أما اليوم فقد كان بحق يوم إبن آوى، أو كارلوس الذي طبقت شهرته الآفاق خلال السبيعينات والثمانينيات، وهو يعرف نفسه باعتباره مناضلا ضد الإمبريالية بينما تعتبره أجهزة الاستخبارات الغربية قائدا من قاد الإرهاب الدولي.
عرض أخيرا فيلم "كارلوس" للمخرج الفرنسي أوليفييه أسايس، المصور للتليفزيون في خمس ساعات و33 دقيقة على ثلاثة أجزاء، واستراحة قصيرة بين الجزئين الأول، والثاني من ناحية، والثالث من ناحية أخرى. وامتلأت قاعة لوميير، أكبر قاعات المهرجان بالجمهور رغم الطول المفرط للفيلم بسبب ما أحاط به من دعاية، وما يحيط شخصية كارلوس نفسها في فرنسا، من هالة خاصة، ومشاعر متضاربة تتراوح بين الإعجاب، والكراهية الشديدة. وقد رأيت بنفسي رجلا إلى جواري يهتف بعد انتهاء الجزء اأول من الفيلم "فيفا كارلوس"!
طبعا هذا العمل الطويل (المصنوع على غرار فيلم "تشى" عن جيفارا لستيفن سودربرج)، يسعى إلى تقديم كارلوس الإرهابي الذي يتميز بشجاعة نادرة، وقوة إرادة، وقدرة تنظيمية عالية جعلته يتمكن من القيام بعمليات كبيرة، وينجح في النجاة بجلده في كل مرة، رغم خطورة ما قام به.
ويتوقف الفيلم تفصيلا أمام اعداد وتنفيذ عملية اقتحام اجتماع وزراء البترول في دول الأوبك الشهير في فيينا في ديسمبر 1975 واختطاف الوزراء وعلى رأسهم وزير البترول السعودي الشيخ أحمد زكي اليماني. ولكن الفيلم أولا يعيبه الإيقاع البطيء جدا، والاستغراق في تفاصيل كثيرة ثانوية لا تضيف شيئا إلى الحبكة بل تساهم في تبريد الأحداث وتخل بالتوازن، كما في التفاصيل الخاصة مثلا بعملية إقلاع الطائرة ثم هبوطها في الجزائر وما نتج من مفاوضات، والرغبة في التوجه إلى ليبيا ورفض السلطات الليبية ثم العودة للجزائر.. إلخ
ويعاني الجزء الثاني من الفيلم تحديدا من تشتت الإيقاع، وتكاثر التفاصيل، وعدم القدرة على السيطرة على الشخصيات، فأصبحت هناك شخصيات تخرج فجأة، وشخصيات أخرى تدخل دون تمهيد كاف، مما أدى إلى ارتباك الفيلم.
مشكلة هذا النوع من الأفلام الأساسية أيضا أنه يحاول إضافة الكثير من التوابل والمبالغات والاختراعات الإضافية التي يمكن أن تضفي نكهة من الإثارة على الحبكة الدلارامية على حساب الحقيقة والتاريخ، وهو ما جعل كارلوس نفسه يحتج على الفيلم بل ويرفع الأمر عن طريق محاميته (وهي في الوقت نفسه زوجته) إلى القضاء الفرنسي.
ومن ناحية أخرى كيف يمكن أن تصنع فيلما تاريخيا عن شخصية "تاريخية" مع الإخلال بالدقة التاريخية، أي بما يتعارض مع حقيقة ما حدث في الواقع.
كارلوس مثلا قاد الهجوم على مقر الأوبك الشهير في فيينا في ديسمبر 1975، حيث احتجز ورفاقه المسلحين 11 وزيرا من وزراء البترول في دول الأوبك على رأسهم الشيخ أحمد زكي اليماني وزير البترول السعودي وقتها ومعهم أكثر من 50 رهينة أخرى، بدعم وتحريض من ليبيا، وليس العراق، ولم يكن صدام حسين حتى قد انفرد بالسلطة بعد، بينما يشير الفيلم ويؤكد في العديد من مشاهده على أن المخابرات العراقية، بتعليمات من صدام، كانت هي التي مولت وخططت لعملية أوبك.
ويقول الفيلم إن طائرة كارلوس (اتي حصل عليها من النمساويين) أقلعت من الجزائر إلى ليبيا لكن السلطات الليبية لم تسمح لها بالهبوط مما أدى إلى عودتها إلى الجزائر، وهو ما لم يحدث، والصحيح أن الطائرة هبطت أولا في ليبيا ثم عاد إلى الجزائر لكي يتم استبدالها بطائر أخرى من نوع بوينج يمكنها التوجه إلى بغداد. ولكن الفيلم يحال إبعاد أي شبهة عن الليبيين، وإلصاقها بصدام حسين.
ويصور الفيلم كارلوس كرجل طامع في المال وأنه حصل على عشرين مليون دولار من السعودية مقابل إطلاق سراح اليماني وغيره من وزراء أوبك، بينما لم تحدث صفقة من هذا النوع أصلا بل أفرج كارلوس مضطرا عن الرهائن بعد أن أدرك فشل العملية وأن السلطات الجزائرية ستقتحمها كما أبلغ ارئيس بومدين.
كارلوس الحقيقي في المحكمة
الحقيقة التاريخية أيضا تشير إلى أن رجال المخابرات الفرنسية الثلاثة الذين طرقوا باب شقة كان يقيم فيها كارلوس في الحي اللاتيني في باريس أثناء اندماجهم في الغناء اللاتيني، وكان معهم الشخص اللبناني الذي أرشد عنه ففتح كارلوس الباب بنفسه، فلما طلبوا منه الاطلاع على جواز سفره، اختفى في الداخل وعاد بعد دقيقتين وهو يحل رشاشا وأخذ يطلق الرصاص فقتل ثلاثة منهم وجرح الرابع، ثم هرب على الفور.
أما في الفيلم فقد تحول المشهد إلى نحو نصف ساعة من التفاصيل والحوارات المملة التي لا طائل من وراءها في غرف الاستقبال بالشقة، وذهب أحد الضباط للإتيان بأندريه اللبناني، وقدم كارلوس كأسا من الويسكي للضابط الذي بقى مع كارلوس وأصدقائه الثوريين، ثم المواجهة بين أندريه اللبناني وكارلوس، وإنكار كارلوس معرفته به، ثم ذهابه للمطبخ وعودته وهو يحمل مسدسا وإطلاقه النار على الجميع، فقتل الأربعة، ثم عاد لكي يتأكد أنه قتل أندريه بأن أطلق رصاصة ثانية على رأسه.
ويختلق الفيلم مشهدا نرى فيه أندروبوف مدير المخابرات السوفيتية، يجتمع في بغداد، بحضور مسؤولين في المخابرات العراقية، مع كارلوس ويطلب منهم بشكل مباشر الانتقام من الرئيس المصري أنور السادات بتصفيته جسديا، انتقاما منه لاتجاهه نحو "الإمبريالية الأمريكية" وإدارة ظهره للروس رغم ما حصل عليه منهم من مساعدات لبلاده، وهو حدث مختلق تماما، لا تشير أي مراجع إليه.
ويعزو الفيلم عملية اختطاف طائرة شركة العال الإسرائيلية واحتجاز ركابها رهائن في مطار عتيبة بأوغندا عام 1976 إلى التعاون بين مجموعة تابعة لكارلوس من الخلايا الثورية الألمانية، والفلسطينيين، في حين أن العملية لا تمت بأي صلة إلى كارلوس.
وبغض النظر عن دقة الأحداث التاريخية بين الفيلم والواقع، فقد تجاهل الفيلم تماما وضع الشخصية في إطار الفترة التاريخية وظروفها، وأدخل موضوع العداء للسامية بطريقة مقحمة، كما استخدم لقطة لياسر عرفات وهو يلقي خطابه اشهير في الأمم المتحدة الذي قال فيه "جئتكم أحمل في يدي اليمنى بندقية، وفي الثانية غصن زيتون، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي" لكن السياق الذي تستخدم فيه اللقطة يجعلها تبدو كما لو كانت تحمل تهديدا بدلا من الرجاء.
ويكاد دور المخابرات الإسرائيلية "الموساد" يغيب تماما عن الفيلم، رغم أنها هي التي وشت بكارلوس للمخابرات الفرنسية وتسببت في وقوع مأساة قتل ضابطين فرنسيين وإصابة الثالث بجروح. رغم أن ضباط الموساد كانوا يراقبون كل شيء وكانوا على مقربة من شقة كارلوس في تلك اللحظة تحديدا، كما هو ثابت من اعترافات ضباط الموساد فيما بعد في كتب منشورة منها "كل جاسوس أمير".
ومع ذلك يبقى من الفيلم محاولته الجادة التعامل مع تلك الشخصية "الأسطورية"، وتقديم معادل درامي لها لا تنقصه الجاذبية الشخصية بل والكاريزما التي لاشك انها كانت تميز كارلوس، عندما كان يتربع بثبات على عرش الإرهاب الثوري في العالم، قبل سقوط جدار برلين ثم الاتحاد السوفيتي، عندما أصبح يبيع مواهبه في التخطيط والعمليات العنيفة (كمرتزق)، لمن يدفع، فالتحق بخدمة المخابرات البلغارية والمجرية والالمانية الشرقية ثم السورية، وهو ما يرصده الجزء الثالث من الفيلم، ولكن دون أن يوضح لنا تماما، ما الذي قدمه للمخابرات السودانية في نهاية مشواره، لكي يحصل في البداية على حق اللجوء ويقيم هناك لسنوات قبل أن تسلمه السلطات السودانية للمخابرات الفرنسية في عملية أذهلت العالم عام 1994.
يبقى من الفيلم أيضا ذلك الأداء الممتاز من جانب الممثل الفنزويلي إدجار راميريز الذي يقوم ببراعة وإقناع، بأداء دور كارلوس. وتجدر الإشارة أخيرا إلى ظهور ستة أفلام سينمائية (منها فيلم وثائقي) عن كارلوس قبل فيلمنا الأخير هذا أو ثلاثية أوليفييه أسايس.
0 comments:
إرسال تعليق