الخميس، 9 أكتوبر 2008

رائد سينما الاحتجاج والتمرد والغضب


بعد 40 عاما على ظهور فيلم "إذا" البريطاني

تحية إلى ليندساي أندرسون

بقلم: أمير العمري


احتفلت الأوساط الثقافية والسينمائية في بريطانيا مؤخرا بمرور 40 عاما على تصوير فيلم "إذا" IF للمخرج الكبير الراحل ليندساي أندرسون. إذاعة بي بي سي- 4 أنتجت برنامجا تسجيليا طويلا عن أندرسون وفيلمه الذي لايزال حتى يومنا هذا، يثير الجدل. وممثله المفضل مالكولم ماكدويل، الذي اكتشفه أندرسون وقدمه للسينما في دور البطولة في هذا الفيلم، أنتج فيلما تسجيليا بعنوان "لن أعتذر أبدا" عن علاقته بأندرسون، تحدث فيه وأفضى بمعلومات وأسرار جديدة.
صور فيلم "إذا" عام 1968 في نفس الوقت مع التظاهرات الطلابية والعمالية العنيفة التي شهدتها باريس وامتدت إلى مدن أوروبية أخرى، ثم عرض في العام التالي في مسابقة مهرجان "كان" وحصل على "السعفة الذهبية" كأحسن فيلم.
وقد تحول هذا الفيلم منذ ظهوره إلى "حدث" كبير في الثقافة البريطانية، فقد كان يمثل علامة فارقة بين عصرين: عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية بطفرته الصناعية التي دعمت نفوذ "المؤسسة" الحاكمة دون أن تهز قناعاتها، وبين عصر جديد للتمرد على تلك المؤسسة التي توفر الرخاء لكنها تنزع الجوهر والروح، وتتشبث بتقاليد الامبراطورية بعد زوال عصر الامبراطورية رسميا بالانسحاب من شرق السويس عام 1967، هذه المؤسسة يتعرض الفرد في إطارها للقمع بشتى صوره: في المدرسة والجيش والمصنع والكنيسة.

رؤية جامحة
ويصور فيلم "إذا" رؤية جامحة شديدة العنف والفوضوية، لمجتمع بريطانيا التقليدي كما يتمثل داخل مدرسة ينقسم طلابها إلى ثلاث طبقات كل منها تمارس القمع على الطبقة الأدنى، ويحكمها نظام صارم من الأساتذة والمشرفين. إنه نظام أقرب إلى "الكهنوت" الكنسي، حيث يتعين على الجميع الالتزام بالطاعة العمياء ونبذ تساؤلاتهم، لكنه كان يرمز لبريطانيا الملكية كمؤسسة فوقية، والنظام الطبقي العتيق الصارم: الرأسمالية الكبيرة والطبقة الوسطى ثم الطبقة العاملة.
يبزغ من بين طلاب الطبقة الوسطى في المدرسة زعيم شاب قوي هو ميك ترافيس، يقوم بدوره مالكولم ماكدويل. يقود التمرد على كل تقاليد المدرسة، وينتهي التمرد بثورة دموية تحرق وتدمر وتقتل كل رموز المجتمع القديم المتعفن الذي يتنبأ أندرسون في فيلمه بضرورة نهايته.

العنف في "إذا" عنف نابع من موهبة جامحة متوحشة ترغب في الانطلاق بعيدا عن سينما المواقف المصنوعة، والنهايات السعيدة.
وقد أثار الفيلم اهتماما شديدا وقت ظهوره في الأوساط البريطانية المختلفة. ومنحته الرقابة البريطانية علامة "إكس" أي قصرت عروضه على "الكبار فقط". وعندما عرض في مصر في العام التالي، عرض تحت اسم "كلية المتاعب"، واستبعدت الرقابة المصرية منه الكثير من المشاهد واللقطات، ثم اختفى من دائرة التوزيع تماما بعد ذلك.
واستعان مخرجه ليندساي أندرسون بسيناريو مزيف من 40 صفحة لكي يحصل على موافقة المدرسة العامة في شيلتنهام التي درس هو فيها. وتصور مدير المدرسة أن الفيلم سيكون في صالح المدرسة من الناحية التربوية، إلا أنه فوجئ خلال العرض الخاص الذي حضره وكان لابد أن يحضره، بأن الفيلم مناهض تماما لكل الأفكار السائدة عن "القيم التربوية". ويقول الممثل مالكولم ماكدويل إن الرجل بعث برسالة في مظروف إلى أندرسون رفض الأخير أن يفضها أو يقرأها لأنه كان يعرف تماما ما فيها، ولم يشأ أن يواجه أحدا يقول له "لقد خدعتني" أو "أنت وغد"!

رائد التجديد
ويمكن القول بثقة إن الرائد الحقيقي للتجديد في السينما البريطانية هو المخرج ليندساي أندرسون (1923- 1994)، وذلك رغم أنه لم يخرج طوال مسيرته السينمائية سوى سبعة أفلام روائية طويلة، غير أنه أخرج عشرات الأعمال المسرحية والأفلام التليفزيونية الدرامية والتسجيلية.
كان ليندساي أندرسون الرائد الحقيقي لحركة "السينما الحرة" التي نقلت السينما البريطانية خلال الفترة من منتصف الخمسنيات إلى منتصف الستينيات، من مجال الأفلام الهروبية والتاريخية التقليدية إلى مجال الواقع الاجتماعي، لكي تطرح مواضيع جريئة تدور أساسا، في أوساط الطبقة العاملة. وكانت تلك الحركة تضم أيضا سينمائيين مثل توني ريتشاردسون وكاريل رايز، وكتابا مثل جون أوزبورن، وكان هؤلاء يشكلون جماعة "أنظر خلفك في غضب" نسبة إلى مسرحية أوزبورن الشهيرة.
وكان هناك أساس نظري سبق ظهور "السينما الحرة" تمثل في ظهور مجلة سينمائية متخصصة هي "سيكوانس" التي رأس تحريرها أندرسون، وهو الذي أطلق تعبير "السينما الحرة" على الحركة، وبدأت أولا تنتج أفلاما تسجيلية جريئة بأسلوب يتجاوز السائد أي لا يكتفي بالعرض بل يحلل ويكتشف ويضرب في العمق.
وكان أندرسون أيضا هو الذي وضع بيان "السينما الحرة" ووصف واقعية أفلامها بأنها "واقعية حوض المطبخ".

الحياة الرياضية
وأخرج أندرسون أحد أهم أفلام تلك الحركة وهو فيلمه الروائي الأول "هذه الحياة الرياضية" This Sporting Life (1960) الذي قام ببطولته الممثل العملاق الراحل ريتشارد هاريس عن مأساة عامل مناجم تحول إلى لاعب رجبي بحثا عن المال، إلى أن يجد نفسه وقد أصبح "أداة" يستغلها مجتمع التجارة الرياضية، ويتحول تدريجيا إلى وحش كاسر في الملعب لكنه يفتقد إلى الحب في حياته الخاصة، ويشعر بفراغ روحي هائل، وينتهي وقد فقد زوجته وأصدقاءه بعد أن يكون قد فقد نفسه.
وقد صور الفيلم في مدينة صناعية صغيرة في مقاطعة يوركشاير، بظلالها القاتمة والدخان المتصاعد من مداخن مصانعها، وضبابها وأحيائها العمالية الباردة. وتميز الفيلم بواقعيته الشديدة وبتركيزه على فكرة الاستلاب وتحول الفرد إلى أداة يسخرها الآخرون لجني الفوائد والأرباح.
وقد ابتعد أندرسون تماما عن أسلوبه الواقعي الأول في هذا الفيلم لكي يعبر بحرية تتجاوز الواقعية، في فيلم "إذا" عن رؤيته الشخصية لفكرة الثورة. في الفيلم مثلا عبارات من قبيل "الثورة والعنف هما أنقى الأشياء".

الرجل المحظوظ
وفي فيلمه التالي "يالك من رجل محظوظ" Oh.. Lucky Man يمد تجربته على استقامتها ويصل إلى أقصى حدود السيريالية شكلا، والفوضوية مضمونا، من خلال موضوع قريب الشبه إلى حد ما، بفيلم "البرتقالة الآلية" Clockwork Orange الذي أنتج في العام نفسه ومن بطولة مالكولم ماكدويل (للمخرج ستانلي كوبريك)، إلا أن بطله (ميك ترافيس أيضا) على العكس من بطل الفيلم المشار إليه لا يميل للعنف أو التمرد بل يبدأ وهو ممتثل تماما للمجتمع، يريد أن يصعد في إطار المؤسسة، لكنه يواجه الكثير من المتاعب بسبب رغبته في الصعود في المجتمع الرأسمالي مع التمسك بنوع من المثالية، فيجد نفسه في السجن ثم في مستشفى الأمراض العقلية بسبب تآمر رؤسائه ومنافسيه ورغبتهم في تدميره وإقصائه من السوق.
في هذا الفيلم هجاء واضح لبريطانيا التي فقدت الامبراطورية لكنها مازالت تتمسك بدور "إمبراطوري" عن طريق الغش والتحايل والعمليات القذرة في العالم ومنها تصدير السلاح إلى مناطق النزاعات والحروب، وتدريب المرتزقة وتزويدهم بالخبراء.
ثلاثية أفلام ليندساي أندرسون التي كتبها ديفيد شيروين ولعب بطولتها مالكولم ماكدويل، انتهت بفيلم "مستشفى بريطانيا" Britania Hospital الذي عرض عام 1982 أثناء التغطية الإعلامية المكثفة لحرب بريطانيا ضد الأرجنتين في جزر فوكلاند. وحمل الفيلم مجددا أفكار أندرسون الغاضبة من المؤسسة الحاكمة، التي يسخر منها بعنف ويصورها على أنها تمارس القتل والغش والخداع والعبودية للعائلة المالكة وحماية الحكام الديكتاتوريين.
وكما كانت المدرسة في فيلم "إذا" رمزا لبريطانيا فإن المستشفى في هذا الفيلم ترمز إلى المجتمع البريطاني أيضا بتركيبته الطبقية التي ظل أندرسون يرفضها ويوجه لها الانتقادات القاسية حتى النهاية.
لا اعتذار
ومن الأحداث التي رواها أخيرا الممثل مالكولم ماكدويل في فيلمه التسجيلي "لن أعتذر أبدا" Never Apologise أن الوفد البريطاني في مهرجان كان السينمائي نظم انسحابا جماعيا من القاعة عند عرض الفيلم، ثم أخذ بعضهم يطاردونه على سلالم قصر المهرجان ويهاجمونه واصفين إياه بـ "المعادي لكل ما هو بريطاني".
وقد فشل الفيلم في السوق البريطانية، وتوقفت مسيرة أندرسون فترة قبل أن يعود لاخراج آخر افلامه في الولايات المتحدة وهو فيلم "حيتان في أغسطس" الذي لم يحقق نجاحا يذكر، فقد كان العالم قد تغير، ونجحت المؤسسة التي ظل أندرسون مناهضا لها في الالتفاف، وارتدت ثيابا جديدة، لكي تعود بشكل مختلف، أكثر قوة عما كانت،كما نجحت في تدجين المثقفين، ومحاصرة كل ما تبدى من آثار ثورة 1968 في أوروبا.
إلا أن أندرسون الذي توقف تماما عن العمل بالسينما قبل وفاته بست سنوات، لم ينحن ولم يستسلم ولم يسع أبدا إلى الاعتذار للمؤسسة بأي شكل من الأشكال. وقد ظل- كما يقول مالكولم في فيلمه التسجيلي- يرفض الاعتذار عن غضبه، وعن رفضه، وعن رغبته في رؤية بلاده والعالم، أكثر إنسانية وأكثر عدلا وجمالا.
(عن موقع بي بي سي أربيك دوت كوم)
شاهد بالفيديو المشهد الأخير من فيلم "إذا"

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger