أمير العمري
"السطوح" هو إسم الفيلم الجديد للمخرج الجزائري الكبير مرزاق علواش وهو يعتبر أحد أهم أبناء جيله، وأكثرهم عطاء واستمرارا في العمل دون كلل، بعد أن استقر به الحال منذ سنوات، في فرنسا. علواش يخرج أفلامه من الإنتاج الفرنسي، أو من الإنتاج المشترك مع فرنسا شأن هذا الفيلم الذي حصل أيضا على منحة من مؤسسة الدوحة للأفلام.
شاهدت الفيلم ضمن عروض الدورة الـ57 من مهرجان لندن السينمائي. وكان قد عرض قبل ذلك عرضه العالمي الأول، في مهرجان فينسيا الـ70 في الشهرالماضي.
عنوان الفيلم الذي يظهر علي شريط الفيلم باللغة العربية، قبل نزول العناوين الرئيسية، هو "السطوح"، أما الإسم بالفرنسية والإنجليزية في كتالوج المهرجان فهو "الأسطح" والمقصود هنا "أسطح المنازل" تحديدا أي أسطح العمارات السكنية التي صورت مشاهد الفيلم بأكمله فوقها.
ليست هناك قصة أو حبكة درامية بالمعنى التقليدي لكلمة "حبكة"، بل مجموعة من المواقف المتفرقة التي لا يجمعها سوى أنها تدور أو تحدث، فوق تلك الأسطح التي تطل في معظمها على البحر المتوسط ،مع تركيز خاص على حي باب الواد الشعبي الذي ينتمي إليه علواش وسبق أن صوره في أكثر من فيلم منها فيلمه الأكثر شهرة "حومة باب الواد". وقد دار تصوير "السطوح" فوق عدد من المباني السكنية في أكثر من حي من أحياء العاصمة الجزائرية، منها بيلكور ونوتردام الافريقية وباب الواد والقصبة وغيرها كما نعرف من الأسماء التي تظهر مكتوبة فوق الصورة في بداية كل فصل من فصول الفيلم.
اختيار أسطح تلك العمارات السكنية لم يأت مصادفة، بل مقصود تماما من جانب علواش، فهذه العمارات تنتمي- في معظمها- إلى تلك العمارة الفرنسية التي شيدها المستعمرون أو المستوطنون الفرنسيون في الماضي، وكان يقطنها الأجانب لعقود طويلة إبان عهود السيطرة الاستعمارية، وكان محظورا على السكان الجزائريين العرب دخول الأحياء التي توجد فيها تلك البنايات. وقد دخلها الجزائريون في أعقاب إعلان الاستقلال عام 1962، في غمرة حركة شعبيةقامت باحتلال المساكن والشقق التي جلا عنها المستوطنون. وقامت الحكومة الجزائرية بعد ذلك بتقنين هذا الاستيلاء الجماعي على المساكن، من خلال ما عرف بخطة "التسيير الذاتي" الاشتراكية. وقد تدهورت حالة تلك العمارات ووصلت إلى الحضيض بسبب الأعطال الكثيرة وزيادة الضغط التي تؤدي إلى تسرب المياه من الأنابيب الموصلة للصرف الصحي وتآكل الجدران، بالإضافة إلى الازدحام السكاني الذي يرغم أكثر من أسرة واحدة على السكن داخل الشقة الواحدة. وهي القضية الأساسية التي تدفع بقطاع من سكان العاصمة، من الفقراء والمهمشين والمحرومين، إلى اللجوء للسكن فوق أسطح العمارات وبناء أكواخ وغرف بطريقة سريعة وبدائية فوق تلك الأسطح لإقامة تمتد لتصبح دائمة مع ما تخلقه من منازعات ومناوشات اجتماعية بعد ان تحول الكثير منها إلى بؤر لممارسة الكثير من الأعمال الخارجة عن القانون.
يتطلع علواش بالكاميرا من أعلا، أي من تلك الأسطح، إلى مدينة الجزائر التي تتألق في الأفق، بنوع من الحنين الذي تكشفه الصورة الشفافة الرومانسية الناعمة رغم المأساة، كما يرثي لحال تلك البنايات التي كانت في الماضي متألقة قبل أن تتآكل وتتدهور نتيجة لإهمال الدولة والسكان.
الخروج على القانون ومسؤولية الدولة ليس هو الموضوع الذي يلقى إهتمام علواش هنا، رغم أنه كامن في ثنايا الموضوع دون شك، بل إنه يبدو مهتما أكثر – بتقديم صورة مكثفة، من زوايا مختلفة، لتدهور من نوع آخر، لا يتعلق فقط بطبيعة العمارة، بل بالنفس الإنسانية وما حل بها من خراب، حتى أصبح الجزائريون- طبقا لرؤية علواش في فيلمه وحسب كلمات الأغنية التي ترددها المغنية الشابة "آسيا"- لا يطيقون بعضهم البعض، غير قادرين على الانسجام أوالتعامل معا، وليس هناك أمل لديه في إصلاحهم قبل التخلص، ربما، من ذلك الموروث الثقيل "المتخلف" الذي يضع علواش خطوطا عريضة تحته قبل كل فصل من فصول الفيلم.
سؤال الدين
ماهو ذلك الموروث الذي يراه علواش عائقا أمام تحرر الإنسان الجزائري البسيط من الفقر والتخلف؟ إنه يشير هنا بوضوح إلى "الدين" أي إلى الإسلام.. ربما يقصد تفريغ الإسلام من رسالته العظيمة وتحوله إلى ركعات وسجدات آلية متصلة لا روحانية فيها ولا تجل، بل تبرير للطموح إلى السيطرة والتحكم في حياة الآخرين بالقوة.
يبدأ كل فصل من فصول الفيلم الخمسة بالآذان للصلوات الخمس: بدءا من آذان الفجر، وانتهاء بآذان العشاء. وتقع كل الأحداث في يوم واحد حتى نهاية الليل وقبل بزوغ فجر جديد مع آذان جديد. وتبدو كل الشخصيات التي يصورها علواش في الفيلم، مشغولة بنفسها، بمعزل عن الآخرين، الجميع يبحث عن النجاة الفردية، أو عن التحقق ولو بسحق الآخرين. الفقراء فقدوا كل أمل لهم في حياة كريمة، والأغنياء يسعون للحصول على المزيد ولو من خلال التعذيب والقتل.
هناك أولا ذلك الرجل المدعو "سي حمود" الذي يوظف لديه رجلين يقومان بتعذيب رجل ثالث داخل شقة لاتزال تحت الإنشاء. لا نعرف بالضبط سبب التعذيب بل نسمع حوارا عبر الهاتف المحمول بين حمود وامرأة، لاشك أنها زوجته.. تقول له خلالها ألا تأخذه رحمة بالرجل (سي العدلاوي) وهو يقول للرجل إن عذابه يمكن أن يتوقف بمجرد أن يوقع على توقيع ورقة ما (لابد أن تكون تنازلا عن ملكيته عقار أو شيء من هذا القبيل) ويعده بأنه بمجرد توقيعه سيمكنه من السفر إلى مارسيليا للحاق بزوجته وأولاده. لكن الرجل يرفض بإصرار، وتزداد بالتالي جرعة التعذيب التي ينالها.
من هذا الموقع ننتقل إلى سطح عمارة أخرى حيث نرى مخرجة أفلام وثائقية تعاين الموقع مع فريق التصوير قبل أن تدرك انهم أخطأوا اختيار الموقع. لكن أفراد الفريق يصرون على البقاء ويأخذون في تصوير المشهد في الشارع من أعلا.
وفوق سطح عمارة أخرى في باب الواد، نرى "عم العربي" ذلك الرجل الذي تبقيه أسرته، أو ربما أهل العمارة السكنية جميعهم، حبيسا داخل حظيرة فوق السطح، يقولون إنه مجنون، ويضربونه، والرجل يصرخ ويستنجد لكن لا أحد يهتم به سوى طفلة صغيرة "ليلى" تستمع بشغف إلى حكاياته التي يختلط فيها الواقع بالخيال.. ومنها تلك القصة التي يرويها على مسامعها عن ذلك البطل الذي كان مفتونا به هو وأقرانه في الماضي، في زمن النضال ضد الاستعمار الفرنسي.. لكن الواضح أنه أصبح الآن طاعنا في السن، تناقصت قواه العقلية بسبب العلة والوحدة والحبس الجبري والعذاب والعزلة التي يلقاها، يلقون إليه ببعض الطعام مثلما يفعلون مع الدجاج.. إن عم العربي هو رمز للماضي النضالي الذي كان، لجيل المناضلين القدماء، للثورة التي أغتيلت وإنتهت في أيدي حفنة من الانتهازيين الفاسدين.
مرزاق علواش |
سيعود علواش إلى هذا الرجل خلال الفيلم أكثر من مرة، دون أن يجعلنا نرى وجهه أبدا، لأنه ببساطة ليس مجرد رجل، بل رمز، ومن هذه الشخصية إلى سطح آخر وإمرأة مضطربة عقليا هي "سلومة" التي تقيم مع شقيقتها عائشة وإبنها كريم، بعد أن لجأت إلى سطح العمارة وقامت ببناء حجرة بدائية هناك بوضع اليد دون سند من قانون، لكن صاحب العقار يأتي الآن لتهديدها بالطرد ملوحا بحكم صادر من المحكمة يقضي بذلك.
فوق سطح مبنى آخر شاب يدعى حليم، يقوم بتأجير غرفة الحمام الموجودة فوق السطح، لمن يدفع الثمن الذي يطلبه.. ونرى "الشيخ الأمين" يصعد إلى السطح ويدفع المقابل المعلوم مقابل أن يختلي في الغرفة بامرأة منقبة تدعى "تيحة"، يطلب منها أن تتجرد من ملابسها ثم يقوم بضربها بوحشية لطرد الأرواح الشريرة من جسدها- حسب المعتقدات الشعبية السائدة. المرأة تصرخ وتطلب منه التوقف عن ضربها، والشيخ يواصل ضربها بحماس، في حين يتلصص صاحبنا "حليم" على ما يدور في الغرفة من خلال ثقب المفتاح!
قبلة الوداع
وعلى سطح آخر تأتي فرقة موسيقية من الشباب للتدرب ومعهم مغنية شابة هي "آسيا" التي تروي لهم كيف أن إمرأة تقيم فوق سطح البناية المجاورة تطاردها كلما رأتها، إنها مغرمة بها، لكنها تستبعد أن تكون من الشواذ، وها هي الآن تشير بيدها إليها تريد أن تتبادل معها الحديث.. وفعلا تقول لها إن إسمها هو نايلا.. ولكن يظهر رجل (قد يكون زوجها) ينهاها عن الحديث مع الآخرين ويضربها بعنف ووحشية ويجرها إلى الداخل.
وبين هذه المشاهد نرى مجموعة من الرجال يصعدون إلى سطح بناية ليستمعون إلى خطبة يلقيها شيخ يشيد خلالها بالقذافي، ثم يؤمهم للصلاة.. وبعد انتهاء الصلاة، نرى أحد الشباب المسؤولين عن ترتيب الأمور، يعطي شابا آخر قطعة من المخدرات يقول إن قريبا له أتاه بها من أفغانستان حيث كان يجاهد هناك.
وتأتي مجموعة أخرى لاستخدام السطح في اقامة حفل زفاف.. ثم يأتي صاحب العقار يطالب سلومة باخلاء السطح هي وشقيقتها، فلا يكون منهن إلا ضربه حتى يفقد الحياة.
يأتي إبنه ليلا بحثا عنه، تنكرن رؤيته تماما باصرار.. يتصل بحماه الذي كان ضابطا في الشرطة وأصبح الآن متقاعدا، لكي يأتي لمساعدته،عبرالهاتف لا يتمكن الرجل من التعرف عليه في البداية قائلا إنه قام بتزويج ست من بناته وأصبح لا يدري أسماء أزواجهن. وعندما يأتي يطلب من الشاب الانتظار حتى الصباح لكنه ينتحي بالمرأة يقول لها إنه رأى آثار الدماء ويعرف أنها قتلته مع شقيقتها، وينصحها بأخذ الجثة مع شقيقتها وابنها ودفنها ليلا في البحر، ويفقد كان القتيل "طماعا وشريرا يستحق الموت"!
من ناحية أخرى، ينتهي التعذيب الذي يمارسه رجال حمود على عدلان إلى موت الأخير وفرار الرجال الثلاثة.
وبعد أن تلوح ليلى للمغنية الشابة آسيا بقبلة وداع، تلقي بنفسها من فوق السطح منتحرة.
وترفض الطفة الصغيرة مساعدة سي العربي أو فك قيوده وتقول له إنها لم تعد تصدق قصصه وإنه فعلا "مجنون كما يقولون عنه".
هذه التساؤلات
ليس هناك في الفيلم تفسير لدوافع تصرفات الشخصيات.. فهذه ليست دراما تقليدية تنحو إلى التفسير والشرح وتقديم المبررات النفسية لدوافع الشخصيات، بل مجموعة من المواقف المجردة التي يقتبسها المخرج من وحي خياله الخاص، ليعبر من خلالها عن رؤيته لواقع الجزائر اليوم من خلال تلك الصورة الرمزية المكثفة، فليس من الممكن تفسير الكثير من المواقف: مثلا لماذا يبدو الجميع أولا أنذالا على كل هذا النحو المتدني وحتى النهاية؟ ولماذا يصعد الراغبون في إقامة الصلاة إلى السطح بدلا من الذهاب إلى أحد المساجد التابعة لتنظيمات الإسلاميين، وهي كثيرة؟ ولماذا يذكر الشيخ في الخطبة التي تسبق الصلاة معمر القذافي بالخير باعتباره من الذين ساندوا ودعموا جماعات الإسلام السياسي في حين كان القذافي يحارب هذا التيار في ليبيا وينكل برموزه؟ وما الذي يجذب المرأة "نايلا" إلى آسيا؟ هل مصدر الانجذاب كونها نموذجا للمرأة التي تملك زمام حريتها، تمارس الغناء وتنطلق في الخارج مع أعضاء فرقتها الموسيقية، تتبادل الحب مع أحدهم – كما نرى؟ وما هي الورقة التي يطلب من السيد عدلان توقيعها، ولماذا لا يتم تعذيبه في أحد أقبية أجهزة الأمن مثلا خاصة إذا كان من يقوم بتعذيبه- كما نفهم- رجلا من رجال السلطة النافذين؟ ولماذا تبدو حتى الطفلة الصغيرة بهذه الفظاظة والقسوة في تعاملها مع سي العربي؟
هذه التساؤلات وغيرها لا يملك الفيلم تقديم إجابات عنها. إننا فقط محكومون بتلك الرؤية المكثفة التي تنتقل من سطح إلى آخر، لا يربط بينها سوى أنها تدور فوق أسطح العمارات القديمة في العاصمة الجزائرية، وهي ولاشك، فكرة أدبية أغوت مرزاق علواش فيما يبدو، لاتخاذها مدخلا جماليا، لتصوير الحياة في الجزائر من أعلى. صحيح أن الكثير من المشردين يعيشون حاليا فوق الأسطح.. ولكن لماذا لا يبدو أن بينهم وبين بعضهم البعض أي نوع من التعاطف أو الفهم؟
الأمر الواضح من قراءة الفيلم أن علواش يستخدم الآذان والصلوات عن قصد ضمن البناء العضوي للفيلم وليس كإطار عام لمجتمع عربي إسلامي. هنا تطرح تساؤلات كثيرة حول تلك الرؤية "الاستشراقية" القاسية التي لا تقدم حتى صورة واضحة لجماعات التطرف المرتبطة بالإسلام كما اعتدنا أن نرى في أفلام سابقة لعلواش نفسه، بل مجرد قشور عابرة في سياق يدين الجميع.
هناك صور بديعة لأجزاء من المدينة في الشارع وعلى الشاطيء وفي الميناء أسفل، ولقطات خلابة للحظات الشروق حتى الغروب.. لتدفق السيارات في الطرق، فيما يعكس حنينا واضحا للجزائر التي كانت في الماضي، خاصة وهو يصور من أعلى حي باب الواد على خلفية حديث ضابط الشرطة المتقاعد وهو يقص على زوج ابنته أنه كان يقيم في إحدى عمارات الحي الذي يحبه كثيرا، وكيف أنه حصل على الشقة التي أقام فيها من رجل إسباني كان قد لجأ إلى الجزائر بعد هزيمة الشيوعيين في الحرب الأهلية الإسبانية. ويضيف إنه تعلم الشيوعية بعد ان ظل يقرأ ويدرس كل متعلقات الرجل وكتبه التي تركها.
يتوقف الفيلم هنا وهناك لكي يتيج الفرصة لمشاهدة أطراف مقتصدة من حركة الشارع. مع انتقالات محسوبة بدقة بين المشاهد. ويميل التمثيل عن قصد، إلى بعض المبالغة والنزعة الكاريكاتورية في الحركة.. لأن علواش لا يريد أن يحقق الاندماج بين المتفرج والفيلم، بل يريد خلق نوع من التغريب من خلال تلك المبالغات مع جعل معظم لقطاته تدور داخل لقطات متوسطة للحفاظ على مسافة بين المتفرج والشاشة.
ورغم الاتقان الحرفي في التصوير والمونتاج وذلك الاستخدام المقتصد العذب للموسيقى، إلا أن الفيلم يظل مجموعة متفرقة من المشاهد التي كان تأثيرها سيصبح أقوى كثيرا إذا ما تمكن السيناريو، من إقامة علاقات أقوى بينها، وأن يربط فيما بينها بشكل أفضل، وأن يعثر على علاقات أكثر عمقا بين تلك الشخصيات التي تظهر وتختفي كثيرا في الفيلم.
0 comments:
إرسال تعليق