بقلم: محمود عبد الشكور
على الرغم من كثرة المقالات والدراسات التى كُتبت – وستُكتب – عن عالم وسينما يوسف شاهين، إلا أننى ممن يعتقدون أننا مازلنا نقف على شاطئ إبداعه. هناك جوانب كثيرة لم يتم التطرق إليها ، وجوانب أخرى دُرست بالفعل ولكن على عجل . سينما يوسف شاهين لاتبوح بأسرارها من مشاهدة واحدة خاصة أعماله الكبرى ولكنها تكشف فى كل مرة عن سرّجديد وزاوية مدهشة ولمحات لا تخطر على البال .
فى هذا المقال دعوة لزيارة جديدة الى عالم شاهين أهم مخرجى السينما المصرية وأكثرهم ثراء وتنوعا ، ودعوة أيضا للتأمل والحوار والمناقشة حول جوانب لاتُطرق كثيرا فى عالمه الواسع ، أو لنقُل أنها رءوس موضوعات تستحق الدراسة المُعمّقة ، وباستخدام مناهج فى التناول أكثر ابتكارا وتحرراً من التناول الأكاديمى التقليدى .
* هناك مثلا نهايات أفلامه التى تبدو أحيانا كما لو كانت أفلاما صغيرة ذات طابع ملحمى . فى فيلم( ابن النيل ) مثلا. وبعد مشاهد ثورة طوفان المياه ومحاولات الأم الشابة ( فاتن حمامة ) البحث عن ابنها الصغير وإنقاذه ، يظهر فى الأفق الزوج الضال العائد ( شكرى سرحان )، وينجح فى العودة بالصغير ، ثم يكتشف من نظرات الأم أن الطفل هو ابنه الصغير . يلتئم شمل الأسرة ، وتقترب الكاميرا لتسجل هذا المشهد العائلى. لكن( شاهين) لا يكتفي بذلك حيث يعود بالكاميرا سريعا الى الخلف لتد خل الى الكادر أشياء أخرى هامة : السماء والأرض والأفق الواسع الذى لاوجود له فى المدينة ، وكلها عناصرتلعب طوال الفيلم دوراًمحورياً حضوراً أوغياباً . لقد تحوّل اللقاء البسيط الى احتفاء كامل بالحياة وبالطبيعة وبالأرض وبالإنسان وكأنه يغلق قوسا كبيراً ، او يرسم اللوحة المشهدية الأخيرة فى جدارية كبيرة .
ستجد هذه النهايات الملحمية المشهدية بالغة القوة والتأثير فى أفلام كثيرة أخرجها شاهين وكأنه يحاول تخليد أبطاله . فى (صراع فى الوادى) سيتحوّل المعبد الى مسرح ضخم يسجل تراجيديا الأحفاد وسط شواهد عظمة الأجداد . وفى( باب الحديد ) ستتحول المحطة الى مسرح كبير يسجل جنون( قناوى) وسط نظرات الحزن من عيون عاشقة صغيرة لحبيب مستحيل، وفى ( الناصر صلاح الدين) ستتحول شوارع أورشليم الى مسرح لوداع (ريتشارد) وجنوده ، ثم يصعد ( صلاح الدين) الى ربوة عالية شاكراً وحامداً ومؤكداً طبيعته المتسامية، وفى ( الإبن الضال) مذبحة عائلية وشباب هارب نحو الشمس الصفراء . وفى( الأ رض) تتحوّل حقول القطن الى قماشة لوحة مشدودة يرسم عليها شاهين مأساة (محمد ابو سويلم ) بالأبيض والأخضر والأحمر والأسمر. وفى نهاية (الإختيار) مشهد ملحمى آخر لجنون مثقف ، وفى ( العصفور) ينطلق عصفور من القفص فيخرج شعب من الأسر ، وحتى فى فيلمه الأخير الذى أخرجه مع تلميذه خالد يوسف، يملأ الناس الكادر فى مشهد النهاية بعد أن انفرد بالصورة أمين شرطة مريض . فى كل هذه النهايات يبدو النفس الملحمى قوياً وحاضراً ومؤثراً .
* لم تُدرس بجديّة تجربة يوسف شاهين الممثّل . فى رأيى المتواضع أنه كان ممثلا ًعبقرياً ولكن المخرج بداخله كان يسيطر عليه ويحدّ من ابداعه بل ويستنزفه ويحركه كالدُمية فى بعض الأحيان ، ورغم أن شاهين من أكثر مخرجينا فهماً وبراعة توظيف امكانيات الصورة إلا أنه – مع حسن الإمام - من أكثرهم تأثراً بفن المسرح . كان حسن الإمام مفتونا بمسرح (رمسيس) فاستوحى عالمه فى السينما من خلال لقطات طويلة ممتدة ، ومواقف ميلودرامية صاخبة، وكان يوسف شاهين مفتونا دوماً بمسرحيات( شكسبير) وتحديداً مسرحية (هاملت )، لذلك انعكس هذا الإعجاب على إدارته لممثليه الذين بدوا أنهم يعانون أحياناً من أضطرابات أمير الدانمارك ومظاهرها العُصابية . عندما تكون الشخصية تسمح بذلك كما فى نموذج (قناوى) أو بطل فيلم (الإختيار) تكون النتيجة رائعة، ولكن عندما لاتحتمل الشخصية مثل هذه التوترات تكون هناك مشكلة واضحة فى إدارة الممثلين ، وقد ينتقل التوتر الى المتفرج !
* لم يتوقف كثيرون عند زاوية مهمة فى أفلام شاهين هى اهتمامه بالجانب الدينى عند الإنسان رغم أنه ينطلق عموما من نظرة إنسانية واسعة ومتحررة . الدين فى سينما شاهين ليس مجرد عبارات ومحفوظات ولكنه طاقة روحية تدفع الى الأمام . رجل الدين الحقيقى ( يحيى شاهين مثلا فى ابن النيل ) هو ممثّل الخير والمخلّص بمعناه الواسع ، وهو أيضا المحرّض على الثورة (صلاح ذو الفقار فى وداعا بونابرت)، ولكن شاهين ضد الذين يستخدمون الدين لتحقيق مغانم دنيوية ( الشيخ شنّاوى فى فيلم الأرض)، أو مكاسب سياسية (رئيس الجماعة الذى لعبه عبد الوراث عسر فى فيلم اسكندرية ليه) . الإيمان فى سينما شاهين فطرى وبسيط ومباشر وأفضل نموذج يعبر عنه هو تلك المرأة المسيحية (احسان شريف) التى فقدت طفلها فى فيلم (الناصر صلاح الدين) ، فلما أعادوه اليها هُرعت الى الكنيسة لتشكر الربّ ولتحتفل بعيد الميلاد .
الإيمان عند شاهين هو إيمان الفلاحين البسطاء الذين لايجدون وسيلة لإنقاذ بقرتهم فى فيلم (الأرض) إلا بالدعاء معا : " يارب .. يارب " ليتكامل الدعاء مع العمل يداً بيد وجسداً بجسد . فى أفلام (شاهين) حالة عجيبة من الروحانية رغم شهوانية أبطالها ، وإذا كانت كل الأديان تدعو الى الخير وترفض الشر والظلم فإن سينما شاهين دينية جدا بهذا المعنى الواسع . هناك فى أفلامه بصيص من النور ، طفل صغير قادم عند الأفق ، عيون مشرقة تحلم بالغد ، ملاك حارس ومخلّص قادم ، واحتفال دائم بالحياة باعتبارها النعمة الكبرى . لم يزعم شاهين أنه رجل مثالى ، ولم يعتقد أن الإنسان ملاك مجنّح ، لكنه يستطيع أن يزعم بملء الفم أنه قدّم بشراً يحاولون أن يعترفوا بالمعنى الدينى الكاثوليكى ، بشراً يحاولون إصلاح عيوبهم ومواجهة نقائصهم بقدر ما تسمح بذلك طبيعتهم البشرية ، وبهذالتركيزعلى فكرة الإعتراف والمراجعة ونفى أكذوبة الكمال الخادعة ، فإن سينما شاهين تبدو أخلاقية جدا رغم حرية أبطاله فى الفعل والتصرف والإختيار . يكفيه أنه يترك مهمّة إدانة الإنسان لخالق الإنسان باستثناء محاكمته لنفسه وللمقرّبين منه ، ولعلها شجاعة لايعادلها سوى تسامحه مع الذين لم يعرفهم. المهم أنه يتحدث عن الإنسان الأرضى وليس السماوى . الإنسان كما هو وليس الإنسان الإفتراضى كما نحلم به أن يكون !
* لم تُدرس بالقدر الكافى تجربة يوسف شاهين بأن يخرج صوتاً متميزاً ومختلفاً من قلب سينما تجارية حتى النخاع . صحيح أنه اضطر – كما قال – أن يقدم أفلاما لأنه لم يكن فى منزله سوى علبة (تونة) ، ولكن حتى هذه الأفلام مثل الكوميديا الجميلة( أنت حبيبى) ستجد فيها بصمة شاهين الخاصة واتقانه لكل مشهد مهما كان بسيطاً مع الولع بالإبتكار كلما كان ذلك متاحاً . لقد لعبت الصدفة دورها فى اخراج شاهين لبعض أفلامه الهامة مثل فيلمى (جميلة) و(الناصر صلاح الدين) ، وأنتجت له مؤسسة السينما رائعته (الأرض)، ولكنه أيضا قرر الإستمرار بوسائل مختلفة ولم يستسلم أبدا مثل زميله الكبير توفيق صالح. هرب شاهين الى لبنان ليخرج فيلما جيدا لفيروز هو( بيّاع الخواتم )، ثم فيلماً لم يكن راضيا عنه هو( رمال من ذهب )، ولكنه اكتشف مبكرا أن عليه أن يعود ، وأن على المخرج فى دول العالم الثالث ألا يكون صاحب موهبة ورؤية فقط بل يجب عليه أيضا أن يكون مقاتلاً ، ولولا تجربة شاهين فى الانتاج المشترك من خلا ل شركته الخاصة مع الجزائر ثم مع فرنسا لجلس فى منزله، أو لانتهى مثل بركات القدير الذى اضطرّ لإخراج أشياء مثل( بنت اسمها محمود) و(العسكرى شبراوى)، أو ربما مات محسوراً مثل شادى عبد السلام الذى حاول تنفيذ( إخناتون ) دون جدوى .
تجربة شاهين ليست ابداعية فقط ولكنها إنسانية واقتصادية وتجارية . يقول عنه منتجه وابن شقيقته جابى خورى ان شاهين مخرج غير مكلّف لأنه يعرف بالضبط ماذا يفعل وماذا يريد ، ولأنه يقوم بالتحضير طويلاً قبل التصوير ، ويقول جابى أيضا أنه لولم تكن أفلام شاهين تغطى تكاليفها لما استمر طوال هذه السنوات . كان شاهين مدركا ًطول الوقت – وهذا الأمر من أهم دروس تجربته – أنه يقدم إبداعه من خلال صناعة وتجارة وليس من خلال ورقة وقلم أو ريشة وفرشاة و(باليتة) ألوان !
* لدىّ أسئلة كثيرة يمكن أن تكون موضوعات للحوار حول عالم (شاهين ):كيف استفاد مثلا من التأثر المزدوج بالسينما الأمريكية والسينما الأوربية معاً على اختلافهما ؟ كيف تطوّرت رؤيته السياسية من الستينات الى التسعينات الى الألفية الثالثة من بصمة عبد الرحمن الشرقاوى الى رؤية لطفى الخولى وصلاح جاهين وحتى مرحلة خالد يوسف الأخيرة ؟ ما مدى تأثير الإسكندرية على أفلامه بروحها المتسامحة حتى تلك الأفلام التى لا تظهر فيها المدينة العظيمة ؟ ما مدى تأثيره فى أفلام مساعديه وتلآميذه على اختلاف اتجاهاتهم ؟ وماذا عن إسهاماته وإضافاته للفيلم التسجيلى الذى يُنظر له أحياناً على أنه ابداع من الدرجة الثانية ؟! كيف نجح شاهين فى ترجمة حبه للموسقى والغناء فى أفلامه على اختلاف مستوياتها وتصنيفاتها؟
سينما شاهين مثل المحيط الواسع الذي يستوعب محاولات كثيرة للغوص والإبحار وحتى إلقاء الأحجار . مهما كان موقفك من أفلامه فإنك لن تستطيع أبداً أن تتجاهل هذا الصوت الذى يهمس فى أذنك أثناء مشاهدة أفلامه الكبيرة :" يا إلهى .. من أين ينبع كل هذا السحر ؟!"
((هذا المقال أرسل خصيصا للنشر في "حياة في السينما" ولم يسبق نشره من قبل))
* لم تُدرس بالقدر الكافى تجربة يوسف شاهين بأن يخرج صوتاً متميزاً ومختلفاً من قلب سينما تجارية حتى النخاع . صحيح أنه اضطر – كما قال – أن يقدم أفلاما لأنه لم يكن فى منزله سوى علبة (تونة) ، ولكن حتى هذه الأفلام مثل الكوميديا الجميلة( أنت حبيبى) ستجد فيها بصمة شاهين الخاصة واتقانه لكل مشهد مهما كان بسيطاً مع الولع بالإبتكار كلما كان ذلك متاحاً . لقد لعبت الصدفة دورها فى اخراج شاهين لبعض أفلامه الهامة مثل فيلمى (جميلة) و(الناصر صلاح الدين) ، وأنتجت له مؤسسة السينما رائعته (الأرض)، ولكنه أيضا قرر الإستمرار بوسائل مختلفة ولم يستسلم أبدا مثل زميله الكبير توفيق صالح. هرب شاهين الى لبنان ليخرج فيلما جيدا لفيروز هو( بيّاع الخواتم )، ثم فيلماً لم يكن راضيا عنه هو( رمال من ذهب )، ولكنه اكتشف مبكرا أن عليه أن يعود ، وأن على المخرج فى دول العالم الثالث ألا يكون صاحب موهبة ورؤية فقط بل يجب عليه أيضا أن يكون مقاتلاً ، ولولا تجربة شاهين فى الانتاج المشترك من خلا ل شركته الخاصة مع الجزائر ثم مع فرنسا لجلس فى منزله، أو لانتهى مثل بركات القدير الذى اضطرّ لإخراج أشياء مثل( بنت اسمها محمود) و(العسكرى شبراوى)، أو ربما مات محسوراً مثل شادى عبد السلام الذى حاول تنفيذ( إخناتون ) دون جدوى .
تجربة شاهين ليست ابداعية فقط ولكنها إنسانية واقتصادية وتجارية . يقول عنه منتجه وابن شقيقته جابى خورى ان شاهين مخرج غير مكلّف لأنه يعرف بالضبط ماذا يفعل وماذا يريد ، ولأنه يقوم بالتحضير طويلاً قبل التصوير ، ويقول جابى أيضا أنه لولم تكن أفلام شاهين تغطى تكاليفها لما استمر طوال هذه السنوات . كان شاهين مدركا ًطول الوقت – وهذا الأمر من أهم دروس تجربته – أنه يقدم إبداعه من خلال صناعة وتجارة وليس من خلال ورقة وقلم أو ريشة وفرشاة و(باليتة) ألوان !
* لدىّ أسئلة كثيرة يمكن أن تكون موضوعات للحوار حول عالم (شاهين ):كيف استفاد مثلا من التأثر المزدوج بالسينما الأمريكية والسينما الأوربية معاً على اختلافهما ؟ كيف تطوّرت رؤيته السياسية من الستينات الى التسعينات الى الألفية الثالثة من بصمة عبد الرحمن الشرقاوى الى رؤية لطفى الخولى وصلاح جاهين وحتى مرحلة خالد يوسف الأخيرة ؟ ما مدى تأثير الإسكندرية على أفلامه بروحها المتسامحة حتى تلك الأفلام التى لا تظهر فيها المدينة العظيمة ؟ ما مدى تأثيره فى أفلام مساعديه وتلآميذه على اختلاف اتجاهاتهم ؟ وماذا عن إسهاماته وإضافاته للفيلم التسجيلى الذى يُنظر له أحياناً على أنه ابداع من الدرجة الثانية ؟! كيف نجح شاهين فى ترجمة حبه للموسقى والغناء فى أفلامه على اختلاف مستوياتها وتصنيفاتها؟
سينما شاهين مثل المحيط الواسع الذي يستوعب محاولات كثيرة للغوص والإبحار وحتى إلقاء الأحجار . مهما كان موقفك من أفلامه فإنك لن تستطيع أبداً أن تتجاهل هذا الصوت الذى يهمس فى أذنك أثناء مشاهدة أفلامه الكبيرة :" يا إلهى .. من أين ينبع كل هذا السحر ؟!"
((هذا المقال أرسل خصيصا للنشر في "حياة في السينما" ولم يسبق نشره من قبل))
1 comments:
ينسى الكثيرون أن أفلام شاهين تتمتع بحس فكاهي، فهناك مشاهد في ثلاثيت الإسكندرية مضحكة جداً...
إرسال تعليق