أمير العمري- لندن
لم أشاهد فيلم "جاذبية" Gravity الذي عرض للمرة الأولى عالميا في افتتاح الدورة السبعين من مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي في أواخر أغسطس الماضي، فقد فاتني الافتتاح. لكني شاهدته أخيرا عند عرضه في مهرجان لندن السينمائي أي بعد أيام محدودة من بدء عروضه في الولايات المتحدة (4 أكتوبر).
"جاذبية" (وهي ليست الجاذبية الجنسية بل جاذبية الأرض) هو الفيلم الذي أخرجه المكسيكي ألفونسو كوارون، وصور بتقنية الأبعاد الثلاثية 3-D، وقام ببطولته جورج كلوني وساندرا بولوك. وقد تكلف إنتاج الفيلم نحو 100 مليون دولار، ولكن ليس لدى شركة وورنر منتجة الفيلم أدنى شك في قدرة الفيلم على استعادتها وتحقيق أرباح قد تتجاوز ما حققه فيلم "أفاتار" لجيمس كاميرون.
يقوم كلوني بدور مات كوالسكي، رائد فضاء أمريكي يقوم بآخر رحلة له في عالم الفضاء، وتقوم ساندرا بولوك بدور رايان ستون الطبيبة المتخصصة في هندسة الطب الحيوي الفضائي.. أو شيء من هذا القبيل، وهي تقوم بأول رحلة لها في الفضاء.
وتدور أحداث الفيلم- إذا صح أن هناك أحداثا- في المستقبل القريب جدا. وما يحدث باختصار شديد أن يصاب التيلسكوب الفضائي المرتبط بمحطة الفضاء التي يوجد الإثنان على متنها بعطل، فيطلب منهما الخروج خارج المحطة الفضائية لإصلاحه والعودة، ولكن المحطة تتلقى انذارا بتعطل محطة فضائية روسية قريبا وهو ما يؤدي إلى قصف الروس لها بالصواريخ لتدميرها وما سيتبع هذا من انهمار آلاف القطع الملتهبة التي سيتوقع أن تصطدم بالمحطة الأمريكية وتدمرها، ويتعين بالتالي على الإثنين العودة إلى الأرض فورا مع طاقم المحطة. لكنهما يجدان أن المحطة قد توقفت عن العمل وقتل كل أفراد طاقمها ويصبح الرجل والمرأة مرتبطين ببعضهما البعض ماديا، بواسطة سلك.. وهما يحاولان الوصول الى محطة فضائية دولية أخرى على مسافة 100 ميل لكن رغم محاولات المرأة – التي تخوض رحلتها الأولى في الفضاء- تحمل المشاق والثبات للوصول الى الهدف المنشود فإنها تفشل في ذلك، فيتخلى عنها صاحبنا لعلها تنجح بمفردها في شق طريقها الى محطة فضاء صينية قريبة. ولكنها تجد أن المحطة الصينية تعطلت، وتبدأ قطع السفينة الروسية تنهمر من حولها، وتتعطل كل أجهزة الاتصال مع الأرض.. وبعد معاناة قاسية في الفضاء حيث لا تملك أي وسيلة للنجاة سوى التمسك بالارادة والأمل من بعد يأس، تنجح السيدة ستون بمعجزة حقيقية في اختراق المجال الجوي للكرة الارضية والهبوط في البحر.
وحيدة في الكون
الفيلم من تلك الأفلام المجردة، سواء في المكان أو الزمان. هنا لا توجد شخصيات مساندة ولا أي نوع من الاتصال الحقيقي مع مخلوقات الأرض ولا مخلوقات الفضاء.. لقد أصبحت الدكتورة رايان ستون وحيدة تماما في الكون.. كما لوكانت قد أطلقت خارج الرحم لكي تعثر على طريقها وحدها في الفضاء إلى حيث تنتمي، أي إلى الارض. وهي تصبح خلال مغامرتها المخيفة، تحت رحمة العناية الإلهية وتمر بمرحلة إختبار قدرة الإرادة الإنسانية على الصمود. إنها تحاول في غمرة إحساسها باليأس، الانتحار بعد ان تحبس نفسها داخل كبسولة الفضاء وتقطع الوصلة التي يصل عبرها الأوكسيجين إليها للتنفس، لكن هاجسا أو"رؤية" ما تتجلى لها عبر شخصية مات كوالسكي، الذي يظهر لها ، لكي يرشدها الى ما يتعين عليها القيام به، فتستعيد بالتالي ثقتها في قدرتها على النجاة، تعيد جهاز التنفس، ترتدي خوذتها التقليدية، وتنجح رغم انعدام خبرتها في هذا المجال، في تشغيل أجهزة الكبسولة وتخليصها من براثن سفينة الفضاء قبل أن تنفجر، وتقودها إلى أن تصبح داخل المجال الجوي الأرضي وتهبط في البحر.
إننا أمام دراما شبه فردية (يختفي جورج كلوني من الفيلم بعد 15 دقيقة تقريبا وتصبح ساندرا بولوك بمفردها).. وهي أقرب إلى المونودراما، شخصية وحيدة تصارع القدر. لكن ما يجعلها جاذبة للمشاهدين ليس فقط عنصر العزيمة الإنسانية، بل قوة التعبير سينمائيا من خلال الصورة، عن عالم الفضاء: وجود كوكب الأرض في الخلفية على امتداد الأفق، تلك المناظر البديعة الدقيقة التي تحاكي أجواء الفضاء، شروق الشمس الذي يسطع فجأة في الأسفل على كوكب الأرض، ذلك الصمت المخيف، انهمار قطع ملتهبة تتساقط وتندفع من المحطة الفضائية الروسية وتصطدم بالمركبة الأمريكية المعطوبة، ثم تفكك هذه واندلاع حريق هائل في أجزائها..إلخ. كل هذه المشاهد مصورة بدقة شديدة وإقناع بل وجمال خاص، مع قدرة تقنية عالية على استخدام الأبعاد الثلاثية في أفضل صورة ممكنة.
أداء ساندرا بولوك قد يكفل لها الترشح لنيل جائزة أحسن ممثلة في مسابقة الأوسكار وهي جائزة سبق لها الحصول عليها عن دورها في فيلم "الجانب الأعمى" The Blind Sideعام 2010. إخراج كوارون هنا ليس فيه خطأ أو تقصير من الناحية التقنية: تنويع الزوايا، الحفاظ على إيقاع متدفق سلس، الانتقال بين الداخل (داخل المركبات) والخارج في توقيت ملائم تماما، ضبط الحركة في الفضاء بين الممثلين الإثنين والتحكم في حركاتهما بدقة بحيث تبدو المشاهد كما لو كانت رقصة باليه تعبيرية بديعة، تلك المناظر المبتكرة المقنعة تماما لعالم الفضاء، والاستخدام المتمكن للمؤثرات الخاصة لتحقيق تأثيرات متعددة في الصورة. لكن على الرغم من كل هذه العوامل الإيجابية في الفيلم، يبقى هناك شيء مفقود لعله ما يطلق عليه المخرج الشيلي الكبير أليخاندرو خودوروفسكي "الجانب الروحاني". إن البطل الأول في هذا الفيلم- من وجهة نظر كاتب هذه السطور- هو ببساطة "التقنية" السينمائية قبل أي شيء آخر. نحن لسنا بالتأكيد أمام "أوديسا فضاء" تضارع أوديسة ستانلي كوبريك كما يقترح علينا البعض، ولا أمام عمل مشابه لـ"سولاريس" تاركوفسكي، بكل ما يكمن تحت جلده من رؤى فلسفية وتأملات في المصير الإنساني.. بل إننا نشاهد فقط كيف يتمكن الإنسان من تطويع تلك الآلة فائقة التكنولوجيا لإرادته. وربما يكون هذا كافيا طالما أننا بصدد فيلم ينتج في إطار نظام الإنتاج الأمريكي التقليدي في هوليوود.
تفسير ديني
لقد هلل الكثيرون في وسائل الإعلام المرتبطة بالكنيسة في الولايات المتحدة، لما اعتبروه "احتفالا بوجود الله" في هذا الفيلم، وما تردد على ألسنة وفي كتابات الكثير من النقاد الأخلاقيين، عن "روحانية الفيلم" ودعمه لـ"القيم المسيحية". ولكن كل هذا الابتهاج العاطفي لا يستند على مرتكزات حقيقية من داخل الفيلم نفسه وفي موضوعه ودراماه المجردة البسيطة التي تبدو في الكثير من المشاهد، وكأنها تحتفي في الحقيقة، بمنجزات العلم والتكنولوجيا والقوة الأمريكية التي نجحت في أن تجعل الإنسان يحلق في الفضاء ويسيطر عليه أيضا، في حين أن شعوبا أخرى لاتزال تكافح من أجل ضبط سير المركبات التي تجرها الدواب في شوارعها (!).
يستند الذين يباركون الفيلم لما يعتقدونه نجاحا في إبراز "الروحاني" على حساب المادي، مرجعيتهم في الحقيقة لقطة واحدة في نهاية الفيلم، بعد أن تنجح البطلة في الخروج من تحت سطح الماء ولمس تربة الأرض المبتلة..هنا ترفع رأسها إلى السماء على استحياء، وتردد بصوت خافت كلمة: شكرا، وكأنها تشكر العناية الإلهية على نجاتها!
كل شيء ضاع
لا أعتقد أن من الممكن مثلا، وضع هذا الفيلم على نفس المستوى مثلا، مع فيلم آخر معروض في مهرجان لندن حاليا هو فيلم "كل شيء ضاع" All is lost إخراج المخرج الشاب جيه سي شاندور J C Chandor (هذا هو فيلمه الثاني) وبطولة النجم الأمريكي روبرت ريدفورد في تجربة جديدة تماما في مسيرته الفنية. فالفيلم الأخير هو أيضا فيلم الممثل الواحد (ريدفورد).. الذي يتعرض قاربه في عرض البحر للعواصف التي تدمره فيلجأ إلى قارب بدائي صغير من البلاستيك يقوم بتعبئته بالهواء بفمه، ويلقي فيه بضعة معلبات وزجاجة للمياه وعددا محدودا من الأعواد التي يمكن له إشعالها بغرض لفت الانظار في الليل إلى موقعه والاستغاثة بالسفن العابرة التي لا تهتم ولا تراه رغم مرورها بجواره مباشرة. وهو يكافح كفاحا مريرا لكي يحتفظ بقاربه هذا، طافيا فوق سطح الماء وسط مياه المحيط الهندي، صامدة في وجه العواصف والأعاصير التي تهب عليها ليلا ونهارا. إننا نشهد كيانا شبيها بالإنسان في عزلته الأولى وكأنما نشهد بداية الخلق.
أن الصراع الوحيد في الفيلم هو صراع الإنسان مع الطبيعة، لكن هناك شيئا ميتافيزيقيا يحيط بهذا الصراع.. يجعله يبدو كما لو كان اختبارا إلهيا لذلك الإنسان.. الفرد.. الوحيد.. الذي لا إسم له في الفيلم (فهو الإنسان، أي إنسان).. وليس هناك أي صراع أو اتصال مع غيره من البشر، فالإنسان (ريدفورد) ألقي به وحيدا وكأنما خلق للتو أو هبط من السماء إلى البحر في رحلة إثبات الوجود نحو الأرض. ليس هناك حوار أكثر من ستين كلمة في مونولوج نسمعه على شريط الصوت في بداية الفيلم.. وليست هناك أي وسائل للاتصال بل لقد تعطلت جميعها.. وليس هناك من يسترجع مع ذلك الإنسان- البطل- اللابطل، ما كان من امر حياته السابقة على اليابسة، على نحو ما تفعل ساندرا بولوك التي تروي لزميلها كيف توفيت إبنتها في حادث تراجيدي. إنه يواجه مصيره منفردا، صامتا، يحاول أن يبتكر كل ما يمكن تخيله من وسائل للنجاة في ذلك الزورق الخانق المحدود في مساحته المحاط بمياه شاسعة لا نهاية لها. هل سيلجأ للانتحار كما حاولت بولوك في "جاذبية" قبل أن تتراجع عن نيتها وتقرر الصمود والمحاولة؟ كلا.. بل إنه عازم من البداية على البقاء والصمود والمحاولة إثر الأخرى.. وكأننا أمام رجل مكلف بمهمة إلهية، للوصول إلى مبتغاه، ونقل رسالته إلى الإنسان: أن الله ها هنا.. موجود.. وهو لا يتخلى قط عن الإنسان، بعد أن خلقه وابتلاه بما شاء أن يبتليه به في امتحان طويل مستمر وممتد، لوجوده ولقدرته على البقاء والحفاظ على النوع إلى حين أن يرث الله الارض وما عليها.
في "كل شيء ضاع" لا توجد ابتكارات تكنولوجية معقدة، ولا أجهزة خاصة للنجاة والاتصال، تجذب أنظار المشاهدين وتبهرهم بها، بل فقط الإنسان ومقتضيات الحياة البدائية الأولية: بعض المعلبات والمياه التي سرعان ما تنفد أيضا، وقطعة من المطاط تنتهي في العاصفة إلى لاشيء، ثم يجد البطل نفسه غارقا في أعمال المحيط إلى حين يأتيه نور الله.. يهتدي به وإليه، وبه ينجو. وتستمر الحياة.
يستحق أداء ريدفورد في هذا الفيلم التوقف أمامه طويلا كتجربة خاصة في الأداء السينمائي: إن نظرات عينيه التي تنتقل وتتغير بين القلق والترقب والرغبة في الصمود والمقاومة، ثم الاستغراق في التعب والنوم للحظات قبل اليقظة ومواجهة القدر المحتوم بقوة، والتطلع إلى الزمن كأنه قرون عديدة، قد يقذف به إلى وهدة اليأس والقنوط والإحباط والاستسلام لكنه لا يستسلم، هذه المشاعر المختلطة المتغيرة المضطربة التي نراها، في لقطات قريبة ومتوسطة، من زوايا مختلفة، تحاصر الممثل وتخنقه أحيانا داخل الكادر، أو تبتعد عنه لتتيح له الفرصة لتأمل وجوده الفردي المنعزل وسط تلك الطبيعة الساكنة إلى درجة الجنون أحيانا، والهائجة الغاضبة بحيث تستدعي كل القوى الخائرة من سباتها لكي تنهض وتقاوم، كل هذه التعبيرات تدفعك إلى التساؤل: كيف يمكن للممثل أن يحافظ على تدفق المشاعر بصورة طبيعية على هذا النحو أمام كاميرا تحاصره وحده وتصر على محاصرته ومراقبة كل انفعالاته، ودون أن يبدو وكأنه يقوم بدور مرسوم وحركات محسوبة مسبقا في سيناريو مكتوب؟ هنا تكمن عبقرية ريدفورد ويكمن سر براعته. وهنا أيضا عبقرية فيلم بسيط لكنه شديد العمق فكريا وسينمائيا.
0 comments:
إرسال تعليق