلى الأمام. فهي لن تتوقف أبدا.
أدء طبيعي يهز النفس، من مجموعة الممثلين والممثلات الذين تبدو الأدوار وقد صنعت من أجلهم، وتبدو "الكيمياء" التي تربط بينهم، تلعب دورا بارزا في إضفاء الحيوية والانسجام على الفيلم. وإخراج واقعي مشبع بنزعة رومانسية، لا تخلو من المرح رقم قتامة الواقع وتصلبه أحيانا. كما يحدث دائما أيضا في "حياتنا".
تحكم جيد في الإيقاع، وفي النغمات اللونية للصورة، والاختيار الممتاز لمواقع التصوير الخارجي، والموسيقى التي تضفي على الفيلم حياة وتكسبه روحا وتجعله يشع بالأمل رغم كل الاحباطات.
بعيدا عن التصنع والافتعال والضجيج والأسماء الكبيرة، أمنحه شخصيا جائز أحس إخراج.

الجمعة، 21 مايو 2010

يوميات كان 9: العراق والطريق إلى جهنم!

اليوم كان يوم العراق في مهرجان كان السينمائي. فيلمان يتناولان موضوع العراق بشكل مباشر وغير مباشر عرضا داخل مسابقة المهرجان.
الأول الفيلم الأمريكي الوحيد في المسابقة "لعبة عادلة" Fair Game للمخرج دوج ليمان Doug Liman بطولة نعومي واطس (فيلمها الثاني في مسابقة كان) وشون بن.
والفيلم الثاني هو الفيلم البريطاني المنتظر "الطريق الأيرلندي" Route Irish لكن لوتش (حائز السعف الذهبية عن "الريح التي تهز الشعير" (2006).
الفيلم الأول "لعبة عادلة" هو فيلم تقليدي ينحو إلى الإثارة بدون نجاح، بسبب تقليديته واحتوائه على الكثير جدا من التفاصيل (المعروفة سلفا لكل من يتابع الأخبار).
إنه فيلم آخر من تلك الأفلام ذات النظرة "الليبرالية" التي تخرج من هوليوود، وكأنها تسعى إلى غسل عار ما يطهى داخل مطبخ السياسة الأمريكية في واشنطن، أو وكأن الجرح العراقي الذي ينزف يوميا بسبب سياسات واشنطن، يمكن تطهيره في هوليوود!
الموضوع يدور حول عميلة المخابرات الأمريكية فاليري بلام (نعومي واطس) التي كشفت السلطات الأمريكية أمرها وحقيقة كونها جاسوسة تعمل في المناطق الخطرة في حين أنها كانت لاتزال تعمل تحت غطاء يخفي شخصيتها الحقيقية. والسبب: أن زوجها، جوزيف ويلسون، الذي ذهب بطلب من السي اي إيه، إلى النيجر للتحري عن حقيقة بيع شحنات من اليورانيوم إلى العراق، وعاد لكي يكشف زيف ادعاءات الرئيس بوش (الإبن) وإدارته خصوصا بعد أن قدم وزير خارجية بوش وقتها كولن باول، صورا لشاحنات زرقاء قال إنها استخدمت في نقل اليورانيوم أثناء خطابه أمام مجلس الأمن واتخذت تلك الذريعة (مع غيرها) مبررا لضرب العراق في 2003، بدعوى أنه يمتلك بالفعل "أسلحة دمار شامل"، وهو الادعاء الذي ثبت زيفه.

ولعل مما يفقد الفيلم الكثير من المتعة والإثارة بل والاهتمام أيضا، أنه يبدو مخلصا تماما لما ورد عن الموضوع في "الأخبار" أي أنه يسير كما يقال، "على الكتاب"، لا يتجاوز المادة الغزيرة المتوفرة حول الموضوع، مع الدخول في تفاصيل كثيرة تتعلق بعلاقة فاليري بزوجها، وما تتلقاه من تهديدات مباشرة من أعلى السلطات، لإقناع زوجها بالكف عن الظهور الإعلامي ووقف حملته ضد السياسة الأمريكية في العراق، وكيف تهتز علاقة فاليري بزوجها بسبب تشبثه وعناده وإيمانه المطلق بعدالة قضيته، إلى أن تنتهي فاليري إلى الوقوف في صفه تماما، والتقدم بشهادتها أمام الكونجرس، في حين يواصل زوجها الدبلوماسي السابق، المحاضرة في الجامعات ومراكز الأبحاث والظهور الإعلامي.
ولاشك أن أداء شون بن يبدو واثقا ويعكس حنكة وخبرة، خصوصا وأن الشخصية التي يقوم بها تروق له وتتسق مع قناعاته السياسية الشخصية. لكن طابع الفيلم المثير يبدو مفقودا بسبب غلبة الحوار، والرغبة في تقديم صورة لما يقع على الجانب الآخر نتيجة حماقة السياسة الأمريكية في العراق بعد الغزو عندما يتعرض الفيلم بشكل مباشر إلى اختفاء علماء الذرة الامريكيين رغم تعهد أمريكي سري بحمايتهم ونقلهم إلى الولايات المتحدة، بل وهناك أيضا ذكر لدور "الموساد" في هذا المجال، وهي شجاعة لاشك فيها من فيلم هوليوودي.
ويعبر شون بن في الكثير من مشاهد الفيلم عن احتجاجه على السياسة الرسمية عن طريق الخطب الرنانة، والكلمات التي تتضمن الكثير من البلاغة اللفظية، والتي تنتهي في النهاية باالتعبير النمطي المألوف "بارك الله في أمريكا"!
جدير بالذكر أن الممثل المصري خالد النبوي يلعب بكفاءة، دور عالم عراقي يعمل في وكالة الأبحاث النووية، تحاول فاليري الحصول منه على معلومات عن البرنامج النووي العراقي، بأن ترسل إليه في بغداد، شقيقته، وهي طبيبة مقيمة في الولايات المتحدة، فيقول لها مرارا وتكرارا، إن الأمريكيين لاشك أنهم يعلموا أن هذا البرنامج قد دمر بالكامل في 1991، لأنهم هم الذين قاموا بتدميره بأنفسهم.

الطريق الأيرلندي
أما الفيلم الثاني "الطريق الأيرلندي" فقد جاء مخيبا للآمال بل كصدمة لي شخصيا، بسبب قناعتي بقدرة مخرجه كن لوتش، على تقديم سينما رفيعة متميزة، لا تعتمد فقط على الخطاب السياسي النقدي العنيف، بل أساسا، على صياغة الموضوع صياغة تعكس الرغبة في طرق أبواب جديدة في التعبير السينمائي، وترتفع بمستوى لغة السرد وأسلوب الإخراج.
أما الفيلم الذي شاهدناه، فلا يتجاوز مستواه، بكل أسف، مستوى الحلقات التليفزيونية المثيرة التي تعرض على شاشة تليفزيون بي بي سي أو آي تي في، خلال أمسيات الجمعة!
نعم هناك جرأة، وانتقادات شديدة توجه إلى شركات الحماية الأمنية الخاصة ودورها في العراق، وتجاوزاتها التي تصل إلى حد ارتكاب جرائم بشعة ضد السكان المدنيين، بدعوى الدفاع عن النفس، في حين أن عمليات إطلاق النار تتم بشكل عشوائي وبدون مبرر. وهذا تحديدا ما حدث، وما شاهده بطل الفيلم الحاضر/ الغائب "فرانكي".
من هو فرانكي؟ هو شاب من شباب مدينة ليفربول، سبق أن خدم مع زملائه في القوات الخاص البريطانية (إس أيه إس) وذهب إلى العراق للعمل لحساب إحدى الشركات الأمنية البريطانية، أو شركة "مقاولات أمنية" كما يطلقون عليها، وهناك في الطريق من المنطقة الخضراء المحصنة في بغداد إلى المطار، الذي يعرف بالطريق الأيرلندي ويعد كما يقال "الأخطر في العالم"، يشاهد فرانكي كيف ينقض حراس من زملائه على سيارة تاكسي فيقتلون ويحرقون كل ما فيها من مدنيين عرقيين دون داع أمني حقيقي. ويصور فرانكي الحادث البشع بكاميرا "الموبيل" الخاص به. ويرسل الموبيل إلى صديقة له إسبانية في ليفربول.

لكن الفيلم الآن يبدأ بعد مقتل فرانكي ووصول جثته إلى ليفربول، ووجود زميله السابق "فيرجس" الذي يكاد عقله يطير بفعل الصدمة، ولا يصدق أبدا أن فرانكي لقى مصرعه في هجوم للمتمردين ويشك في أنه تمت تصفيته عمدا بسبب ما شاهده بل والوثيقة المصورة التي أرسلها إلى ليفربول، خاصة عندما تبعث شركة الأمن الخاص أحد عملائها (وهو نيلسون) إلى ليفربول لاسترداد التليفون المحمول وتدميره، لكن فيرجس يحتجزه ويمارس عليه التعذيب الشديد بالإغراق بالماء كما تعلم في العراق، ويبلغ ذروة جنونه وفقدانه السيطرة على نفسه، في تصوير مرعب لتأثير الحرب على الذين يشاركون فيها. هذا المشهد يستمر ما لا يقل عن 7 دقائق على الشاشة، وتتكرر خلاله عملية التعذيب باسقاط الماء على الفم والأنف، مالا يقل عن عشر مرات، وفضلا عما في ذلك من تعذيب للمشاهدين، فإنه ليس من السينما في شيء، بل الفكرة أدبية فقط يمكن قراؤتها في كتاب. وقد انتهى صاحبنا الذي فقد عقله على أي حال، بقتل الرجل بعد أن جن جنونه تماما. ولكن أصبح السؤال البديهي: وماذا عن عقل كن لوتش؟ كيف سمح لنفسه بتصميم واخراج مشهد من هذا النوع، فاقد الإيقاع والخيال ويفتقر إلى أي درجة من درجات التعبير الفني بسبب مباشرته وسخفه، وما يصيبنا من صداع جراء الصراخ المتكرر باستخدام نفس الألفاظ طيلة الوقت!
مشكلة هذا الفيلم الرئيسية في رأيي، تكمن في ضعف السيناريو، وافتقاده إلى منهج أو أسلوب في السرد يتمتع بالتسلسل والجاذبية، ويبقي عقل المتفرج مستيقظا، وهو ما انعكس أيضا على طريقة الإخراج، فبدا أن لوتش، تعجل العمل، ولم يمنح نفسه وقتا كافيا لاختيار المداخل الملائمة إلى الفيلم وإعادة بناء مشاهده فوق طالة المونتاج (إذا كانت لاتزال هناك طاولات من هذا النوع في عصر المونتاج الرقمي!).

على الشاشة، رأينا انتقالات غير محسوبة بدقة، من الزمن المضارع (في 2007) إلى الماضي القريب في العراق، ثم التركيز كثيرا، على مشاهد تدور داخل ديكورات مغلقة، ومن خلال هستيريا الصراخ والشتائم بين فيرجس من ناحية، وممثلي الشركة الأمنية من ناحية أخرى، ثم بينه وبين زملائه، وبينه وبين أرملة صديقه المتوفي، وأخيرا، بينه وبين كل من بالفيلم من شخصيات، ثم بينه وبين نفسه أيضا. والعبرة عادة في تصوير مثل هذا النوع من الشخصيات، بالاقتصاد والإشارة والإيجاز، وليس بالاستطرادات والثرثرة، والإطالة في المشاهد، والافتعال الذي يصل إلى درجة "كوميدية" في تبادل الشتائم باستخدام كلمة واحدة تتكرر بين كل كلمة وأخرى عبر الفيلم كله هي كلمة fucking التي لا يسهل ترجمتها. والمضحك مثلا أن فيرجس يقول صارخا: إن نيلسون- فاكنج fucking- قال لي هذا وذاك. ثم يستدرك ويعيد العبارة على النحو التالي: إن فاكنج fucking نيلسون قال لي كذا وكذا!
فيلم سطحي، يخلو من التأمل والعمق، كما يفتقد إلى المنطق الدرامي السليم، فما الدافع الذي يجعل فيرجس (الذي يبدو الأشد تأثرا بموت فرانكي) ينتهر أول فرصة لكي يضاجع أرملته الشابة الحسناء، حتى لو كان يحبها منذ زمن وسجل اسمها بالوشم على كتفه؟
الذوق السليم لا يجعل مثل هذا المشهد يحدث في مثل هذه اللحظة المشحونة بالتوتر، إلا إذا كان الجنس هنا مجرد وسيلة للتخلص من التوتر عند الإثنين، وإذن نصبح هنا أمام شخصيتين حيوانيتين تفتقدان الحس الإنساني الحقيقي!

أما على الصعيد الأهم، فربما يكمن الضعف في تلك الحبكة التي تقوم على جعل فيلم الفيديو المسجل على تليفون محمول، وجعلها المدخل إلى الدراما والعنف والعنف المضاد، فقد شعرت بأنه مدخل ضعيف لا يحمل فيلما، حتى لو كان مجرد مبرر لتصوير انعكاسات الحرب على الأفراد.
فيلم "الطريق الأيرلندي" هو أضعف أفلام مخرجه منذ سنوات طويلة، وسيكون أيضا أقلها حظا في اختباره الجماهيري عندما يعرض في بلاده، رغم ما حصل عليه من تصفيق من جانب الجمهور الفرنسي في عرضه العام في كان، فهذا الجمهور، معروف عنه تاريخيا، ولعه بالأفلام البريطانية، وبأفلام لوتش، المتمرد منذ ظهوره، على المؤسسة البريطانية الرسمية، ولذلك فهو أقرب إلى عقلية مثقف فرنسي، منه إلى مثقف "إنجليزي" على نحو أو آخر.. ربما!

الخميس، 20 مايو 2010

يوميات كان 8: يوم إبن آوى.. كارلوس

لقطة من الفيلم

نقاد مجلة الفيلم الفرنسي منحوا أكبر تقدير من العلامات للفيلم البريطاني "عام آخر" لمايك لي (6 سعفات) بينما جاء فيلم "جميل" لإيناريتو جونزاليس في المركز الثاني (5 سعفات)، وفي المركز الثالث الفيلم الفرنسي "عن الرجال والآلهة" (4 سعفات). وقد عرض حتى الآن 12 فيلما من بين 19 فيلما هي أفلام المسابقة (منها فيلمان عرضا بالفعل اليوم ولم تظهر نتائج استطلاع نقاد المجلة عليها بعد) وتبقى 7 أفلام تعرض خلال الأيام القادمة.
أما اليوم فقد كان بحق يوم إبن آوى، أو كارلوس الذي طبقت شهرته الآفاق خلال السبيعينات والثمانينيات، وهو يعرف نفسه باعتباره مناضلا ضد الإمبريالية بينما تعتبره أجهزة الاستخبارات الغربية قائدا من قاد الإرهاب الدولي.
عرض أخيرا فيلم "كارلوس" للمخرج الفرنسي أوليفييه أسايس، المصور للتليفزيون في خمس ساعات و33 دقيقة على ثلاثة أجزاء، واستراحة قصيرة بين الجزئين الأول، والثاني من ناحية، والثالث من ناحية أخرى. وامتلأت قاعة لوميير، أكبر قاعات المهرجان بالجمهور رغم الطول المفرط للفيلم بسبب ما أحاط به من دعاية، وما يحيط شخصية كارلوس نفسها في فرنسا، من هالة خاصة، ومشاعر متضاربة تتراوح بين الإعجاب، والكراهية الشديدة. وقد رأيت بنفسي رجلا إلى جواري يهتف بعد انتهاء الجزء اأول من الفيلم "فيفا كارلوس"!
طبعا هذا العمل الطويل (المصنوع على غرار فيلم "تشى" عن جيفارا لستيفن سودربرج)، يسعى إلى تقديم كارلوس الإرهابي الذي يتميز بشجاعة نادرة، وقوة إرادة، وقدرة تنظيمية عالية جعلته يتمكن من القيام بعمليات كبيرة، وينجح في النجاة بجلده في كل مرة، رغم خطورة ما قام به.
ويتوقف الفيلم تفصيلا أمام اعداد وتنفيذ عملية اقتحام اجتماع وزراء البترول في دول الأوبك الشهير في فيينا في ديسمبر 1975 واختطاف الوزراء وعلى رأسهم وزير البترول السعودي الشيخ أحمد زكي اليماني. ولكن الفيلم أولا يعيبه الإيقاع البطيء جدا، والاستغراق في تفاصيل كثيرة ثانوية لا تضيف شيئا إلى الحبكة بل تساهم في تبريد الأحداث وتخل بالتوازن، كما في التفاصيل الخاصة مثلا بعملية إقلاع الطائرة ثم هبوطها في الجزائر وما نتج من مفاوضات، والرغبة في التوجه إلى ليبيا ورفض السلطات الليبية ثم العودة للجزائر.. إلخ
ويعاني الجزء الثاني من الفيلم تحديدا من تشتت الإيقاع، وتكاثر التفاصيل، وعدم القدرة على السيطرة على الشخصيات، فأصبحت هناك شخصيات تخرج فجأة، وشخصيات أخرى تدخل دون تمهيد كاف، مما أدى إلى ارتباك الفيلم.
المخرج أوليفييه أسايس مع أبطال فيلمه في كان

يقوم ممثلون من جنسيات مختلفة بأداء أدوارهم باللهجة الخاصة بهم، فأدوار الفلسطينيين يقوم بها ممثلون فلسطينيون، وأدار اللبنانيين يقوم بها ممثلون من أصل لبناني، وكذلك العراقيوم والجزائريون. وتتردد في الفيلم حوالي ست لغات من بينها العربية إلا انه من غير المفهوم مثلا أن تتحادث شخصيتان من العرب مع بعضهما البعض فيتكلمان بالإنجليزية كما رأينا، في حين أن بطل الفيلم أي كارلوس، يتحدث بعدة لغات وينتقل فيما بينها بطلاقة تامة بما فيها العربية.
مشكلة هذا النوع من الأفلام الأساسية أيضا أنه يحاول إضافة الكثير من التوابل والمبالغات والاختراعات الإضافية التي يمكن أن تضفي نكهة من الإثارة على الحبكة الدلارامية على حساب الحقيقة والتاريخ، وهو ما جعل كارلوس نفسه يحتج على الفيلم بل ويرفع الأمر عن طريق محاميته (وهي في الوقت نفسه زوجته) إلى القضاء الفرنسي.
ومن ناحية أخرى كيف يمكن أن تصنع فيلما تاريخيا عن شخصية "تاريخية" مع الإخلال بالدقة التاريخية، أي بما يتعارض مع حقيقة ما حدث في الواقع.
كارلوس مثلا قاد الهجوم على مقر الأوبك الشهير في فيينا في ديسمبر 1975، حيث احتجز ورفاقه المسلحين 11 وزيرا من وزراء البترول في دول الأوبك على رأسهم الشيخ أحمد زكي اليماني وزير البترول السعودي وقتها ومعهم أكثر من 50 رهينة أخرى، بدعم وتحريض من ليبيا، وليس العراق، ولم يكن صدام حسين حتى قد انفرد بالسلطة بعد، بينما يشير الفيلم ويؤكد في العديد من مشاهده على أن المخابرات العراقية، بتعليمات من صدام، كانت هي التي مولت وخططت لعملية أوبك.
ويقول الفيلم إن طائرة كارلوس (اتي حصل عليها من النمساويين) أقلعت من الجزائر إلى ليبيا لكن السلطات الليبية لم تسمح لها بالهبوط مما أدى إلى عودتها إلى الجزائر، وهو ما لم يحدث، والصحيح أن الطائرة هبطت أولا في ليبيا ثم عاد إلى الجزائر لكي يتم استبدالها بطائر أخرى من نوع بوينج يمكنها التوجه إلى بغداد. ولكن الفيلم يحال إبعاد أي شبهة عن الليبيين، وإلصاقها بصدام حسين.
ويصور الفيلم كارلوس كرجل طامع في المال وأنه حصل على عشرين مليون دولار من السعودية مقابل إطلاق سراح اليماني وغيره من وزراء أوبك، بينما لم تحدث صفقة من هذا النوع أصلا بل أفرج كارلوس مضطرا عن الرهائن بعد أن أدرك فشل العملية وأن السلطات الجزائرية ستقتحمها كما أبلغ ارئيس بومدين.

كارلوس الحقيقي في المحكمة


الحقيقة التاريخية أيضا تشير إلى أن رجال المخابرات الفرنسية الثلاثة الذين طرقوا باب شقة كان يقيم فيها كارلوس في الحي اللاتيني في باريس أثناء اندماجهم في الغناء اللاتيني، وكان معهم الشخص اللبناني الذي أرشد عنه ففتح كارلوس الباب بنفسه، فلما طلبوا منه الاطلاع على جواز سفره، اختفى في الداخل وعاد بعد دقيقتين وهو يحل رشاشا وأخذ يطلق الرصاص فقتل ثلاثة منهم وجرح الرابع، ثم هرب على الفور.
أما في الفيلم فقد تحول المشهد إلى نحو نصف ساعة من التفاصيل والحوارات المملة التي لا طائل من وراءها في غرف الاستقبال بالشقة، وذهب أحد الضباط للإتيان بأندريه اللبناني، وقدم كارلوس كأسا من الويسكي للضابط الذي بقى مع كارلوس وأصدقائه الثوريين، ثم المواجهة بين أندريه اللبناني وكارلوس، وإنكار كارلوس معرفته به، ثم ذهابه للمطبخ وعودته وهو يحمل مسدسا وإطلاقه النار على الجميع، فقتل الأربعة، ثم عاد لكي يتأكد أنه قتل أندريه بأن أطلق رصاصة ثانية على رأسه.
ويختلق الفيلم مشهدا نرى فيه أندروبوف مدير المخابرات السوفيتية، يجتمع في بغداد، بحضور مسؤولين في المخابرات العراقية، مع كارلوس ويطلب منهم بشكل مباشر الانتقام من الرئيس المصري أنور السادات بتصفيته جسديا، انتقاما منه لاتجاهه نحو "الإمبريالية الأمريكية" وإدارة ظهره للروس رغم ما حصل عليه منهم من مساعدات لبلاده، وهو حدث مختلق تماما، لا تشير أي مراجع إليه.
ويعزو الفيلم عملية اختطاف طائرة شركة العال الإسرائيلية واحتجاز ركابها رهائن في مطار عتيبة بأوغندا عام 1976 إلى التعاون بين مجموعة تابعة لكارلوس من الخلايا الثورية الألمانية، والفلسطينيين، في حين أن العملية لا تمت بأي صلة إلى كارلوس.

وبغض النظر عن دقة الأحداث التاريخية بين الفيلم والواقع، فقد تجاهل الفيلم تماما وضع الشخصية في إطار الفترة التاريخية وظروفها، وأدخل موضوع العداء للسامية بطريقة مقحمة، كما استخدم لقطة لياسر عرفات وهو يلقي خطابه اشهير في الأمم المتحدة الذي قال فيه "جئتكم أحمل في يدي اليمنى بندقية، وفي الثانية غصن زيتون، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي" لكن السياق الذي تستخدم فيه اللقطة يجعلها تبدو كما لو كانت تحمل تهديدا بدلا من الرجاء.
ويكاد دور المخابرات الإسرائيلية "الموساد" يغيب تماما عن الفيلم، رغم أنها هي التي وشت بكارلوس للمخابرات الفرنسية وتسببت في وقوع مأساة قتل ضابطين فرنسيين وإصابة الثالث بجروح. رغم أن ضباط الموساد كانوا يراقبون كل شيء وكانوا على مقربة من شقة كارلوس في تلك اللحظة تحديدا، كما هو ثابت من اعترافات ضباط الموساد فيما بعد في كتب منشورة منها "كل جاسوس أمير".
ومع ذلك يبقى من الفيلم محاولته الجادة التعامل مع تلك الشخصية "الأسطورية"، وتقديم معادل درامي لها لا تنقصه الجاذبية الشخصية بل والكاريزما التي لاشك انها كانت تميز كارلوس، عندما كان يتربع بثبات على عرش الإرهاب الثوري في العالم، قبل سقوط ج
دار برلين ثم الاتحاد السوفيتي، عندما أصبح يبيع مواهبه في التخطيط والعمليات العنيفة (كمرتزق)، لمن يدفع، فالتحق بخدمة المخابرات البلغارية والمجرية والالمانية الشرقية ثم السورية، وهو ما يرصده الجزء الثالث من الفيلم، ولكن دون أن يوضح لنا تماما، ما الذي قدمه للمخابرات السودانية في نهاية مشواره، لكي يحصل في البداية على حق اللجوء ويقيم هناك لسنوات قبل أن تسلمه السلطات السودانية للمخابرات الفرنسية في عملية أذهلت العالم عام 1994.
يبقى من الفيلم أيضا ذلك الأداء الممتاز من جانب الممثل الفنزويلي إدجار راميريز الذي يقوم ببراعة وإقناع، بأداء دور كارلوس.
وتجدر الإشارة أخيرا إلى ظهور ستة أفلام سينمائية (منها فيلم وثائقي) عن كارلوس قبل فيلمنا الأخير هذا أو ثلاثية أوليفييه أسايس.

الأربعاء، 19 مايو 2010

يوميات كان 7: "عن الآلهة والبشر" وغيرهم


في تقديري الشخصي أن فيلم "عن الآلهة والبشر" الفرنسي لزافييه بوفواه هو الفيلم الأفضل حتى الآن من بين أفلام المسابقة، يليه فيلم إيناريتو "جميل".
الفيلم الأول يجسد تفاصيل العلاقة بين مجموعة من الرهبان الكاثوليك في دير بقرية جبلية بالجزائر، وبين سكان تلك القرية، في معالجة شفافة رقيقة، تمهيدا للحدث الذي تعرفه جميعا أي تعرض الدير في التسعينيات لاعتداء من جانب أفراد ينتمون إلى ما يعرف بالجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر واختطاف الرهبان (أو معظمهم) وإعدامهم بدون أي مبرر رغم ما يقدمونه من أعمال الخير للمحيط السكاني الذي يقيمون في إطاره.
فيلم لا يدين ولا يبريء، لا يشوه دينا لحساب دين، بل على العكس يعد من أكثر الأفلام التي تعاملت باحترام وتقدير كبيرين مع الدين الإسلامي.
إنه فيلم عن حالة الجنون التي وصلنا إليه الآن بسبب الهوس بالفكرة الدينية. فيلم لا ينبغي أن يثير غضب أحد بل على العكس تماما، فهو يجب أن يثير التعاطف مع أولئك الذين اختاروا البقاء ومواجة الأقدار بكل ما تأتي به، على التخلي عن مهمتهم والهرب مفضلين النجاة بأنفسهم في الأرض.
هذا فيلم عميق في فلسفته الإيمانية، بديع وخلاب في تصميم مشاهده ولقطاته. وسأكتب عنه تفصيلا بعد أن ينتهي مولد مهرجان كان.

"جميل"
أما فيلم إيناريتو، فهو لا يبتعد فلسفيا عن فيلمنا هذا، في كونه ايضا يصور التدهور الذي بلغه عالمنا حاليا، قمع الإنسان للإنسان، النزول إلى الدرك الأسفل، ومع ذلك القدرة على الاحتفاظ من الداخل، بنوع من البراءة والقيم الروحانية. هذا التناقض يجسده ايناريتو المخرج المؤلف، من خلال بطله الفردي (الذي يجسده خافيير بارديم) كرجل يعيش على استغلال الآخرين ولكنه يبدأ في صحوة ضمير ويقظة روحية شاملة تعيد إليه إنسانيته عندما يدرك أنه قد أصبح مقضي عليه بعد ن يعلم باصابته بمرض السرطان الذي تمكن منه.
إنه فيلم عن الحياة في مواجهة الموت، عن الأب الذي يريد أن يستعيد أبوته، وأن يعوض ما فاته ولكن الوقت لم يعد متاحا أمامه، بل والأسوأ أيضا أنه وهو في سبيله إلى انقاذ الروح المعذبة، يتسبب في مقتل 25 إنسانا من الأبرياء الباحثين عن فرصة للتنفس والعيش في عالم تمزقه التناقضات.
أداء بارديم التمثيلي من أفضل ما شاهدنا حتى الآن وربما ينال عن دوره هنا جائزة أحسن ممثل.
هناك مشكلة واحدة فقط وهي مشكلة أراها كبيرة، تتمثل في صعوبة ضمان التعاطف من طرف المشاهدين مع شخصية بمثل هذه الخلفية الرديئة، شخصية واقعة في مستنقع الرزايا البشرية، تتعيش من استغلال الآخرين، كيف يمكننا أن نغتفر لها الأعذار. لا أدري. هذه النقطة عموما بدت محيرة لي.

الثلاثاء، 18 مايو 2010

يوميات كان 6: اختيارات مخيبة للآمال.. ولكننا في انتظار القادم


مر الأسبوع الأول من مهرجان كان والمسابقة تكشف يوما بعد يوم عن كارثة تلو أخرى، أو على الأقل، لا تكشف لنا عن التحف التي كنا ننتظرها، وهو ما يجعلنا نقول إن الاختيارات هذا العام لم تكن موفقة.
فمن بين 19 فيلما عرض حتى الآن 9 أفلام ليس بينها سوى فيلم مايك لي "عام آخر" والفيلم الاسباني المكسيكي "جميل" لجونزاليس، من الأفلام التي "فيها أمل" لكنها أقل من أن نعتبرها من "التحف" السينمائية. ولاشك أن اختيار أفلام مثل "الغضب" لتاكيشي كيتانو، و"في الترحال" الفرنسي لماتيو أمالريك، و"تشونج كينج بلوز" وغيرها، لم يكن موفقا، كما لم يكن اختيار فيلم "رجل يصرخ" للمخرج التشادي محمد صالح هارون موفقا وكان الفيلم جديرا بالعرض في قسم "نظرة خاصة".. بل يمكنني القول أيضا أن "أمير مونبنسييه" الفرنسي لتافرنييه لا يرقى للتسابق في كان رغم ولع عدد من النقاد الفرنسيين به وترشيحهم له لنيل جائزة الإخراج، لكني وجدته مليئا بالحشو والتفصيل التاريخية اتي تتعلق بتقاليد البلاط الفرسي في القرون الغابرة، ووجدت حبكته فيها الكثير من التكرار والضرب على نفس النغمة والابتعاد عن التركيز الذي كان مفترضا على شخصية راعي الأميرة ومرشدها (النبيل الذي يحبها في صمت لكنه لا يحلم بأن ينال حبها) بل ويساعدها في تحقيق أحلامها مع الحبيب المنتظر رغم علمه بهدم اخلاصه لها، ولكن الفيلم انحرف في اتجاه ادخال الكثير من الشخصيات الأخرى، والتباري على نيل قلب الأميرة، وافتعل مبارزات لا تتم، وحروب لا معنى لها، وتطويل في مشاهد لا معنى لها مثل مشهد استقبال الملكة للأميرة وغيره. وعموما هذا النوع من الدرامات التاريخية لا يجيد الفرنسيون صنعه باستثناء وحيد هو فيلم "سيرانو دي برجراك" لأنهم يميلون إلى توجيهه لأنفسهم بتفاصيل لا تهم أحدا غيرهم.
وكان فيلم "أورورا" يستحق أن يدخل المسابقة، كما كان يستحق في رأيي الفيلم الوثائقي العظيم "العملية من الداخل" Inside Job لكنه استبعد خارجها ربما لأنه ليس من اخراج مايكل مور فقد استبعد رغم أنه يتجاوز فيلم "الرأسمالية قصة حب" لمور، وعن الموضوع نفسه، أي أزمة الوضع الاقتصادي العالمي والمتسببين فيها من مجرمي السياسة الأمريكية.

لازلنا بالطبع في انتظار فيلم رشيد بوشارب "الخارجون عن القانون" وهو كما يجب أن نؤكد، فيلما فرنسيا مصنوع بإرادة فرنسية وتمويل فرنسي، الذي حصل على تمويل وامكانيات هائلة لاعادة تجسيد المذابح التي راح ضحيتها الآلاف من الجزائريين في 1945 بعد اعلان نهاية الحرب العالمية الثانية، والمطالبة الشعبية الجزائرية بالاستقلال الفوري حسب وعود فرنسا. وجاء التمويل بنسبة كبيرة من فرنسا، مع مشاركة انتاجية (3 مليون دولار) من المنتج التونسي طارق بن عمار، و4 مليون دولار من الحكومة الجزائرية وشركة النفط الجزائرية، والباقي وهو 13 مليون دولار جاءت من الشركات الفرنسية. وعموما المؤسسة الفرنسية تقبل النقد والجدل حول قضايا التاريخ، كما قبلت عام 2006 الطرح التاريخي حول دور المقاتلين من بلدان المغرب العربي في صفوف القوات الفرنسية في الحرب العالمية الثانية.
ولازلنا أيضا في انتظار الفيلم الأمريكي الوحيد في المسابقة "لعبة عادلة"، والفيلم الفرنسي "بشر وآلهة" وله صلة أيضا بالإرهاب القادم من الجزائر إلى فرنسا تحت ستار التأسلم.
كما لم يعرض بعد الفيلم البريطاني الثاني في المسابقة "الطريق الأيرلندي" لكن لوتش الذي ربما يحمل مفاجأة ثقيلة العيار من مخرج معروف بانتزاع الجوائز في كان.
وأنا شخصيا أيضا في انتظار الفيلم الروسي "حرقته الشمس 2" للمخرج الروسي الكبير نيكيتا ميخالكوف بعد أن كان الفيلم الأول أو الجزء الأول من الفيلم قد هزني بقوة قبل نحو خمسة عشر عاما. وغدا نعود ونرى.. فإل اللقاء.

الاثنين، 17 مايو 2010

يوميات كان 5: الولع بالدماء على الطريقة اليابانية!


منذ أن بدأ الممثل الياباني تاكيشي كيتانو إخراج الأفلام في أواخر الثمانينيات، وأنا أتابعه بقدر ما أستطيع، وفي معظم الأحيان، بقدر ما أطيق، فأفلامه تمتليء بالكثير من العنف والدماء وتمزيق الأوصال وغير ذلك من المشاهد البشعة التي تقشعر لها الأبدان.
وقد أخرج كيتانو حتى الآن 16 فيلما، منها أفلام تركز على عالم الياكوزا، أي المافيا اليابانية، وصراعاتها مع غيرها من عصابات الجريمة المنظمة. ويقوم كيتانو نفسه عاد، بدور البطولة في مثل هذا الأفلام، ويحاول أن يصنع لنفسه شخصية مميزة، للبطل البارد، قليل الكلام، الذي تبدو في عينيه بعض البراءة الطفولية، إلا أنها نظرات تخفي ميلا ساديا للعنف.
ورغم كل ما يكمن من عبثية في أفلام تاكيشي كيتانو، أقصد عبثية، ليس بالمعنى الفلسفي، بل بمعنى أنها لا تقول شيئا، ولا تخفي أشياء وراء تلك الصورة التي يقدمها لعالم الياكوزا، مما يمكن أن تعكس لنا "فلسفة" خاصة، أو رؤية ما للعالم، كما كانت حالة مخرج مثل سام بكنباه مثلا في السينما الأمريكية، بل إن العنف عند كيتانو، هو عنف مجاني، يجعل منه شيئا شديد الصدمة للعين، حتى المدربة منها، كما يجعله في الوقت نفسه، "كرتونيا" أي مبالغا فيه للغاية، بحيث يصبح عند التلقي "غير واقعي" بل ويثير ضحكات السعادة والمتعة عند معظم مشاهدي أفلامه. ويجب أن نعلم أن له عشاقا كثيرين عبر العالم، بل ومن بين نقاد السينما المتخصصين والصحافة السينمائية، في المهرجانات السينمائية التي ترحب بعرض أفلامه بل وعرضها أيضا داخل مسابقتها الرئيسية التي يتبارى فيها عادة عدد محدود من بين أفلام العالم، للحصول على جائزة أو أخرى، وإن لم يكن، فلعل المشاركة في المسابقة، كما في حالة مهرجان كان مثلا، تعد شرفا في حد ذاتها للفيلم المشارك، الذي يكون قد وقع الاختيار عليه من بين مئات الأفلام التي تقدمت.
وهنا تحديدا تكمن مشكلة مهرجان كان، الذي أتى بالفيلم الأحدث لتاكيشي كيتانو، وهو فيلم "غضب" Outrage لعرضه داخل مسابقة كانت أصلا تعاني من قلة توفر الأفلام التي تصلح للتسابق، ولكي تكون واجهة مميزة لسينما العالم في 2010، خصوصا وأن المهرجان كافح لكي يصل بعدد أفلام المسابقة في النهاية إلى 19 فيلما، وهو عدد قليل مقارنة مع السنوات العشر الأخيرة مثلا.
وقد شاهدنا الفيلم، وجاء كما هو متوقع، كعمل يلهو بالعنف، ويتفنن مخرجه (الذي بدا أصلا كممثل، شارك في 47 فيلما حتى الآن، وكان قد لفت أنظارنا بقوة في "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس" للمخرج الكبير ناجيزا أوشيما عام 1982).

أما هنا فكيتانو الذي يقوم ببطولة فيلمه كالعادة، يبتكر فقط في تصوير مشاهد التنكيل بخصومه، من مشاهد قطع الأصابع التي تتناثر في صحن من صحون حساء الخضراوات الذي يقدمه الخادم في المطعم إلى الزبون الذي طلبه، إلى شق فم أحد الخصوم بشفرة حادة مما يؤدي إلى النزيف الشديد، إلى تصويب المسدسات فوق الرأس مباشرة ثم تفجيرها، إلى ربط رجل بحبل بينما هو داخل سيارة ثم تحريك اسيارة بحيث يشنق، إلى القتل الجماعي لعشرات الأشخاص بالرصاص، إلى استخدام منشار كهربائي لنشر جمجمة رجل حي، وغير ذلك الكثير جدا من المشاهد التي لا تكافي أبدا بالإيحاء، بل تصور التفاصيل الدقيقة لعمليات القتل والإعدام الجماعي وما بعدها أيضا، أي ترك على الدماء والإصابات التي ألمت بالأجساد، كما لو كانت تريد أن تجعل من العنف، سيمفونية خاصة للمتعة، أي أن تحوله إلى شيء تألفه العين البشري بل ويمكن أيضا أن يصبح أداة للاستمتاع الخاص.
والغريب الذي أدهشني كثيرا، أن القاعة التي عرض بها الفيلم امتلأت عن آخرها بالصحفيين، الذين اصطفوا في صف طويل ممتد قبل عرض الفيلم بنحو 45 دقيقة، وهو أولا من أطول الصفوف التي وقف فيها في كان حتى الآن على أي فيلم.
ثانيا: أدهشني أن عددا قليلا جدا، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة (هذا إذا لم تكن قد قطعت في خضم تيار العنف الدموي في الفيلم!) قد غادر القاعة أثناء عرض الفيلم، في حين أن عشرات الصحفيين أحيانا ما يغادرون أثناء عرض أفلام أقل من هذا الفيلم كثيرا في مجانيتها واستخفافها بالعقول. أخيرا، مما يثير فضولي بشدة وأنا أشاهد أفلام تاكيشي كيتانو، تلك المتعة الشديدة التي تسيطر على المشاهدين، حتى من النقاد والصحفيين، وهي متعة تجعلهم يضحكون بسعادة بالغة في مشاهد العنف والإغراق في سفك الدماء، ولا أعرف ما إذا كان هؤا الضحك لأنهم يعتبرون ما يشاهدونه نوعا من الكوميديا (وهو ما لا أجده كذلك أبدا!) أم أنهم يحاولون إخفاء مشاعرهم الحقيقي عن طريق الضحك..
أيا كان الأمر، أعتقد أن هذه الجوانب كلها تعكس بلوغ ظاهرة "تاكيشي كيتانو" في الغرب، حدا مرعبا بالفعل!
يحضرني في هذا المجال قول معروف لمنتج انجليزي لأفلام دراكولا.. مصاص الدماء في الماضي. هذا القول يتلخص في أنهم في شركته، كانوا عادة يصنعون ثلاث نسخ من أفلام دراكولا. النسخة الموجهة للجمهور البريطاني كان يكفي فيها أن يضع البطل الخنجر على صدر دراكولا النائم في تابوته، ثم يرفع المطرقة تأهب لأن يطرق فوق الخنجر للقضاء على الوحش الأسطوري قضاء مبرما.
وفي النسخة الثانية الموجهة للجمهور الأمريكي، كان يجب أن نرى البطل وهو يهوي بالمطرقة فوق الخنجر.
أما في النسخة الثالثة الموجهة للجمهور الياباني، فكان يجب أن تتفجر الدماء في بحر هائل بحيث تغرق الشاشة تماما!

الأحد، 16 مايو 2010

يوميات كان 4: وودي ألين ومايك لي.. عوامل مشتركة

أنطوني هوبكنز مع نعومي واطس في كان


المخرج الأمريكي الكبير وودي ألين يحضر الدورة الـ63 من مهرجان كان في إحدى تلك المرات النادرة بعد أن ظل سنوات طويلة يعتذر بل ويمتنع تماما عن حضور المهرجانات الدولية وخصوصا حفل الأوسكار.
هنا، وودي حاضر بفيلمه الجديد "ستقابلين رجلا غريبا طويلا أسمر". في الفيلم عدد من كبار الممثلين والمشاهير مثل نعومي واطس وأنطوني هوبكنز وأنتونيو بانديراس وجوش برولين وجيما جونز وفريدا بنتو (بطلة "مليونير العشوائيات") لكن وودي ألين لا يمثل في فيلمه بل ولا يظهر حى فيه ولو في مشهد واحد كما يفعل كثير من المخرجين الآن، أحدثهم أوليفر ستون.
الفيلم الجديد يتناول من خلال التركيز على مفارقات العلاقة بين الرجال والنساء، وبين الشباب وكبار السن، وهو يعكس بوضوح الأزمة التي تشغل تفكير ألين منذ أن بدأ يصنع الأفلام، أي العلاقة مع المرأة خصوصا، وكيف يمكن أن يصل المرء إلى لحظة التحقق، وهل هناك وقت ينبغي أن يتوقف فيه المرء عن الطموح إلى اللذة، بدعوى أنه صار طاعنا في السن، وهل يمكن أن يبدأ حياة جديدة في سن متأخرة، وأن يحصل على السعادة، أم أن الأمر بأكمله ليس سوى وهم كبير؟
تدور أحداث الفيلم كلها في لندن، والشخصيات في معظمها إنجليزية، ويستغل ألين الكثير من المعالم المميزة لمدينة لندن، كخلفية لأحداث أو مواقف الفيلم.
ويطرح وودي ألين موضوعه، من خلال تداخل الثنائيات التي تقع إما في خيانات متبادلة، أو في مشاكل الانفصال رغبة في البحث عن حياة جديدة ربما تكون موجودة حتى على مستوى ما وراء الطبيعة. ومن خلال هذه الثنائيات المتداخلة والمفارقات العبثية التي تنتج، يجسد الفيلم صعوبة أو ربما، استحالة الوصول إلى لحظة التجلي مع ذلك الشريك "الآخر" المكتمل، بل إن تلك الرغبة العارمة في التحقق يمكن أن تدفع صاحبها أيضا إلى التورط في السرقة والانتحال والكذب، وقد يخسر الشريك القديم والشريك المحتمل، ويخسر نفسه أيضا!
لم أجد جديدا فيما يقدمه وودي ألين في فيلمه الجديد، ولا حتى على صعيد اللغة والشكل السينمائي، بل ووجدته أيضا مغرقا في اعتماده على المشاهد المسرحية التي تدور داخل ديكورات مغلقة معظم الوقت، كما تعتمد على الحوار، الذي لاشك أن ألين يجيد كتابته وصياغته بحيث يوحي بالتلقائية، كما أنه أستاذ كبير في تحريك الممثلين والتحكم في أدائهم، بحيث يجعل الفيلم يبدو كما لو كان حالة ممتدة من "العصاب" الجماعي الذي حل بالشخصيات جميعها، شبابا وكهولا، فالكل يتشارك ويشترك مع وودي ألين في الإحساس بعدم الأمان، بالقلق، بالتوتر الناتج عن العجز عن تحقيق الذات، رغم كل هذا السعي الدائم إلى تحقيقها ولو بالكذب والخيانة.
لكني اسمتعت بلاشك بالأداء التمثيلي الممتاز من فريق الفيلم كله، وإن كان التكرار يصبح السمة الغالبة بعد مرور نحو ساعة من زمن الفيلم، وما بقى لا يضيف سوى المزيد من التأكيد على الفكرة نفسها.

"عام آخر"
حالة العصاب هذه neurosis التي تصيب عادة النساء أكثر من الرجال بعد عبور حاجز منتصف العمر، تتبدى أوضح ما يكون، في فيلم "عام آخر" Another Year للمخرج البريطاني مايك لي، صاحب الحظ السعيد عادة في مهرجان كان والحاصل على السعفة الذهبية من قبل عن "أسرار وأكاذيب"Secrets and Lies (1996).

هنا أيضا، من وسط الطبقة الوسطى الانجليزية، يلتقط مايك لي شخصيات عدة، تجسد هواجس النجاح والفشل، النجاح الذي يخلق علاقة طبيعية صحية بين جيل الآباء وجيل الأبناء، والفشل الذي يجعل هذه العلاقة يشوبها التوتر وانعدام الثقة بل وقدر من العداء أيضا.
من ناحية هناك الطبيبة النفسية "جيري" المتزوجة من المهندس "توم" (الإسمان لا مغزى خاص لهما في السياق!) والإثنان يعيشان معا في منزلهما، يرعيان حديقة المنزل، ويطهيان أصناف الطعام الشهي، ويستضيفان ابنهما الناجح في عمله "جو" الذي يرغب في الارتباط بأخصائية التأهيل الصحي "كاتي"، كما يرحبان دائما باستضافة "ماري" صديقة جيري التي تعمل معها.
ولكن هناك من ناحية أخرى، "كن" صديق توم الذي أوشك على الستين من عمره أو تجاوزها، لكنه يعيش حياة بائسة، يعاني من الوحدة، يدمن على الشراب لعله يجد فيه سلوى لنفسه الممزقة العاجزة. و"كن" هو التوأم الروحي في الفيلم لبطلتنا الأساسية "ماري" التي هي محور هذه الدراما العائلية المشبعة بالكثير من المفارقات الكوميدية أيضا (تماما مثل فيلم وودي ألين، بل هناك الكثير من أوجه التشابه بين الفيلمين). وماري التي تجاوزت الخمسين، مع مسحة جمال زائل، لاتزال تطمع في الحصول على رجل مناسب، ربما يكون شابا يصغرها في العمر، بعد أن فشلت في زواجها مرتين. وهي لا تكف عن الشكوى والتذمز، وتمني النفس بأنها إذا اشترت سيارة فربما تتمكن من تحقيق الذات، لكنها تشتري السيارة لكي تجدها قد أصبحت عبئا عليها، فالمشكلة كما يتضح ليست في السيارة، ولا في اقتناء بيت بدلا من شقة مستأجرة تقيم فيها بمفردها، ولا في العمل فلديها وظيفة في سكرتارية المركز الطبي الذي تعمل به جيري. ولكن أزمتها الحقيقية تنبع من شعورها بالوحدة، ولذا فهي لا تستطيع سوى التردد بصفة دائمة على منزل توم وجيري، تستدفيء بهما، وفي الوقت نفسه، تنظر بنوع من الغيرة والحسد الخفي، إلى حياة الهدوء والصفاء والحب التي يعيشها الزوجان معا. تحاول ماري جاهدة إغواء الإبن الشاب "جو" لكنه يفاجئها عندما يحضر معه خطيبته "كاتي" ويقدمها لها، وهي ترفض "كن" الذي يحاول التودد إليها وتعتبره ربما، أكبر سنا من أن تقبل به، لكنها تنتهي وهي تسعى للتودد لشقيق توم الأرمل المسن الذي فقد زوجته حديثا.
من خلال هذه العلاقات والمواقف التي لا تنتهي أبدا نهاية درامية مغلقة، تماما كما يفعل وودي ألين الذي يبقي نهاية فيلمه أيضا مفتوحة، تنشأ المواقف الإنسانية التي تجعل المتفرج يشعر بالتعاطف مع كل تلك الشخصيات، المتحقق منها، والمعذب، الحائر.

ويقسم مايك لي فيلمه إلى فصول السنة: الربيع والصيف والخريف والشتاء، ولكن دون دلالة خاصة مباشرة تربط بين فصول السنة وبين شخصيات الفيلم، فكما أشرت، نهاية الفيلم تظل مفتوحة، دلالة على استمرار الحياة، والصراع الداخلي مع انفس، وتراكم الهموم، وتوديع أحباء، والاحتفال بأحباء جدد، وهكذا. وربما يكون للعنون مغزى خاص في حياة مايك لي نفسه، ومسيرته الفنية بعد أن بلغ الثامنة والستين من عمره.
إن رؤية مايك لي هنا، هي رؤية أصيلة تميز كل أفلامه التي تقدم لنا بواقعيتها الصارمة، دقائق وتفاصيل الحياة الداخلية في الأسرة الانجليزية، بكل تناقضاتها وعذاباتها ومشاعرها المعلنة والخفية، يريد أن يؤكد هنا، على نغمة أساسية، هي أن التحقق يكمن أساسا في قيمة ما يفعله المرء للآخر، ما يقدمه من مساعدة ومساهمة في المجتمع وما يضيفه من عطاء للعالم. ولذا فإنه يجعل من شخصية الطبيبة النفسية، التي هي الأقدر بحكم خبرتها الخاصة، على فهم لحظات الضعف الإنساني عند "ماري"، هي أيضا الأكثر قدرة أيضا على مد يد العون والمساعدة، دون أن يعني هذا أنها تخلي الفرد من مسؤوليته، بل نراها أيضا تنهر ماري أحيانا، وتطالبها بضرورة مواجهة نفسها والكف عن الهرب عن طريق الخمر، والعيش في أوهامها الشخصية. لكن هذا يتم برقة ولطف ويضفي على الفيلم جمالا خاصا.
لاشيء يحدث في هذا الفيلم عمليا، أي أننا لسنا أمام مواقف وصراعات وتداخل أزمنة أو انتقالات في التاريخ والزمن، بل نحن طيلة الوقت، في الزمن المضارع الحالي، نعيش مع شخصيات من الحياة اليومية، ونراقب كيف تتكلم وتتصرف وتمارس حياتها، تستقبل الضيوف، تشارك في العزاء، تتساند مع بعضها البعض، تتناول الطعام وتثرثر أحيانا أيضا، فيما لا معنى له. وهذا هو النسيج الأساسي الذي يميز عادة أفلام مايك لي. نسيج الواقع المباشر البسيط، وهنا تكمن عظمته.
ومثله مثل وودي ألين، يعتمد أيضا وبدرجة أساسية، على بناء المشهد: الميزانسين، وتحريك الممثلين في الفضاء أو الديكور المحدد، والتعبير بالوجه واليدين ولغة الجسد والعينين، كما يعتمد على الكاميرا الثابتة في معظم الأحوال، والموسيقى الكلاسيكية الحديثة التي لا تطغى في أي وقت على المشهد نفسه وتقحم نفسها عليه، وعلى الحوار الذي يصل إلى أرقى درجات التلقائية، ويعكس الكثير من البراعة والذكاء والخبرة بالبشر.
وأخيرا، على مسؤوليتي الشخصية، أرشح الممثلة العظيمة ليزلي مانفيل لجائزة أحسن ممثلة، سواء هنا في كان، أم في الأوسكار العام القادم. إنها طاقة تمتليء بالحيوية والقدرة على استخدام نغمات صوتها المختلفة، وطريقتها الخاصة في الحديث ونطق الألفاظ، كما تستخدم التعبير بوجهها وتصمد في لقطات الكلوز أب (القريبة)، وتبدو شديدة التلقائية وهي تتحرك في مشاهد طويلة، تتدفق بالحوار الذي يبدو أحيانا كما لو كان أشبه بمونولوج طويل. ولاشك أن خبرتها المسرحية، وخبرتها الخاصة في العمل طويلا من 1980، مع مايك لي، ساعداها على التألق في هذا الفيلم. إنه بلاشك، فيلمها، كما كان "أسرار وأكاذيب" فيلم الممثلة بريندا بليثين. ومن الممكن جدا أيضا أن يحصل الفيلم نفسه على إحدى الجوائز الرئيسية في كان. من يدري!

السبت، 15 مايو 2010

يوميات كان 3: وول ستريت.. المال لا ينام.. وكذلك لا أحد في كان!

سكورسيزي وسط الحسناوتين (ياله من رجل محظوظ!)
من فيلم "وول ستريت: المال لا ينام"

فيلم اليوم الثالث من المهرجان هو بلاشك الفيلم المنتظر، أو الذي كان منتظرا، "وول ستريت: المال لا ينام" لأوليفر ستون المعروف بأفلامه السياسية المثيرة للجدل.
لكن ربما يتعين علي القول إن ما كان منتظرا لم يرتفع أبدا إلى مستوى التوقعات.
نعم هناك محاولة مخلصة بلاشك، لتقديم عمل سينمائي جديد ينطلق من الفيلم القديم للمخرج نفسه "وول ستريت" (1987)، ولكن يقفز إلى 2008، عام الكارثة الاقتصادية التي لا تزال قائمة، ويبحث كيف كان ممكنا أن يحدث ما حدث فعلا.
غير أن المشكلة أن كل ما يقوله ستون في هذا الفيلم، نعرفه جميعا سلفا، بل ونحفظه عن ظهر قلب. إنه مثلا يروي ويشرح ويفسر ويحذر مما حدث على لسان العديد من الشخصيات التي تظهر، ومنها الكثير الذي يشبه أو يحاكي شخصيات حقيقية كلنا نعرفها، مثل رئيس بنك ليمان الذي كان انهياره، ورفض البنوك الأمريكي انقاذه من عثرته غير مدركين أن انهياره يعني انهيارهم، هو أصل وأساس الكارثة الاقتصادية التي حلت. رئيس ليمان في الفيلم يتعرض لمحاولة التهام شركته بأبخس الأسعار للسهم الواحد، ويتم التلاعب به وبتاريخه المهني لدرجة مهينة مما يدفعه إلى الانتحار عن طريق القاء نفسه أمام قطار مسرع من قطارات أنفاق نيويورك.
ولعل اللجوء دراميا إلى حيلة استخدام نفس شخصية مايكل دوجلاس في الفيلم القديم حول نفس الموضوع، وجعله يخرج من السجن بعد قضاء سنوات العقوبة الطويلة، لم تكن حيلة موفقة دراميا بل بدت دخيلة، وبدت المشاهد العديدة التي صيغت عمدا لأجل عيون دوجلاس (الذي بلغ حاليا 65 عاما) خاوية، وتكرارا لنفس شخصيته التي يتضح بالطبع أنها شخصية غير قابلة للتوبة، فالقول الشهير له في الفيلم السابق "الجشع جيد" يصبح هنا الآن "الجشع عاهرة" أي أمر مغو لا يسهل الإقلاع عنه.
مايكل دوجلاس أمام قصر المهرجان

وتبدو الحبكة الأساسية التي حولت الفيلم إلى ميلودراما عائلية أيضا غير محبوكة جيدا أو مفتعلة ومليئة بالمبالغات، وتتمحور كالعادة في مثل هذه الميلودرامات، بين الخير والشر.
فدوجلاس (مستر جوردون جيكو) له ابنة هي "ويني"، التي تمردت على أبيها من زمان، وقطعت علاقتها به لاعتقادها أنه السبب في انتحار شقيقها، وتحطيم قلب أمها بسبب جشعه إلى المال والحصول على المال بأي ثمن.
وترتبط ويني بعلاقة غرامية بشاب من الصاعدين الجدد في بورصة وول ستريت، وهو ربيب رئيس الشركة المنتحر بعد إفلاس شركته، وهو يسعى للانتقام من الرجل الذي كان السبب في انتحار والده الروحي، يحاول أن يلعب أمامه رمز الخير، والباحث عن الصعود ولكن في إطار التمسك بالقيم، بينما يسعى جيكو مجددا للحصول على الثروة ولو عن طريق استرداد المائة مليون دولار التي بلغها رصيد ابنته الذي أودعه منذ فترة طويلة في بنك سويسري، كتأمين لمستقبلها بعد أن تبلغ السن القانوني. لكنه أيضا يبحث عن الحب وعن الغفران، ويوازن بين الجشع والحب، وبين الإخلاص للغريزة، والتمسك بالأبوة. وفي مشهد مبالغ فيه كثيرا يعطيه الشاب الراغب في الزواج من ابنته اسطوانة مدمجة يشاهد عليها جنينا يتحرك في بطن ابنته هو حفيده القادم، طالبا منه التنازل عن المال لابنته، أي عمل صفقة يبيع له من خلالها ما يقول إنه "المستقبل". لكن الرجل العتيد يرفض قبول العرض. ومع ذلك يعود في نهاية الفيلم لكي يغلب مشاعر الأبوة على طمعه في استعادة مكانته وسط غابة الوحوش في وول ستريت. وبهذا يختتم ستون فيلمه الذي تتميز فيه الكثير من المشاهد من حيث الحركة والإخراج ودقة التصميم وإدارة الممثلين ومحاكاة الاجتماعات الفعلية التي دارت بين أهل المال والمسؤولين في الحكومة لمحاولة احتواء الأزمة، وكذلك مشاهد البذخ والحفلات التي تقام واستعراض المباني والمكاتب القائمة في وول ستريت، والديكورات الفاخرة المغوية للشقة التي يقيم فيها جيكو، ومحاولة الخروج من المكاتب في أوقات كثيرة، إلى الطبيعة، واختيار مواقع خلابة تكسر من وطأة الحوار الذي لا يتوقف في الفيلم.

ستون ودوجلاس مع أحد أبطال فيلمه


يقول ستون في المؤتمر الصحفي إنه لم يكن يدرك أن الكثير من الشباب المتطلع للعمل في سوق المال كانوا قد أعجبوا بشخصية جيكو في الفيلم السابق، وهو ما حدث بالفعل، وأخشى أنه سيحدث أيضا هنا، بسبب الهالة التي تحاط بـ شخصية مايكل دوجلاس في الفيلم، وتصوير نمط حياته بحيث لا يمكن أن تؤدي إلا إلى زيادة الإقبال على التورط في "الجشع" بدلا من تنفير المشاهدين منه، وهنا يكون الفيلم قد فشل حتى في توصيل رسالته الأخلاقية البسيطة المباشرة!
أداء دوجلاس واثق، مدرب، متمكن، يلبس الدور جيدا ويتلبسه الدور، لأنه أيضا كتب خصيصا له. أما الممثلة الانجليزية الشابة كاري موليجان التي تألقت في فيلم "التعليم" Education ورشحت للأوسكار عن دورها فيه، فقد فرضوا عليها التحدث باللكنة الأمريكية البشعة، وهو ما جعلها لا تشعر بالراحة بعد أن خرجت أيضا من بيئتها الطبيعية، بل وبدت ملامح وجهها وقد شاخت قبل الأوان!
ويظهر شارلي شين كضيف شرف في مشهد واحد من الفيلم يدور في حفل، كما يظهر المخرج أوليفر ستون حوالي ثلاث مرات كباحث عن الحقيقة عبر الانترنت، ومتلصص على عالم وول ستريت.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger