الاثنين، 28 أكتوبر 2013

إعادة إكتشاف فلسطين: في مهرجان لندن السينمائي





من الأفلام التسجيلية الجيدة التي أثارت اهتماما كبيرا في عروض مهرجان لندن السينمائي الـ57 الفيلم البريطاني The Do Gooders الذي يمكن ترجمته بـ "فاعلو الخير"، أو تحديدا أولئك السذج من حسني النية الذين يدعمون وكالات الغوث الإنسانية.
لماذا العنوان؟ مخرجة الفيلم كول روثفين Ruthven تقول في بداية الفيلم إنها أرادت أن تذهب إلى فلسطين لكي تقتفي أثر جدها وجدتها اللذين أدركا أن بلدهما، بريطانيا، ساهمت بشكل ما - في خلق تلك المأساة الإنسانية التي وقعت عام 1948 مع الإعلان عن قيام إسرائيل على أرض فلسطين، وإنهما قررا في الستينيات، التطوع للعمل في وكالة غوث اللاجئين لعلهما بذلك يكفران عن ذلك الشعور بالذنب إزاء ما اقترفته حكومة بلدهما.
تذهب كول روثفين إذن إلى فلسطين لتصوير فيلمها التسجيلي الثالث الطويل (75 دقيقة) وهي على قناعة بأهمية تلك المعونات الدولية التي تقدمها وكالات الإغاثة للفلسطينيين، سواء في غزة أو في الضفة الغربية. وهي تبدأ بمقابلة مصورة مع مدير وكالة الدعم الأمريكي للأراضي الفلسطينية USAID ومقرها تل أبيب، الذي يقول لها إن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من سبعة مليارات دولار منذ عام 2004 أي منذ بدء مهمتها هناك. ويستعرض كيف أنها دعمت الكثير من المشاريع في مجالات التعليم والصحة ودعم منظمات المجتمع المدني والديمقراطية واستخراج مياه الشرب وشق الطرق.


هذه البداية التي تعقب لقطات قديمة بالأبيض والأسود لمقاطع من الجرائد السينمائية القديمة من الأربعينيات التي تصور تشرد الفلسطينيين وانتشارهم في خيام اللاجئين في أراضي لبنان والأردن، ثم لقطات لجدي المخرجة في أرض فلسطين أثناء عملهما في وكالة غوث اللاجئين، تجعل الفيلم يبدو كما لو كان احد أفلام الدعاية الإيجابية، أي أنه يقدم ذلك الوجه "الإنساني" للغرب، وكيف أن الولايات المتحدة تساهم في رفع المعاناة عن الفلسطينيين اليوم من خلال برنامج عملي.
من المستبعد بالتأكيد أن تكون هذه الفكرة هي الأساس الذي انطلقت منه مخرجة الفيلم في بحثها. بل الحقيقة أنها كانت تريد عمل فيلم "ليس عن الجدين بل عنا نحن" أي عنها وعن أبناء جيلها من البريطانيين الذين لا يعرفون كثيرا عن حقيقة الوضع في فلسطين– وهي تعبر عن هذا المفهوم من خلال تعليقها الصوتي المصاحب للفيلم، وهو تعليق غير تقليدي بل ولا يبدو أنه قد اعد مسبقا، بل يأتي تلقائيا ومكملا لتلك اللحظات التي تسجلها بأمانة كول روثفين، سواء بشكل مباشر أو تعليقا على الصور فيما بعد أي في مرحلة المونتاج. وهذا التعليق الممتد سيبقى معنا طوال تلك الرحلة المضطربة التي تبدأ بأفكار مسبقة أو بعض "الافتراضات" ثم مع الاقتراب أكثر فأكثر من بعض الحقائق خاصة بعد دخول "لبنى" إلى نسيج الفيلم، تلك الناشطة الفلسطينية الرائعة صاحبة الرؤية الواضحة التي تملك قوة الإقناع والمنطق بل والأهم، تلك الحرارة والتلقائية ورد الفعل الطبيعي الغاضب أحيانا، يبدأ الفيلم يتخذ له منحى آخر مختلفا تماما.
تلتقي مخرجة الفيلم وهي تصور فيلمها الأول هذا، بـ"لبنى" وتتخذها مساعدة لها، تقوم بتوصيلها بسيارتها الخاصة كما تساعدها في الترجمة وفي ترتيب لقاءات مع بعض الشخصيات الفلسطينية. تبدأ العلاقة إذن على أساس مهني بحت لكنها تتطور إلى صراع أفكار، إلى جدل بين المرأتين، إلى حوار ممتد حول ما هو الأفضل للفلسطينيين، وعن النظرة الفوقية المسبقة للغربيين إلى الحالة الفلسطينية، بل وحول القضية بأسرها: مسؤولية من، وما جدوى تلك المعونات، وهل تحقق الهدف منها، ومن الناحية الأخرى ما الذي تمنحه أمريكا لإسرائيل من مساعدات عسكرية سنوية ضخمة تمكنها من فرض سياسة الأمر الواقع على الفلسطينيين؟

تقول لبنى خلال إحدى المناقشات مع كول إن المطلوب ليس أن يأتي أناس من الغرب مثلها، "لكي يعلموننا الديمقراطية ويحدثوننا عن حقوق الإنسان وكيف يمكننا أن نحكم أنفسنا، بل المطلوب الضغط على الإسرائيليين لدفعهم إلى الجلاء عن الأراضي الفلسطينية" فالقضية عند لبنى هي "قضية حرية".. أي أعطونا حريتنا وسوف نتكفل بحل مشاكلنا.
هذا المنطق يتم التعبير عنه في الفيلم في مشهد شديد التأثير: أولا خلال لقاء مصور للمخرجة مع مدير برنامج غوث اللاجئين الفلسطينيين التابع للأمم المتحدة (وهو بريطاني): في هذا اللقاء لا تملك لبنى سوى التدخل في الحديث وتطرح وجهة نظرها التي تتلخص في اعتبار المعونات تهدف إلى تسكين الوضع الراهن والإبقاء عليه وليس العثور على حل للقضية. يقول لها الرجل إنها تتحدث في الجانب السياسي من القضية في حين أنه مسؤول فقط عن الجانب الإنساني الذي يراه مهما بالتأكيد، ويسألها: لماذا لم تذهبي إلى توني بلير مسؤول اللجنة الرباعية وهي المسؤولة عن التوصل إلى حل سياسي للقضية؟ وبالفعل تنتقل المخرجة بالكاميرا في شوارع تل أبيب تسعى للعثور على مقر بعثة الرباعية، ولكنهم يقولون لها إن توني بلير لا يأتي إلى هنا إلا نادرا، وتقول هي إنها أرسلت عشرات الرسائل الالكترونية إلى مكتبه واتصلت هاتفيا مرات عديدة بلا جدوى.
وعندما تلتقي المخرجة براعي أغنام فلسطيني بدوي طاعن في السن، يقول لها إن الأمريكيين "يعطوننا دقيقا (يسميه الفلسطينيون طحينا) مليئا بالسوس، ونقوم بالتخلص منه" وأن كل مشاريعهم لاستخراج مياه من الأرض فاشلة لأن إسرائيل تقوم بانتظام بسحب المياه. ويشير إلى مستوطنة إسرائيلية أنشأت حديثا بالقرب من تلك المنطقة القاحلة التي يرعى فيها، قائلا: انظري إلى هناك لترين كيف أنهم يستولون على مياه أراضينا ويحرموننا منها.. اجعلوا الإسرائيليين يعطوننا أرضنا.. يتركونا فقط أحرارا فيها ونحن نعرف كيف نستخرج المياه وكيف نزرع.. ولكن لا ترسلوا لنا قمحا فاسدا أو عدسا غير صالح للاستهلاك!
إن هذا المشهد وحده هو أقوى تعبير عن الإرادة الفلسطينية في التحرر خلال الفيلم كله. وهو أيضا أبلغ رد على من يزعمون غياب فكرة الاستقلال عند الفلسطيني العادي البسيط، البدوي.
هذا الوعي المتقد سيتضح أيضا في تلك المقابلة التي تجريها المخرجة مع مهندس فلسطيني يعمل في مشروع محطات استخراج المياه الممول أمريكيا، في حضور لبنى. يقول الرجل للمخرجة بوضوح وفي انفعال شديد إن كل ما يقيمه الأمريكيون من مشاريع لاستخراج المياه هنا هي مشاريع فاشلة سرعان ما ستنهار لأنها مجرد سراب فقط. 

إننا نرى المرأتين معا، تتحدثان وتتناقشان وتختلفان. ويصبح منطق لبنى هو الأقوى بحكم أنها ابنة البلاد وتعرف الواقع بعد أن خبرته لسنوات. إنها تتحدث عن تجربتها في العمل وسط الناس، وحجم ما تلقته من تهديدات من سلطات الأمن الإسرائيلية، وكيف أنها تعرضت للاعتقال مرات عديدة. وفي خطوة غير مسبوقة في السينما، تقرر المخرجة القيام بزيارة إلى مستوطنة إسرائيلية قريبة من غزة وتصطحب معها لبنى الفلسطينية. إنها المرة الأولى التي تجد لبنى نفسها في مكان كهذا.. عالم غريب تماما عليها يمنحها شعورا بأنها ليست في بلد يمت لها بصلة في حين أنها على أرض بلادها. المخرجة روثفين تعلق على المشهد الممتد الذي يشع بالجمال والهدوء والسكينة، حيث تنتشر الخضرة والحدائق الغناء ونوافير المياه في كل مكان،  أمام البيوت البديعة، وتمتد الشوارع المعبدة النظيفة، ولا تملك روثفين سوى أن تعلق قائلة: إن المرء يشعر هنا أنه في مكان ما من كاليفورنيا..!
أما لبنى التي تتطلع إلى فتاة يهودية تقوم برعاية طفل والتنزه معه في الحدائق المحيطة بالمنازل، فترصد الكاميرا حيرتها واضطرابها ومشاعر الغضب الطاغية على وجهها.. وتهمس لبنى لنفسها أمام الكاميرا: إنهم يستنكرون الحديث عن التفرقة العنصرية.. أليس مجرد وجود هذين العالمين (أي عالم الأرض القاحلة التي يقف فيها البدوي الذي لا يجد الماء لسقي أغنامه) وتلك الجنة.. جنبا إلى جنب على هذه الأرض، هو نوع من التفرقة العنصرية؟ بل وهل هناك تفرقة أكثر من هذا!
هل ستصبح روتثين في نهاية رحلتها أكثر وعيا بالقضية عن ذي قبل؟ إنها تشعر دائما أنها في حاجة إلى المزيد من الإجابات على مئات الأسئلة التي تدور في ذهنها، بينما ترى لبنى أن المسألة لا تحتاج إلى كل هذه التساؤلات.. بل تكمن أساسا في قضية الاحتلال. تقول لبنى إن من الأفضل بالنسبة للفلسطينيين إذا ما أوقفت الولايات المتحدة دعمها العسكري لإسرائيل.. فهذا أفضل كثيرا من تلك المعونات "الإنسانية" التي لا ترى أنها تفعل شيئا. 
وفي مقابلة سريعة عابرة مع سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني بعد انتهاء مؤتمر صحفي له عن الدعم الأمريكي يرفض توجيه أي انتقادات لمشروع المساعدات الأمريكية بل يشيد بما تحقق منه، ولكنه يبدو مرتبكا ومضطربا وسرعان ما يغادر مهرولا معتذرا عن الإجابة على ما لدى روثفين من اسئلة عديدة!

الجدل المستمر بين المرأتين يسبب الارتباك لروثفين، والإرهاق والتوتر للبنى. وتقول روثفين إنها ذهبت الى مطعم في رام الله مع لبنى وشاب فلسطيني وأرادت أن تستمع لرأيه، إلا أن لبنى أخذت تتحدث معه بالعربية طيلة الوقت وبالتالي خرجت روثفين من الأمسية دون أن تفهم شيئا من الحديث وشعرت بالتالي بالإحباط. هنا تقفز تلك اللقطة السابقة التي تتهم فيها لبنى روثفين بعدم الاهتمام حتى بفهم الفلسطينيين بقدر اهتمامها بالفيلم الذي تصوره: "كيف يمكن أن تكوني مهتمة بما يحدث هنا دون معرفة اللغة التي نتحدثها؟!
تنقطع العلاقة بين المرأتين بعد أن تمتنع لبنى عن التواصل مع روثفين أو الرد على اتصالاتها الهاتفية بها.. ربما لأن الأمر بالنسبة لها لم يعد يحتمل المزيد من الجدل. ولكن المؤكد أن روثفين تعود إلى بلادها بعد أن أصبحت أكثر وعيا بما يجري هناك على الأرض.. أو على الأقل أصبحت لديها أسئلة كثيرة أكثر إثارة لاهتمامها ربما ستسعى للعثور على إجابات عنها.
من الناحية الفنية هناك بعض الأخطاء في الفيلم: الميل إلى الاستطراد، الثرثرة والتكرار، وفي المشهد الذي نرى فيه لبنى توقف بالسيارة أمام بعض الشباب تسألهم عن الطريق تنتهز المخرجة لفرصة لتوجيه أسئلة لهم حول رأيهم في المعونة الأمريكية دون القدرة على استكمال الحوار، كما تستخدم بعض اللقطات فقط لأنها ترى فيها قيمة جمالية ما، والمبالغة في استخدام التكوينات المشوهة للمنظور: إظهار جزء من الوجه فقط بينما الشخصية المصورة تتحدث، أو تصوير الوجه من زاوية منخفضة أو بكاميرا مائلة، وأحيانا تتوقف المخرجة- المصورة عن التصوير وتناول الكاميرا إلى لبنى لكي تقوم هي بتصويرها. وفي أحيان أخرى يقوم مصور آخر محترف بتصوير المرأتين معا. وقد نرى أيضا الاثنتين من خلال كاميرا ثابتة تركت على الفراش في غرفة الفندق مثلا. ولكن المؤكد ايضا أن المونتاج العصبي وتلك الانتقالات التي قد تبدو مباغتة أحيانا، أو تجعل بعض المشاهد غير مترابطة، هي جزء من تلك الحالة المزاجية والنفسية التي تسيطر على المخرجة أثناء رحلتها الأولى لاكتشاف الحقيقة في فلسطين


نشرت أولا في موقع الجزيرة الوثائقية

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger