‏إظهار الرسائل ذات التسميات آراء وتعليقات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات آراء وتعليقات. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 1 مارس 2020

مهرجان برلين السينمائي..التجديد ليس بتحريك الكراسي

 إدارة ثنائية بلا جديد يذكر

 يمكن القول تمخضت الإدارة الجديدة التي عيّنت العام الماضي لمهرجان برلين السينمائي فولدت فأرا كبيرا. فقد بدا أن نظرتها إلى التجديد تتعلّق بتحريك بعض الكراسي والجالسين عليها، وتحريك بعض الأماكن التي اعتاد السينمائيون والنقاد التعامل معها ونقلها من مكان إلى مكان آخر.
الإدارة الجديدة لمهرجان برلين السينمائي في دورته السبعين، والتي تنقسم حاليا بين مدير فني إيطالي، ومديرة إدارية هولندية المولد ألمانية الثقافة، تعتقد أن تقليل عدد الأفلام التي يعرضها المهرجان من حوالي 500 فيلم أو أكثر إلى ما يقرب من 400 فيلم، والإعلان عن إلغاء بعض الأقسام (رغم إضافة أقسام أخرى بديلة لها) سيصنع فارقا كبيرا يجعل المهرجان أقوى وأكثر صلابة والاختيارات السينمائية للأفلام أفضل وأكثر تعبيرا عن الحالة السينمائية الحالية في العالم.
لكن الحقيقة أن تقليل العدد اختيار أرغمت عليه الإدارة الجديدة بعد أن فقدت هذا العام موقعين رئيسيين لعرض الأفلام من ذوي الشاشات المتعددة، بسبب التجديدات، ممّا اضطرها مثلا إلى نقل عدد كبير من العروض الصحافية التي يحضرها أكثر من ثلاثة آلاف صحافي، إلى دار عرض بعيدة عن مكان إقامة المهرجان في القسم الشرقي من المدينة.

انحياز مضاد

أما الاختيارات الفنية نفسها، فهي الآن محلّ رصد وتقويم من جانب الصحافة الألمانية. وكانت مارييت ريسينبيك المديرة المسؤولة عن الجوانب الإدارية قد أعلنت أن الغالبية العظمى من مديري أقسام المهرجان أصبحوا الآن من النساء. وهو وما يعكس في الحقيقة انحيازا في الاتجاه المضاد، وليس رغبة في تحقيق المساواة.
أما المدير الفني كارلو شاتريان فقد أعلن أن الأفلام التي وقع عليها الاختيار للعرض في برامج المهرجان، ليست بالضرورة هي الأفلام المفضلة أو “أفضل الأفلام” بل الأفلام التي تعكس “الحالة السينمائية القائمة حاليا في سينما العالم”.
وهو زعم لا صلة له بالواقع، فليس من الممكن أن يُقدّم فيلمان من الأفلام التي سبق عرضهما في مهرجانات أخرى في العام الماضي، لتمثيل السينما الأميركية التي تعتبر الأهمّ في العالم والتي تتمتع بالحيوية والقدرة على التجديد وتزخر بعدد كبير من المخرجين الموهوبين.
فهل فشلت الإدارة الفنية في إقناع شركات التوزيع الأميركية بعرض أفلامها الجديدة في برلين؟ هذا السؤال يجب تقديم إجابة واضحة عنه. أما إذا كان الأمر كذلك فيجب معرفة أسباب إحجام الموزعين الأميركيين؟ وهل البديل للحضور الأميركي الذي يضمن أيضا حضور نجوم السينما الكبار إلى برلين، أن يدرج في المسابقة فيلم فرنسي محدود القيمة هو فيلم “ملح الدموع” لمجرد أن مخرجه هو فيليب غارديل المخضرم؟ وهو نفس ما يمكن أن يقال عن إشراك فيلم المخرج المخضرم الآخر أبيل فيرارا في المسابقة في حين كان يمكن عرضه للتعريف في قسم البانوراما بسبب طابعه التجريبي.
من ناحية أخرى بدا أن الخضوع للعامل السياسي في الحكم على الأمور ليس في صالح المهرجان. فكيف يمكن على سبيل المثال، شطب تاريخ رجل مثل ألفريد باور مؤسّس مهرجان برلين نفسه، بكل بساطة وإلغاء الجائزة التي كانت لسنوات طويلة، تمنح باسمه في المهرجان، خضوعا لابتزاز بعض الصحف التي أصبحت تشم رائحة النازية في كل ما يتعلق بالذين عاشوا قدرهم خلال الحقبة النازية.
والمؤسف أن القرار صدر من قبل التأكد من ضلوع الرجل في رسم أي سياسات تتعلّق بالنشاط الثقافي والفني تحت إدارة وزير الدعاية النازية جوزيف غوبلز. فقد أعلنت الإدارة أنها كلّفت باحثا تاريخيا بتحري تاريخ ألفريد باور وموافاتها بتقرير عنه سيستغرق إعداده ثلاثة أشهر.
وبعد أن كان الحضور العربي في مهرجان برلين قويّا وملموسا خلال السنوات الأخيرة، تم تهميش وجود الأفلام العربية والاكتفاء بعرض بعض الأفلام القصيرة والتجريبية التي لا تقدّم صورة حقيقية للنشاط السينمائي في العالم العربي، ولا لما يصنعه السينمائيون من أصول عربية في أوروبا.
ولكن في الوقت نفسه، يواصل مهرجان برلين اهتمامه الدائم بالسينما الإيرانية، ففي المسابقة الرسمية فيلم جديد للمخرج محمد رسولوف مع فيلمين آخرين في البرامج الموازية. وهو ما يشير أيضا إلى دافع سياسي محدّد وراء هذا الاهتمام، في سياق السياسة المعتدلة التي تتبعها ألمانيا عموما في ما يتعلق بموضوع الملف النووي الإيراني.
بشكل عام تبدو الدورة السبعون التي كان يفترض أن تكون احتفالية وتتميز كثيرا عن سابقاتها، دورة أقلّ من عادية بسبب الضعف العام لأفلام المسابقة التي تستقطب عادة الأضواء.
وكلّما ذهب المرء وهو يملؤه الأمل في العثور على التحفة السينمائية المنشودة يخيب أمله، فلا توجد في مهرجان برلين تحف سينمائية، رغم وجود عدد من الأفلام الجيدة والمتوسطة الجودة، مع تشابه كبير في المواضيع التي تدور معظمها حول المرأة، في عذابها بسبب علاقتها بالرجل، كما أن صورتها في هذه الأفلام صورة امرأة قوية، تمتلك الرغبة في الاستقلال والتحقّق بعيدا عن العلاقة مع الرجل.
ولعل أفضل ما عرض من أفلام حتى الآن في هذا السياق هو الفيلم الأميركي “ليس نادرا بل أحيانا دائما”، فهو عمل متماسك شديد البراعة والتأثير.
وحتى الآن يبرز أداء الممثلة الألمانية المخضرمة نينا هوس في فيلم “أختي الصغيرة” وهي الممثلة الأهمّ في السينما الألمانية عموما، وزميلتها الأصغر سنّا بولا بير في فيلم “أوندينه”.
أما الدور الأكثر بروزا للممثل الرجل في أفلام المهرجان حتى الآن فيرجع دون شك إلى أداء الممثل الإيطالي أليو جيرمانو في دور الرسام الإيطالي توني ليغاوبي في فيلم “مخبأ بعيدا”. والفيلم نفسه يظل أيضا أفضل ما شاهدناه. لكن لا يزال هناك ثمانية أفلام في المسابقة لم تعرض بعد. وبعدها يكون لكل حادث حديث!

العبقرية الألمانية ومهرجان برلين في زمن كورونا


يخطئ خطأ فادحا كل من يؤمن بما يسمى بـ”العبقرية الألمانية”. فمهرجان برلين السينمائي الذي ستفتتح دورته الجديدة الأسبوع المقبل، وهو مهرجان قديم أقيم لأول مرة عام 1951، قام قبل سنوات بإحلال اسم مضحك لا يفهمه سوى سكان المدينة محل اسمه التاريخي.
فبعد أن كان الاسم المعروف هو “مهرجان برلين السينمائي الدولي” أصبح يطلق على نفسه اسم “برليناله”، وهي كلمة غريبة وأنا شخصيا لم استخدمها ولا استخدمها أبدا في كتاباتي عن هذا المهرجان، فهو يبقى بالنسبة لي كما بالنسبة للغالبية العظمى من نقاد السينما في العالم “مهرجان برلين السينمائي”.
ولكن هناك من يستخدمها من الصحافيين العرب ربما تأثرا بما تنقله قناة “دويتش فيلله” الألمانية أو موقعها على شبكة الإنترنت باللغة العربية، وأشك كثيرا أن يفهم الكلمة القراء العرب بالطبع وأولهم حضرتي، بل ولا يهمني أن أفهمها أصلا، فالكلمة يجب أن تكون ذات معنى في سياق اللغة التي توجد فيها وإلاّ صارت مجرد لغو.
وقد اقتضى الأمر من المهرجان نفسه أكثر من عشرين عاما إلى حين أن أدرك القائمون عليه (هناك إدارة جديدة هذا العام) أنه لا يصح أن توجد أفلام في البرنامج يطلقون عليها “داخل المسابقة- خارج المسابقة” بدلا من “البرنامج الرسمي- خارج المسابقة” كما تفعل المهرجانات التي تدرك أهمية اللغة!
وربما أكون أنا الوحيد الذي أبدى اعتراضا من قبل على هذه المسألة وتحدثت فيها مع المسؤولين عن المكتب الصحافي، ولكن دون جدوى بالطبع، فالتغيير شبه مستحيل في ألمانيا والبيروقراطية أبشع كثيرا من البيروقراطية الإنجليزية، وكنت أتصوّر أن الألمان أقل تمسكا بالتقاليد القديمة مثل الإنجليز، ولكني اكتشفت أنهم يخضعون لها بشكل غريب حقا.
وعندما كنت أناقش مسألة التناقض في عبارة “في المسابقة- خارج المسابقة” مع بعض النقاد الأجانب الأقدم مني حضورا لهذا المهرجان، كانوا يتوقّفون ويفكّرون طويلا وكأنهم اكتشفوا فعلا أمرا غريبا للمرة الأولى لم ينتبهوا له من قبل. ولكنهم أيضا قالوا إنهم لا يفهمون معنى أن تكون هناك أفلاما في المسابقة ولكن خارج المسابقة. لكن الحمد لله أن بعض الألمان من المديرين الجدد، فهموا أخيرا هذا التناقض المحيّر الذي كان يؤدي إلى أخطاء كثيرة في التقارير التي تنشر عن مسابقة المهرجان.
مهرجانا كان والبندقية هما الأرقى في العالم، بسبب وضوح الأقسام وعددها وعدم تفرعها إلى تسميات من دون هدف
أما ما يبقى عصيا على الفهم فيما يتعلق بأسرار “العبقرية الألمانية” أنه بعد أن كان للمهرجان موقع على شبكة الإنترنت، جذّاب وجيّد التصميم ويسهل التعامل معه، ويتيح لنا الفرصة لخلق حساب يمكن من خلاله عمل “أجندة” خاصة للتعامل اليومي مع أفلام المهرجان وأحداثه وفعالياته، ويمكن للمرء ربطها بهاتفه المحمول لتسهيل الدخول إلى الموقع وتحديد ما يريد مشاهدته، قاموا هذا العام بإلغاء الموقع كله وإلغاء الأجندة وإلغاء إضافة الأفلام إلى جدولك الخاص بعد أن أنشأوا موقعا جديدا أقل جاذبية وفعالية من الموقع القديم. ومرة أخرى وقفت أتساءل عن كيف تعمل هذه “العبقرية”!.
ولا يقتصر الأمر على هذا فقط، بل إنك إن أردت مثلا أن تعثر على قائمة أفلام المسابقة التي أعلن عنها بالفعل، داخل موقع المهرجان ودخلت على قسم بعنوان “المسابقة الرسمية” لن تجد سوى تعريف بالمسابقة وجوائزها وتاريخها، لكنك لن تجد قائمة الأفلام المتسابقة هذا العام. وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الأقسام.
العبقرية الألمانية أيضا ابتكرت أقساما فارغة المعنى مثل: الملتقى، الملتقى الممتد أو امتداد الملتقى، جيل، جيل 14.. وأقساما عديدة أخرى مربكة ومحيرة تماما، مع أعداد هائلة من الأفلام. لذلك يظل مهرجانا كان وفينيسيا هما الأفضل والأرقى في العالم في رأيي الشخصي، بسبب دقة التقسيم (ولننس الآن مسألة التنظيم فهو مفروغ منه في المهرجانات الأوروبية بوجه عام)، أي وضوح الأقسام وعددها وعدم تفرعها إلى أقسام من داخل أقسام وتسميات من داخل تسميات دون هدف أو معنى.
أما أكثر الأمور مدعاة -لا للضحك- بل للاستياء الشديد، فهو ما أعلنه المسؤولون عن المهرجان أخيرا من أنه من أجل مكافحة انتشار وباء كورونا سيقومون بوضع علب تحوي مادة مطهرة في أماكن مختلفة من المهرجان. أما الوافدون والضيوف القادمون من الصين فسيوزعون عليهم بعض الإرشادات في المطار. وبالتالي أصبح وجودك داخل قاعات العرض التي تمتلئ عن آخرها بالمشاهدين، وكثيرون منهم من لا يتوقفون عن السعال والعطس.. الخ، مسـألة محفوفة بأشد المخاطر حقا.
وكنت أتوقع أن تكون إجراءات التأمين على القادمين من الصين مثلا، وغيرها من المناطق الموبوءة أشد حزما وصرامة. لكن “العبقرية الألمانية” ستظل تدهشك!
هل كان الأفضل مثلا أن يقوم مسؤولو المهرجان بتوزيع كمامات على المشاهدين بحيث تصبح العروض السينمائية الحديثة في واحد من أكبر مهرجانات الأفلام السينمائية من حيث عدد الأفلام وعدد الجمهور، عروضا بكمامات؟!
لا أعرف. سأكون في المهرجان لأكتب لـ”العرب” من هناك عن كل ما أراه من أفلام جديرة بالاهتمام، وكذلك عن كيفية تعامل “العبقرية الألمانية” مع هذه الظواهر الجديدة، كما سأراعي الابتعاد بقدر ما أستطيع، عن الذين يسعلون ويعطسون خلال العروض السينمائية. ولله الأمر من قبل ومن بعد!

السبت، 2 يونيو 2018

الثقافة العربية لا تعترف بالسينما





كان اعتقادي دائما، منذ أن بدأت الكتابة، أن السينما فن "عير معترف به" في العالم العربي. وهو اعتقاد لايزال قائما حتى يومنا هذا. وعندما أقول أنه "غير معترف به" فالمقصود أنه لا يعد جزءا من "الثقافة العربية"، على الرغم من وجود أعداد متزايدة باستمرار من دارسي السينما في عدد محدود من مدارس السينما، وظهور العشرات من ورش العمل السينمائي، بل وإقامة عدد من المهرجانات السينمائية المحلية والدولية.

إن كل هذه "الكيانات" لا تعني أن هناك "إعترافا" بالسينما كفن مستقل قائم بذاته، وكجزء أساسي من الثقافة العربية، ثقافة المجتمع والناس والمؤسسات العلمية والتعليمية بل والدينية أيضا، فوجود "أفلام" تنتج- سواء بالجهود المحلية وتتوجه أساسا للسوق الداخلية، كما في الحالة المصرية، وهي الوحيدة التي يمكن الحديث عن "صناعة سينمائية" لديها، أو من خلال التمويل الأوروبي والإنتاج المشترك كما في حالة المغرب العربي ولبنان وفلسطين وغيرها من التجارب التي لم تؤسس بعد لـ "صناعة"، وتتوجه أفلامها عادة إلى المهرجانات العالمية وبعضها قد يجد طريقه للعرض في قنوات التليفزيون الفرنسية مثلا، لا يعني اعترافا مجتمعيا ومؤسساتيا بالسينما كفن.
المقصود بـ"الثقافة العربية" الأفكار المستقرة الراسخة لدى المؤسسات التعليمية والدينية والسياسية والاجتماعية عن السينما، فهي ما زالت تنظر بتوجس إلى "ثقافة الصورة"، فقد ترسخ في العقل الجمعي أن "ثقافة الكلمة" أعلى مرتبة من ثقافة الصورة، بل إن الصورة أي السينما وأخواتها، عند الكثيرين وقد تفرقت دماؤها، بين أجهزة الإعلام، والتصوير الفوتوغرافي والصحفي والتليفزيوني الإخباري، والرسم الذي يعد فنا للنخبة، والفيديو ميوزيك الذي لا يلقى أصلا أي نظرة جدية في التعامل معه، بسبب شيوعه فيما يطلق عليه "الفيديو كليب" أو الأغاني المصورة الراقصة ذات المناظر المثيرة. بل ويمكنني أيضا القول إن الصورة ربما تنحصر عند كثيرين من أصحاب الميول "العملية" أيضا في تلك الصور التي تقوم بتسجيلها كاميرات المراقبة الليلية، لحساب أجهزة الأمن.
الاعتقاد السائد أن السينما ليست فنا، بل وسيلة من وسائل التسلية، أي أقرب إلى الكباريه، وهي ترتبط في أذهان معظم القائمين على المؤسسات الثقافية من حملة الدكتوراه، بالرقص والغناء والمغامرات والتهريج، ومازالت هناك "فتاوى" تحرم السينما، استنادا الى تصور خاطئ بأن الصورة يمكن أن تكذب،  دون النظر إلى ما تردده "الكلمة" يوميا من أكاذيب!
ومن دلائل غياب الاعتراف بالسينما كفن جاد، عزلة النقد السينمائي، والنظرة المتدنية إليه من قبل المؤسسات الثقافية حتى التقدمية منها في العالم العربي، التي تعترف بكل أنواع الفنون والآداب، باستثناء السينما، فالنقد العلمي لقضايا السينما الفكرية والجمالية والدراسات التي تؤصل لهذا الفن، وتبحث في تاريخ تطوره وتطور نظرياته الجمالية، غائب حتى الآن عن الدراسات الأكاديمية في الجامعات العربية ناهيك عن نظم التدريس في المدارس العامة. ولذلك تغيب تماما عن دراسي الأدب مثلا، كيفية قراءة فيلم، أو فهم جماليات الصورة، ومازال حتى استقبال الأفلام يحدث على مستوى بدائي، أي يقرأ الفيلم كقصة ذات مغزى أخلاقي أو اجتماعي.
وتخصص المؤسسات الثقافية العربية جوائز في كل فروع المعرفة، باستثناء النقد السينمائي، الذي ينظر إليه بتعالٍ، ويُستبعد من دائرة الأدب والفكر، رغم وجود الكثير من الاجتهادات البارزة في هذا المجال، بل إن مهرجانات السينما التي تقام في العالم العربي وتخصص جوائز مالية كبيرة لكل أنواع الأفلام، لا تخصص جائزة واحدة للنقد السينمائي. وتعتبر مؤسسات الفكر ونشر الثقافة العربية نقد القصة القصيرة أهم من نقد الأفلام الطويلة، التي تؤثر في ملايين البشر. ومن دون الصحافة العامة التي يخصص القليل منها مساحات محدودة للنقد السينمائي، وإصرار قلة من النقاد على مواصلة النقد، يموت النقد في العالم العربي ويتلاشى. وهي محنة ما بعدها محنة!

الخميس، 4 يناير 2018

السينما في السعودية.. يامرحبا






السينما ستعود الى المملكة العربية السعودية. هذا خبر رائع، ومناسبة للاحتفال ليس فقط لأهميتها التي تشي بالاهتمام الكبير الذي يوليه الحكم السعودي في نهجه الجديد متمثلا فيما يقوم به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تجاه إعادة الاعتبار للفنون بأنواعها المختلفة: الموسيقى والغناء والفن التشكيلي والمسرح والسينما، بل لأنها خطوة واسعة في طريق تحرير السعودية من هيمنة الأفكار التقليدية الجامدة التي تعادي العصر وترفض الحداثة وتعتبرها رجزا من عمل الشيطان، في حين أن العالم كله يسير إلى الأمام متشحا بالحداثة منذ قرون!
قنوات المرتزقة من أتباع جماعة الإخوان المسلمين وأشباههم، تشن حملة ضارية على المملكة العربية السعودية وعلى الأمير محمد بن سلمان شخصيا، وينعق هؤلاء جميعا بالقول إن السماح بدخول السينما الى المملكة هو اهدار وتفريط في القيم الاسلامية، وهم بهذا يكشفون عن وجههم القبيح المعادي للفنون في حين أن زعماءهم الذين كانوا قد وصلوا في غفوة من الزمن والتاريخ الى السلطة في مصر، كانوا يزعمون أنهم ليسوا ضد السينما، ولا ضد الفن بشكل عام، ولكن فقط ضد الابتذال الفني أو استخدام الفن في الترويج للإثارة والعري. ولا يخالجنا أي شك في أن هذه لم تكن أكثر من مجرد مزاعم لحين الوصول إلى الى السلطة والتمكن منها، ثم بعدها يأتي المنع والحجب والشطب والاستبعاد والعقاب بدعوى مخالفة الفنون - خاصة فنون الصورة- للشريعة الإسلامية.
إن ما يتقول به مرتزقة قنوات الإخوان وأعوانهم من جماعات التكفير والإرهاب، الذين يصرخون صرخة كاذبة اليوم "واسلاماه"، لا يعرفون أن الإسلام ظل قائما في بلاد العرب منذ مئات السنين، لم يهتز ولم يتراجع ولم يشهد أي تهديد، إلا بعد أن سيطرت تلك الطغمة على الشارع وفرضت مفاهيمها الجامدة المتخلفة على الجميع قسرا وتخويفا وإرهابا، الأمر الذي دفع أعدادا كبيرة من الشباب إلى التشكك بعد انتشار تلك الدعاوى التي تتستر بالدين لمحاربة الفنون العصرية التي يعشقها الشباب في العالم الإسلامي وغير الإسلامي. ولم يعد ممكنا اليوم تجاهل الشباب وإغلاق الأبواب في وجهه، لا في السعودية ولا في غيرها، بعد أن أصبحت السماوات مفتوحة على بعضها البعض، ولم يعد في الامكان إبقاء الأبواب موصدة أكثر من ذلك وإلا لأصبح الأمر مهددا بالانفجار.
يزعم أعوان وأزلام الاخوان أن السينما لم يكن لها وجود يوما في السعودية، وأن القرار الجديد القاضي بالسماح بانشاء وافتتاح دور عرض سينمائي في السعودية هو قرار جديد جاء من الصفر، ويصورون الأمر على أنه سيقضي على قيم الإسلام، ونشر الفسق والفجور، في حين أن السعودية كانت تعرف دور السينما حتى سبعينات القرن الماضي، دون أن يتنقص وجودها بأي حال من حرمة الأماكن المقدسة، فدار السينما ليست من المحرمات، والعبرة بما تعرضه من أفلام، ونوعية هذه الأفلام ورسالتها وطريقتها في التصوير.
ومن الملفت أيضا أن مرتزقة قنوات الاخوان، وكثير منهم من أشباه الممثلين الفاشلين الذين لم تعرف لهم اهتمامات دينية من قبل وكانوا من المترددين كل ليلة على حانات وأوكار وسط القاهرة، تحولوا اليوم الى مسوخ "دعاة"، يحدثوننا عن الفضيلة والشرف والدين، ويهاجمون ويتهجمون في وقاحة، على دعاة الحرية والانفتاح على العالم بدعوى أنهم بهذا الانفتاح يهدرون قيم الإسلام. فهل تركيا التي يعيشون في رحابها ويستمتعون بحاناتها ومطاعمها ومواخيرها، تحظر دور السينما أو تفرض عليها رقابة "إسلامية شرعية"!

إن الترخيص لدور السينما في السعودية إلحاقا بقرار السماح للمرأة بقيادة السيارات، لاشك أنه جاء في سياق خطة ترمي الى إخراج السعودية من عباءة الماضي المغلق والالتحاق بالعصر، وهو ما عبر عنه بوضوح ولي العهد محمد بن سلمان عندما قال إنه سيقود "مملكة معتدلة ومتحررة من الأفكار المتشددة، والعودة إلى ما كنا عليه، أي إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم".

 


الاثنين، 23 أكتوبر 2017

عقدة الذكورية الثقافية




من الصحيح القول إن المرأة في مجتمعاتنا لم تأخذ حقوقها كاملة بعد وأن المجتمع السائد هو المجتمع "الذكوري" الذي يهيمن فيه- ليس الرجال فقط- بل الفكر الذكوري بشكل عام حتى بين غالبية النساء. فقد أصبحت المرأة عموما، تعتنق دون مناقشة، الأفكار التي نشأت وتربت عليها تحت هيمنة الأب- الأخ- المدرس- الزوج- السيد، وتم حشو أدمغتها بأنها من النوع الأدنى- التابع- الموالي- الخاضع، وأن هذه التبعية حماية لها.
في مصر مثلا عندما كان المجتمع يزخر بالحراك الاجتماعي- السياسي في الماضي، ظهرت شخصيات نسائية مستقلة تماما عن الرجل، في الأدب والفن والفكر والثقافة والإبداع عموما. كان التمرد سمة انعكست على إبداعات المرأة التي لم تكن تعتبر نفسها أو تقبل أن ينظر إليها باعتبارها صنيعة الرجل، أي نتاج المجتمع الذكوري، بل كانت كيانا قائما بذاته.
وقد بدأ الهجوم المضاد مع تدهور ثم انهيار الطبقة الوسطى وصعود طبقة حاكمة تميل إلى سحق الثقافة وأصحاب الفكر والوعي، والقضاء على الضمير الحي للأمة، فتم تشجيع وتبني والترويج لما يمكن وصفه بكل أشكال "الميديوكرتي"ـ أو الوسطية والتدني الذي يخلو من الموهبة، في الفكر والفن والإعلام والسياسة. هنا لم تعد المرأة تعتبر نفسها كيانا مستقلا بعد أن أصبحت تسعى بشتى الطرق عمن يكفل لها الصعود في شتى مجالات الحياة، بالتحايل والوساطة والوصولية والتدجين مع ضرورة  نفاق السلطة والانسحاب من أي مواجهة محتملة معها، مقابل الحصول على فرصة لنشر قصة أو رواية أو طبع كتاب أو الحصول على درجة عملية من تلك الي أصبحت متاحة للبيع بمقابل أو إرضاء لنزعة الهيمنة الذكورية التي أصبحت تقوم بدور "صاحب الفضل" الذي يضمن بالتالي التباهي بقدرته على "صنع" وترويج الكائنات "الميديوكر".
المجتمع الثقافي الذكوري الذي أصبح يفرض هيمنته بقوة في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية والحراك السياسي الذي يمكن أن تلعب فيه المرأة المثقفة دورا مستقلا مماثلا موازيا ومكملا لدور الرجل، أدى إلى أن أصبحت المرأة بمفردها، عليها أن تثبت وجودها ليس اعتمادا على قدراتها الخاصة- بل أساسا- على علاقتها بالرجل وخصوصا من يملك الصيت أو الإسم أو النفوذ، مع ترسخ أقدام ذلك الأخبطوط الهائل الذي يتمثل في السلطة السياسية- الدينية- الاجتماعية- الاقطاعية العتيقة.
أصبح المجتمع الثقافي الذكوري يميل أكثر إلى التظاهر بمظهر الديمقراطي، المعتدل، المتوازن، الموضوعي، الذي لا يميل لاحتكار سلطة العمل الثقافي بل يرحب بتشجيع "الأنثى"- الميديوكر بالطبع، ليخلق منها صنيعته وشبيهه. لذا تم الإعلاء من قيمة ما يمكن أن نطلق عليه "أنصاف القوالب"- فلا يصح أن وصفها بـ"أنصاف المواهب"، فلا موهبة من الأصل، بل مجرد إفرازات أدبية أو فنية محدودة القيمة والأثر، لكنها كافية لتبرير التصعيد الذي يمارسه اصحاب الفكر الذكوري المهيمن، كنوع من "التطهر" من عقدة الإحساس بالذنب، مع ما يستتبعه هذا من احتفاء مبالغ فيه في المحافل الفكرية والأدبية والفنية بهذا النوع من "نساء الميديوكر" وتصديرهن باعتبارهن دليلا لا يقبل الشك على نزاهة الذكوريين الذين يشعرون أصلا باهتزاز من الداخل، يسندون أنفسهم ويحسنون من صورتهم السيئة بتصعيد ودعم وتلميع صاحبات المواهب المعطلة، في ظل حالة الجفاف الذي ضرب الواقع الثقافي بعد القضاء على التجمعات والجمعيات والنقابات المستقلة.
طغيان النزعة الذكورية التي تميل الى ستر وجهها بقناع من البراءة وادعاء تشجيع المرأة، أدى إلى أن أصبح معظم ما لدينا من نماذج للمرأة "المبدعة" نماذج زائفة لم تأت نتيجة جهد حقيقي بل نتاجا لـ"التصنيع" المفتعل من جانب مجتمع الذكورية الثقافية في ظل غياب تام للحركة النقدية الحقيقية التي تنأى بنفسها عن المجاملات وذلك الاحتضان الكاذب في المحافل الأدبية والفنية لهذا النوع من الطفيليات التي قصد بها سد الطريق أمام المواهب الحقيقية التي يمكن أن تنذر بكشف الغث والمفتعل والمزيف، ومواجهة ادعاءات الذكورية الثقافية الإقصائية المهيمنة.

الجمعة، 2 يونيو 2017

رأيت فيما يرى النائم







نمت مبكرا فحلمت، ورأيت في الحلم أنني كتبت عشرة مقالات في حب وزير الثقافة، أقصد الوزير الحالي والذين سبقوه، وعلى رأسهم بالطبع "الوزير الفنان". وقد نُشرت المقالات في الصحف المصرية وفوقها صورتي وأنا أبتسم ابتسامة كبيرة إرضاء للجماهير التي لا تقرأ لكنها تكتفي بالفرجة على الصور، خصوصا الفتيات الحلوات اللاتي لا يعجبهن سوى "الناقد المبتسم"!
وبعد نشر المقالات انهالت علي العروض للكتابة في صحف أخرى مرموقة داخل وخارج مصر فكتبت قصائد حب في الدكتور جابر عصفور وجابر نصار وجابر القرموطي، وتوفيق عكاشة وعبد الرحيم علي، وأخص بالذكر، "الدكتور" خالد عبد الجليل، الذي شكرته كثيرا على تحقيق حلمي القديم بأن تصبح وظيفة الرقابة على السينما، تصنيف الأفلام حسب أعمار المشاهدين- والأعمار بيد الله- لا المنع أو الحذف. وقد استجاب الدكتور خالد وقرر عرض فيلم "الصمت" لسكورسيزي منقوصا منه فقط 20 دقيقة.. وأصر على منع فيلم "آخر أيام المدينة" بسبب عنوانه التشاؤمي، وباعتباره فيلما يدعو للاكتئاب بينما نحن نرقص احتفالا بالإنجازات.
كتبت- في الحلم أيضا- برقية تهنئة للسيد الرئيس على الانجازات التي تحققت في عهده وخاصة تعويم الجنيه المصري بحيث أصبح الدولار يشتري حوالي عشرين جنيها مصريا، أي أن المليونير الدولاري من أمثالي، يمكنه أن يفك الألف دولار مثلا، بعشرين ألف جنيه، كما أرسلت برقيات تهنئة إلى رئيس الوزراء وشيخ الأزهر ومدير الأمن العام ورئيس رابطة الطرق الصوفية وجميع الاخوة الصالحين من أحزاب السفليين، على ضبطهم إيقاع الحياة بحيث لا تتسلل إليها أبدا أكاذيب العلم الكافر.
لم أكتف بهذا بل كتبت تهنئة لنقيب السينمائيين، وجميع رؤساء مهرجانات السينما في مصر، السابقين واللاحقين، وشكرت جميع نقاد السينما المصريين لدورهم البارز جنبا إلى جنب، مع الدولة، في الحرب على السينما، فهي جزء لا يتجزأ من الحرب على الإرهاب.
في الحلم، طلب مني الكثيرون الظهور في برامج التوك شو الفضائية، فوجدت نفسي أنتقل من قناة إلى أخرى، أحمل في سيارتي بذلات وربطات عنق وقمصان كثيرة أغيرها في كل مرة حتى لا يصاب الجمهور بالملل. أخذت أشيد في كل القنوات بكل الأفلام الرديئة التي سبق أن انتقدتها، وأولها فيلم "المساخر"، واعتبرت ظاهرة "الجزارين" في السينما المصرية أعظم ظاهرة في العصر الحديث، واخترت أشرف عبد الباهي أفضل ممثل، وأجمد ممثلة نادية الجوندي. ثم أصبح عندي أيضا برنامج سينمائي أقوم بتقديمه أستضيف فيه نادية وعسرا والتهام ومنتج أفلام الكفتة محمد المعتدل، بشكل منتظم باعتبارهم من كبار النجوم في كل العصور.
أحدثت هذه البرامج أصداء رائعة فقد تلقيت اتصالات تليفونية من جميع النجوم وأشباه النجوم، يشكروني ويدعوني إلى حفلات العشاء وأعياد الميلاد والزواج، والذي منه، وحظيت بشرف اتصال خاص من النجم التليفزيونجي اللامع أحمد ناموسة، الذي وعدني باتصال قريب من "مؤسسة سيادية" تقديرا لوطنيتي وحبي لبلدي ووفائي للسينما المصرية. وقام "المجلس الأعلى لشؤون المقشة" بتكريمي في حفل خاص ومنحي وسام الجمهورية من الطبقة الصفيحية، وكذلك  فعل المهرجان القومي للكفتة السينمائية المصرية، وصدر عني بهذه المناسبة الجليلة كتاب أعده ناقد خفيف اليد، وضع بنفسه كل الأسئلة والإجابات!
 وبعد أن حققت هذه الانجازات العظيمة، تلقيت عروضا بتولي مناصب عامة أقلها مستشار- لا يستشار- ولكن فقط يقبض بالدولار، ولكني اعتذرت مفضلا أن أظل أعيش داخل أحلامي. لكني حلمت أنني مت، ثم أخذت بعد موتي أقرأ مقالات التأبين التي كتبت عني، فراعني أنهم أطلقوا علي: "الناقد الوطني الذي لم يغضب أحدا".. ثم جاء من يدعوني لمقابلة شخصية عظيمة، فقلت إنني ميت، ولا يصح أن يقابل "العظيم" رجلا ميت، لكنهم أصروا اعتقدوا أنني أمزح كما أفعل كثيرا، فاستسلمت، وقبل أن أعبر بوابة القصر الكبير، استيقظت من النوم.. فحمدت الله شكرا على أنني مازلت نفسي!

الأربعاء، 26 أبريل 2017

قتل السينما





حلمي النمنم وزير ثقافة مصر في خنام المهرجان
 
كتبت في الماضي القريب، بل وفي الماضي البعيد أيضا، وقلت إن النظرة الرسمية إلى السينما لا تعتبرها جزءا من الثقافة العربية، بل تنظر إليها بنوع من الحذر والتشكك وأحيانا – النفور. فالفيلم هو الفن الأكثر ديمقراطية بين الفنون، وقد جعلت وسائل الاتصال الحديثة الفيلم السينمائي متاحا بسهولة أمام الملايين في العالم، بعد أن أصبح من السهل اقتنائه وصنعه وتبادله بأيسر السبل وأقلها تكلفة.
مازالت السينما في مصر مثلا تعاني من سطوة الآلة البيروقراطية للدولة، فهي تتلقى الضربات أكثر من غيرها من الفنون والثقافات، فتارة يجعلونها مثل الملاهي أي الكباريهات ونوادي التسلية الليلية، ويفرضون عليها الضرائب الباهظة، وتارة أخرى يفرضون على السينمائي ضرورة الحصول على تصريح مسبق من جهاز الرقابة على السيناريو، أي عندما يكون الفيلم في مرحلة "الفكر" و"التفكير"، ثم رقابة ثانية على التصوير لكي يتأكد السيد الرقيب أن المخرج يلتزم بالسيناريو الذي حصل على الموافقة عليه بعد استبعاد ما أمكن استبعاده،  ثم تأتي مرحلة الرقابة على الفيلم نفسه بعد اكتماله للتصريح بعرضه، وربما تعترض الرقابة هنا وتطالب باستبعاد ما تراه من مشاهد ولقطات قد لا يفهمها السادة الرقباء، وهم مجموعة موظفين لا علاقة لهم أصلا بالعملية الإبداعية.
ومن أعراض "فوبيا السينما" التي تعاني منها السلطات بدرجة خطيرة، قيام ما يسمى بوزارة الثقافة بالغاء جميع النشاطات السينمائية خلال شهر رمضان، كما تقوم الصحف بوقف النشر عن السينما والنشاط السينمائي، كما لو كانت السينما من المحرمات أو من "الأشياء" التي تتنافى مع تعاليم الشهر الكريم. وكان من المثير للسخرية أيضا أن تقرر وزارة الثقافة المصرية مؤخرا وقف النشاط السينمائي داخل مؤسسات الوزارة بعد التفجيرات التي وقعت داخل كنيستين للأقباط في مصر وما لحق ذلك من إعلان حالة الحداد العام في البلاد، لكن الوزارة أبقت صراحة على "باقي النشاط الثقافي" وهو ما يعني أن الوزارة لا تعتبر السينما من الأنشطة الثقافية، بل تعتبرها مثل "الكباريه" أي نوعا من العروض المثيرة التي تتنافى مع حالة الحداد. ولست أدري ما العلاقة بين الحداد العام وبين النشاط الفني والإبداعي، ولماذا لا توقف الحكومة مثلا برامج الثرثرة الليلية التي تستغرق وقت المشاهدين كل ليلة في موضوعات تافهة الشأن، منها ما يتجه أحيانا إلى التحريض المباشر على قتل الآخر المختلف عبر  شخصيات تنتمي للقرون الوسطى، تلتحف برداء الدين وتظهر على الشاشات تمارس إرهاب الآخرين!
ومن أحدث المواقف التي أصبحت سابقة خطيرة غير مسبوقة في العالم كله على حد علمي ومن متابعتي للشأن السينمائي عبر سنوات طويلة، ما وقع أخيرا في مهرجان الاسماعيلية السينمائي المتخصص في عرض الأفلام التسجيلية والقصيرة. فبعد استعدادات امتدت شهورا داخل المركز القومي للسينما التابع لوزارة الثقافة التابعة بدورها للحكومة المركزية، ثم افتتاح المهرجان من جانب السيد اللواء محافظ الاسماعيلية، وفي اليوم التالي فوجئ ضيوف المهرجان من السينمائيين الذين جاءوا من بلادهم للمشاركة بأفلامهم متصورين أنهم ذاهبون إلى دولة يفترض أنها بلغت سن الرشد السينمائي منذ سنوات بعيدة، بقرار من السيد اللواء المحافظ نفسه بإلغاء جزئي للمهرجان، أي تقصير مدة انعقاده وتقديم موعد ختامه يومين عن موعده المقرر سلفا. والسبب أن هناك داخل دهاليز السلطة من اكتشف فجأة أن يوم الختام المحدد له 25 أبريل يوافق مرور 35 عاما على عودة سيناء للسيادة المصرية بموجب اتفاقات كامب ديفيد، وهي مناسبة يعتقد المسؤول الذي أصدر القرار أنها تستحق الاحتفال الرسمي، حتى لو كان على حساب مهرجان دولي له جدول محدد للعروض والمسابقات. وقد وقع المسؤولون عن المهرجان في مأزق مع اضطرارهم إلى إعادة جدولة العروض وتعديل مواعيد رحيل الضيوف قبل يومين من الموعد الأصلي بعد أن أصبح وجودهم في ذلك اليوم المشهود، "غير مرغوب فيه". وهكذا تنتصر البيروقراطية "العشوائية" على السينما وتقتلها!

الاثنين، 9 يناير 2017

عن الزمان الذي فات




  


لاشك أن تأثير الآباء على الأبناء تأثير خطير الشأن، فهو يبقى قائما في الذاكرة مهما أنكر الإبن أو البنت أو حاولا التظاهر بالاستقلالية، فنحن جميعا لسنا سوى امتداد لآبائنا على نحو ما، ليس بمعنى التبعية أو الخضوع، بل بالتأثر والإعجاب والتقدير لما قدموه لنا في حياتهم.

في عالم التمثيل هناك الكثير من الأبناء الذين ساروا على دروب آبائهم، وفي عالم الإخراج السينمائي كذلك. هناك مثلا المخرجة "صوفيا كوبولا" التي تعلمت المهنة عن أبيها المخرج العملاق فرنسيس فورد كوبولا صاحب ثلاثية العراب". وقد اعتزل كوبولا العمل في الإخراج موجها كل طاقته نحو دفع ابنته في طريق العمل السينمائي كما أنتج لها أيضا بعض أفلامها. صوفيا امرأة سعيدة الحظ بالطبع، لأن إسم كوبولا الكبير ووجوده على قيد الحياة بينما تخرج هي الأفلام، لاشك أنه فتحلها الطريق وساعد في إقتناع شركات هوليوود بتمويل أفلامها، فهي قادمة من "مدرسة" سينمائية مشهود لها، والضامن موجود!

في مصر هناك نادين خان ابنة المخرج الكبير الراحل محمد خان، التي درست السينما لكنها تعلمت على يدي والدها الذي عملت مساعدة في عدد من أفلامه، وهي تسعى لإخراج فيلم ثان بعد فيلمها الأول "هرج ومرج" في مناخ شديد الصعوبة لكنها لم تعتمد قط على إسم والدها.

دينا محمد حمزة، لم تتعلم السينما على يدي والدها الشاعر الغنائي الكبير الراحل محمد حمزة، لكن تأثيره عليها ربما يتجاوز كثيرا موضوع الإخراج.

محمد حمزة الذي كتب أكثر من 1200 أغنية، أرتبط لفترة طويلة من حياته بالمطرب عبد الحليم حافظ، الذي غنى له عددا من أشهر أغانيه. توفي حمزة الذي عمل أيضا كاتبا صحفيا، عام 2010 عن 70 عاما، وترك ثلاثة أبناء: دينا وشقيقتها التوأم دعاء، وشقيقهما أحمد.

أخرجت "دينا" فيلما تسجيليا هو "داخل خارج الغرفة" (2010) عن الجلاد المصري الذي شنق نحو ألف شخص ممن حكم عليهم بالإعدام شنقا، لكن الفيلم ليس عن الشنق بل عن الإنسان القائم وراء ذلك الجلاد (أو عشماوي) كما يطلقون عليه: كيف يعيش ويتحرك ويتعامل مع أبنائه وأسرته واصدقائه، وكيف يرى العمل الذي يمارسه ويتعيش منه. كان فيلما فلسفيا يطرح تساؤلات عن الموت والحياة أو "القتل" كوسيلة للعيش؟

غير أن دينا كانت منذ رحيل والدها في 2010، مهمومة بفكرة الفراق والفقدان، فقد كانت وفاة والدها المفاجئة لحظة فارق في حياتها، فإذا تصورت أنها لحظة يمكن تجاوزها، لقالت لك دينا إنها لا تريدها أن تذهب، بل أن تبقى في داخلها، إنه ذلك الرحيل الذي يصعب أن تتعايش معه، لذلك فقد جاء فيلمها "جاي الزمان" الذي يحمل إسم أغنية شهيرة كتبها والدها وغناها عبد الحليم، مرثية طويلة لمحمد حمزة لكن ذكاء دينا جعلها لا تتوقف فقط أمام علاقتها الخاصة بوالدها، بل جعلت من فيلمها التسجيلي الطويل، فيلما عن "عصر محمد حمزة"، مزيجا من الذكريات والوثائق والصور والأغاني والمقابلات التي شملت كثيرين من أبناء ذلك العصر الرومانسي الذي لايزال محفورا في ذاكرة دينا من طفولتها. وقد بدا الفيلم كما لو كان محاولة لشق الطريق نفسه الذي شقه محمد حمزة نفسه وفهم كيف كان يشعر ويتذوق ويتفاعل مع من حوله ومع العالم. هذا الاختيار جعل من الفيلم فيلما عن دينا نفسها قبل أن يكون عن والدها، عما تحبه وعما ترفضه، عن علاقتها بأبيها وبالعالم، عن اختلافها عن شقيقتها التي أرادت أن تتجاوز الفقد وتسير في الحياة،، بينما تريد دينا أن "يعود الزمان"، تعبيرا عن ذلك الحنين الرومانسي المضني والمستحيل.، الفيلم رحلة "اكتشاف" للذات ولمعنى عذاب الفقدان، وهو من أجمل المرثيات السينمائية التي شاهدتها بسبب صدقه الشديد. وقد كان شعوري بعد أن أكملت مشاهدته: ليت الفيلم ابنتي تتذكرني ولو بمقدار ضئيل مما تتذكر دينا والدها.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger