بقلم: أمير
العمري
لاشك
أن العلاقة بين الأدب والسينما كانت دائما علاقة وثيقة، أثرت السينما من ينابيع
الأدب، وتركت تأثيرها على السينما سواء في أساليب الحكي أو في الإيقاع العام
وترتيب مسار الأحداث.
ويمتليء
تاريخ السينما بمئات الأفلام التي تعتمد على أصول أدبية، من روايات وقصص ومسرحيات،
لكن الشرط الأساسي لنجاح أي فيلم يعتمد على نص أدبي أي على وسيط يختلف تماما سواء
في تقنياته أم في جمهوره، يعتمد عى قدرة السينمائيين على إعادة معالجة المادة
الأدبية بحيث يصبح من الممكن التعامل معها بسلاسة من خلال أدوات السينما:
الكاميرا، الميزانسين (الإضاءة، زوايا التصوير، الديكورات، المؤثرات،
التكوينات..إلخ)، المونتاج، التمثيل.
ولا
يعد الإصرار على الإخلاص الحرفي للعمل الأدبي عند تحويله إلى فيلم سينمائي عادة،
ميزة إيجابية بالضرورة، بل يصبح هذا الإخلاص والتمسك بكل أو بمعظم مكونات النص
الأدبي في الكثير من الأحيان، عبئا على الفيلم السينمائي قد يؤدي إلى عجزه عن
الوصول إلى جمهوره فيما يبقى الأصل الروائي شامخا لا يضاهيه شيء!
أجد
هذه المقدمة القصيرة ضرورية قبل الانتقال لعرض وتحليل فيلم جديد عرض خارج المسابقة
في مهرجان برلين السينمائي (فبراير 2013) وهو فيلم "قطار الليل إلى لشبونة"
Night
Train to Lisbon من الإنتاج الألماني السويسري ومن إخراج المخرج الدنماركي الشهير
بيللي أوجست صاحب التحفة التي تنتمي إلى سينما الثمانينيات، "بيللي
الغازي"، الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان وجائزة الأوسكار لأحسن
فيلم أجنبي عام 1989.
الفيلم
مقتبس عن رواية شهيرة بالعنوان نفسه، والإنتاج أوروبي تماما، ليس فقط كون الإنتاج
والعمل الأدبي ينتميان إلى قلب أوروبا، بل ويضم الفيلم طاقما من الممثلين
الأوروبيين المرموقين مثل جيريمي أيرونز وشارلوت رامبلنج وكريستوفر لي وتوم
كورتناي من بريطانيا، وبرونو جانز من ألمانيا، ولينا أولين من السويد.. وغيرها.
والفيلم ناطق بالإنجليزية حتى يسهل تسويقه عالميا.
صدرت
رواية "قطار الليل إلى لشبونة" للكاتب السويسري باسكال ميرسييه (وهو إسم
مستعار يستخدمه الكاتب الحقيقي الفيلسوف بيتر بيير) باللغة الألمانية عام 2004،
وأصبحت من أكثر الأعمال الأدبية السويسرية نجاحا وانتشارا بعد أن ترجمت إلى أكثر
من ثلاثين لغة، ووزعت نحو مليوني نسخة في البلدان الناطقة بالألمانية.
أفكار
كبيرة
تنتمي
هذه الرواية إلى الأدب الفلسفي الذي يقوم على طرح الكثير من التساؤلات حول مغزى ما
يفعله الإنسان الفرد في حياته، مغزى وجوده، وإلى أين تمضي رحلة الحياة، وما الذي
يبقى بعد أن يمضي قطار العمر، وهل زمن العيش القصير الذي نحياه يكفي لسبر أغوار الذات،
أم أننا كلما مضينا في رحلة الحياة كلما تعمق شعورنا بالوحدة، وغير ذلك من الأفكار
"الوجودية" الكبيرة، وهو يجعل هذه الأفكار تأتي في سياق الرواية-
والفيلم، عبر السرد الأدبي الخاص الذي تركه خلفه رجل برتغالي كان جزءا أصيلا في
حركة المقاومة اليسارية لديكتاتورية سالازار في البرتغال.
بطل الفيلم
مدرس في مدرسة ثانوية في مدينة برن السويسرية، ويدعى ريموند جريجوريوس، وهو متخصص
في تدريس اللغات القديمة اللاتينية والعبرية والرومانية (يقوم بالدور جيرمي
إيرونز)، يلمح ذات يوم أثناء ذهابه إلى العمل، فتاة تشرع في إلقاء نفسها من أعلى
جسر بالمدينة، فيلحق بها ويتمكن من إنقاذها ويصطحبها معه إلى الفصل الدراسي، لكنها
تغافله بعد ذلك وتختفي تاركة وراءها معطفا أحمر وكتابا صغيرا بداخله ورقة دون
عليها رقم تليفون، وبطاقة سفر بقطار الليل إلى لشبونة الذي سيقلع بعد 20 دقيقة.
يطالع الرجل بعض صفحات صفحات الكتاب الصغير، وهو لطبيب برتغالي يدعى أماديو دو
برادو، من هواة الأدب، لم يكتب سوى هذا الكتاب الذي دون فيه بعض أفكاره الخاصة عن
العالم. وتتردد مقتطفات من أفكار أماديو على شريط الصوت مثل "إننا نرحل إلى
ذواتنا لكي نواجه وحدتنا.. وإننا نحيا قسطا قصيرا جدا من تلك الحياة الطويلة التي
أمامنا" وغير ذلك.
تسيطر
أفكار أماديو تماما على ذهن ذلك المدرس الإنجليزي الذي تجاوز منتصف العمر، وتأسره
شخصية أماديو الذي شارك في المقاومة اليسارية ضد ديكتاتورية الجنرال سالازار الذي
حكم البرتغال بقضبة حديدية في الفترة من 1933 إلى 1974.
يهرع
الرجل إلى محطة القطارات للبحث عن الفتاة، ينتظر قلقا بلا جدوى فيقرر أن يتخلى عن
عمله وحياته ويقفز داخل القطار ويقرر البحث عن تلك الفتاة الغامضة وعن حقيقة هذا
الرجل الذي وضع تلك الأفكار الآسرة.
هذه
البداية المثيرة لاهتمام المتفرج، كانت كفيلة بأن تأخذنا في رحلة سينمائية مشوقة
توفر متعة التأمل وجمال الصورة. لكن ما يحدث بعد أن يصل بطلنا إلى مدينة لشبونة،
أن يستغرق في البحث عن حقيقة الكاتب من خلال الاتصال بكل من عرفوه قبل وفاته
المبكرة، ويبدأ أولا بشقيقته (تقوم بالدور شارلوت رامبلنج) التي تخبره أن شقيقها
ليس له سوى هذا الكتاب الذي قامت هي بنفسها بتحريره ونشره.. وترفض أن تطلعه على أي
تفاصيل أخرى تتعلق بفترة النضال ضد فاشية نظام سالازار وما حدث لشقيقها، ثم يلتقي
بعد ذلك بماريانا، طبيبة العيون، التي تقوده إلى عمها الموسيقار العجوز الذي يقيم
حاليا في منزل للمسنين، والذي يقص عليه بعضا من ذكرياته عن فترة النضال ضد
الديكتاتورية مع المجموعة اليسارية التي كان يتزعمها أماديو في السبعينيات من
القرن الماضي، وكيف تعرض للتعذيب على أيدي رجال الشرطة السرية، وكيف كسروا عظام
يديه وجعلوه بالتالي، عاجزا عن العزف على البيانو.
عن
البطل الغائب
من هنا
يصل ريموند إلى خورخي (يقوم بالدور برونو جانز) ثم إلى ستيفانيا (لينا أولين)
والإثنان ارتبطا بعلاقة حميمية مع أماديو، وكانت ستيفانيا محورا للغيرة
والرومانسية والنضال السري والعشق المبرح، فقد وقع الإثنان في حبها، واختلطت
العاطفة بالغيرة التي دفعت أماديو إلى محاولة قتل خورخي بدعوى أنه خائن للتنظيم
السري اليساري.
أجواء
الحب الرومانسية والغيرة والصداقة والنضال السياسي ومطاردات الشرطة السرية والشكوك
في الرفاق.. هي التي تملأ نسيج الفيلم من خلال ما ترويه الشخصيات الرئيسية عن
البطل الغائب.
ويظهر
أماديو في الكثير من مشاهد الماضي (الفلاش باك)، كشاب شديد الحماس والتدفق العاطفي
والمثالية الرومانسية، فهو يتمرد على أسرته الأرستقراطية ووالده الذي كان قاضيا
كبيرا مقربا من النظام، كما أن أماديو نفسه أصبح مقربا من أحد جنرالات الأمن بعد
أن أنقذ حياته ذات مرة.. كل هذه التفاصيل تتدفق في الفيلم، من خلال ما تتذكره
الشخصيات التي عاصرت أماديو ومازال معظمها على قيد الحياة، كما نستمع عبر شريط
الصوت على الكثير من أفكار وآراء أماديو. ولكل هذا الازدحام والرغبة في الاحتفاظ
بكل ما ورد في الرواية الأصلية، تجعل الفيلم يفقد بريقه ويتحول، بسبب تلك المعالجة
التي تعتمد على السرد (الأدبي الطابع) إلى عمل ثقيل في إيقاعه.
وتكمن
المشكلة الرئيسية هنا في السيناريو الذي كتبه كل من جريج لاتر وأولريخ هيرمان،
فقد أصبح لدينا فيلم أفقي لا يمتلك حبكة محكمة، أو تطور حقيقي في الموضوع، بل إنه
ينسى تماما شخصية الفتاة التي ظهرت في البداية، إلى ان يتذكرها قرب النهاية عندما نعرف
أنها إبنة ستيفانيا حبيبة أماديو التي يقابلها بطلنا ويستمع أيضا إلى قسط من
ذكرياتها.
على
حين أننا في الأدب يمكننا تقبل قراءة أكثر من 400 صفحة من الوصف الأدبي التفصيلي
للعديد من الشخصيات التي تكشف عن تلك الشخصية الرئيسية الغائبة التي تبدو غامضة
ومثيرة للاهتمام من وجهة نظر ذلك المدرس الباحث عن المعرفة.. معرفة حقيقة الشخصية
التي تأسره فلسفتها في الحياة، إلا أننا في السينما، يجب أن نحصل على التفاصيل من
خلال الحدث الدرامي الذي يتجسد في صور وليس كلمات، فمن الضروري أن يحتوي فيلم
يعتمد على رواية فلسفية من هذا النوع، على طريقة أو مدخل للربط بين الشخصيات
والأحداث بشكل متماسك لكي يروي قصة تقع في نحو ساعتين، يشدنا إليها إلى أن تبلغ
ذروتها
أما ما
حدث فهو أن كاتبا السيناريو وقعا في غرام كل شخصيات الرواية فحافظا على هذه
الشخصيات، ولم ينجحا في تقديم معالجة سينمائية جذابة تحول الأفكار الأدبية إلى صور
ومشاهد ولقطات وعلاقات حية وانتقالات محسوبة في الزمن، بالشكل الذي يجذب
المشاهدين، بل إستخدما تلك الشخصيات المتعددة في الكشف عن بعض الجوانب المتعلقة
بشخصية أماديو.. وبهذا فقد المشاهد اهتمامه بالفيلم في نصفه الثاني.
أسلوب
الإخراج
ولعل
العلاقة الوحيدة التي يطورها الفيلم بين بطلنا وإحدى تلك الشخصيات هي علاقة ريموند
بماريانا طبيبة العيون، التي تبدي اهتماما خاصا به، وهو يكشف لها في مشهد وحيد في
الفيلم شيئا من حياته التي لا نعرف عنها سوى القليل، عندما يقول لها إنه كان
متزوجا لكن زوجته تركته لأنها كانت تجدها شخصية "مملة"، فتقول له
ماريانا إنها لا تجده مملا، بل على العكس، تجد صحبته ممتعة. وينتهي الفيلم ونحن
نرى ريموند يقرر البقاء في لشبونة بعد أن يدرك تمسك ماريانا به وينمو حبهما
المشترك، وهو بهذا القرار، أي البقاء، يلقي وراء ظهره بكل ما كان في حياته المغلقة
التي كان يعيشها في برن، ويتمرد على ماضيه مقتنعا بأن لحظة البحث عن النفس لا
يضاهيها شئ مهما بدا أنها أتت متأخرة في حياة المرء!
يعتمد
الفيلم على الحوارات المكثفة، وعلى الانتقال من الحاضر إلى الماضي عبر مشاهد
الفلاش باك، وعلى السرد الذي يدور حول الشخصية الرئيسية مثار اهتمام الفيلم، دون
القدرة – كما أشرنا- على تطوير الحدث، ودون الاستفادة من طبيعة المكان، أي مدينة
لشبونة بتضاريسها وطبيعتها الخاصة. إنه حقا يقدم لقطات ممتعة بصريا للحي القديم من
المدينة الذي يتميز بالشوارع الضيقة الملتوية الصاعدة، والمناظر التي نراها من
القلعة التاريخية القديمة أو تظهر القلعة في خلفيتها، بل ويجعل الفندق الصغير الذي
يقيم فيه ريموند في ذلك الحي، يطل في الوقت نفسه، على المحيط، في حين أن المحيط
الأطلسي يبعد كثيرا عن الحي القديم. لكن الفيلم يفشل بشكل عام في استخدام تلك
الخلفية الخاصة للمدينة في تعميق الجانب الدرامي للموضوع، بل يدور في معظمه، داخل
ديكورات داخلية.
أسلوب
إخراج بيللي أوجست، كلاسيكي، يتميز بالإيقاع البطيء وبالكاميرا الثابتة، واللقطات
ذات الأحجام المتوسطة والعامة، وهو يمزج الأفكار الفلسفية التي وردت بالرواية عبر
شريط الصوت فنسمعها من خارج الصورة، وهو
أسلوب عتيق، يتكرر عبر الفيلم، ويعكس عجزا في تجسيد الموضوع من خلال الشكل الدرامي
الذي يقوم على حركة الشخصيات والكاميرا في الفضاء، وعلى تعقد العلاقات بين
الشخصيات، بل إن شخصيات الفيلم تبدو في معظمها كما لو كانت منفصلة عن بعضها البعض.
ولذلك جاء أداء الممثلين، رغم مواهبهم الكبيرة بالطبع، باردا يفتقد للحرارة، بل
وبدا كما لو كانوا لا يشعرون بالجو العام للفيلم. ولذلك جاء تمثيل جيرمي إيرونز
جافا، لا يتغير من مشهد إلى آخر بل يسير على وتيرة واحدة عبر الفيلم رغم ما تكشف
له عنه الشخصيات التي يلتقي بها ويستمع إلى شهاداتها عن فترة صاخبة في تاريخ
البرتغال.
ولكن
لعل من أفضل جوانب الفيلم أنه أعاد تجسيد فترة خصبة من تاريخ النضال اليساري ضد
حكم سالازار في البرتغال، وكشف للكثير من المشاهدين في العالم تفاصيل مجهولة في
تاريخ تلك الفترة الصاخبة.
0 comments:
إرسال تعليق