محور الجنس والدين وأغوار النفس
في هذا المقال أعاود السباحة الحرة مجددا، في عمل آخر من أعمال المخرج العظيم أليخاندرو خودوروفسكي (صاحب "الطوبو" و"الجبل المقدس") لعله يساعدنا على فهم رؤية هذا السينمائي العبقري وفلسفته الخاصة.
أخرج خودوروفسكي فيلم "الدماء المقدسة" Santa Sangre عام 1989 وهو من الإنتاج الإيطالي وصوره بأكمله في المكسيك. وقد كتب خودوروفسكي القصة، واشترك في كتابة السيناريو مع روبرتو ليوني وكلاوديو أرجينتو، وقام بدور البطولة في الفيلم أكسل خودوروفسكي ابن المخرج الكبير، وشارك فيه بالتمثيل أيضا والده أدان وبرونتيس خودوروفسكي.
ويعتمد الفيلم على قصة حقيقية نشرت تفاصيلها الصحف، عن قيام شاب أمريكي كان يعمل في السيرك، بقتل ثلاثين امرأة في المكسيك. هذه الحادثة يتخذها خودوروفسكي فقط إطارا عاما لفيلمه، لكنه يتيح لنفسه الحرية لتقديم رؤيته الخاصة "الخيالية" أو المتخيلة، لما يمكن أن يكون قد أدى إلى وقوع تلك السلسلة من جرائم القتل البشعة، وما يمكن أن يكون كامنا خلف قناع شخصية القاتل الشاب من مأساة عميقة الجذور.
إنه فيلم عن التطرف الديني، وعن الشهوة وارتباطها بالعنف، وعن الأوديبية الفرويدية ونتائجها المدمرة، وارتباط الماضي بالحاضر، وتأثير الطفولة على مرحلة الشباب طبقا للتحليل النفسي الفرويدي الذي يبدو أن خودوروفسكي مولعا به، وهو الذي خبر العمل في مسرح السيكودراما.
مأساة فينكس
يبدأ الفيلم بشاب يدعى "فينكس" يعالج في إحدى المصحات النفسية. يبذل الأطباء جهودا كبيرة من أجل إعادة ثقته بنفسه. نشاهده في البداية داخل غرفة مجردة من الأثاث متجردا من ملابسه، يتصرف مثل قرد في الغابة، وقد وضعوا له في الغرفة ديكورا خاصا: شجرة وبضعة أحجار وحبل. الشاب يتسلق الشجرة فزعا عند دخول الطبيب، وينكمش على نفسه رافضا أن يتبادل الحديث مع أحد.
من هذا المشهد ينتقل الفيلم بطريقة القطع إلى "فلاش باك" أو عودة للماضي، إلى مرحلة الطفولة لنجد بطلنا وهو في العاشرة من عمره، يعمل في سيرك بالمدينة مع أمه "كونشا" التي تقدم الاستعراضات الصعبة "الترابيز"، ومع أبيه "أورجو" الذي يجيد لعبة رشق السكاكين. الأم مكسيكية (لاتينية) مسيطرة، متسلطة، والأب أمريكي، ضخم الجثة، فظ، غليظ القلب، لا يأبه لمشاعر زوجته. وهو يقوم بعرض يومي يتلخص في إلقاء السكاكين حول جسد فتاة الاستعراض اللعوب التي تتلوى أمام لوحة رشق السكاكين.
أما الأم فهي "مهووسة" دينيا، تتزعم مجموعة من النساء اتخذن لأنفسهم من فتاة اغتصبت وقتلت وهي في عمر الزهور، قديسة يتبركن بها، بل وأقمن معبدا خاصا لها لممارسة شعائر تلك الديانة الجديدة الغريبة. رجال الشرطة يحيطون بالمعبد، يريدون تدميره بصحبة قس يعتبر أن النساء من أتباع تلك الديانة الجديدة قد انحرفن عن المسيحي الحق، والأم تصرخ ملتاعة وتتصدر مظاهرة لنساء ديانتها، وتواجه باستماتة رجال الشرطة لمنعهم من تدمير المعبد الذي أقيم داخل كنيسة استولوا عليها.
الهوس الديني
النساء يتحصن داخل المعبد، ونرى حوضا مليئا بالدماء، ونموذجا للفتاة التي أصبحت مقدسة، وتلقي فتاة شابة بنفسها وسط الدماء وهي تردد في هستيرية "الدماء المقدسة.. الدماء المقدسة".. إنه الانسياق الأعمى وراء فكرة القربان أو الضحية التي يتعين على الإنسان تقديمها لكي يحصل على الغفران.
القس يحاول التوصل إلى حل سلمي لانهاء الموقف.. أي تصفية المعبد الذي يعتبره وثنيا خارجا على الكنيسة وانسحاب النساء وتجنب المواجهة مع الشرطة. وهو يحاول إفاقة النساء من سيطرة الأكذوبة، فيقول إن ما يوجد داخل الحوض الكبير ليس دماء وإنما ماء ملون بالصبغة الحمراء.. أي أنهن يخدعن أنفسهن أو تخدعهن كونشا التي تتزعم أتباع تلك الديانة، وإن الفتاة التي قتلت لاقت مصيرها طبقا لارادة الله ولا يجب أن نجعل منها قديسة. تصرخ كونشا في وجهه وتنهى النساء عن الاستماع إليه. وأمام التعصب والإصرار والرغبة المستبدة في الانتحار الجماعي لدى مجموعة النساء المهووسات دينيا ينسحب القس.
يقوم رجال الشرطة بهدم المعبد باستخدام جرافة ضخمة. وترفض الأم الانسحاب بل تحاول التشبث بأي طريقة بأطلال المعبد بعد هدمه. ويندفع ابنها فينكس لإنقاذها قبل أن تلقى مصيرها.
الإغراء والعقاب
ننتقل بعد هذا إلى أجواء السيرك. الأب "أورجو" مفتون بامرأة الاستعراض التي يرشق حول جسدها السكاكين. هذه المرأة يقدمها خودوروفسكي كنموذج للإغواء الأنثوي الصارخ أو للفتنة الشيطانية، جسدها يمتلئ بوشمات عديدة تحمل إشارات وثنية خاصة، وهي ترتدي ملابس شفافة تلتصق بجسدها وتكشف عن مفاتنها، ويتلوى جسدها الملئ بالوشم في ارتجافات متتالية، وتقوم باغواء أورجو بينما تشاهد زوجته كونشا ما يحدث بينهما من مكانها في أعلى السيرك حيث ترقص على السلك، وينتهي الأمر بقيام كونشا بإخصائه في مشهد صادم، فهي تلقي مادة كاوية على عضوه الذكري فتحرقه، ويتحامل الرجل على نفسه بصعوبة شديدة، وينهض ويطارد زوجته ثم يقوم بالانتقام منها بطريقة بشعة باستخدام سكينين يضعهما تحت ابطيها وفي حركة واحدة يقوم بقطع ذراعيها بوحشية ثم يقتل نفسه، وتتفجر الدماء انهارا من جسد المرأة الملقى على الأرض. تتجمع الكلاب تلعق الدماء في أحد أكثر المشاهد وحشية في تاريخ السينما.
تتطور القصة بسرعة. امرأة الاستعراض الشهوانية الموشومة تهرب بصحبة الفتاة البكماء الجميلة التي ترتبط بعلاقة صداقة مع بطلنا الصغير "فينكس"، والأخير يشاهد هروب المرأة الموشومة دون أن يستطيع أن يفعل شيئا، فقد حبسه أبوه داخل شاحنة صغيرة أغلق أبوابها عليه. بعد موت الأب، تعثر الشرطة على فينكس فيودعونه مصحة نفسية، ويخرج ذات يوم في جولة تنظمها المصحة بصحبة مجموعة من المرضى المتخلفين عقليا، يشاهد اثناء ذلك المرأة الموشومة ويرصد مكانها، فتعود إليه ذكرى المأساة.
تظهر أمه المقطوعة الذراعين أمام المصحة تناديه من الشارع. يتسلق هو الجدار إلى أن يصل إلى النافذة ثم يتدلى منها بحبل ويلحق بأمه، ويصبح منذ تلك اللحظة لصيقا بها بل بديلا عن ذراعيها.
ثنائية الأم والإبن
ويأتي وقت الانتقام من المرأة التي كانت سببا في مأساة حياته. يعرف أنها تعمل قوادة، تحاول أن تدفع الفتاة البكماء إلى الدعارة. وفي مشهد دموي آخر يهاجمها داخل حجرتها ويسدد لها طعنات متتالية ولا يتركها إلا بعد أن يمزق جسدها. ونحن لانرى وجهه، بل يده فقط التي تطعن، وربما تكون الأم هي التي تقتل وهو مجرد أداة، وربما أيضا أنه قد أصبح متوحدا مع امه بشكل يجسده الفيلم على صعيد مادي ونفسي. وتقدم الأم نفسها في بعض مشاهد الفيلم كما لو كانت "بديلا" عن المرأة عموما، في حياة ابنها "فينكس"، ويقبل هو سيطرتها عليه بمتعة خاصة. ونلمح إشارات إلى علاقة أوديبية لاشك فيها.
الأم تقوم بتقديم عرض خاص يومي في أحد الملاهي الليلية في المدينة، والشاب يشترك معها في العرض، فيلتصق بجسدها من الخلف ويدخل النصف الأعلى من جسده داخل نفس الملابس التي ترتديها ويستخدم ذراعيه كما لو كانا ذراعان لها. هي تعزف على البيانو بيديه، وعندما تريد أن تحك ذقنها يقوم هو بذلك، أو تشير بيدها أن يتوقف.. هذه الحيلة تبدو في الفيلم شديدة الإقناع، ولاشك أن الممثلين تدربا طويلا على الأداء بهذه الطريقة حتى وصلا إلى هذا الحد من الدقة المطلقة.
تسيطر كونشا على فينكس سيطرة تامة، ويبدو هو منقادا لها، تحت تأثير التنويم الإيحائي الذي تستخدمه. إنها تعتمد في القيام بكل صغيرة وكبيرة عليه وعلى يديه، حتى في القيام بأعمال التطريز، لكن الأهم أنها توحي له بما يتعين عليه القيام به، فهي تدفعه إلى قتل أي امرأة تقترب منه، بعد أن رسخت في ذهنه فكرة أن الإغواء شيطان، وأن العاطفة تؤدي إلى الوقوع في الإغواء بالضرورة، وهذه الإشارات كلها تصل إلينا في الفيلم من خلال النسيج العام وليس بشكل مباشر. وكلما كاد "فينكس" يخضع لرغبات الشباب أو لنداء العاطفة، تقوم هي بتحريضه على الخلاص من المرأة التي تثيره أو تثير عاطفته بقتلها ودفنها، وهكذا تتكرر جرائم القتل.
تفقد الأم السيطرة على ابنها فقط بعد ظهور الفتاة البكماء "ألما" مرة أخرى في حياة البطل. هذه الفتاة هي رمز للنقاء والبساطة والصدق.. إنها "الحقيقة" الوحيدة في حياة فينكس. لكن أمه لا تطيق أن يرى ابنها الحقيقة الأخرى الخارجة عنها وعن سيطرتها فتطلب منه أن يقتل "ألما"، لكنه يرفض ويتمرد بل ويتجه لكي يقتل الأم نفسها ثم يحرق المنزل الذي أقامت في داخله معبدا صغيرا لممارسة شعائر ديانتها الشيطانية، وبذلك يتخلص من الأم (السيطرة بالوراثة)، والدين (السيطرة بالاكتساب).
رؤية مرعبة
خودوروفسكي الذي عاش وعمل في تشيلي والمكسيك والولايات المتحدة واسبانيا وفرنسا، يقدم هنا رؤيته الخاصة للإنسان وللعالم، وهي رؤية شديدة القسوة والعنف. هناك تحرر كبير في طريقة السرد السينمائي تتناسب مع الرؤية السيريالية المخيفة التي يصورها خودوروفسكي، فالبناء الدرامي لا يخضع للمنطق التقليدي في الحكي بل يعتمد على التداعي الحر، وتداخل الأزمنة، والقفز بين الأمكنة، والمزج بين الأحلام والخيالات والرؤى، وبين الواقع والخيال.
هناك ثلاثة عناصر واضحة في هذا الفيلم من حيث الدلالات والإشارات: الدين والجنس ودخائل النفس البشرية. هذه العناصر تتكرر في كل أفلام جودوروفسكي. إن فينكس مثلا يظهر في اللقطة الأولى من الفيلم على هيئة المسيح، لكنه داخل زنزانته المقفرة، يتسلق شجرة وينزوي عاريا أعلاها. وتتردد في الفيلم أيضا فكرة الإثم والخيانة والخضوع للإغواء بالمفهوم الديني، ولكن في المقابل هناك أيضا الخضوع لما يعتبره خودوروفسكي نوعا من الأساطير والقصص الأرضية التي يحولها الإنسان إلى معتقدات "سماوية" كما في حالة الفتاة التي تغتصب وتقتل فتتحول إلى "قديسة" ولكن بدماء مقدسة مزيفة.
الرغبة الجنسية العارمة ترتبط بالخيانة، ويتم القضاء عليها بالإخصاء، ثم بالقتل في أبشع أشكاله وصوره بعد ذلك على يدي فينكس أو يدي أمه، التي تدفعه إلى قتل كل فتاة تثير فيه الرغبة. والقتل هنا مادي تماما، حسب رؤية خودوروفسكي، لكنه يريد أن يصور لنا كيف يقمع الإنسان رغباته بأقوى ما يمكن، تحت دوافع الدين والعرف.
أما النفس البشرية فهي شديدة التعقيد. وقد تكون شديدة الاختلاف في الداخل عما يبدو من الخارج. وقد تتحول في لحظة ضعف أو انهيار إلى قوة مدمرة، يمكن توجيهها وقيادتها والسيطرة عليها.
ولعل جمال الفيلم وجاذبيته تكمن في أن مخرجه يقدم لنا كل هذه العناصر الفنية والفكرية والجمالية وينتقل فيما بينها، دون أن يفقد القدرة على "رواية قصة" مشوقة أيضا ومثيرة للخيال والفكر، ودون أن يفلت منه الإيقاع العام لحظة واحدة.
عناصر سيريالية
وتتبدى معالم أسلوب جودوروفسكي السيريالي في الكثير من مشاهد الفيلم وأجوائه. هناك مثلا مشهد جنازة الفيل: فيل السيرك الصغير ينزف إلى أن يموت. يقومون بوضع جثته داخل صندوق كبير أي نعش خاص ثم يضعونه فوق شاحنة بعد أن لفها بعلم السيرك. وتتحرك الشاحنة تحمل نعش الفيل وتمر بشوارع المدينة، ويشارك أصدقاء الفيل الراحل، من مهرجي السيرك ولاعبيه وأهل المدينة، في الجنازة المهيبة، حتى أن يصل الموكب الغريب إلى حافة الجبل. ويلقون بالنعش اسفل الجبل، وهنا يهجم حشد من مشردي المدينة ويبدأون في تحطيم النعش، ويستخرجون قطعا من جسد الفيل المسكين يوزعونها على أنفسهم تمهيدا لالتهامها كي تقيهم شر الجوع!
وهناك المشهد الذي نرى فيه فينكس وهو يتأهب لدفن إحدى ضحاياه داخل حفرة ويقوم كما يفعل عادة، بطلاء الجزء الدامي الذي ينزف من جسد الضحية بالطلاء الأبيض. وفجأة تنشق الأرض، وتنبثق من جوفها جثث عشرات الضحايا من النساء، يرفعن أيديهن في تضرع ولوعة وعذاب، بينما يغمغم البطل في ألم وأسى: إغفروا لي.. إغفروا لي!
ويحيط خودوروفسكي فيلمه بأجواء السيرك، سواء في استخدامه للموسيقى أو في طريقة تحريك الممثلين أو استخداماته للإضاءة التي قد تبدأ داخل المشهد من بقعة محدودة ثم تتسع على طريقة الإضاءة في السيرك.
ويستخدم حركة الكاميرا، ليس فقط من أجل استعراض تفاصيل الديكورات الخيالية المرعبة التي يدور فيها التصوير، بل من أجل إضفاء دلالات درامية على المشهد. عند قيام فينكس مثلا بقتل ضحيته الأولى، لاعبة السيرك الموشومة الجسد، لا نرى البطل نفسه، بل يعيدنا المخرج لاستقبال حادث القتل، ونعرف أن فينكس سيقوم بقتلها، وتتحرك الكاميرا بشكل حر محمولة على اليد من وجهة نظر القاتل الذي لا نراه، ومن مستوى ارتفاع جسده، وتسير داخل ممرات معتمة ودهاليز كئيبة لبيوت المتعة السرية في مكسيكو سيتي، إلى أن تخترق غرفة المرأة. وفجأة تتوالى طعنات السكين وتتدفق الدماء في تفاصيل مرعبة. وقد تكون الأم هي التي تقود فينكس وتستخدم ذراعه في القتل.
ومن المشاهد السريالية الأخرى في الفيلم المشهد الذي نرى فيه الفتاة البكماء "ألما" وهي تهرب من حي الدعارة، ولكن رجلا من العالم السفلي يحاصرها ويوقفها. يبتسم لها ثم يضع يده على أذنه اليمنى وينزعها في هدوء كأنه ينزع قشرة عن بصلة، ويحاول أن يضع الأذن المقطوعة داخل فم الفتاة بالقوة لكنها تتمكن من الهرب.
وفي الفيلم مشاهد كثيرة يؤديها فينكس على المسرح، مستوحاة من خبرة خودوروفسكي وابنه أيضا في العمل مع رائد فن التمثيل الصامت الفرنسي مارسيل مارسو، وقد عمل الاثنان معه في باريس لسنوات.
وتتمثل عظمة أفلام خودوروفسكي في أنها تحيلنا إلى قراءة علم النفس الحديث، ومراجعة تقاليد مسرح السيكودراما، ومدرسة الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية، مع مراجعة تطور السينما كفن بصري بالدرجة الأساسية، فن يستفيد حقا من المسرح ومن الأدب والشعر وغيرهما، لكنه على مستوى السينما الخالصة، لا يشبه أيا من كل هذه الوسائط الفنية.
أخرج خودوروفسكي فيلم "الدماء المقدسة" Santa Sangre عام 1989 وهو من الإنتاج الإيطالي وصوره بأكمله في المكسيك. وقد كتب خودوروفسكي القصة، واشترك في كتابة السيناريو مع روبرتو ليوني وكلاوديو أرجينتو، وقام بدور البطولة في الفيلم أكسل خودوروفسكي ابن المخرج الكبير، وشارك فيه بالتمثيل أيضا والده أدان وبرونتيس خودوروفسكي.
ويعتمد الفيلم على قصة حقيقية نشرت تفاصيلها الصحف، عن قيام شاب أمريكي كان يعمل في السيرك، بقتل ثلاثين امرأة في المكسيك. هذه الحادثة يتخذها خودوروفسكي فقط إطارا عاما لفيلمه، لكنه يتيح لنفسه الحرية لتقديم رؤيته الخاصة "الخيالية" أو المتخيلة، لما يمكن أن يكون قد أدى إلى وقوع تلك السلسلة من جرائم القتل البشعة، وما يمكن أن يكون كامنا خلف قناع شخصية القاتل الشاب من مأساة عميقة الجذور.
إنه فيلم عن التطرف الديني، وعن الشهوة وارتباطها بالعنف، وعن الأوديبية الفرويدية ونتائجها المدمرة، وارتباط الماضي بالحاضر، وتأثير الطفولة على مرحلة الشباب طبقا للتحليل النفسي الفرويدي الذي يبدو أن خودوروفسكي مولعا به، وهو الذي خبر العمل في مسرح السيكودراما.
مأساة فينكس
يبدأ الفيلم بشاب يدعى "فينكس" يعالج في إحدى المصحات النفسية. يبذل الأطباء جهودا كبيرة من أجل إعادة ثقته بنفسه. نشاهده في البداية داخل غرفة مجردة من الأثاث متجردا من ملابسه، يتصرف مثل قرد في الغابة، وقد وضعوا له في الغرفة ديكورا خاصا: شجرة وبضعة أحجار وحبل. الشاب يتسلق الشجرة فزعا عند دخول الطبيب، وينكمش على نفسه رافضا أن يتبادل الحديث مع أحد.
من هذا المشهد ينتقل الفيلم بطريقة القطع إلى "فلاش باك" أو عودة للماضي، إلى مرحلة الطفولة لنجد بطلنا وهو في العاشرة من عمره، يعمل في سيرك بالمدينة مع أمه "كونشا" التي تقدم الاستعراضات الصعبة "الترابيز"، ومع أبيه "أورجو" الذي يجيد لعبة رشق السكاكين. الأم مكسيكية (لاتينية) مسيطرة، متسلطة، والأب أمريكي، ضخم الجثة، فظ، غليظ القلب، لا يأبه لمشاعر زوجته. وهو يقوم بعرض يومي يتلخص في إلقاء السكاكين حول جسد فتاة الاستعراض اللعوب التي تتلوى أمام لوحة رشق السكاكين.
أما الأم فهي "مهووسة" دينيا، تتزعم مجموعة من النساء اتخذن لأنفسهم من فتاة اغتصبت وقتلت وهي في عمر الزهور، قديسة يتبركن بها، بل وأقمن معبدا خاصا لها لممارسة شعائر تلك الديانة الجديدة الغريبة. رجال الشرطة يحيطون بالمعبد، يريدون تدميره بصحبة قس يعتبر أن النساء من أتباع تلك الديانة الجديدة قد انحرفن عن المسيحي الحق، والأم تصرخ ملتاعة وتتصدر مظاهرة لنساء ديانتها، وتواجه باستماتة رجال الشرطة لمنعهم من تدمير المعبد الذي أقيم داخل كنيسة استولوا عليها.
الهوس الديني
النساء يتحصن داخل المعبد، ونرى حوضا مليئا بالدماء، ونموذجا للفتاة التي أصبحت مقدسة، وتلقي فتاة شابة بنفسها وسط الدماء وهي تردد في هستيرية "الدماء المقدسة.. الدماء المقدسة".. إنه الانسياق الأعمى وراء فكرة القربان أو الضحية التي يتعين على الإنسان تقديمها لكي يحصل على الغفران.
القس يحاول التوصل إلى حل سلمي لانهاء الموقف.. أي تصفية المعبد الذي يعتبره وثنيا خارجا على الكنيسة وانسحاب النساء وتجنب المواجهة مع الشرطة. وهو يحاول إفاقة النساء من سيطرة الأكذوبة، فيقول إن ما يوجد داخل الحوض الكبير ليس دماء وإنما ماء ملون بالصبغة الحمراء.. أي أنهن يخدعن أنفسهن أو تخدعهن كونشا التي تتزعم أتباع تلك الديانة، وإن الفتاة التي قتلت لاقت مصيرها طبقا لارادة الله ولا يجب أن نجعل منها قديسة. تصرخ كونشا في وجهه وتنهى النساء عن الاستماع إليه. وأمام التعصب والإصرار والرغبة المستبدة في الانتحار الجماعي لدى مجموعة النساء المهووسات دينيا ينسحب القس.
يقوم رجال الشرطة بهدم المعبد باستخدام جرافة ضخمة. وترفض الأم الانسحاب بل تحاول التشبث بأي طريقة بأطلال المعبد بعد هدمه. ويندفع ابنها فينكس لإنقاذها قبل أن تلقى مصيرها.
الإغراء والعقاب
ننتقل بعد هذا إلى أجواء السيرك. الأب "أورجو" مفتون بامرأة الاستعراض التي يرشق حول جسدها السكاكين. هذه المرأة يقدمها خودوروفسكي كنموذج للإغواء الأنثوي الصارخ أو للفتنة الشيطانية، جسدها يمتلئ بوشمات عديدة تحمل إشارات وثنية خاصة، وهي ترتدي ملابس شفافة تلتصق بجسدها وتكشف عن مفاتنها، ويتلوى جسدها الملئ بالوشم في ارتجافات متتالية، وتقوم باغواء أورجو بينما تشاهد زوجته كونشا ما يحدث بينهما من مكانها في أعلى السيرك حيث ترقص على السلك، وينتهي الأمر بقيام كونشا بإخصائه في مشهد صادم، فهي تلقي مادة كاوية على عضوه الذكري فتحرقه، ويتحامل الرجل على نفسه بصعوبة شديدة، وينهض ويطارد زوجته ثم يقوم بالانتقام منها بطريقة بشعة باستخدام سكينين يضعهما تحت ابطيها وفي حركة واحدة يقوم بقطع ذراعيها بوحشية ثم يقتل نفسه، وتتفجر الدماء انهارا من جسد المرأة الملقى على الأرض. تتجمع الكلاب تلعق الدماء في أحد أكثر المشاهد وحشية في تاريخ السينما.
تتطور القصة بسرعة. امرأة الاستعراض الشهوانية الموشومة تهرب بصحبة الفتاة البكماء الجميلة التي ترتبط بعلاقة صداقة مع بطلنا الصغير "فينكس"، والأخير يشاهد هروب المرأة الموشومة دون أن يستطيع أن يفعل شيئا، فقد حبسه أبوه داخل شاحنة صغيرة أغلق أبوابها عليه. بعد موت الأب، تعثر الشرطة على فينكس فيودعونه مصحة نفسية، ويخرج ذات يوم في جولة تنظمها المصحة بصحبة مجموعة من المرضى المتخلفين عقليا، يشاهد اثناء ذلك المرأة الموشومة ويرصد مكانها، فتعود إليه ذكرى المأساة.
تظهر أمه المقطوعة الذراعين أمام المصحة تناديه من الشارع. يتسلق هو الجدار إلى أن يصل إلى النافذة ثم يتدلى منها بحبل ويلحق بأمه، ويصبح منذ تلك اللحظة لصيقا بها بل بديلا عن ذراعيها.
ثنائية الأم والإبن
ويأتي وقت الانتقام من المرأة التي كانت سببا في مأساة حياته. يعرف أنها تعمل قوادة، تحاول أن تدفع الفتاة البكماء إلى الدعارة. وفي مشهد دموي آخر يهاجمها داخل حجرتها ويسدد لها طعنات متتالية ولا يتركها إلا بعد أن يمزق جسدها. ونحن لانرى وجهه، بل يده فقط التي تطعن، وربما تكون الأم هي التي تقتل وهو مجرد أداة، وربما أيضا أنه قد أصبح متوحدا مع امه بشكل يجسده الفيلم على صعيد مادي ونفسي. وتقدم الأم نفسها في بعض مشاهد الفيلم كما لو كانت "بديلا" عن المرأة عموما، في حياة ابنها "فينكس"، ويقبل هو سيطرتها عليه بمتعة خاصة. ونلمح إشارات إلى علاقة أوديبية لاشك فيها.
الأم تقوم بتقديم عرض خاص يومي في أحد الملاهي الليلية في المدينة، والشاب يشترك معها في العرض، فيلتصق بجسدها من الخلف ويدخل النصف الأعلى من جسده داخل نفس الملابس التي ترتديها ويستخدم ذراعيه كما لو كانا ذراعان لها. هي تعزف على البيانو بيديه، وعندما تريد أن تحك ذقنها يقوم هو بذلك، أو تشير بيدها أن يتوقف.. هذه الحيلة تبدو في الفيلم شديدة الإقناع، ولاشك أن الممثلين تدربا طويلا على الأداء بهذه الطريقة حتى وصلا إلى هذا الحد من الدقة المطلقة.
تسيطر كونشا على فينكس سيطرة تامة، ويبدو هو منقادا لها، تحت تأثير التنويم الإيحائي الذي تستخدمه. إنها تعتمد في القيام بكل صغيرة وكبيرة عليه وعلى يديه، حتى في القيام بأعمال التطريز، لكن الأهم أنها توحي له بما يتعين عليه القيام به، فهي تدفعه إلى قتل أي امرأة تقترب منه، بعد أن رسخت في ذهنه فكرة أن الإغواء شيطان، وأن العاطفة تؤدي إلى الوقوع في الإغواء بالضرورة، وهذه الإشارات كلها تصل إلينا في الفيلم من خلال النسيج العام وليس بشكل مباشر. وكلما كاد "فينكس" يخضع لرغبات الشباب أو لنداء العاطفة، تقوم هي بتحريضه على الخلاص من المرأة التي تثيره أو تثير عاطفته بقتلها ودفنها، وهكذا تتكرر جرائم القتل.
تفقد الأم السيطرة على ابنها فقط بعد ظهور الفتاة البكماء "ألما" مرة أخرى في حياة البطل. هذه الفتاة هي رمز للنقاء والبساطة والصدق.. إنها "الحقيقة" الوحيدة في حياة فينكس. لكن أمه لا تطيق أن يرى ابنها الحقيقة الأخرى الخارجة عنها وعن سيطرتها فتطلب منه أن يقتل "ألما"، لكنه يرفض ويتمرد بل ويتجه لكي يقتل الأم نفسها ثم يحرق المنزل الذي أقامت في داخله معبدا صغيرا لممارسة شعائر ديانتها الشيطانية، وبذلك يتخلص من الأم (السيطرة بالوراثة)، والدين (السيطرة بالاكتساب).
رؤية مرعبة
خودوروفسكي الذي عاش وعمل في تشيلي والمكسيك والولايات المتحدة واسبانيا وفرنسا، يقدم هنا رؤيته الخاصة للإنسان وللعالم، وهي رؤية شديدة القسوة والعنف. هناك تحرر كبير في طريقة السرد السينمائي تتناسب مع الرؤية السيريالية المخيفة التي يصورها خودوروفسكي، فالبناء الدرامي لا يخضع للمنطق التقليدي في الحكي بل يعتمد على التداعي الحر، وتداخل الأزمنة، والقفز بين الأمكنة، والمزج بين الأحلام والخيالات والرؤى، وبين الواقع والخيال.
هناك ثلاثة عناصر واضحة في هذا الفيلم من حيث الدلالات والإشارات: الدين والجنس ودخائل النفس البشرية. هذه العناصر تتكرر في كل أفلام جودوروفسكي. إن فينكس مثلا يظهر في اللقطة الأولى من الفيلم على هيئة المسيح، لكنه داخل زنزانته المقفرة، يتسلق شجرة وينزوي عاريا أعلاها. وتتردد في الفيلم أيضا فكرة الإثم والخيانة والخضوع للإغواء بالمفهوم الديني، ولكن في المقابل هناك أيضا الخضوع لما يعتبره خودوروفسكي نوعا من الأساطير والقصص الأرضية التي يحولها الإنسان إلى معتقدات "سماوية" كما في حالة الفتاة التي تغتصب وتقتل فتتحول إلى "قديسة" ولكن بدماء مقدسة مزيفة.
الرغبة الجنسية العارمة ترتبط بالخيانة، ويتم القضاء عليها بالإخصاء، ثم بالقتل في أبشع أشكاله وصوره بعد ذلك على يدي فينكس أو يدي أمه، التي تدفعه إلى قتل كل فتاة تثير فيه الرغبة. والقتل هنا مادي تماما، حسب رؤية خودوروفسكي، لكنه يريد أن يصور لنا كيف يقمع الإنسان رغباته بأقوى ما يمكن، تحت دوافع الدين والعرف.
أما النفس البشرية فهي شديدة التعقيد. وقد تكون شديدة الاختلاف في الداخل عما يبدو من الخارج. وقد تتحول في لحظة ضعف أو انهيار إلى قوة مدمرة، يمكن توجيهها وقيادتها والسيطرة عليها.
ولعل جمال الفيلم وجاذبيته تكمن في أن مخرجه يقدم لنا كل هذه العناصر الفنية والفكرية والجمالية وينتقل فيما بينها، دون أن يفقد القدرة على "رواية قصة" مشوقة أيضا ومثيرة للخيال والفكر، ودون أن يفلت منه الإيقاع العام لحظة واحدة.
عناصر سيريالية
وتتبدى معالم أسلوب جودوروفسكي السيريالي في الكثير من مشاهد الفيلم وأجوائه. هناك مثلا مشهد جنازة الفيل: فيل السيرك الصغير ينزف إلى أن يموت. يقومون بوضع جثته داخل صندوق كبير أي نعش خاص ثم يضعونه فوق شاحنة بعد أن لفها بعلم السيرك. وتتحرك الشاحنة تحمل نعش الفيل وتمر بشوارع المدينة، ويشارك أصدقاء الفيل الراحل، من مهرجي السيرك ولاعبيه وأهل المدينة، في الجنازة المهيبة، حتى أن يصل الموكب الغريب إلى حافة الجبل. ويلقون بالنعش اسفل الجبل، وهنا يهجم حشد من مشردي المدينة ويبدأون في تحطيم النعش، ويستخرجون قطعا من جسد الفيل المسكين يوزعونها على أنفسهم تمهيدا لالتهامها كي تقيهم شر الجوع!
وهناك المشهد الذي نرى فيه فينكس وهو يتأهب لدفن إحدى ضحاياه داخل حفرة ويقوم كما يفعل عادة، بطلاء الجزء الدامي الذي ينزف من جسد الضحية بالطلاء الأبيض. وفجأة تنشق الأرض، وتنبثق من جوفها جثث عشرات الضحايا من النساء، يرفعن أيديهن في تضرع ولوعة وعذاب، بينما يغمغم البطل في ألم وأسى: إغفروا لي.. إغفروا لي!
ويحيط خودوروفسكي فيلمه بأجواء السيرك، سواء في استخدامه للموسيقى أو في طريقة تحريك الممثلين أو استخداماته للإضاءة التي قد تبدأ داخل المشهد من بقعة محدودة ثم تتسع على طريقة الإضاءة في السيرك.
ويستخدم حركة الكاميرا، ليس فقط من أجل استعراض تفاصيل الديكورات الخيالية المرعبة التي يدور فيها التصوير، بل من أجل إضفاء دلالات درامية على المشهد. عند قيام فينكس مثلا بقتل ضحيته الأولى، لاعبة السيرك الموشومة الجسد، لا نرى البطل نفسه، بل يعيدنا المخرج لاستقبال حادث القتل، ونعرف أن فينكس سيقوم بقتلها، وتتحرك الكاميرا بشكل حر محمولة على اليد من وجهة نظر القاتل الذي لا نراه، ومن مستوى ارتفاع جسده، وتسير داخل ممرات معتمة ودهاليز كئيبة لبيوت المتعة السرية في مكسيكو سيتي، إلى أن تخترق غرفة المرأة. وفجأة تتوالى طعنات السكين وتتدفق الدماء في تفاصيل مرعبة. وقد تكون الأم هي التي تقود فينكس وتستخدم ذراعه في القتل.
ومن المشاهد السريالية الأخرى في الفيلم المشهد الذي نرى فيه الفتاة البكماء "ألما" وهي تهرب من حي الدعارة، ولكن رجلا من العالم السفلي يحاصرها ويوقفها. يبتسم لها ثم يضع يده على أذنه اليمنى وينزعها في هدوء كأنه ينزع قشرة عن بصلة، ويحاول أن يضع الأذن المقطوعة داخل فم الفتاة بالقوة لكنها تتمكن من الهرب.
وفي الفيلم مشاهد كثيرة يؤديها فينكس على المسرح، مستوحاة من خبرة خودوروفسكي وابنه أيضا في العمل مع رائد فن التمثيل الصامت الفرنسي مارسيل مارسو، وقد عمل الاثنان معه في باريس لسنوات.
وتتمثل عظمة أفلام خودوروفسكي في أنها تحيلنا إلى قراءة علم النفس الحديث، ومراجعة تقاليد مسرح السيكودراما، ومدرسة الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية، مع مراجعة تطور السينما كفن بصري بالدرجة الأساسية، فن يستفيد حقا من المسرح ومن الأدب والشعر وغيرهما، لكنه على مستوى السينما الخالصة، لا يشبه أيا من كل هذه الوسائط الفنية.
1 comments:
جميل ... ولكن التفاصيل مرعبة..!
إرسال تعليق