صابر عرب وزير الثقافة المصري
بقلم: محمود قرني
قبل حوالى الأسبوعين؛ أصدر تيار الثقافة الوطنية
بالاشتراك مع مجموعة من المثقفين المستقلين، بيانا شديد اللهجة، يعلنون فيه
موقفهم المناهض لما يرونه فسادا واسعا في وزارة الثقافة. انتهوا فيه الى
المطالبة بإقالة وزير الثقافة ومحاكمته مع رموز وزارته، ثم أعلنوا البدء في
خطوة أخرى تتضمن مذكرة تفصيلية، سترفع لرئيس الجمهورية المستشار عدلي
منصور وكذلك لرئيس الوزراء الدكتور حازم الببلاوي. من يقرأ البيان يدرك على
الفور أن الأوضاع الشائنة في إدارات وهيئات الوزارة وأداء وزيرها صابر عرب
وكل ما ترتكبه الإدارة الحالية من تضليل وإفساد لا يتلاءم وطموحات مصر
ومثقفيها عقب ثورة الثلاثين من يونيو، بداية من ممارسات الوزير منذ توليه
المسؤولية في الحكومة الجديدة وفي حكومتين سابقتين جمعت بين المجلس العسكري
ثم نظام حكم الإخوان المسلمين. من هنا تتعاظم المشكلة وتتسع دائرة التناقض
بين فصائل من المثقفين الطموحين لمستقبل يتساوق مع طموحات الثورة، وبين
إدارة ثقافية غارقة حتى أذنيها في الفساد وإعادة إنتاج الماضي عبر الإصرار
على بعث الحياة في رميم المقبورين فيه.
من هنا نستطيع القول إن اتساع دائرة معارضي الوزير وسياسته لم يكن مرجعها الوحيد مساخر ما أطلق عليه ‘مؤتمر المثقفين’ الذي أقيم قبل صدور البيان بعدة أيام، بل إن السياسة الثقافية برمتها باتت موضع تساؤل وموضع رفض أيضا، غير أن كثيرين يتعشمون في انتهاء الفترة الانتقالية دون خسائر تتجاوز ما هو كائن حفاظا على ما تبقى من بنية أساسية مهددة هي الأخرى بالضياع، فالوزارة الآن تقع بين فكي كماشة، الفك الأول تشكله مجموعات النظام القديم التي عادت للسيطرة على الجزء الأعظم من مواقع الوزارة، وهي مجموعة تعادي كل التيارات الطليعية في الفكر والإبداع والتشكيل وكافة الفنون، ومع الوقت أنشأت جماعات مصالح داخل الوزارة أصبح من الصعب تفكيكها، أما الفك الثاني فتمثله مجموعات من المرتزقة ممن يسمون أنفسهم ‘رجال الاعتصام’، أعني المعتصمين في الوزارة قبل الإطاحة بمرسي، وهذه مجموعة حققت مصالح ضخمة من علاقتها بالوزارة منذ عصر مبارك وفاروق حسني، لكن أخطر ما يحدث الآن أن هذه المجموعة تدفع باتجاه تفكيك الوزارة وبيع مؤسساتها وفتح الباب على مصراعيه للتمويل الأجنبي لجماعات وأفراد يتعاملون مباشرة ضمن روشتة جهات التمويل. ومن المعروف أن هذه المجموعة تقف وراءها عدة تنظيمات أهلية ممولة من الخارج وعلى رأسها مؤسسة فورد. وهذه المجموعة ترى أن استمرار سيطرة الدولة على العملية الثقافية يحول دون تحقيق أهدافها، ومن ثم يدفعون في اتجاه إعادة هيكلة وزارة الثقافة بقصد التخلص من إدارتها حكوميا لصالح جهات التمويل الأجنبي وبيع قطاعاتها الإنتاجية وطرد العاملين بها تحت نظام المعاش المبكر.
وبذلك فإن وزارة الثقافة تواصل دورها في تعزيز العمل على عزل جماهيرها ومنح قبلة الحياة لأعدائها، بمواصلة بث الروح في رميم قياداتها القديمة ورموز فسادها المقيم، يتم ذلك عبر إعادة تمثيلها لنظامين فاشيين، بعد أن كتب الشعب نهايتهما في الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو.
فتحت شعار يضج بتلفيقية أصحابه ؛ انعقد ما يسمى بمؤتمر ‘الثقافة المصرية في المواجهة’ تحت رعاية وزير الثقافة ‘صابر عرب’، حيث كانت البداية من المسرح الصغير بدار الأوبرا، وحيث القاعة تكتظ بموظفي الوزارة كبديل للغياب الإجمالي للمثقفين المصريين، وحيث يقف ثلاثة من حضور الافتتاح، أثناء كلمة الوزير، يهتفون بأعلى أصواتهم في وجهه: ‘إنزل يا فاسد’. الوزير يقول لهم : شكرا .. ويستمر في إلقاء كلمته.
ويكشف هذا التجاهل والتعالي المكذوب للرأي العام أن الثقافة المصرية تقف بين أكذوبتين، الأولى: وزير أقصر قامة من موقعه، يعاشر كل موبقات الأنظمة البائدة وكيلا ومديرا ووزيرا. وككل نهّازي الفرص، ينجح في التواؤم مع الجميع. والثانية: نخبة كتائب التبرير والتمويل والمزايدة، التي تقدم نفسها باعتبارها صانعة ثورة الثلاثين من يونيو ومن ثم ترى، على غير الحقيقة، أنها لا تحصد إلا استحقاقا تاريخيا، ومن هنا فإنها مستعدة لمنازلة من يفكر في المرور من أمام قصعتها. في الوقت نفسه تتزايد عزلة وزارة الثقافة وكافة أجهزتها عن الحراك المجتمعي المتقدة جذوته. فرؤساء هيئاتها مشغولون بتعظيم مكاسبهم وصناعة التحالفات مع وضعاء الصحافيين وصغار المنتفعين وغيرهم من أصحاب المصالح دفاعا عن كراسيهم. ومن عجب أن يكون بين سدنة هذا المؤتمر من كان مستعدا لإطلاق لحيته إبان حكم الإخوان، وأحد هؤلاء قدم كتابا لسيد قطب، منظّر الإرهاب في العالم، اعتبره فيه واحدا من أهم نقادنا وروائيينا الطليعيين! وتكتمل حلقات هذا الفساد بقيام أحمد مجاهد بنشر تلك الترهات في هيئة الكتاب.
في هذه المناخات ليس غريبا أن تغلق الوزارة قاعاتها على ممثلي مؤتمرها، الذين لا يمثلون، في الحقيقة، سوى مصالحهم ومكاسبهم، بينما تظل هيئات الوزارة منشغلة بالكرنفالات الفارغة التي تقام وتنفض دون أن يسمع عنها أحد.
لم يسأل وزير الثقافة نفسه سؤالا واحدا: ما الذي تفعله هيئة قصور الثقافة التي تمتلك ما يزيد على خمسمائة بيت وقصر ثقافة على مستوى الجمهورية، وأين دورها في مقاومة العنف الديني الذي تمارسه جماعات منبوذة وفاشية ؟ لماذا لا تصل مطبوعات الوزارة الى عموم الشعب؟ تلك المطبوعات التي كلفت المواطن ملايين الجنيهات، ونخص بالذكر مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة والمركز القومي للترجمة. ولماذا كل هذا الغثاء والفساد الذي تطبعه هيئة الكتاب دون حسيب أو رقيب ؟ ولماذا لم تحل مشكلات الفرق المسرحية المستقلة وفرق وبيوت الفنون ؟ وأين وزارة الثقافة من مشكلات صناعة السينما؟ ولماذا أعيد تعيين كل من نبذتهم الثورة على رأس المواقع المؤثرة بالوزارة؟ ولماذا تستمر مجلات لا يقرأها أكثر من كتابها ؟ مثل مجلة إبداع التي يترأسها الشاعر ‘المزمن’ أحمد عبد المعطي حجازي، وكذلك مجلتي فصول والرواية، وغير ذلك العشرات، ولماذا تستمر هيئة قصور الثقافة في انتزاع دور ليس لها بالاستمرار في مشروع النشر الإقليمي الذي ساهم في إفساد الذوق العام وأهدر كل قيمة إبداعية؟ هل لتحقيق مكاسب ومصالح عبر مشروع النشر؟ وذلك طبعا على نفقة دورها الرئيسي في الوصول الى نجوع وقرى مصر لنشر ثقافة الحوار ونقل الفنون المصرية الى كافة المواطنين؟!!
في هذا المناخ لم يكن مفاجئا أن يقوم الدكتور سعيد توفيق الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بإعادة تشكيل لجان المجلس طبقا للمعايير نفسها التي تكرس الماضي بفجاجة ليس لها مثيل. فقد تمت الإطاحة بالروائية وكاتبة الأطفال نجلاء علام من رئاسة لجنة الطفل لتحل محلها الدكتورة فاطمة المعدول التي كانت عضوا بلجنة السياسات، كذلك تم اختراع لجنتين جديدتين أولهما لجنة للإعلام والثانية لجنة للشباب. الأولى طبعا لا تخفي مقاصدها حيث تستهدف جمع أكبر عدد ممكن من الولاءات الصحافية حتى يضمن المجلس ومعه الوزارة ولاءات هنا وولاءات هناك، مع الوضع في الاعتبار أن أهداف المجلس لا علاقة لها من قريب أو بعيد بموضوع الإعلام. أما اللجنة الثانية فهي لجنة الشباب وتستهدف هي الأخرى ضم عدد لا بأس به من الشباب المنتسبين للثورة مثل أحمد دومة وخالد تليمة ويترأسها المهندس أحمد بهاء الدين شعبان، وقد شهدت اللجنة عددا من الاستقالات في أولى جلساتها فضلا عن تغيب أبرز أسمائها عن الحضور.
بالسفور نفسه تمت إزاحة لجنة الشعر التي لم تكمل أكثر من عام ونصف العام وأعيدت لجنة أحمد عبد المعطي حجازي إلى سابق عهدها، وهي اللجنة التي سبق للشعراء المصريين أن ثاروا ضدها عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير.
لقد تمدد فساد وزارة الثقافة المصرية فغطى فضاء ثورة الثلاثين من يونيو، وأصبح ريحها العطن يزكم الأنوف. وبدت مشكلة وزيرها كامنة في عدم إيمانه بالثورة، لذلك لجأ الى إعادة إنتاج الفساد القديم عبر إحياء رموزه، أسماء وسلوكا، في الوقت الذي كان يتعين فيه إزالة آثار التعدي الصارخ على عقول المصريين إبان نظامين فاشيين انحاز أولهما للفساد والقمع والتدجين وأضاف ثانيهما الرجعية لكتلة صفاته المسيئة تحت شعارات ثورية كاذبة. غير أن واقع الحال يقول إن الفساد مستمر .. لكن الثورة أيضا مستمرة.
** نشرت في صحيفة القدس العربي بتاريخ 12 ديسمبر 2013
0 comments:
إرسال تعليق