غير أن جوائز مسابقة الأوسكار تحديدا ليست دائما معيارا للقيمة الفنية، فمن المعروف أنها تخضع لاعتبارات عديدة تدخل في حساب القائمين عليها خاصة وأنها تمنح من طرف ممثلي صناعة السينما وهم ستة آلاف عضو هم أعضاء "الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية"، وهي عبارة عن تجمع كبير لنقابات العاملين في هوليوود. ويتم التوصل لنتائج المسابقة من خلال نظام للاقتراع السري، دون عروض منظمة للأفلام، ودون مناقشات، علنية أو سرية، بل ودون مسوغات لمنح الجوائز.
"سيكون هناك دم" فيلم أمريكي ذو مذاق مختلف كثيرا عما هو سائد في أفلام أمريكية أخرى، فهو يتمرد على الكثير من طرقها واساليبها، ويعتبر على نحو ما، مغامرة فنية، تفضل شركات هوليوود التقليدية الكبيرة عادة الابتعاد عن خوضها، مفضلة ما هو "مضمون" من أفلام تروي قصصا مثيرة للخيال والمشاعر.
اما هذا الفيلم الذي أخرجه بول توماس أندرسون (38 عاما) فهو يتجه وجهة جديدة، تعتمد على التجريد والمزج بين الواقعية والرمزية، مع تجاهل التبريرات الدرامية سواء في ابعادها النفسية أو الاجتماعية، وهو ما يجعل الفيلم عملا مركبا ذا مستويات متعددة أيضا للفهم والاستقبال.
ظهور النفط
يعتمد الفيلم- وإن بتحرر- على رواية بعنوان "نفط" Oil للكاتب الأمريكي ابتون سنكلير صدرت في عام 1927، وتبدأ الأحداث في عام 1898 ونحن نرى رجلا بمفرده، هو بطلنا دانييل بلانفيو، وهو يقوم بالتنقيب عن الذهب في نفق في صحراء جنوب كاليفورنيا. وهو يعثر أولا على الفضة بدلا من الذهب، ثم وبمحض المصادفة، يعثر على الذهب الأسود أو النفط.
بعد ذلك تتسع أعمال الرجل فيستعين بمساعدين للعمل معه في البئر الأولى التي يمتلكها، ويتمكن من إقامة حفار للنفط بوسائل بدائية مما يؤدي أولا إلى وفاة أحد العاملين، وترك ابنه الطفل الذي يتبناه فلانفيو ويستخدمه بعد أن يصبح صبيا في التاسعة، يقدمه كشريك له حتى يستدر العطف ويضفي على نفسه مسحة من الاحترام.
ويسعى بلانفيو للتوسع ومد أعمال حفر الآبار إلى مناطق أخرى، ويأتيه ذات يوم شاب يدعى "بول صنداي" يعرض عليه شراء أراض تابعة لأسرته يؤكد له أنها ترقد على كميات هائلة من النفط. ويتجه بلانفيو مع ابنه بالتبني إلى منطقة "بوسطون الصغيرة" حيث توجد أراضي الأسرة، وهناك يلتقي برب الأسرة وابنها الثاني "إيلي صنداي" وشقيقته ماري.
وتوافق الأسرة على بيع الأراضي، لكن إيلي يطلب مزيدا من المال كدعم لكنيسة تابعة له يقوم من خلالها بأعمال التبشير لمذهبه الديني المتطرف، ولا يجد دانييل مفرا من الرضوخ على مضض.
مع تدفق النفط من البئر يشتعل حريق ويقع انفجار ضخم يؤدي إلى إصابة الطفل الذي لا نعرف اسمه ويطلق عليه بلانفيو "إتش دبليو" بالصمم بعد أن أدى الانفجار إلى اتلاف طبلتي أذنيه.
تكون هذه العقبة الأولى التي يواجهها بلانفيو ويتعين عليه التعامل معها بصرامة، فالصبي الذي يجد نفسه وحيدا عاجزا عن السمع، يتمرد بسبب المعاملة الخشنة التي يلقاها ويشعل النار ذات ليلة في المسكن المؤقت الذي يرقد فيه مع والده بالتبني.
ومع اتساع نطاق آبار النفط وزيادة ثروة دانييل بلانفيو وتطلعه للسيطرة على مزيد من الأراضي التي تكفل له الوصول بخط أنابيب يعتزم مده إلى ساحل البحر، سرعان ما يواجه العقبة الثانية مع وصول رجل يدعى "هنري" يقول إنه أخ له من أم أخرى، وإنه يرغب في الحصول على عمل يقيه شر الحاجة.
في البداية يلحقه بلانفيو بالعمل كمساعد له، ثم يبدأ في التشكك في صحة روايته، كما يضيق بالمتاعب التي يسببها له ابنه بالتبني، فتخلص من الفتى عنوة ويلحقه بمدرسة داخلية للصم. ثم ينفرد بهنري في الغابة ليلا ويهدده بالقتل إذا لم يعترف له بحقيقته، فيعترف الرجل بأنه اخترع القصة لحاجته للعمل، ويؤكد له إخلاصه، لكن بلانفيو، يقتله ثم يدفنه.
أما العقبة الثالثة التي يواجهها فهي تتمثل في "إيلي صنداي" الذي يواصل ابتزازه مقابل تسهيل حصوله على مزيد من الأراضي التي يمد فيها احتكاره النفطي. "إيلي" يريد أن يطوع بلانفيل ويدخله ضمن زمرة المنخرطين في مذهبه الديني ولو بتحريض الناس ضده بدعوى استغلاله لهم، أو ابتعاده عن الدين. والهدف بالطبع ليس دينيا، بل كنوع من الابتزاز للحصول على اكبر مكاسب ممكنة. وفي واحد من أهم مشاهد الفيلم، يوافق بلانفيل، خدمة لمآربه الخاصة، بالامتثال للقس الشاب الذي يعرف حقيقة أنه مزيف، وأنه لا يختلف عنه في جشعه وسعيه لتحقيق مآربه الخاصة، ويقوم بالاعتراف علانية أمام رواد الكنيسة بارتكاب الإثم والخطيئة وبأنه تخلص من ابنه بطريقة شريرة، ويتعهد باستعادته وبعدم التخلى عنه مستقبلا، والأهم بالطبع، أنه يوافق علىالتبرع بمزيد من الأموال للطائفة الدينية وبناء كنيسة كبيرة لأتباعها الذين تسحرهم قوة شخصية "إيلي" وقدرته على التمثيل والتقمص وادعاء القدرة على الإتيان بالمعجزات.
الصراع في الفيلم يمتد إلى النهاية، إلى حين يقضي بلانفيو على خصمه الدود ويتخلص منه إلى الأبد بعد أن يجعله يعترف بغشه وكذبه واحتياله. لكنه في الوقت نفسه يكون قد بلغ ذروة سقوطه.
السينما الأمريكية عرفت بالتزامها بـ"وصفات" محددة للأفلام يطلق عليها النقاد ، أنواع الأفلام أو genres ويتبعها عادة المنتجون في تحديد طبيعة مواصفات موضوع الفيلم الذي يراد إنتاجه، فهناك أفلام الويسترن أو الغرب الأمريكي، كما أن هناك أفلام الرعب والكوميديا والمغامرات البوليسية والدراما التاريخية والدراما الاجتماعية.. وغيرها.
أما هذا الفيلم فلا يخضع لمواصفات "النوع"، فهو ينتقل بين الويسترن أو الغرب الأمريكي، والرعب والدراما النفسية ولكن بعيدا عن التحليل النفسي، فلا توجد هنا دوافع ولا مبررات. وربما يتمثل أسلوب أفلام "الويسترن" في أبعاده العامة: بطل فردي غامض مغامر يجرب حظه في اكتشاف الذهب فيكتشف الذهب الأسود ويتصارع عليه مع خصوم آخرين (الشركات المنافسة التي تحاول أن تشتري منه آباره المكتشفة وتزيحه عن الساحة)، أو مع خصم يريد أن يشاركه في الملكية، وإن كان هنا من نوع مختلف، فهو يعتمد على إثارة الناس ضده بوحي ادعاءات أخلاقية ودينية. لكن الفيلم لا يحتوي على مطاردات بالجياد ومبارزات وتبادل لإطلاق النار، كما لا يتضمن صراعا بين الأخيار من المكتشفين البيض والأشرار من الهنود الحمر.
وبدلا من المبارزات التقليدية المباشرة هناك مبارزة طويلة ممتدة تدور بين شريرين هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة: دانييل بلانفيو وإيلي صنداي. الأول يخدر الناس بزعم أنه سيحيل حياتهم من البؤس إلى الثراء إذا ما ساعدوه في المضي قدما في استخراج "الذهب الأسود" وتحقيق الثراء، تحت وهم فكرة "الثراء للجميع". والثاني يوهم الناس بقدرته على الشفاء وعمل المعجزات ويبتز الأول استنادا على قدرته على تحريض الناس للوقوف ضد مشاريعه التجارية.
تجريد متعمد
ورغبة في تحميل الفيلم طابعا رمزيا، يحيط السيناريو الشخصيتين الرئيسيتين بالكثير من التجريد: فدانييل بلانفيو رجل غامض، يبدو بلا ماض، مقطوع الصلة بالأسرة، بل إنه يرفض حتى قبول أي شئ يذكره بالماضي الذي تركه خلفه، يبدو مدفوعا بفكرة واحدة فقط هي جمع المال والملكية. وهو يخشى من المنافسة ولا يطيق أن ينافسه أحد حتى لو كان ولده بالتبني، ويجد أن الآخرين هم الجحيم بعينه، ولكن ليس على مستوى سارتر الوجودي الذي كان يعلي كثيرا من شأن الحرية الفردي، بل لتبرير أنانيته ورغبته في الاستحواذ بأي ثمن.
إن فيلم "سيكون هناك" دم، بتكوينه الدرامي من أكثر الأفلام تعبيرا عن الشخصية الأمريكية التقليدية، عن نشأة وتطور أمريكا: الشركة الكبيرة التي تحسب مصالحها ببرود، وتتطلع دوما إلى التفوق على غيرها بكل طريقة. إنه عمل فني بديع عن الجشع والرغبة المرضية في الاستحواذ عندما تصل إلى ذروتها، عن اغتيال الطبيعة وتلويثها دون حساب سوى للقيمة النفعية المباشرة، عن بيع وهم "الجنة الأرضية" للآخرين، والاتجاه إلى التحالف المشبوه مع أتباع المذاهب المتطرفة لضمان تحقيق السيطرة، وعدم التورع عن ارتكاب جرائم القتل في أبشع صورها، وتصفية الخصوم على طريقة عصابات المافيا حتى النهاية الدموية.
نقيض البطل
لا يقف أي شئ في طريق دانييل بلانفيو. وهو كما يقدمه الفيلم، نموذج لنقيض البطل anti-hero ، فهو رجل وحيد، حياته جافة مثل ملامح وجهه المتغضنة، يغيب الحب وتغيب العلاقة مع المرأة من حياته (لا وجود للمرأة في الفيلم بشكل عام، وهو بهذا المعنى فيلم ذكوري تماما إمعانا في تأكيد مستوه الرمزي)، كما يعاني بطلنا من القطيعة مع الماضي، وفقدان التاريخ، والتخلي عن الأخلاق، واستخدام التدين الظاهري ستارا لأعمال استغلالية، والاستعلاء بالمال والقناعة بأنه كفيل وحده بالاستغناء عن الآخرين.
خلال الحوار بين دانييل وأخيه المزيف هنري، يعترف دانييل بكراهيته للآخرين عندما يقول له: "لقد كنت دائما أجد ان الناس غير مثيرين للاهتمام. بل إنني لا أحبهم.. وهدفي في الحياة هو أكن أجمع من المال ما يمكنني من الاستغناء عنهم". وبعد الاعتراف يأتي القتل، كما لو كان بلانفيو لا يمكنه أن يتعايش مع شخص اعترف له بنقطة ضعفه.
أما إيلي صنداي، فهو أيضا شخصية فيها من التجريد الذي يجعلها رمزا أكثر مما فيها من الواقع، فهو الوجه الآخر للانتهازية والجشع والرغبة في الصعود والتملك والسيطرة والنفوذ بأي ثمن. إنه يستخدم ذكاءه وفطنته وسهولة الترويج للأسطورة، من أجل السيطرة على مشاعر الناس، وبالتالي استخدامهم لتحقيق مآربه في التملك والامتلاك: تملك الناس، وامتلاك المال والسلطة. والعلاقة المشوبة بالتوتر بين الاثنين هي العلاقة الأمريكية بين المال والسلطة والفكر المزيف.
ويستخدم الفيلم الممثل نفسه (بول دانو) لأداء دوري الشقيقين: بول الخير، وإيلي الشرير، بطريقة توحي بأنهما يمكن أن يكونا الشخص نفسه، ويجعل الأول يختفي بعد ظهور الثاني مباشرة، دلالة على فكرة حلول الشر مكان الخير.
أسلوب الفيلم
لا يعتمد أسلوب البناء في الفيلم على "حبكة" مشوقة تصعد إلى ذروة حتى تنفرج الأحداث بالتطهير أو بالنهاية السعيدة، بل تسير في خطوط متعرجة، أي على عكس البناء السائد في السينما الأمريكية التقليدية، مما يجعل الفيلم يقترب كثيرا من اعمال الفن الرفيع ذات النفس الملحمي، بلقطاته الطويلة وايقاعه البطئ الهادئ، وموسيقاه التي تستوحي قرقعات قطع الحديد واصطكاك تروس آلات الحفر، وصوت احتكاك العملات المعدنية.
يبدأ الفيلم تحت الأرض وبطلنا ينقب عن الذهب داخل نفق مظلم في منطقة معزولة في كاليفورنيا، ويستغرق الفيلم حوالي 15 دقيقة في سرد مشاهد صامتة، تركز على استماتة البطل (المناقض للبطل) في تحقيق حلمه. وتتناقض الصورة بعد ذلك بين الظلمة والنور، وبين باطن الأرض وسطحها، كما لو كانت تجسد الصراع بين الخير والشر، الجمال والقبح، براءة الطبيعة وجشع الإنسان. ويصور المخرج بطله، وهو يسقط في قاع الحفرة واصابته بعد ارتطامه بالأرض واصابته بعاهة تظل معه حتى النهاية. ويصوره الفيلم في المشاهده الأولى وقد غطي وجهه وجسده وملابسه بأوساخ النفط ونفايات الطبيعة.
وينتهي الفيلم في عام 1927، وبعد أن يكون بلانفيو قد اصبح من كبار الأثرياء في بلده وأصبح يعيش في قصر شيده كما كان يحلم، لكنه كالسجن، يعيش فيه وحيدا كما كان دوما، عاجزا عن الإحساس بالسعادة، ساعيا إلى الانتقام من خصمه الأبدي وإذلاله، ولا يهم كيف ينتهي الأمر بعد ذلك.
وفي واحد من أفضل مشاهد الفيلم قبل النهاية، يواجه دانييل ولده بالتبني بعد أن كبر وتزوج. هنا يعلن الشاب، من خلال لغة الإشارات، أنه يريد أن يرحل بعيدا لكي يكون شركته الخاصة، وإنه يرغب في التحرر من سيطرة دانييل والعيش كظل له.
ويستشيط دانييل غضبا، فما معنى أن يرغب الولد في الاستقلال وتكوين شركته الخاصة؟ معناها أنه سيصبح منافسا له، كما يقول، وهو لا يسمح بأي منافسة، بل سيسعى للقضاء على أي منافس محتمل له. ويأخذ في صب اللعنات عليه، ويعترف له بأنه ليس ابنه، بل مجرد ابن زنا عثروا عليه في كيس يتدلى من شجرة في الصحراء!
ولعل الجانب الأكثر بروزا في الفيلم يتمثل في ذلك الأداء العبقري الفذ للممثل الانجليزي دانييل داي لويس في الدور الرئيسي. ويمكن القول إنه لا يقوم فقط بدور البطولة في الفيلم أي دور دانييل بلانفيو، بل يحمل الفيلم بأكمله على كتفيه، موظفا كل خبرته وقدرته على الحركة والأداء والتعبير بالعينين وارتجافة الشارب ورمشة العين التي قد لا يلحظها أحد، يسير متثاقلا كأنه يخرج من الجحيم، ويبدو بصوته الأجش المتسلط كما لو كان نذيرا باجتياح الشر للعالم بعد أن فقد روحانياته.
إنه لا يتقمص فقط الشخصية ويؤديها بكل خشونتها وانعزاليتها وضراوتها في التعامل مع الآخرين من الخارج، بل ينجح في التسلل تحت جلد الشخصية، وتجسيد إحساسها الداخلي الميت بالناس وبالدنيا، كيف أصبحت هكذا، شخصية فاقدة للروح والجوهر. ومع فقدان الأخلاق العليا يفقد الإنسان إنسانيته مهما حقق من الثروة والجاه، ولعل هذا هو المفهوم الفلسفي الأكثر عمقا، الذي يسوقه إلينا هذا الفيلم البديع.
"سيكون هناك دم" عمل غير مسبوق في السينما الأمريكية سيبقى في الذاكرة، وسيكون هناك كثير من الأفلام قبل أن نرى عملا مشابها له في الروح والجوهر والرونق الفني.
1 comments:
رائع يا أمير من سواك سيحتفي بذكرة ليندساي اندرسون و السينما الحرة أما سيكون هناك دماء فتلخيص واف لهذه الأمة الكاذبة أمريكا و لكن للأسف نحن في عالم القوة أو لطالما كنا هكذا و سنظل
ضياء حسني
إرسال تعليق