دروس في التحضر
ينتقل كاسبار هاوزر إلى كفالة رجل دين، يؤويه ويقدم له ثيابا نظيفة مهندمة، ويقدم له الطعام، ويبدأ في تعليمه اللغة، والأهم- تلقينه مبادئ "الحضارة" حسب المفهوم الشائع.
يسأله معلمه وراعيه عن الفرق بين ثمار الطماطم التي كانت حمراء ناضجة في العام الماضي، والثمار الجديدة الخضراء الصغيرة الحالية، فيقول إن الثمار تعبت وتحتاج للراحة، فيقول له معلمه إن الثمار لا تتعب وليست لها استقلالية خاصة عن الإنسان بل هي رهن مشيئته، فيرفض كاسبار تصديق ذلك ويصر على أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء بعيدا عن سيطرة الإنسان.
لغز الوجود
جوهر الفكرة التي تتجسد في مشهد شديد الحيوية والقوة، يدور حول ماهية الوجود نفسه: هل الكينونة منفصلة عن الخالق أو مرتبطة بمصير يتحدد سلفا.
لذلك فإن كاسبار هاوزر يقبل على تعلم معظم المعارف إلا أنه يجد التلقين الديني داخل الكنيسة صعبا على أفهامه، ويشكو من أن الغناء الجماعي داخل الكنيسة يعوي في أذنيه، فيفر خارج المكان.
إن هذا المشهد الذي يدور داخل الخيمة، حيث يستعرض المشرف على العرض كل عجائب القرن التاسع عشر بما فيها "كاسبار هاوزر" نفسه، يذكرنا على نحو ما بمشهد آخر شديد الدلالة في فيلم ألماني آخر ينتمي لنفس المدرسة، هو فيلم "الخوف يأكل الروح: أو كل الآخرين اسمهم علي" للمخرج الكبير الراحل فاسبندر.
هذا الفيلم الذي كان أساسه العلاقة بين الشرق والغرب، بين الأوروبي (المتحضر) والآخر (العربي) من خلال العلاقة العاطفية بين المهاجر العربي "علي" وامرأة ألمانية تجاوزها الشباب، تشعر بالاحتياج إليه، إلا أنها تريد أن تحوله إلى نموذج متحضر.
وهي تستعرض في مشهد طريف أمام صديقاتها عضلات علي وتطلب منه أن يفتح فمه لكي تريهن كيف يعتني بنظافة أسنانه!
نحن والآخر
عودة إلى "لغز كاسبار هاوزر"، نرى أن الفيلم رغم ما فيه من سحر خاص يرتبط بالغموض المحيط بالشخصية، هو في حقيقة الأمر ليس فيلما عن كاسبار هاوزر بقدر ما هو عن أنفسنا، عن نظرتنا للآخر "المختلف"، عن شئ ما داخل النفس البشرية المقولبة يرفض ويتعالى ويحتج ويتعصب ويريد أن يفرض مفهومه هو، وعندما يفشل يلجأ إلى العنف.
النبيل الإنجليزي الذي يتبنى كاسبار هاوزر يكتشف ذات يوم- بعد أن تصور أنه قطع شوطا طويلا في "تحضير" كاسبار- أي منحه دفعة حضارية إلى الأمام خاصة بعد أن يقدمه وهو يعزف على البيانو لضيوفه إحدى مقطوعات موتسارت، قد ارتد إلى تخلفه مجددا.
إنه يراه وقد تخلى عن سترته الأنيقة وعاد سيرته الأولى أي غير قادر على ترديد الكلمات المنمقة التي علموه اياها، وأصبح يفضل العزلة عن المجتمع.
ربما يكون كاسبار قد أدرك وحشية المجتمع وفضل الابتعاد عنه باتخاذ مثل هذا الموقف الرافض للتواصل معه.جزاء كاسبار على أي حال، يكون الضرب والاستبعاد والنبذ، أما مصيره فينتهي قتلا داخل زنزانته في جريمة تظل مجهولة حتى اليوم.
من الذي قتل كاسبار هاوزر ولماذا وما هو الخطر الذي كان يمثله هذا الشخص المسكين على المجتمع حتى يتم التخلص منه؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة على شتى الاحتمالات. ولكن دون حقيقة "يقينية" بعد أن أضحت كل الحقائق نسبية على أي حال!
4 comments:
كل سنة وأنت طيب يا أستاذ أمير، يسعدني أني أكون أول المعلقين على النيولوك فى العام الجديد .... طيب .. شكلط متفائل شوية السنة دي، رغم كل المقدمات غير المبشرة،عموما كدة الصفحة اسهل قوي في القراية بس لونها متدلع حبتين ومش هتمشي مع البوستات الغاضبة والعنيفة وكمان الصور مش هتبقى منورة زي الأول .. عموما انت عارف اني باعاكسك عشان أفكرك بعزومة السمك، شكرا على مقال كاسبار هاوزر،
Dear Amir,
Many thanks for keeping us reminded that we still can find a place where we can read something interesting about cinema.
The new outlook is far more better, more pleasant and easy reading.
See you
Mostafa
dear Mr Amir
the new look is fine but i somehow miss the old look, may be because i got used to it. . but on second thoughts, the Look doesnt realy matter . The rich content in this blog and the continuous update of its various sections is what makes it stand out. thank you for your continuous effort to make all these important issues available at a click of a button.
Ibrahim El Batout
الفيلم ده عاجبنى جدا ..فكرة نظرتنا للاخر و مدى تقبلنا للاختلافه و مدى قابلية لمراجعة انفسنا و عدم تمسكنا بمفاهيم معينة قد تكون قاسية متعسفة سخيفة ... ذكرنى كثيرا هذا الفيلم بالرجل الفيل لديفد لينش ...
شكرا للتنويه عن الفيلم الجميل
إرسال تعليق