بعيدا عن زحام المهرجانات والمسابقات وبعد حصول ميكي رورك على جائزة أحسن ممثل في مسابقة جولدن جلوب، وهو ممثل ُظلم بكل المقاييس واستبعدته هوليوود من صفوفها الأولى منذ سنوات، ذهبت لمشاهدة فيلم "المصارع" The Wrestler في إحدى قاعات السينما اللندنية. جلست في هدوء، أتأمل في البناء، وأستمتع بالأداء، وأتابع اللغة التي يستخدمها المخرج في الفيلم.. وخرجت ببعض القناعات والآراء في هذا الفيلم الذي أتخيل أنه سيكون له حضور بارز في حفل جوائز الأوسكار هذا العام.
قيمة السيناريو
إن أساس هذا الفيلم، وأساس كل فيلم كما كانت قناعتي دائما ومازالت، السيناريو ، وهو هنا ممتاز من كل النواحي: شخصيات رئيسية محدودة ومحددة وواضحة المعالم، ثلاث شخصيات تحديدا لا أكثر.. أولها الشخصية الرئيسية الأولى لبطلنا، وهو نموذج لما يعرف دراميا بـ" نقيض البطل" anti-hero وهو مصارع قارب على نهاية مسيرته ولم يعد يمكنه تقديم المزيد بعد أن أصيب بنوبة قلبية أولى قد تعقبها وفاته إذا لم يغير طريقة حياته ويعتزل المصارعة الحرة. وهو نموذج أيضا للشخص الوحيد الذي يعاني من جفاف في حياته الخاصة، افترق منذ سنوات طويلة عن ابنته الوحيدة بعد ان هجر الحياة الزوجية، يسعى لإقامة علاقة حميمية مع امرأة تعمل راقصة ستربتيز في ملهى ليلي لكنها أيضا تتجه نحو نهاية الطريق، وابنة ترفض التسامح مع والدها الذي تنكر لها وأهملها عندما يعود إليها اليوم يطلب استئناف علاقة الدم ولكن بعد أن تجمد أو كاد في عروق الإبنة التي تبدو وقد استغنت أيضا عن كل الرجال، وفضلت العيش مع فتاة. السيناريو صحيح أنه تقليدي في بنائه وشخصياته بل وربما أيضا في حبكته، إلا أنه يمتلئ بالكثير من التأملات والأفكار التي تردنا إلى أنفسنا، لنطرح من التساؤلات ما يتعلق بمسار الحياة نفسها.. إلى أين تسير بنا، وهل يصلح لها أن نتطلع إلى الوراء، إلى ما مضى، ومتى يمكننا حقا تعويض ما فات وتحقيق ما شغلتنا الحياة عن تحقيقه لأنفسنا ولأحبابنا من حولنا، قبل أن يتأخر الوقت.
عمل المخرج
السيناريو الجيد وحده في السينما لا يصنع فيلما جيدا بالضرورة إلا إذا كان هناك إخراج جيد، وهنا لاشك أن إخراج دارين أرونوفسكي واثق ومتمكن، فهو يدرس جيدا مشاهده ولقطاته.. حركة الكاميرا الرصينة وانتقالاتها المتناسبة تماما مع سيكولوجية التعبير في المشهد، والتي أحيانا ما تكون محمولة على الكتف، مهتزة يهتز معها منظور الصورة في لحظات التأرجح النفسي الشديدة التي يمر بها بطلنا المصارع راندي روبنسون (ميكي رورك)، كما يعرف كيف ينتزع من الممثلين أقصى ما لديهم، وهو الذي نجح أساسا في إسناد الأدوار إلى الممثلين الذين يعرف أنه سيتمكن من الحصول على ما يريد منهم. ويجيد أونوفسكي التحكم في الإيقاع الخاص داخل كل مشهد، فلا توجد أي لقطة زائدة أو شئ ناقص في هذا العمل البديع المثير للكثير من التأملات.
أرونوفسكي يعرف جيدا متى يقطع اللقطة، ومتى ينتقل من لقطة إلى أخرى، ومتى يستخدم الموسيقى، ومتى ينتقل إلى الصمت. إنه ينتقل أحيانا من لقطات المصارعة العنيفة إلى لقطات لبطلنا والمساعد يضمد جروحه بعد انتهاء مبارة الملاكمة بالفعل، ويمهد تمهيدا جيدا للسقوط البدني الذي يكتشف بعده بطلنا أنه أصيب بنوبة قلبية.
ويجيد أرونوفسكي إجادة أقرب إلى تجسيد الحياة الحقيقية، في إخراج مشاهد المصارعة الحرة العنيفة، لكنه ينجح أيضا في إخراج الكثير من المشاهد المليئة بالشاعرية والرقة مثل المشهد الذي يدور بين راندي وابنته عندما يحضر لها هدية ثم يصطحبها في نزهة سيرا على الأقدم ثم يدخل الاثنان إلى قاعة دائرية فسيحة لكنيسة مهجورة مزينة بالنقوش البديعة حيث يرقصان معا رقصة تعبر عن رغبة خجولة مترددة من جانب أب يرغب في استعادة ابنته لكنه لا يعرف تماما كيف، وفتاة أصبح الأب عندها أثرا من آثار الماضي لكنه موجود أمامها الآن من لحم ودم.
دور الأداء
ولاشك أيضا في براعة الأداء التمثيلي الممتاز من كل الممثلين، وعلى رأسهم ميكي رورك، الذي يستخدم كل ما لديه من خبرة تمثيلية وشخصية، في هذا الفيلم ويجسدها في تعبيره بالعينين وباليدين وبالجسد عموما، كما يتحكم تماما في نبرة صوته، وفي نظراته الزائغة الحائرة بعد أن بات مشرفا على أعتاب النهاية، وبعد أن وجد نفسه عاجزا عن تغيير حياته، مدركا انه عاش بالمصارعة ويجب أن يموت أيضا بالمصارعة.. العمل الوحيد الذي يجيده والذي يمنحه متعة الإحساس بالعالم.. من خلال جمهوره الذي ينتظره ويهتف باسمه ويطالبه بالفوز بأي طريقة وبكل طريقة.
ميكي رورك، العائد بقوة في هذا الفيلم لاستعادة مجده المفقود، يستحق دون شك جائزة جولدن جلوب التي فاز بها، ولم يحصل عليها في فينيسيا بعد أن فاز الفيلم بالأسد الذهبي لأن قانون المهرجان يحرم منح اي جائزة أخرى إلى الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى.
تعليق حزين
فيلم "المصارع" تعليق حزين على ما يحدث للفرد في مجتمع لا مكان فيه إلا للقوي الذي يمكنه أن يبيع جسده من أجل إسعاد الآخرين.. تماما مثل تلك الراقصة.. راقصة التعري التي يقلقها كثيرا أنها أوشكت أيضا على فقدان قيمتها في السوق كسلعة، لكنه أيضا فيلم عن الحياة عندما تستبد بنا وتدفعنا إلى الاختيار الصعب: إما أن نحياها محرومين من السعادة التي ننشدها ونتطلع إليها ونحن قرب نهاية الطريق، أو نعجل بالنهاية ونحن مازلنا نتمتع بصورة البطولة والنصر.. حتى لو كانت هذه الصورة زائفة!
فيلم "المصارع" عمل كبير، لا يعيبه أبدا أنه من الأفلام التقليدية في الشكل، فالعبرة دائما وأبدا، كما سأظل أردد دائما، بمقدار الصدق في العمل الفني، بل وفي كل عمل. وفي هذا الفيلم الكثير من الصدق: في الصورة، وفي الأداء، وفي الإخراج.. لذلك فإنه سيبقى في الذاكرة.
قيمة السيناريو
إن أساس هذا الفيلم، وأساس كل فيلم كما كانت قناعتي دائما ومازالت، السيناريو ، وهو هنا ممتاز من كل النواحي: شخصيات رئيسية محدودة ومحددة وواضحة المعالم، ثلاث شخصيات تحديدا لا أكثر.. أولها الشخصية الرئيسية الأولى لبطلنا، وهو نموذج لما يعرف دراميا بـ" نقيض البطل" anti-hero وهو مصارع قارب على نهاية مسيرته ولم يعد يمكنه تقديم المزيد بعد أن أصيب بنوبة قلبية أولى قد تعقبها وفاته إذا لم يغير طريقة حياته ويعتزل المصارعة الحرة. وهو نموذج أيضا للشخص الوحيد الذي يعاني من جفاف في حياته الخاصة، افترق منذ سنوات طويلة عن ابنته الوحيدة بعد ان هجر الحياة الزوجية، يسعى لإقامة علاقة حميمية مع امرأة تعمل راقصة ستربتيز في ملهى ليلي لكنها أيضا تتجه نحو نهاية الطريق، وابنة ترفض التسامح مع والدها الذي تنكر لها وأهملها عندما يعود إليها اليوم يطلب استئناف علاقة الدم ولكن بعد أن تجمد أو كاد في عروق الإبنة التي تبدو وقد استغنت أيضا عن كل الرجال، وفضلت العيش مع فتاة. السيناريو صحيح أنه تقليدي في بنائه وشخصياته بل وربما أيضا في حبكته، إلا أنه يمتلئ بالكثير من التأملات والأفكار التي تردنا إلى أنفسنا، لنطرح من التساؤلات ما يتعلق بمسار الحياة نفسها.. إلى أين تسير بنا، وهل يصلح لها أن نتطلع إلى الوراء، إلى ما مضى، ومتى يمكننا حقا تعويض ما فات وتحقيق ما شغلتنا الحياة عن تحقيقه لأنفسنا ولأحبابنا من حولنا، قبل أن يتأخر الوقت.
عمل المخرج
السيناريو الجيد وحده في السينما لا يصنع فيلما جيدا بالضرورة إلا إذا كان هناك إخراج جيد، وهنا لاشك أن إخراج دارين أرونوفسكي واثق ومتمكن، فهو يدرس جيدا مشاهده ولقطاته.. حركة الكاميرا الرصينة وانتقالاتها المتناسبة تماما مع سيكولوجية التعبير في المشهد، والتي أحيانا ما تكون محمولة على الكتف، مهتزة يهتز معها منظور الصورة في لحظات التأرجح النفسي الشديدة التي يمر بها بطلنا المصارع راندي روبنسون (ميكي رورك)، كما يعرف كيف ينتزع من الممثلين أقصى ما لديهم، وهو الذي نجح أساسا في إسناد الأدوار إلى الممثلين الذين يعرف أنه سيتمكن من الحصول على ما يريد منهم. ويجيد أونوفسكي التحكم في الإيقاع الخاص داخل كل مشهد، فلا توجد أي لقطة زائدة أو شئ ناقص في هذا العمل البديع المثير للكثير من التأملات.
أرونوفسكي يعرف جيدا متى يقطع اللقطة، ومتى ينتقل من لقطة إلى أخرى، ومتى يستخدم الموسيقى، ومتى ينتقل إلى الصمت. إنه ينتقل أحيانا من لقطات المصارعة العنيفة إلى لقطات لبطلنا والمساعد يضمد جروحه بعد انتهاء مبارة الملاكمة بالفعل، ويمهد تمهيدا جيدا للسقوط البدني الذي يكتشف بعده بطلنا أنه أصيب بنوبة قلبية.
ويجيد أرونوفسكي إجادة أقرب إلى تجسيد الحياة الحقيقية، في إخراج مشاهد المصارعة الحرة العنيفة، لكنه ينجح أيضا في إخراج الكثير من المشاهد المليئة بالشاعرية والرقة مثل المشهد الذي يدور بين راندي وابنته عندما يحضر لها هدية ثم يصطحبها في نزهة سيرا على الأقدم ثم يدخل الاثنان إلى قاعة دائرية فسيحة لكنيسة مهجورة مزينة بالنقوش البديعة حيث يرقصان معا رقصة تعبر عن رغبة خجولة مترددة من جانب أب يرغب في استعادة ابنته لكنه لا يعرف تماما كيف، وفتاة أصبح الأب عندها أثرا من آثار الماضي لكنه موجود أمامها الآن من لحم ودم.
دور الأداء
ولاشك أيضا في براعة الأداء التمثيلي الممتاز من كل الممثلين، وعلى رأسهم ميكي رورك، الذي يستخدم كل ما لديه من خبرة تمثيلية وشخصية، في هذا الفيلم ويجسدها في تعبيره بالعينين وباليدين وبالجسد عموما، كما يتحكم تماما في نبرة صوته، وفي نظراته الزائغة الحائرة بعد أن بات مشرفا على أعتاب النهاية، وبعد أن وجد نفسه عاجزا عن تغيير حياته، مدركا انه عاش بالمصارعة ويجب أن يموت أيضا بالمصارعة.. العمل الوحيد الذي يجيده والذي يمنحه متعة الإحساس بالعالم.. من خلال جمهوره الذي ينتظره ويهتف باسمه ويطالبه بالفوز بأي طريقة وبكل طريقة.
ميكي رورك، العائد بقوة في هذا الفيلم لاستعادة مجده المفقود، يستحق دون شك جائزة جولدن جلوب التي فاز بها، ولم يحصل عليها في فينيسيا بعد أن فاز الفيلم بالأسد الذهبي لأن قانون المهرجان يحرم منح اي جائزة أخرى إلى الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى.
تعليق حزين
فيلم "المصارع" تعليق حزين على ما يحدث للفرد في مجتمع لا مكان فيه إلا للقوي الذي يمكنه أن يبيع جسده من أجل إسعاد الآخرين.. تماما مثل تلك الراقصة.. راقصة التعري التي يقلقها كثيرا أنها أوشكت أيضا على فقدان قيمتها في السوق كسلعة، لكنه أيضا فيلم عن الحياة عندما تستبد بنا وتدفعنا إلى الاختيار الصعب: إما أن نحياها محرومين من السعادة التي ننشدها ونتطلع إليها ونحن قرب نهاية الطريق، أو نعجل بالنهاية ونحن مازلنا نتمتع بصورة البطولة والنصر.. حتى لو كانت هذه الصورة زائفة!
فيلم "المصارع" عمل كبير، لا يعيبه أبدا أنه من الأفلام التقليدية في الشكل، فالعبرة دائما وأبدا، كما سأظل أردد دائما، بمقدار الصدق في العمل الفني، بل وفي كل عمل. وفي هذا الفيلم الكثير من الصدق: في الصورة، وفي الأداء، وفي الإخراج.. لذلك فإنه سيبقى في الذاكرة.
0 comments:
إرسال تعليق