لا أعرف لماذا توقف المخرج المغربي أحمد المعنوني عن الإخراج السينمائي طوال تلك السنوات، فمنذ عام 1993 ، أي منذ أن أخرج فيلما تسجيليا قصيرا لم يقدم المعنوني عملا جديدا.
وبعد فيلمه الأول الكبير "الأيام.. الأيام" (1978) الذي كان بمثابة بداية قوية للسينما المغربية الحديثة ثم فيلم "الحال" (1981) عن فرقة ناس الغيوان الموسيقية الشعبية الشهيرة، شاء المعنوني الابتعاد عن السينما بشكل أو بآخر، بل والابتعاد أيضا عن محيطه الطبيعي في المغرب، إلى فرنسا حيث انشغل بالعمل في أشياء أخرى بعيدة عن السينما.
والمؤكد بعد ذلك أن عودة المعنوني إلى الإخراج بفيلمه الجديد "القلوب المحترقة" تعتبر بمثابة عودة الروح إلى السينما المغربية، ففيلمه يكشف، ليس فقط عما حققه من نضج كبير في معارفه السينمائية، بل عن ازدياد رؤيته عمقا، وأنه لايزال لديه الكثير الذي يمكن أن يضيفه إلى السينما في بلاده. وربما يكون الفيلم أيضا إعادة كشف عن موهبته السينمائية الجامحة المشتعلة التي لا تعرف حدودا.
إن المعنوني يجعل من فيلمه قصيدة بصرية بليغة، فيها من الذات بقدر ما فيها من الواقع، لكنه ليس شاعرا من شعراء زمن البطولات والآمال الكبيرة والجموع الصاعدة المتطلعة إلى الكلمة الرنانة، بل شاعر الانكسار الفردي، والإحباطات التي استولت على حياتنا فحفرت الحزن في داخلنا، لكن دون أن تفقدنا القدرة على الاحتفال بالحياة والحب.
إنه يعبر بمفردات اللقطة وبزاوية التصوير، بالظلال والألوان، وبالأبيض والأسود، وموسيقى الروح، ويتلاعب كما يشاء بالإيقاع في فيلمه البديع لكي يعبر عن رؤية جريئة تقتحم الكثير من المحظورات في السينما المغربية والعربية عموما: محظورات الجنس والتعبير عن الجسد، ولكن أساسا، الإفضاء بمكنون الذات وتقديم نوع من "سينما الاعترافات" على غرار أدب الاعترافات الذي لم تعرفه بلادنا إلا لماما.
المعنوني يتلاعب في فيلمه بالشكل لكي يطوعه لأفكاره ومنهاجه، كما يلعب على توليد التداعيات الحرة، والانتقال بين الأزمنة ببراعة وسلاسة، في إطار عمل ملحمي كبير حقا هو "القلوب المحترقة".
بناء الفيلموبعد فيلمه الأول الكبير "الأيام.. الأيام" (1978) الذي كان بمثابة بداية قوية للسينما المغربية الحديثة ثم فيلم "الحال" (1981) عن فرقة ناس الغيوان الموسيقية الشعبية الشهيرة، شاء المعنوني الابتعاد عن السينما بشكل أو بآخر، بل والابتعاد أيضا عن محيطه الطبيعي في المغرب، إلى فرنسا حيث انشغل بالعمل في أشياء أخرى بعيدة عن السينما.
والمؤكد بعد ذلك أن عودة المعنوني إلى الإخراج بفيلمه الجديد "القلوب المحترقة" تعتبر بمثابة عودة الروح إلى السينما المغربية، ففيلمه يكشف، ليس فقط عما حققه من نضج كبير في معارفه السينمائية، بل عن ازدياد رؤيته عمقا، وأنه لايزال لديه الكثير الذي يمكن أن يضيفه إلى السينما في بلاده. وربما يكون الفيلم أيضا إعادة كشف عن موهبته السينمائية الجامحة المشتعلة التي لا تعرف حدودا.
إن المعنوني يجعل من فيلمه قصيدة بصرية بليغة، فيها من الذات بقدر ما فيها من الواقع، لكنه ليس شاعرا من شعراء زمن البطولات والآمال الكبيرة والجموع الصاعدة المتطلعة إلى الكلمة الرنانة، بل شاعر الانكسار الفردي، والإحباطات التي استولت على حياتنا فحفرت الحزن في داخلنا، لكن دون أن تفقدنا القدرة على الاحتفال بالحياة والحب.
إنه يعبر بمفردات اللقطة وبزاوية التصوير، بالظلال والألوان، وبالأبيض والأسود، وموسيقى الروح، ويتلاعب كما يشاء بالإيقاع في فيلمه البديع لكي يعبر عن رؤية جريئة تقتحم الكثير من المحظورات في السينما المغربية والعربية عموما: محظورات الجنس والتعبير عن الجسد، ولكن أساسا، الإفضاء بمكنون الذات وتقديم نوع من "سينما الاعترافات" على غرار أدب الاعترافات الذي لم تعرفه بلادنا إلا لماما.
المعنوني يتلاعب في فيلمه بالشكل لكي يطوعه لأفكاره ومنهاجه، كما يلعب على توليد التداعيات الحرة، والانتقال بين الأزمنة ببراعة وسلاسة، في إطار عمل ملحمي كبير حقا هو "القلوب المحترقة".
عن أي شئ يحكي المعنوني في فيلمه، وماذا يقول إذن؟
إن السينما الحداثية التي يقدمها المعنوني في فيلمه لا علاقة لها بالوصفات الدرامية الجاهزة التي تُحبك من أجل توصيل "رسالة" ما، أو مضمون أخلاقي أو سياسي محدد. ومن الممكن القول إن فيلم المعنوني لا يقول اي شئ على الإطلاق، لكنه في الوقت نفسه يتحدث عن كل شئ: عن الحياة والموت، عن الحب والقيمة، عن الفن والجمال، عن الماضي والحاضر وتأثير الأول على الأخير، وعن الرغبة في الانعتاق، من قسوة الواقع ومن ضراوة الماضي، عن الأحلام الزائلة، وعن القدرة على التسامي فوق الجروح.
إن بطله "أمين" العائد من الخارج بعد غياب أكثر من عشر سنوات عن بلاده، يعود إلى مدينته التي اضطر للرحيل عنها مكسورا مهزوما مدمرا، بعد أن فقد أباه، ولم ير أمه، وبعد أن عانى في زمانه الأول، أي طفولته، من القهر والعذاب والاضطهاد الجسدي في أعمال أقرب إلى السخرة على يدي خاله المتعجرف الفظ، الذي كأنه له كالقدر العاتي الذي لا يرحم.
لكن خاله يرقد الآن على فراش المرض، فقد القدرة على الكلام، ينتظر النهاية بالموت.
أمين يعود لكي يواجه الماضي الذي كان، كما يواجه الواقع المتغير في مدينته "فاس"، غير قادر على إقامة أي علاقة حقيقية مع المكان، تطارده الذكريات، بحلوها ومرها، وكلما أراد الانطلاق متحررا من أسر الماضي بقتامته وسواده، وجد نفسه مشدودا مرة أخرى إليه.
أمين الذي خبر كل حجر في المدينة، وهو المعماري الذي "يمكن أن تروي هذه الجدران عن طفولته" كما يقول له الشيخ، حائر حيرة هاملت، هل يقبل على الحياة التي يحبها بين أسوار مدينته وينسى الماضي أو يصفي حسابه معه، وكيف؟ أم يعود من حيث أتى، أي مهاجرا كما كان في الغرب وهو الذي يشعر بالغربة في موطنه. ولكنه إذا عاد "فسيصبح كل الناس هنا عائدين " كما يقول لحبيبته حورية عندما تسأله لم لا يعود من حيث أتى.
إنه عاجز عن اقامة علاقة عاطفية حقيقية مع حورية التي تتطلع إليه باعتباره المنقذ من الاضطهاد الاجتماعي الذي تناله على يدي شقيقها الذي يعارض في ذهابها إلى فرنسا للبحث عن فرصة عمل. أمها تقول لها: "إنه لا يشأ أن يجعلك تزورين خالتك في الدار البيضاء".
على العكس تماما من أمين.. هناك صديقه "عزيز" فنان الرسم والنحت على الخشب، الذي يصنع لوحات جميلة، ويبيع أعمالا فنية له ولأصدقائه، وهو مقبل على الحياة، يريد أن يعانق الدنيا، ويتطلع إلى اقامة علاقة جسدية ساخنة مع امرأة تنتمي لطبقة أخرى.. سيدة أعمال، فاتها قطار الشباب، تسعى لانتزاع قطرات من السعادة الأخيرة قبل فوات الأوان مع عزيز. وعزيز بتكوينه المغامر المندفع المتدفق بالحيوية لا يمانع، ولا يرى ما يمنع، من ارتشاف قطرات الحب حتى الثمالة.
عزيز يتوسط لحورية لدى صديقته الثرية، لكي تلحق الفتاة بالعمل في مصنع النسيج الصغير الذي تمتلكه، لكن حورية التي تختنق في واقع لا يمكنه استيعاب طموحاتها ويحد من حريتها في الحركة والفعل، تواصل الحلم بالهجرة إلى فرنسا وتتشبث به.
أما أمين فهو عاجز عن منحها بصيص من الأمل في مستقبل أفضل معه رغم حبه لها، بسبب عجزه عن الهرب من أسر الماضي وذكرياته التي تطارده أثناء جولاته في كل أركان المدينة: في الحارات والأزقة والأسواق والحوانيت بل وتلحق به في منامه أيضا.
من السيرة الذاتية
لاشك أن فيلم "القلوب المحترقة" فيه الكثير من الحياة الشخصية لمبدعه ومؤلفه أحمد المعنوني نفسه. إنه يغزل وينسج خيوط فيلمه ببراعة وبمعرفة تامة بالصور المحفورة في ذاكرته والتي يعيد ترتيبها بطريقته الفنية التي تتخلص تماما من أسلوب السرد القائم على المنطق التقليدي، فليست هناك عقدة تدفع الأحداث إلى الأمام، ولا حبكة تدور من حولها الأحداث إلى أن تنتهي نهاياتها الطبيعية أو الدرامية المنطقية.
إنه يصنع بناء سرديا يدور حول عدد من التداعيات التي تنبت في الذاكرة وتتصل بالحاضر بحيث لا يمكن التفرقة بين الزمنين.
ويستخدم الراوي، الشيخ الذي كان شاهدا على مأساة البطل الشخصية في طفولته، ويجعله يتوقف ويقطع تدفق الذكريات ويعلق بل ويتحاور مع بطله في الحاضر أيضا، كما يستخدم التعليق الموسيقي والغنائي من خلال شريط صوت شديد الثراء والجمال والإمتاع.
إن الموسيقى والغناء الشعبي الصوفي المغربي في فيلم المعنوني لا يمكن فصلهما عن الفيلم كصور، كلقطات، كلوحات بصرية مذهلة يُشيع فيها التصوير بالأبيض والأسود نوعا من التغريب فتدفعنا أيضا إلى تأمل ما تحتويه الصور وما تعكسه من أحاسيس ومعان، رغم كل ما تمتلئ به من مشاعر.
متاهة
ويكاد بناء الفيلم يشبه متاهة كبيرة يجد البطل نفسه في داخلها: متاهة من الصور واللوحات والأماكن والشخصيات، تمتلئ بالانتقالات السريعة بين الأسواق والمقابر (زيارة قبرالأم التي لم يعرفها صغيرا)، وبين المنازل التي تتسم بالثراء والفخامة، وتلك التي تشبه زنازين خانقة، من الشيخ الذي يحرس الجامع إلى مدمن المخدرات الذي ينعزل عن الدنيا ويعيش في خياله الخاص، من أجواء الغناء الشعبي في الأزقة والحارات إلى أجواء الرقص الاحتفالي داخل منزل المرأة الثرية.
ثنائيات
ويدور الفيلم حول ثنائيات من نوع: القهر والحرية، والقديم والجديد، والغنى والفقير، والتقليدي والحداثي، والحب، العذاب، الماضي والحاضر، الألم والفرح، التحرر والعبودية.. وينتصر في النهاية لضرورة التصالح مع الذات عن طريق تحرير الروح والجسد بالرقص والغناء.
يستخدم المعنوني حركة الكاميرا الدائرية في بداية الفيلم في لقطة طويلة تدور فيها الكاميرا حول وجه أمين، وينتهي، في المشهد قبل الأخير من الفيلم، بالحركة نفسها ولكن ونحن نرى أمين بعد دفن الخال، يقوم بحرق صوره ودفنها في الصحراء.. لعله يدفن الماضي الحزين.. لكنه أيضا يبكي.. ولا نعرف ما إذا كان بكاؤه فرحا أم توديعا لماض هو في النهاية جزء من حياته.
لكن المعنوني ينهي فيلمه بالتفاؤل والأمل، على لقطة لطائر في السماء، ثم أطفال يصعدون التل وهم يلوحون بفرح، على دقات دفوف ونغمات أغنية عن الحرية والتحرر، ويرتفع صوت الغناء حتى النهاية.
براعة الصورة
ولاشك أن المعنوني تمكن من تحقيق ذلك الطابع البصري الخاص المتميز الثري لفيلمه بفضل ذكاء وبراعة وقدرة مدير التصوير الفرنسي بيير بوفتي على التقاط التفاصيل، والإلمام بالمكان، والإحاطة به، وتوفير إضاءة مناسبة ذات نغمة خافتة تتناسب مع لقطات الأبيض والأسود، وتضفي بشحوبها أحيانا، أجواء الحلم أو الكابوس على الفيلم.
ولاشك أيضا أن من أبرز العوامل التي لعبت دورا أساسيا في نجاح الفيلم فنيا، سيطرة المعنوني المدهشة على فريق الممثلين والممثلات وإجادة تحريكهم واستخراج أقصى ما عندهم من إمكانيات في التعبير والأداء. ولعل الأداء في "قلوب محترقة" هو الأفضل في كل ما شاهدناه من أفلام مغربية من قبل.
وقد برع بوجه خاص هنا ممثل الدور الرئيسي هشام بهلول، وكذلك باقي الممثلين الذين قاموا بالأدوار الرئيسية: عبد العزيز الطاهري وعز العرب الكغات ونادية العلمي وخلود ومحمد درهم وأمل الستة.
إن فيلم "القلوب المحترقة" مغامرة في السينما كانت تستحق أن يخوضها المعنوني الحاضر بعد غياب.. وأظن أنها مغامرة أثمرت، ولعل المعنوني بعدها يبقى ويصر على مواصلة العطاء والعمل والإضافة.
1 comments:
تحياتى أستاذ أمير والحقيقة انى متابع جيد كل كتابات حضرتك عن السينما العربية . لكن فى أوقات كتير اضطر الى الاكتفاء بالمتابعة والقراءة. اليس غريبا أن أكون فى بلد عربى (مصر) يمكننى فيه أن أرى احدث انتاجات هوليوود ولا أستطيع مشاهدة فيلم عربى من جنسية أخرى !- على التليفزيون أمريكا وفى قاعات السينما أمريكا و فى محلات الدى فى دى أمريكا ... هو العالم مفيهوش دول تانية ولا ايه !!!
و أجدد التحية أستاذ أمير
عمر منجونة
إرسال تعليق