السبت، 2 نوفمبر 2013

القراصنة الصوماليون: قتل الطباخ ميكيل وإنقاذ القبطان فيليبس!



العام الماضي شاهدنا واحدا من أفضل الأفلام التي تناولت موضوع القراصنة الصوماليين ومأساة أطقم السفن التي تختطف في بحر الصومال والمحيط الهندي، وهو الفيلم الدنماركي "إختطاف" من إخراج توبياس ليندهولم.

عرض هذا الفيلم خارج المسابقة في مهرجان فينيسيا السينمائي 2012، وكتبنا عنه في ذلك الحين وقلنا إنه "من أفضل أفلام المهرجان الفيلم الدنماركي "اختطاف" الذي يصور بدقة عملية اختطاف احدى السفن الدنماركية قرب الساحل الصومالي على أيدي مجموعة من القراصنة، وكيف تبدأ المفاوضات لاطلاق سراح البحارة.. فيلم إنساني شديد التأثير والبراعة في التصوير وبناء الشخصيات، بما يصل إلى مستوى الكمال حقا. لا أخطاء ولا شيء زائد أو ناقص، ولا يوجد اي تقصير لا في إشباع الموضوع، ولا في الانتقال في الوقت المناسب من مشهد إلى آخر، أو إهمال عنصر على حساب عنصر آخر".

كان "إختطاف" الذي حصل على عدد من الجوائز منها أحسن ممثل في مهرجان أبوظبي، وأحسن فيلم (مناصفة) في مهرجان مراكش، ولجنة التحكيم الخاصة (مناصفة) في مهرجان سالونيك، وغيرها، ليس عن عملية إختطاف السفينة واحتجاز الرهائن فقط، هذه الأشياء موجودة في الفيلم المليء بلحظات الترقب والإثارة، لكنه كان أساسا، عن المصير الإنساني، كيف يصبح فحأة، وبدون سابق إنذار، عرضة لعمليات المساومة والمفاضلة والمفاوضات الطويلة المرهقة بين طرفين لا يتحدثان اللغة نفسها، ولا يعيشان في نفس العالم، ولا يقيمان أي إهتمام- في الحقيقة- للحياة البشرية، لقد كان فيلما حول "المال".. أي الفدية التي يطلبها الخاطفون (25 صوماليا فقيرا لم يعودوا يكترثون كثيرا للحياة الإنسانية بعد ما خبروه في حياتهم) ويساوم الطرف الآخر، أي ممثلو الشركة المالكة للسفينة المختطفة، لكي لا يدفعوا سوى أقل كثيرا من هذا الرقم.

لقطة من فيلم "إختطاف".. المسؤولون في الشركة يبحثون الموقف

يقع بين فكي الرحى، بحارة السفينة، وبينهم الطباخ الشاب "ميكيل" (بيلو أسبيك) الذي يجد نفسه، مسؤولا عن إعداد الطعام لهؤلاء القراصنة الشباب الجائعين، ثم العثور على أي شيء يصلح لاطعامهم بعد نفاذ كل مخزون الأطعمة في السفينة، ويصبح بالتالي في مرمى نيران الغضب، وينتهي نهاية مأساوية عبثية.

وعلى الطرف الآخر، كان هناك المدير التنفيذي للشركة بيتر (سورين مالينج) الذي يصر على أن يتفاوض بنفسه، رافضا نصيحة الخبير المحترف المتخصص في التفاوض مع قراصنة السفن، بأن يدع الأمر له، أي لشخص غيره غير منحاز، أي غير مدفوع بمشاعر مسبقة بالمقاومة والرفض.

لحظات التوتر في الفيلم مصنوعة بدقة، والتصوير طبيعي إلى أقصى حد يمكنك تخيله، والسفينة التي دار عليها التصوير حقيقية كان تقف في المحيط الهندي وليست ديكورا صناعيا، والمكالمات الهاتفية المتبادلة بين القراصنة- الممثلين (عن طريق مترجم خاص إستعانوا به) وبين مدير الشركة في كوبنهاجن، هي مكالمات حقيقية، جرت على هذا النحو بالفعل، بين أناس في قارتين مختلفتين تفصلهما بحار ومحيطات وجبال.. والتجربة في نهاية الأمر، كانت مليئة بالتشويق والسحر.

مؤخرا شاهدنا الفيلم الأمريكي "القبطان فيليبس" Captain Philips وهو من إخراج بول جرينجراس، الذي أفتتحت به الدورة الـ57 من مهرجان لندن السينمائي. سيناريو الفيلم مأخوذ عن كتاب "واجب القبطان" الذي يروي فيه القبطان ريتشارد فيليبس، قبطان سفينة الشحن الأمريكية العملاقة "مايرسك الاباما" التي اختطفها أربعة من القراصنة الصوماليين قبالة الساحل الصومالي عام 2009 تفاصيل المحنة التي واجهها.

الطباخ في فيلم "إختطاف" أمام زعيم القراصنة

وعلى العكس من فيلم "إختطاف" الذي كان يبحث في الموقف الأخلاقي الذي يطرحه موضوع إحتجاز رهائن على السفينة، من البشر، وما يتعين القيام به لاطلاق سراحهم، وهل تكون الأولوية للجانب الإنساني أم للجانب المالي أي المتعلق بأموال الشركة المالكة للسفينة، التي يمكن أن تفلس إذا ما استجابت لمطالب القراصنة، يأتي فيلم "القبطان فيليبس" مركزا علىى تفاصيل الاختطاف ثم ما يلجأ إليه البحارة (لم يزد عددهم عن عشرين) من حيل وأساليب لتضليل القراصنة، في مبارة شيقة في استخدام الفطنة والذكاء، لكن ينتصر فيها القراصنة الذين ينجحون بالتحايل في احتجاز القبطان وأخذه معهم داخل زورق صغير مغلق يفرون به من السفينة العملاقة بعد إصابة أحدهم، وتعرض قائدهم للإصابة، وتصوير أجواء التوتر والقلق التي يشعر بها القبطان وسط هذه المجموعة الغريبة التي  تخوض معركتها الأخيرة من أجل النجاة والحصول على أكبر قدر من المكاسب، لكن ما يحسم الأمر في النهاية هو تشغيل القوة العسكرية الأمريكية المدربة: بارجة حربية تحمل طائرات الهليكوبتر، ومجموعة من رجال العمليات الخاصة، تتمكن من اعتقال قائد القراصنة بالحيلة والكذب، وقتل الثلاثة الآخرين وتحريرالرهينة.

أسلوب جرينجراس معروف باهتمامه بتصوير الجانب المثير من القصة، وهو يستخدم إيقاعا يتصاعد تدريجيا، يبدأ بالقبطان في السيارة مع زوجته في طريقه إلى المطار حيث يطير إلى عمان حيث يعتلي متن السفينة الضخمة التي يقول خلال حديث مع قائد القراصنة محاولا استمالته إنها تحمل شحنات على شكل معونة مقدمة من الأمم المتحدة، من المواد الغذائية والحبوب، لمساعدة البلدان الافريقية ومن بينها الصومال. لكن قائد القراصنة الذي يقول إنه صياد سمك أصلا، لا يلين ولا ينصاع، فهو يرى أن ما يقوم به هو مجرد "شغل" ولا يعنيه أمر القبطان ولا رجاله، بل الحصول على المطلوب، أي على ستة ملايين دولار من الشركة المالكة كفدية. يمنحه فيليبس كل ما في خزانة السفينة من أموال، مبلغ 30 ألف دولار، لكن هذا يبدو مثل "سندوتش" يقضمه مع زملائه الثلاثة!

توم هانكس في دور القبطان فيليبس

هناك تصوير ممتاز يحاول إقتناص كل لحظات الصراع والتوتر من خلال اللقطات القريبة، والدخول إلى أعماق السفينة، باستخدام مصدر محدود للضوء، وهناك اختيار جيد للممثلين الذين قاموا بأدوار القراصنة الشباب الصوماليين، بهزال بنيتهم، والابقاء على أحاديثهم باللغة المحلية، مع بعض الاتجليزية أحيانا باستثناء القائد الذي يبدو انه يعرف الإنجليزية بشكل أفضل، ولاشك أيضا في قيام توم هانكس بدور القبطان ببراعة ليست جديدة على هذا الممثل العملاق الذي يعرف جيدا كيف يضع نفسه في قلب الحدث، إنفعالاته واضحة رغم صمته في الكثير من المواقف أمام التهديدات والصراخ وأجواء الهستيريا التي تسيطر على القراصنة خاصة مع اقتراب القوة الأمريكية من زورقهم الصغير.. إنه يراقب كل ما يحدث حوله ويحاول المقاومة والفرار أحيانا، ولكنه في الوقت نفسه منغمس في المأساة حتى النهاية الدموية.

غير أن المشكلة الأساسية في هذا الفيلم الذي يعاني من الاستطرادات وإفلات الذروة مرة بعد أخرى (135 دقيقة) أن ثلثه الأخير، يتحول إلى إستعراض للقوة العسكرية الأمريكية، والذكاء الأمريكي والقدرة على المراوغة والخداع والاستخدام الجيد للتكنولوجيا الحديثة وغير ذلك من المشاهد المتكررة التي تركز وتعيد التأكيد مرارا على الفكرة نفسها، بحيث نصبح أمام ما يشبه فيلم الويسترن: هنا الأشرار الصوماليين (الذين لا نعرف عنهم الكثير بالمناسبة سوى أنهم يظهرون فجأة طمعا في "الجائزة الكبرى"!) وهناك على الطرف الآخر، الأمريكيون الطيبون وعلى رأسهم قائدهم، القبطان فيليبس الطيب الذي يرفض استخدام أي وسيلة للعنف ضدهم، ويمنحهم كل ما لديه من مال سائل ومياه للشرب، لكنه ينال فيما بعد، ضربا مبرحا يكسر عظامه. ولم يكن هناك أيضا ضرورة للتركيز في المشاهد الأخيرة، بعد إنقاذ القبطان فيليبس، على عمليات الفحص الطبي والمعاملة الاحترافية التي يلقاها على يدي الممرضة والأطباء المتخصصين في علاج الصدمات: النفسية و الجسدية، كما لو كان الفيلم يقول لنا: أنظروا كيف يرى الأمريكيون أبناءهم ولا يتخلون عنهم قط!

وهذه هي الرسالة التي تصل للمشاهدين في النهاية. ومع ذلك، من المتوقع أن يصمد "القبطان فيليبس" في شباك التاكر لفترة طويلة، ويمتد نجاحه التجاري إلى موسم جوائز الأوسكار القادمة. ولكن من الآن أؤكد أن أداء توم هانكس في "إنقاذ السيد بانكس" (مقارنة بإنقاذ القبطان فيليبس) أفضل كثيرا بما لا يقاس، من أدائه في هذا الفيلم رغم جودته، فشتان ما بين الفيلمين. 

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger