منذ أن بدأ الممثل الياباني تاكيشي كيتانو إخراج الأفلام في أواخر الثمانينيات، وأنا أتابعه بقدر ما أستطيع، وفي معظم الأحيان، بقدر ما أطيق، فأفلامه تمتليء بالكثير من العنف والدماء وتمزيق الأوصال وغير ذلك من المشاهد البشعة التي تقشعر لها الأبدان.
وقد أخرج كيتانو حتى الآن 16 فيلما، منها أفلام تركز على عالم الياكوزا، أي المافيا اليابانية، وصراعاتها مع غيرها من عصابات الجريمة المنظمة. ويقوم كيتانو نفسه عاد، بدور البطولة في مثل هذا الأفلام، ويحاول أن يصنع لنفسه شخصية مميزة، للبطل البارد، قليل الكلام، الذي تبدو في عينيه بعض البراءة الطفولية، إلا أنها نظرات تخفي ميلا ساديا للعنف.
ورغم كل ما يكمن من عبثية في أفلام تاكيشي كيتانو، أقصد عبثية، ليس بالمعنى الفلسفي، بل بمعنى أنها لا تقول شيئا، ولا تخفي أشياء وراء تلك الصورة التي يقدمها لعالم الياكوزا، مما يمكن أن تعكس لنا "فلسفة" خاصة، أو رؤية ما للعالم، كما كانت حالة مخرج مثل سام بكنباه مثلا في السينما الأمريكية، بل إن العنف عند كيتانو، هو عنف مجاني، يجعل منه شيئا شديد الصدمة للعين، حتى المدربة منها، كما يجعله في الوقت نفسه، "كرتونيا" أي مبالغا فيه للغاية، بحيث يصبح عند التلقي "غير واقعي" بل ويثير ضحكات السعادة والمتعة عند معظم مشاهدي أفلامه. ويجب أن نعلم أن له عشاقا كثيرين عبر العالم، بل ومن بين نقاد السينما المتخصصين والصحافة السينمائية، في المهرجانات السينمائية التي ترحب بعرض أفلامه بل وعرضها أيضا داخل مسابقتها الرئيسية التي يتبارى فيها عادة عدد محدود من بين أفلام العالم، للحصول على جائزة أو أخرى، وإن لم يكن، فلعل المشاركة في المسابقة، كما في حالة مهرجان كان مثلا، تعد شرفا في حد ذاتها للفيلم المشارك، الذي يكون قد وقع الاختيار عليه من بين مئات الأفلام التي تقدمت.
وهنا تحديدا تكمن مشكلة مهرجان كان، الذي أتى بالفيلم الأحدث لتاكيشي كيتانو، وهو فيلم "غضب" Outrage لعرضه داخل مسابقة كانت أصلا تعاني من قلة توفر الأفلام التي تصلح للتسابق، ولكي تكون واجهة مميزة لسينما العالم في 2010، خصوصا وأن المهرجان كافح لكي يصل بعدد أفلام المسابقة في النهاية إلى 19 فيلما، وهو عدد قليل مقارنة مع السنوات العشر الأخيرة مثلا.
وقد شاهدنا الفيلم، وجاء كما هو متوقع، كعمل يلهو بالعنف، ويتفنن مخرجه (الذي بدا أصلا كممثل، شارك في 47 فيلما حتى الآن، وكان قد لفت أنظارنا بقوة في "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس" للمخرج الكبير ناجيزا أوشيما عام 1982).
أما هنا فكيتانو الذي يقوم ببطولة فيلمه كالعادة، يبتكر فقط في تصوير مشاهد التنكيل بخصومه، من مشاهد قطع الأصابع التي تتناثر في صحن من صحون حساء الخضراوات الذي يقدمه الخادم في المطعم إلى الزبون الذي طلبه، إلى شق فم أحد الخصوم بشفرة حادة مما يؤدي إلى النزيف الشديد، إلى تصويب المسدسات فوق الرأس مباشرة ثم تفجيرها، إلى ربط رجل بحبل بينما هو داخل سيارة ثم تحريك اسيارة بحيث يشنق، إلى القتل الجماعي لعشرات الأشخاص بالرصاص، إلى استخدام منشار كهربائي لنشر جمجمة رجل حي، وغير ذلك الكثير جدا من المشاهد التي لا تكافي أبدا بالإيحاء، بل تصور التفاصيل الدقيقة لعمليات القتل والإعدام الجماعي وما بعدها أيضا، أي ترك على الدماء والإصابات التي ألمت بالأجساد، كما لو كانت تريد أن تجعل من العنف، سيمفونية خاصة للمتعة، أي أن تحوله إلى شيء تألفه العين البشري بل ويمكن أيضا أن يصبح أداة للاستمتاع الخاص.
والغريب الذي أدهشني كثيرا، أن القاعة التي عرض بها الفيلم امتلأت عن آخرها بالصحفيين، الذين اصطفوا في صف طويل ممتد قبل عرض الفيلم بنحو 45 دقيقة، وهو أولا من أطول الصفوف التي وقف فيها في كان حتى الآن على أي فيلم.
ثانيا: أدهشني أن عددا قليلا جدا، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة (هذا إذا لم تكن قد قطعت في خضم تيار العنف الدموي في الفيلم!) قد غادر القاعة أثناء عرض الفيلم، في حين أن عشرات الصحفيين أحيانا ما يغادرون أثناء عرض أفلام أقل من هذا الفيلم كثيرا في مجانيتها واستخفافها بالعقول. أخيرا، مما يثير فضولي بشدة وأنا أشاهد أفلام تاكيشي كيتانو، تلك المتعة الشديدة التي تسيطر على المشاهدين، حتى من النقاد والصحفيين، وهي متعة تجعلهم يضحكون بسعادة بالغة في مشاهد العنف والإغراق في سفك الدماء، ولا أعرف ما إذا كان هؤا الضحك لأنهم يعتبرون ما يشاهدونه نوعا من الكوميديا (وهو ما لا أجده كذلك أبدا!) أم أنهم يحاولون إخفاء مشاعرهم الحقيقي عن طريق الضحك..
أيا كان الأمر، أعتقد أن هذه الجوانب كلها تعكس بلوغ ظاهرة "تاكيشي كيتانو" في الغرب، حدا مرعبا بالفعل!
يحضرني في هذا المجال قول معروف لمنتج انجليزي لأفلام دراكولا.. مصاص الدماء في الماضي. هذا القول يتلخص في أنهم في شركته، كانوا عادة يصنعون ثلاث نسخ من أفلام دراكولا. النسخة الموجهة للجمهور البريطاني كان يكفي فيها أن يضع البطل الخنجر على صدر دراكولا النائم في تابوته، ثم يرفع المطرقة تأهب لأن يطرق فوق الخنجر للقضاء على الوحش الأسطوري قضاء مبرما.
وفي النسخة الثانية الموجهة للجمهور الأمريكي، كان يجب أن نرى البطل وهو يهوي بالمطرقة فوق الخنجر.
أما في النسخة الثالثة الموجهة للجمهور الياباني، فكان يجب أن تتفجر الدماء في بحر هائل بحيث تغرق الشاشة تماما!
وقد أخرج كيتانو حتى الآن 16 فيلما، منها أفلام تركز على عالم الياكوزا، أي المافيا اليابانية، وصراعاتها مع غيرها من عصابات الجريمة المنظمة. ويقوم كيتانو نفسه عاد، بدور البطولة في مثل هذا الأفلام، ويحاول أن يصنع لنفسه شخصية مميزة، للبطل البارد، قليل الكلام، الذي تبدو في عينيه بعض البراءة الطفولية، إلا أنها نظرات تخفي ميلا ساديا للعنف.
ورغم كل ما يكمن من عبثية في أفلام تاكيشي كيتانو، أقصد عبثية، ليس بالمعنى الفلسفي، بل بمعنى أنها لا تقول شيئا، ولا تخفي أشياء وراء تلك الصورة التي يقدمها لعالم الياكوزا، مما يمكن أن تعكس لنا "فلسفة" خاصة، أو رؤية ما للعالم، كما كانت حالة مخرج مثل سام بكنباه مثلا في السينما الأمريكية، بل إن العنف عند كيتانو، هو عنف مجاني، يجعل منه شيئا شديد الصدمة للعين، حتى المدربة منها، كما يجعله في الوقت نفسه، "كرتونيا" أي مبالغا فيه للغاية، بحيث يصبح عند التلقي "غير واقعي" بل ويثير ضحكات السعادة والمتعة عند معظم مشاهدي أفلامه. ويجب أن نعلم أن له عشاقا كثيرين عبر العالم، بل ومن بين نقاد السينما المتخصصين والصحافة السينمائية، في المهرجانات السينمائية التي ترحب بعرض أفلامه بل وعرضها أيضا داخل مسابقتها الرئيسية التي يتبارى فيها عادة عدد محدود من بين أفلام العالم، للحصول على جائزة أو أخرى، وإن لم يكن، فلعل المشاركة في المسابقة، كما في حالة مهرجان كان مثلا، تعد شرفا في حد ذاتها للفيلم المشارك، الذي يكون قد وقع الاختيار عليه من بين مئات الأفلام التي تقدمت.
وهنا تحديدا تكمن مشكلة مهرجان كان، الذي أتى بالفيلم الأحدث لتاكيشي كيتانو، وهو فيلم "غضب" Outrage لعرضه داخل مسابقة كانت أصلا تعاني من قلة توفر الأفلام التي تصلح للتسابق، ولكي تكون واجهة مميزة لسينما العالم في 2010، خصوصا وأن المهرجان كافح لكي يصل بعدد أفلام المسابقة في النهاية إلى 19 فيلما، وهو عدد قليل مقارنة مع السنوات العشر الأخيرة مثلا.
وقد شاهدنا الفيلم، وجاء كما هو متوقع، كعمل يلهو بالعنف، ويتفنن مخرجه (الذي بدا أصلا كممثل، شارك في 47 فيلما حتى الآن، وكان قد لفت أنظارنا بقوة في "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس" للمخرج الكبير ناجيزا أوشيما عام 1982).
أما هنا فكيتانو الذي يقوم ببطولة فيلمه كالعادة، يبتكر فقط في تصوير مشاهد التنكيل بخصومه، من مشاهد قطع الأصابع التي تتناثر في صحن من صحون حساء الخضراوات الذي يقدمه الخادم في المطعم إلى الزبون الذي طلبه، إلى شق فم أحد الخصوم بشفرة حادة مما يؤدي إلى النزيف الشديد، إلى تصويب المسدسات فوق الرأس مباشرة ثم تفجيرها، إلى ربط رجل بحبل بينما هو داخل سيارة ثم تحريك اسيارة بحيث يشنق، إلى القتل الجماعي لعشرات الأشخاص بالرصاص، إلى استخدام منشار كهربائي لنشر جمجمة رجل حي، وغير ذلك الكثير جدا من المشاهد التي لا تكافي أبدا بالإيحاء، بل تصور التفاصيل الدقيقة لعمليات القتل والإعدام الجماعي وما بعدها أيضا، أي ترك على الدماء والإصابات التي ألمت بالأجساد، كما لو كانت تريد أن تجعل من العنف، سيمفونية خاصة للمتعة، أي أن تحوله إلى شيء تألفه العين البشري بل ويمكن أيضا أن يصبح أداة للاستمتاع الخاص.
والغريب الذي أدهشني كثيرا، أن القاعة التي عرض بها الفيلم امتلأت عن آخرها بالصحفيين، الذين اصطفوا في صف طويل ممتد قبل عرض الفيلم بنحو 45 دقيقة، وهو أولا من أطول الصفوف التي وقف فيها في كان حتى الآن على أي فيلم.
ثانيا: أدهشني أن عددا قليلا جدا، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة (هذا إذا لم تكن قد قطعت في خضم تيار العنف الدموي في الفيلم!) قد غادر القاعة أثناء عرض الفيلم، في حين أن عشرات الصحفيين أحيانا ما يغادرون أثناء عرض أفلام أقل من هذا الفيلم كثيرا في مجانيتها واستخفافها بالعقول. أخيرا، مما يثير فضولي بشدة وأنا أشاهد أفلام تاكيشي كيتانو، تلك المتعة الشديدة التي تسيطر على المشاهدين، حتى من النقاد والصحفيين، وهي متعة تجعلهم يضحكون بسعادة بالغة في مشاهد العنف والإغراق في سفك الدماء، ولا أعرف ما إذا كان هؤا الضحك لأنهم يعتبرون ما يشاهدونه نوعا من الكوميديا (وهو ما لا أجده كذلك أبدا!) أم أنهم يحاولون إخفاء مشاعرهم الحقيقي عن طريق الضحك..
أيا كان الأمر، أعتقد أن هذه الجوانب كلها تعكس بلوغ ظاهرة "تاكيشي كيتانو" في الغرب، حدا مرعبا بالفعل!
يحضرني في هذا المجال قول معروف لمنتج انجليزي لأفلام دراكولا.. مصاص الدماء في الماضي. هذا القول يتلخص في أنهم في شركته، كانوا عادة يصنعون ثلاث نسخ من أفلام دراكولا. النسخة الموجهة للجمهور البريطاني كان يكفي فيها أن يضع البطل الخنجر على صدر دراكولا النائم في تابوته، ثم يرفع المطرقة تأهب لأن يطرق فوق الخنجر للقضاء على الوحش الأسطوري قضاء مبرما.
وفي النسخة الثانية الموجهة للجمهور الأمريكي، كان يجب أن نرى البطل وهو يهوي بالمطرقة فوق الخنجر.
أما في النسخة الثالثة الموجهة للجمهور الياباني، فكان يجب أن تتفجر الدماء في بحر هائل بحيث تغرق الشاشة تماما!
1 comments:
تعليقات عامة : فيما يتعلق بالفيلم اليابانى أدهشنى جدا أن جمهور كان يضحك على مشاهد العنف . هذا بالتأكيد أغرب رد فعل على هذه النوعية من الأفلام .
فيما يتعلق بغياب السينما المصرية فى كان أؤكد لك أنها غائبة ايضا فى القاهرة ، فالأفلام الجديدة تعرض بالقطارة ، وربنا يستر على هذا الموسم .
وفيما يتعلق بلقطة التصادم مع سكورسييزى كنت أفضل أن تحل محله مونيكا بيللوتشى إن وجدت فى المهرجان ، ربما يتحقق ذلك فى الأيام القادمة !
محمود عبد الشكور
إرسال تعليق