الأحد، 19 أكتوبر 2008

لوي بونويل و"سحر البورجوازية الخفي"


عالم سينمائي لم يكشف كل أسراره بعد

لوي بونويل Luis Bunuel علم من أعلام السينما في العالم. عاش حياة مليئة بالتقلبات والتجارب. عمل في بلدان وظروف مختلفة: في المكسيك والولايات المتحدة واسبانيا وفرنسا، وعاصر كبار الفناني والسينمائيين والمفكرين والشعراء في عصرنا. كتب وأخرج خلال 50 سنة 35 فيلما.
من أهم أفلامه "تريستانا"، و"يوميات خادمة"، و"حسناء النهار" و"سحر البورجوازية الخفي"، و"شئ ما غامض عن الرغبة"، و"شبح الحرية".
صدرت مذكرات بونويل بعنوان "النفس الأخير Mon Dernier Soupir " عام 1983، بعد أشهر قليلة من وفاته، وتضم سيرته الذاتية وذكرياته الخاصة وعلاقاته والشخصيات المشهورة التي قابلها، ما كان يحبه وما كان يكرهه، تجربته في الحرب الأهلية الإسبانية وعلاقته بسلفادور دالي، وموقفه من الكنيسة والأسرة، في نوع من "أدب الاعترافات" الصريح والجرئ والممتع حقا. وقد ترجم المخرج والناقد السوري مروان حداد مذكرات بونويل عن الطبعة الإنجليزية التي حملت عنوان My Last Breath وصدرت عن منشورات مؤسسة السينما السورية عام 1991.

العلاقة بالسيريالية
التحق بونويل مبكرا بالحركة السيريالية التي ظهرت في الفن كرد فعل غاضب تجاه الواقع في أوائل العشرينيات من القرن الماضي أي بعد الحرب العالمية الأولى وما تركته من إحساس بسقوط القيم القديمة والمفاهيم الاجتماعية التي كان يعتقد أنها ثابتة، عن الحب والأسرة ومؤسسة الزواج وعلاقة الإنسان بالدولة..إلخ.
واشترك بونويل مع صديقه سلفادور دالي في كتابة سيناريو فيلم "كلب أندلسي" (1928) Un Chien Andalou وهو فيلم روائي قصير (26 دقيقة) يصور بشكل خارج كثيرا عن المألوف وصادم للعين، رؤية كابوسية للعلاقة بين الرجل والمرأة. ولا يتضمن الفيلم قصة أو سياقا سرديا واضحا ومحددا بل يقفز من مشهد إلى آخر ومن زمن إلى زمن أخر، دون أي شروح أو حتى تغير في شكل الشخصيات المحدودة التي تظهر فيه. وقد عرض الفيلم للمرة الأولى في باريس عام 1928.
ويقول بونويل في مذكراته إنه وسلفادور دالي كانا يخشيان من رد فعل الجمهور الغاضب إزاء الفيلم الذي كان يتضمن مشهدا يقطع فيه الرجل بالموسى عين المرأة فيخرج منها آلاف النمل.. غير أنهما فوجئا بإعجاب الجمهور بالفيلم.
من عالم الأحلام والهواجس والكوابيس والتحليل النفسي والرعب من المجهول، ومن تخيل ما يمكن أن يكون كامنا فيما وراء الطبيعة، صنع بونويل عالما خاصا يتبدى في معظم أفلامه، خاصة أفلامه الخمسة الأخيرة، التي تظل حتى يومنا هذا، شاهدة على عبقريته الفريدة.
وقد عاد الاهتمام بأفلام بونويل إلى الأوساط السينمائية الشابة في أوروبا خلال العقد الأخير، فأقبل الكثير من شباب نوادي السينما وجمعيات الأفلام وهواة جمع التحف السينمائية على اسطوانات رقمية dvd على الاهتمام بمشاهدة وتحليل أفلامه والاستمتاع بها، والتعلم مما يكمن فيها من أسرار: بصرية وذهنية وفلسفية، ومحاولة الكشف عن أسرارها الخافية التي تطويها اللغة السينمائية الخاصة التي ميزت أسلوبه.

مصادر الرؤية
وربما يمكن رصد المصادر الفنية والفكرية التي ساهمت في تشكيل عالم بونويل السينمائي في النقاط التالية:
1- البيئة الإسبانية بخلفيتها الثقافية: الأساطير، الأدب الخيالي، عالم سرفانتيس، رسوم جويا وفيلا كروز، وأشعار لوركا، وصولا إلى تجربة الثورة والتمرد العام والحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها بونويل إلى جانب الجمهوريين الذين هزموا على أيدي قوات الجنرال فرانكو مما اضطر بونويل للهرب والعيش في المنفى.
2- الحركة السيريالية بكل تمردها وسخطها على ثوابت عالمنا وجموده، التمرد على الواقعية والكلاسيكية كمذهبين يحدان كثيرا من التعبير الفردي لدى الفنان عما يحس به دون أن يملك مفاتيح لتحليله بشكل منهجي.
3- الدين: المسيحية الكاثوليكية بتقاليدها الصارمة، والرغبة في التمرد عليها، مع إيمان دفين وعميق بالوجود، والرغبة الدائمة في طرح التساؤلات المقلقة حول مغزى الوجود، وعلاقة الإنسان بالله.

لوي بونويل بريشة سلفادور دالي

4- التحليل النفسي والعلاقة بين الكبت الاجتماعي والكبت الجنسي، وعلاقة الاثنين بعالم الأحلام، وما يؤدي إليه البحث في هذا الجانب بالضرورة، إلى البحث في مغزى اللذة وعلاقتها بالألم وبفكرة الإثم أيضا. هناك تأثر واضح عند بونويل بكتابات الماركيز دي صاد فيلسوف الحرية المطلقة الذي عرف بكتاباته عن الجنس والعنف واللذة والألم، ورفض كل القيود التي تحد من المتعة الخالصة المطلقة مثل الدين والقوانين والتقاليد. وقد أخرج بونويل فيلمه الروائي الطويل الأول "العصر الذهبي" عام 1930 (63 دقيقة) وكتبه مع سلفادور دالي عن رواية الماركيز دي صاد "120 يوما في حياة سادوم".
5- الطبقة الوسطى بتقاليدها الشكلية الزائفة ومؤسساتها: الزواج والعلاقات الجنسية وقيمة العمل، مع طرح فكرة الظلم الاجتماعي والتمرد على الانتماء الطبقي دون الوقوع في التبسيط الكلاسيكي. هناك أيضا تأثر بونويل بالماركسية (كان لفترة عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي ثم طرد منه) لكن مع مزجها بالتحليل النفسي- وليس بالفرودية فقط- وبالسيريالية. وهناك تناول فريد لفكرة أن الإنسان سجين لأحلامه وكوابيسه وهواجسه الشخصية، وهي رؤية شديدة الثراء عند التعبير عنها بصريا، غير أنها من زاوية التفسير الماركسي، مرفوضة تماما.
إن عالم بونويل محكوم بنسق دقيق من تناقض الثنائيات على نحو جدلي، مما يجعل قراءة أفلامه قراءة أخلاقية مبسطة أمرا مستحيلا. إننا نجد مثلا، أن بونويل يكرر في كل أفلامه اللعب على ثنائيات مثل الخيالي والواقعي، الفردي والاجتماعي، الرقة والخشونة، اللذة والألم، الحب والتمرد. هذه الثنائيات، تدور في مزيج من الفوضوية السياسية والاجتماعية، والسيريالية كمذهب فني، إلى جانب العناصر الرئيسية الثابتة في سينما بونويل، التي يبرز من خلالها هجومه الحاد وهجائيته الشديدة وسخريته من "الثالوث المقدس": الجنس والدين والسياسة.
أفلام بونويل التي أخرجها في المكسيك وفرنسا، منعت من العرض تماما في وطنه إسبانيا طوال عهد الجنرال فرانكو، فقد اعتبرتها الرقابة الإسبانية أفلاما "منافية للآداب"، و"هدامة اجتماعيا"، وهي المفاهيم التي يكررها كل الفاشيين والقمعيين في كل مكان عبر التاريخ.

ا لسحر الخفي
ويكفي أن نتناول فيلما واحدا من أفلام بونويل هو فيلم "سحر البورجوازية الخفي" لندرك لماذا يتحفظ البعض على أفلامه حتى يومنا هذا، ولماذا يعتبرها البعض مغرقة في الغموض، مستغلقة على الفهم، ولنعرف من ناحية أخرى، لماذا يعتبره الكثير من النقاد، ومنهم كاتب هذه السطور، رائدا لتيار الحداثة في السينما العالمية مع قطب آخر من أقطابها البارزين هو الفرنسي جان كوكتو رغم الفارق الكبير بينهما في الأسلوب.
أخرج بونويل "سحر البورجوازية الخفي"Le charm discret de la bourgeoisie عام 1972 وكتبه بالاشتراك مع الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير الذي رافق رحلة إبداع بونويل واشترك معه في كتابة سيرته الذاتية بعد اعتزاله الإخراج عام 1977.
ويعتبر هذا الفيلم أكثر أفلام مخرجه كمالا وتعبيرا عن رؤيته الشاملة للعالم، كما أنه يحتوي على كل مفردات سينما بونويل. ومشاهدة الفيلم اليوم بعد أكثر من 35 عاما على ظهوره، تكشف لنا عبقرية صاحبه، وتؤكد قدرة أفلامه على الصمود في وجه الزمن، فمن يشاهد الفيلم يدرك أنه لايزال عملا أصيلا، متميزا، بجدته وجرأته، سواء في موضوعه أو في طريقة عرض موضوعه.
ما الموضوع إذن؟ ستة من أفراد الطبقة الوسطى (البورجوازية) هم ثلاثة من النساء وثلاثة من الرجال، يرغبون في قضاء أمسية يتناولون خلالها طعام العشاء معا، لكنهم يفشلون مرة تلو الأخرى، لأسباب مختلفة، ويربط بين مقاطع الفيلم المختلفة مشهد واحد يتكرر ظهوره طوال الوقت، لأفراد المجموعة وهم يذرعون طريقا ريفيا على غير هدي، ربما يسعون نحو تحقيق رغبة لا تتحقق أبدا ففي كل مرة يوشكون على تناول الطعام يحدث شئ أو يأتي أحد الأشخاص أو يستدعى شخص ما حلما من أحلامه يروها لهم، مما يحول دون تناول الطعام: المتعة الأساسية لدى البورجوازية (الفرنسية بشكل خاص) والتي يجري خلالها تبادل الحديث في شتى المواضيع.
من الخارج، ومن حيث المظهر العام، تبدو ثقتهم شديدة في أنفسهم. هناك سحر خاص غامض يجذبنا إليهم، لكن ما يزيح عنه بونويل الستار، يصيبنا بالفزع والنفور. إنه يعريهم ويهتك أسرارهم من خلال عالم الأحلام الذي يصوره بكل تفاصيله كما لم نره من قبل.
في البداية يحل أربعة منهم، بينهم فيليب، هو سفير لدولة "ميراندا"، وهي دولة خيالية بالطبع من دول أمريكا اللاتينية، ضيوفا على الثنائي الأول: رجل وزوجته (تقوم بدور الزوجة الممثلة ستيفان أودران التي عادت لكي تتألق في فيلم "وليمة بابيت" بعد 15 عاما).. لكن الزوجين يرغبان في ممارسة الحب في غرفة النوم. الخادمة تطرق عليهما باب الغرفة لكي تعلن وصول الضيوف الأربعة. يطلبان منها تقديم المشروبات إلى حين نزولهما لاستقبال الضيوف. لكن الأمر يصبح هزليا تماما عندما يقرر الرجل وزوجته، تحت إلحاح الرغبة، الهرب من الغرفة والتسلل مثل اللصوص عبر النافذة والنزول إلى حديقة المنزل، لاستكمال ما بدآه بين الأدغال.
الضيوف يشعرون بسأم من الانتظار الطويل. وعندما تخبرهم الخادمة أن مخدوميها هربا، يخشى السفير وزميله أن تكون الشرطة على وشك مداهمة المنزل فيهربان مع المرأتين، والسبب أن الرجال الثلاثة ضالعون في تجارة المخدرات، والسفير يقوم بتهريبها في الحقيبة الدبلوماسية.
الأحداث كلها تدور في إحدى ضواحي باريس الريفية. أجواء بداية السبعينيات واضحة في الفيلم: التمرد والحروب الشعبية المسلحة في غابات أمريكا اللاتينية انتقلت إلى شوارع باريس. هناك فتاة ثورية من "ميراندا" تطارد سفير بلادها، تريد أن تغتاله بسبب دوره القذر في تمويل العمليات العسكرية التي تشنها الحكومة ضد الثوار، لكنه يتمكن حسب "الأصول" البورجوازية، من إغوائها واصطيادها داخل بيته في باريس، حيث يجردها أولا من سلاحها، ثم يغازلها ويحدثها عن جمالها وتفتح جسدها، ثم يتركها ويهرب، ولكنه يشير بيده إشارة خاصة عبر النافذة يلتقطها حارسان مسلحان تابعان له، فيقبضان على الفتاة عند نزولها ويصطحبانها بطريقة وحشية لكي تلقى مصيرها.

حلم ودماء
في محاولة للاجتماع على مائدة العشاء في قصر أحد البورجوازيين الستة يحضر ضابط ومجموعة من الجنود. يعتذر الضابط للمجموعة بأن مناورات عسكرية على وشك أن تبدأ في المنطقة العسكرية القريبة من القصر. تلح عليه سيدة القصر لكي ينضم للمجموعة على العشاء. يقبل الضابط أن يتناول كأسا من الشراب فقط. يجلس مع جنوده الذين يدخنون الحشيش. يدور حوار حول الحشيش. يقول أحد البورجوازيين إن الجنود الأمريكيين أدمنوا تدخين الحشيش في فيتنام لذا كانوا يقصفون مواقع قواتهم بدلا من مواقع العدو. يحضر جندي شاب يحمل أمرا للضابط القائد بضرورة العودة إلى القيادة فورا. لكن الجندي يرغب في أن يقص على الحاضرين أولا حلما شاهده الليلة الماضية. يوافق الضابط. ودون تردد يقص الجندي الشاب عليهم كيف أنه رأى في المنام أمه المتوفية منذ مدة، وقد عادت لتشكو له خيانة والده لها. يتناول الشاب سكينا ويقتل والده. الدماء تغرق كل شئ، ثم ينتهي الحلم.
الداخل والخارج
الضابط يدعو المجموعة لتناول طعام العشاء في منزله الأسبوع القادم. وفي الموعد المحدد نراهم وقد التفوا حول مائدة الطعام. يقدم لهم جندي طعاما بلاستيكيا، وفجأة ينزاح ستار لكي نكتشف أنهم يجلسون فوق خشبة مسرح أمام جمهور يسخر منهم بسبب عدم حفظهم لأدوارهم!
يقوم ضابط شرطة باعتقال أفراد المجموعة في أمسية ثانية بتهمة حيازة المخدرات. في قسم الشرطة يروي ضابط لزميله قصة الضابط الذي كان يقوم بتعذيب ضحاياه بوحشية إلى أن بدأ يشعر بتأنيب الضمير فانتحر، لكن شبحه وهو ينزف دما يتبدى – كما نرى- كل عام ليلة الرابع عشر من يوليو (عيد سقوط الباستيل).
وفي مشهد سيريالي نرى الضابط المنتحر أمام بيانو، يفتح غطاءه، تظهر الأسلاك، يضع الجنود شابا من الفوضويين متهما بتفجير قنبلة في عمل من أعمال الإرهاب الثوري، فوق أسلاك البيانو البيضاوي. يدير الضابط ذراعيا آليا، تنتشر الكهرباء في الأسلاك ويرتفع الدخان، ويتلوى الشاب من شدة الألم ويصرخ.
في المشهد التالي نكتشف أن أحدهم كان يحلم مرة أخرى، وأن الضابط الدموي الذي يمارس التعذيب مازال يعمل في قسم الشرطة.
تأتي مكالمة هاتفية لمفتش الشرطة الذي اعتقل السفير وأفراد المجموعة. المتحدث على الطرف الآخر هو وزير الداخلية نفسه (يقوم بالدور الممثل ميشيل بيكولي). يأمر الوزير المفتش بإطلاق سراح الجميع فورا لما في اعتقالهم من إضرار بمصالح الدولة العليا. يحاول المفتش أن يتيقن مما يقوله الوزير، لكن صوت طائرة تعبر المجال فوق المنطقة تشوش على كلام الوزير.. ويتكرر السؤال، وفي كل مرة يتكرر صوت الطائرة، ولا يسمع المفتش ما يقوله الوزير على الطرف الآخر. وأخيرا يقول له المفتش إنه فهم دون أن يكون قد فهم شيئا بالطبع، ويأمر بإطلاق سراح المجموعة.
القس والانتقام
يحضر أسقف الضاحية إلى منزل الثنائي البورجوازي الأول بعد أن يرتدي ملابس منسق الزهور. يقول لهما إنه قس ولكنه يرغب في العمل لديهما في تنسيق وتنظيف حديقة قصرهما لكي يمر بتجربة روحية في التقشف والعمل اليدوي حتى يشعر بمعاناة الفقراء ويتقرب إلى الله. صاحب المنزل لا يبدو أنه يصدق هذه القصة فيطرده شر طردة.يعود القس بعد قليل وهو يرتدي ملابسه الرسمية فيلقى استقبالا مختلفا تماما. يستجيب صاحبا القصر لرغبته بعد تردد، ويسندان له مهمة تنسيق الزهور في الحديقة.
ذات يوم يمرض رجل مسن في القرية المجاورة ويصبح مشرفا على الموت. تأتي زوجة الرجل إلى القصر البورجوازي، تسأل عن القس الذي اختفى من الكنيسة. تقول لها سيدة القصر إن زوجها المريض في حاجة إلى طبيب وليس إلى قس، لكن المرأة تؤكد لها إنه في حاجة إلى قس بغرض الاعتراف، فهو يحتضر بالفعل. يقول القس (في زي منسق الزهور)، إنه يصلح للقيام بالمهمة. يقوم بتبديل ثيابه ويصحب المرأة إلى الخارج. يعترف له الرجل الفقير الموشك على الموت أنه قتل في شبابه مخدوميه السابقين لأنهما كانا يسيئان معاملته ويقومان بتعذيبه. يطلعه على صورة لمخدوميه السابقين وبينهما يقف ولدهما. يتعرف القس في الصورة على والديه. يكظم غيظه. يبارك الرجل قبل وفاته. وفي طريقه إلى الخارج يلمح بندقية معلقة على الجدار. يتناولها ويصوب ويطلق النار على الرجل فيقتله.
هذا المشهد ربما يكون أحد المشاهد القليلة في الفيلم الذي لا يتداخل فيه الواقع بعالم الأحلام، فهو مشهد واقعي تماما. لكن معظم مشاهد فيلمنا هذا تنطلق من الواقع لكي ترتد إلى عالم الحلم، والحلم من داخل الحلم أيضا، وإلى أشكال أقرب إلى الكوابيس السيريالية المرعبة.
غير أن أسلوب بونويل في السخرية يجعله يتمكن من تحويلها إلى مشاهد كوميدية تفجر ضحكاتنا من المفارقات المستحيلة التي نشاهدها، ومن التفاصيل العبثية التي يجيد التلاعب بها.
ويلعب الحوار الساخر العابث الذي كتبه جان كلود كاريير، دورا بارزا في تجسيد التناقضات. ولا يستخدم بونويل وسيلة للانتقال بين المشاهد واللقطات سوى "القطع" cut لأنه لا يريد أن يفصل بين عالمي الحلم والواقع، فهو يرى كلاهما امتدادا للآخر.
ويجسد المشهد الأخير خلاصة أسلوب بونويل العبقري: أثناء حفل العشاء يقتحم عدد من الثوريين من ميراندا القصر ويعتقلون البورجوازيين الخمسة بينما يختبئ السفير الأجنبي تحت المائدة. وفجأة تمتد يده من تحت المائدة يرغب في التقاط قطعة من اللحم يقبض عليها بيده، إن معدته تفضحه. وعلى الفور يطلق زعيم الثوريين النار عليه.
بونويل مع هيتشكوك في هوليوود

هجاء الطبقة
هناك لاشك علاقة واضحة في الفيلم بين السلطة السياسية والعسكرية والبوليسية (الوزير ورجل الشرطة وقائد الجيش) وبين السلطة الدينية (الأسقف) والسلطة الاجتماعية (الطبقة البورجوازية ورموزها). ويكشف الفيلم من خلال عالم الأحلام، عن عجز وسطحية وتفاهة الطبقة التي تتشبث بقيم ظاهرها الوفاء والاخلاص والتضحية: في محيط العمل والعلاقات الزوجية والصداقة وغيرها، في حين أنها تخون كل ذلك بانتظام: هناك خيانات زوجية، وقسوة وتعال بل وعنصرية في النظر إلى الآخر والتعامل معه، وتذبذب وسطحية في المفهوم الديني عن التسامح.
ويوجه بونويل كعادته، نقده الساخر إلى الكنيسة، وإلى السلطة الغاشمة التي تستخدم الدين ستارا، كما تستخدم أقصى درجات القمع ضد معارضيها، وتتستر على مخالفات "السادة" أعيان الطبقة.
وهو يجعل رموز البورجوازية تبدو عاجزة عن تناول الطعام ولو لمرة واحدة، إشارة إلى عدم التحقق، كما يستخدم مشهد الرغبة الملحة في ممارسة الجنس ولو في أدنى صوره، أي في زاوية مظلمة وسط أحراش الغابة، تعبيرا عن غياب الحب، وسخرية من ادعاءات الطبقة عن التمسك بـ"التقاليد" الرفيعة المتحضرة.
ويسبق هذا المشهد مباشرة مشهد الضيوف وهم يتناولون الشراب. ويقوم السفير باعداد كوكتيل خاص ويدعو سائقه إلى تناول كأس معهم قبل أن ينصرف. السائق يتناول المشروب على جرعة واحدة ثم يختفي. هنا ينتقد أحد أفراد المجموعة طريقة السائق (من طبقة أدنى بالطبع) في تناول المشروب. وبونويل بالطبع يريد أن يسخر من ازدواجية المعايير، لأننا نشاهد في الوقت نفسه الزوجين وهما يتسللان عبر النافذة لممارسة الجنس في الحديقة وهو ما يخالف تماما التقاليد البورجوازية!
ويرقى مستوى التمثيل في الفيلم إلى أعلى الدرجات، دون أي افتعال أو مبالغات لفظية أو حركات جسدية زائدة. هناك تلميحات واضحة إلى علاقة فرنسا ببلدان العالم الثالث، وإشارات إلى العنصرية الفرنسية تجاه ابناء الشعوب الأخرى من خلال الحوار الطريف الذي يدور بين الضابط وسفير دولة "ميراندا" الخيالية، التي يفترض أنها إحدى دول العالم الثالث.
ويكشف الحوار عن احتقار البورجوازية الفرنسية للسفير لكونه أجنبيا أو من دولة يعتبرونها "أدنى". لكنهم لا يمانعون من استخدامه لتحقيق مصالحهم، فهو يستخدمهم لتسهيل عملياته "القذرة" في تصفية المعارضة في بلادهم، ويستخدمون هم غطاءه الدبلوماسي لتهريب الكوكايين، وعلى مستوى ما يروى في الحلم يتحفظون على سجل بلاده السئ في حقوق الإنسان، أما على مستوى الواقع فيتعاملون معه وينافقونه كواحد منهم.
إن تعدد المستويات في "سحر البورجوازية الخفي" هو ما يجعل منه تحفة سينمائية من الطراز الأول، سواء على مستوى السرد وحيله المتعددة، أو على مستوى المخيلة البصرية والأداء التمثيلي المنسجم مع السيطرة المدهشة على كل خيوط وتفاصيل وشخصيات الفيلم.

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger