ضياع الموهبة: حالة ميلوش فورمان
شعرت بنوع من الحسرة وأنا أشاهد فيلم "أشباح جويا" Goya’s Ghosts للمخرج التشيكي الأصل، الأمريكي الجنسية، ميلوش فورمان. فهذا المخرج الكبير (مواليد 1932) من أولئك السينمائيين الذي فتحنا أعيننا على موهبتهم الكبيرة الشاهقة، منذ أن كان الراحل الكبير فتحي فرج يأتينا بروائع السينما التشيكية الجديدة في السبعينيات من خلال عروض شبكة نوادي السينما المصرية التي لم يعد لها وجود حاليا في ظل تدهور الوضع الثقافي العام وانكفائه على فكرة "الاحتفالية" الدعائية الدائمة.
كانت أفلام فورمان الأولى التي أخرجها في تشيكوسلوفاكيا مثل "بيتر وبافلا" و"غراميات شقراء"، ثم فيلمه الأشهر "حفل رجال الإطفاء" الذي رشح للأوسكار عام 1968، أعمالا ملهمة، سواء في حداثة الأسلوب وطزاجته، أو جرأتها في التعامل مع المادة السينمائية رغم أنف الرقابة المشددة التي كانت قائمة، واستخدام المستويات المتعددة، من أجل تقديم رؤية ساخرة شديدة الهجائية للسيطرة الحزبية البيروقراطية على مصائر الأفراد، والتعريض بها وتحويلها الى عرض ساخر satire يمتليء بالابتكار وبالخيال الخصب المجنون الذي قد يصل الى حدود السيريالية.
هاجر فورمان بعد وقوع الغزو السوفيتي للأراضي التشيكية عام 1968 الى الولايات المتحدة حيث لايزال يعيش ويعمل حتى اليوم. وهناك أخرج عددا من الأفلام التي استقبلت استقبالا حافلا وتوجت بالعديد من الجوائز، كان أولها "طار فوق عش الوقواق" One Flew Over the Cuckoos’s nest عام 1975 (أول الأفلام "الكبيرة" التي وضعت الممثل جاك نيكلسون في دائرة الضوء)، ثم "الشعر" Hair عن المسرحية الانجليزية الشهيرة التي اعتبرت بداية حركة التمرد الجديدة في المسرح (1979)، ثم "أماديوس" (1984).
أخرج فورمان بعد ذلك ثلاثة افلام أخرى تراوحت في مستوياتها، وإن لم تخفق تماما، منها فيلمه الشهير "الشعب ضد لاري فلينت" The People vs. Lary Flynt الذي حقق نجاحا في السوق الأمريكية، وفيه يتناول قصة حياة ناشر مجلات العري "البرونوجرافيا" الشهير لاري فلينت الذي أطلق عليه مجهول الرصاص عام 1978 فأصيب بشلل نصفي وظل حتى يومنا هذا مقعدا.
وكان آخر ما أخرجه ميلوش فورمان من أفلام هذا الفيلم "أشباح جويا" عام 2006، عن سيناريو اشترك في كتابته مع جان كلود كارييه الذي تعاون مع السيريالي العظيم لوي بونويل في كتابة عدد من أهم أفلامه، كما كتب أيضا السيناريو لبعض الأفلام التي تعد من "العلامات" في تاريخ السينما الفنية مثل "الخفة غير المحتملة للوجود" The Unbearable Lightness of Being الذي أخرجه الأمريكي فيليب كوفمان، و"الطبلة الصفيح" The Tin Drum لشلوندورف الألماني، وقد كتب أيضا سيناريو فيلم "فالمونت"Valmont لميلوش فورمان نفسه، وهو فيلمه الذي سقط سقوطا كبيرا (1989) وكان مقتبسا عن المسرحية نفسها التي أعد عنها الفيلم البريطاني الشهير "علاقات خطرة" Dangerous Liasions الذي أخرجه ستيفن فريرز عام 1988 وتفوقت جلن كلوز Glen Close في أداء الدور الرئيسي فيه (أين أصبحت الآن بالمناسبة؟).
أما "أشباح جويا" الذي شاهدته أخيرا فقط ولم أكن قد لحقت به وقت ظهوره قبل نحو 4 سنوات، فممن الممكن القول انه يجسد "انتحار موهبة"، والمدهش تماما أن أهم عيوب الفيلم تتركز في السيناريو الذي اشترك فيه كارييه العظيم. كيف كان هذا؟ بل وكيف "تورط" فورمان في وصفة انتحارية على هذا النحو؟
أحداث السيناريو تدور خلال سنوات الثورة والغزو والحروب ومحاكم التفتيش الثانية في اسبانيا، زمن الثورة الفرنسية، ثم غزو جيش نابليون بونابرت لاسبانيا، ثم الغزو البريطاني الذي يطرد الفرنسيين بعد سلسلة من الحروب الشهيرة في شبه جزيرة أيبيريا، وما بين هذه الأحداث، تقع الكثير من التجاوزات، تولد مصائر، وتختفي شخصيات، لتعود مجددا، ونشهد ثلاثة أجيال من نسل امراة واحدة هي "إنيس" التي تقوم بدورها ناتالي بورتمان، كما تقوم بدور ابنتها "أليثيا"، في حين يقوم بدور القس الذي يتحول الى ثائر على الكنيسة الكاثوليكية حتى النهاية، الممثل الاسباني خافيير بارديم، ويقوم الممثل السويدي ستيلان سكارجارد بدور جويا.
ولعل من أكثر الأشياء مدعاة للشعور بالإحباط بعد مشاهدة هذا الفيلم، أنه يضيع ببساطة، فرصة ثمينة للتعامل الجاد مع شخصية الرسام الشهير فرنشيسكو جويا، فهو يتراجع هنا كشخصية درامية ثرية كان يمكن أن تحرك الاحداث، ليصبح مجرد ديكور خلفي يظهر أحيانا وسط الاحداث، يشهد عليها دون أن يتدخل فيها. ولذلك يمكن القول إن هذا أقل الأعمال السينمائية التي تعرضت لمشاهيرالرسامين.
إن جويا نفسه بهذا المعنى، يصبح "شبحا" في الفيلم، بل وحتى لوحاته الشهيرة لا نجد لها وجودا حقيقيا في حين يطرح كارييه- فورمان في الفيلم قضية أخلاقية تدور حول استخدام الفكر الديني كمبرر للقمع، لممارسة الاضطهاد السياسي والفكري، وكيف تتحول المؤسسة الكاثوليكية (كمؤسسة تقوم على اليقين الأيديولوجي المطلق) إلى مؤسسة قمعية، تكذب، وتلفق، وتسفك الدماء، بل ويمارس رموزها أبشع أنواع الاغتصاب والتستر والقتل.
ولعل الشخصية التي تجسد هذا المعنى أكثر من غيرها في الفيلم هي شخصية فرنانديز، القس الذي يرسم له جويا لوحة "بوتريه" خاصة في بداية الفيلم. وعلى حين يستنكر الأسقف وأتباعه هذا التصرف بدعوى أن جويا يسخر في رسومه من رجال اللاهوت، يدافع عنه فرنانديز لكنه سرعان ما يطرح نفسه مدافعا متشددا عن القيم الكاثوليكية، ويطالب بإعادة الوسائل والأساليب التي كانت سائدة في عهد محاكم التفتيش الأولى، أي التعذيب والتنكيل بكل من تتشكك الكنيسة في ولائه لمبادئها، حتى لو كانت تعلم ببرائته، بغرض التخويف والإرهاب، لإبقاء الحال كما هو.
فكرة استخدام التاريخ كخلفية لأحداث درامية مصنوعة سرعان ما تكشف عن تورط في نوع من الميلودراما التقليدية التي تمتليء بالمبالغات والتكرار والإطالة والمصادفات العديدة، مما يجعل متابعة الفيلم عملا ثقيلا.
فرنانديز يطمع في جسد الفتاة الحسناء "إنييس" رمز البراءة التي يرى لوحة لها في مرسم جويا في البداية، فيأمر رجاله بمتابعتها فيقبضون عليها ويجري التحقيق معها باستخدام أقسى وسائل التعذيب، لكي تعترف بأن رفضها تناول لحم الخنزير يعني أنها يهودية متخفية (دون أن تكون كذلك)، ويلقون بها بالتالي في السجن. ولكن أسرتها الثرية تستدرج فرنانديز عن طريق صديق الأسرة "جويا" الى حفل عشاء في منزل الأسرة حيث يتم ترويعه وإرغامه على التوقيع على وثيقة يعترف فيها بأنه تسلل إلى الكنيسة لتخريبها، وتهديده بأنهم سيسلمون الوثيقة الموقعة بخط يده الى الأسقف، ما لم يساعد على اطلاق سراح ابنتهم. غير أن الرجل يقوم باغتصاب الفتاة عدة مرات في السجن، ويهرب الى فرنسا، ثم يعود مع الجيوش الفرنسية وقد تبرأ من عمله الكنسي وأصبح من الداعين إلى مباديء الثورة الفرنسية، مناهضا للكنيسة، مستنكرا ماضيه دون ان يجرؤ على مواجهة نفسه بما ارتكبه في حق أنييس.
وتكون اينييس قد أنجبت منه طفلة في السجن، ومع اطلاق سراحها بعد دخول الفرنسيين، تذهب للبحث عن ابنتها التي أنتزعت منها قبل 15 عاما، ولكنها لا تعثر عليها بل يعثر عليها جويا ويكتشف انها تعمل "عاهرة"، وينبه الفاريز الذي يريد ارغامها على الذهاب ضمن العبيد الى أمريكا، الا أنها تفلت، ومع دخول القوات البريطانية وانسحاب الفرنسيين، تعود الكنيسة الى قوتها، ويسترد الأسقف مكانته، ويتم القبض على الفاريز والحكم عليه بالاعدام دون أن تبدو عليه اي علامة من علامات "الندم"، ويموت بينما يرى أمامه ابنته في صحبة ضابط بريطاني، في حين يسجل جويا بريشته الحدث.
الخطاب الأخلاقي وحده لا يصنع هنا فيلما عظيما، بل إن فورمان يبدو وقد فقد كل تألقه السابق، كما فقد قدرته حتى على إدارة طاقم تمثيل دولي في فيلم اسباني ناطق بالانجليزية. ورغم ما بذله الممثل السويدي في دور جويا الا انه بدا شاحبا مرتبكا، كما بدا خافيير بارديم نمطيا جامدا، وتلعثمت ناتالي بورتمان واتسم أداؤها بالمبالغة في دوري انييس واليثيا. معا.
لقد أراد فورمان أن يتعامل مع لقطات ومشاهد فيلمه كما لو كانت تنتمي الى تلك المرحلة "الرومانسية" الشهيرة في حياة جويا الفنية، لكن الفيلم جاء رغم الاهتمام الكبير بمصادر الضوء، وبالتكوين في اللقطات، باردا يفتقد الى الحرارة والحيوية بل والحبكة الدقيقة التي لا تمتليء بالشخصيات التي تخرج هنا كما دخلت، تظهر ثم تموت، أو تصبح منسية، أو تبدو في الخلفية عاجزة عن الفعل.
ولا تقول لنا نهاية فيلم "أشباح جويا" سوى أن جويا يكتفي بالرصد والتسجيل، كما لو كان الفيلم يريد أن يقول لنا أن الفنان عموما لا دور فاعلا له في الواقع سوى المتابعة والرصد، بل ان السيناريو الذي يتبناه بالكامل فورمان، يجعل الفاريز (الشخصية السلبية تماما في الفيلم) يوجه له في احد المشاهد انتقادات حادة عندما يتهمه بأنه يرسم لمن يدفع، اليوم للملوك الاسبان ثم للفرنسيين، وبعد ذلك يتوقع أن يوظف موهبته في خدمة الانجليز. أي أن جويا لا موقف له، ولا دور، ولا فائدة أصلا في مسار الأحداث، فهل هذا الموقف العبثي من الفنان ودوره خلاصة ما توصل إليه الفنان الكبير ميلوش فورمان بعد أن بلغ ذروة اليأس من تغيير العالم!
0 comments:
إرسال تعليق