كان فيلم "حلف السحب" Beyond the Clouds هو الفيلم الروائي الطويل الأخير الذي يقدمه المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني Antonioni قبل رحيله عن الحياة. وكان الفيلم حدثا منتظرا عندما عرض في مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1995 وكان أنطونيوني وقتها في الثالثة والثمانين من عمره، وقد أقعده المرض العضال قبلها بسنوات، ولم يستطع أن يخرج أفلاما منذ فيلم "التعرف على امراة" Identification of a Woman في 1982. وكان أنطونيوني أيضا آخر من بقى، على قيد الحياة من جيل السينمائيين الإيطاليين العظام الذين صنعوا اسم السينما الإيطالية في العالم عبر سنوات، أي جيل روسيلليني ودي سيكا وفيلليني وفيسكونتي. وقد توفي بعد ساعات من وفاة العبقري السويدي العظيم انجمار برجمان في أواخر يوليو 2007.
ولم يكن ممكنا أن يتحقق هذا الفيلم إلا بفضل قوة إرادته، ورغبته المدهشة في قول كلمته التي ربما تكون الأخيرة قبل ان يغادر دنيانا، وبفضل المساعدة الهائلة التي قدمتها له زوجته إنريكا، التي وقفت بجواره طوال فترة مرضه الطويل الذي افقده القدرة على الحركة والكلام، دون أن تسلبه قدرته على التفكير والتأمل. وكان وراء تحقيق مشروع أنطونيوني أيضا المخرج الألماني فيم فيندرز، الذي كان دائما يكن لأنطونيوني إعجابا كبيرا خاصا جعله يتأثر بأسلوبه في عدد من أفلامه، ولم يبادر فيندرز فقط إلى تمويل مشروع فيلم أنطونيوني، بل ساعده في تنفيذ بعض المشاهد منها المقاطع النهائية في الفيلم التي يظهر فيها مارشيللو ماستروياني وجين مورو.
يلخص أنطونيوني في فيلمه هذا حكمته وفلسفته الخاصة التي كان يعبر عنها بأسلوبه البصري المتميز في كل أفلامه، عاكسا تجربته الثرية في الحياة، طارحا، كعادته، أفكاره الخاصة المثيرة للتساؤل حول لغز السعادة الإنسانية، كيف ينظر الرجل للمرأة، وما الذي يجذبه فيها، وكيف أصبحت هي تتعامل معه بعد أن فقدت الكثير من عذوبة روحها في عالم جديد أصبحت تسيطر عليه أفكار تتعلق بالترويج والسلعية والمظاهر السطحية البراقة التي تغفل الجوهر، وكيف يمكن أن يوجد الحب الجسدي بمعزل عن الروح، وهل يتحقق التواصل من خلال الحب، وما طبيعة هذا الحب ومكنونه وجوهره، وهل يكبر الإنسان حقا، أم يظل يخفي في داخله طفلا يتشبث في عناد بأفكاره الملحة، وهل تستطيع الفكرة أن تهزم الواقع، أم أن ما يجري على سطح الواقع أكبر من الأفكار واسبق.
كل هذه الأفكار والتساؤلات، يجسدها أنطونيوني من خلال تناوله السينمائي لأربع من قصصه القصيرة التي كتبها قبل أكثر منذ ثلاثين عاما، ونشرت ضمن مجموعته القصصية التي صدرت عام 1983.
أنطونيوني في فيلمه هذا، يتحدث بضمير المتكلم. إنه يصف مشاعره كفنان من خلال المعادل السينمائي له في الفيلم، أي شخصية البطل الذي يظهر في القصص الأربع، يخوض التجربة تلو الأخرى، يلقي بنفسه في أتون النفس البشرية، ويطرح الكثير من التساؤلات التي لا يملك في معظم الأحيان، أن يقدم إجابات شافية عنها.
هذا فيلم "مثالي" من عالم أفلام أنطونيوني، عن تلك العلاقة الغامضة التي تشد الرجل إلى المرأة، وتجعل المرأة تستسلم إلى الرجل، دون أن تدرك ما يدور من عجائب داخل نفس الرجل، عن استحالة التواصل، ليس على مستوى الخلفية الاجتماعية في مجتمعات الغرب الصناعية الاستهلاكية وهي الخلفية الرئيسية في أفلام أنطونيوني خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بل على المستوى الروحي. إنها علاقات داخلية تتكثف في تصرفات وسلوكيات خارجية، يطبعها المكان بسحره الأخاذ في قصص الفيلم الأربع التي ينتقل خلالها أنطونيوني عبر عدد من البلدات الأوروبية الصغيرة الشديدة الجمال، في الريف الفرنسي والإيطالي، من كوماتشينو وفيرارا (موطن انطونيوني)، إلى بورتوفينو، ومن ايس أون بروفيس، وصولا إلى المرآة الكبيرة لمعرض النفوس البشرية في باريس.
الرجل، البطل، مخرج سينمائي ، وهو بمثابة مرآة ترى فيها المرأة- محور القصص الأربع- نفسها.
في القصة الأولى وهي بعنوان "يوميات حب لم يولد" علاقة حب غريبة بين شاب وفتاة يلتقيان مصادفة ثم يفترقان، وبعد مرور زمن، يلتقيان مجددا ويتذكران بعضهما البعض، يتشبث الشاب باللقاء، ويريد أن يمده على استقامته، يذهب مع الفتاة إلى مسكنها في البلدة، يتأمل فيها كما لو كان يرغب في النفاذ إلى أعماق أعماقها ويسبر أغوارها، لكنها تعرض عليه "السطح".. الخارج، أي جسدها، فتكون هذه هي لحظة النهاية والفراق. يغادر الشاب ولا يعود أبدا. فقد أراد أن يبقي على اللحظة نقية صافية، أبدية كزهرة يتأملها دون أن يستطيع أن يقطفها. يقول أنطونيوني من خلال بطله إن علاقة الحب الغريبة هذه استمرت اثنتي عشرة سنة دون أن تتحول إلى علاقة حب حقيقية، فما هذا اللغز الإنساني، وكيف يمكن أن ينتظر رجل اثنتي عشرة سنة ثم عندما يحين اللحظة، يفقدها!
تتركنا القصة الأولى في الفيلم ونحن نعيش مع لوحاتها التي تنتمي إلى عصر النهضة، وكأنها لوحات من ريميني تلك المنطقة التي استمد منها الكثير من الرسامين لوحاتهم المليئة بالأفكار التي تدور فيما وراء الطبيعة.
في القصة الثانية، التي تدور في بورتفينو، نرى فتاة فرنسية (صوفي مارسو) تشد بطلنا إليها من النظرة الأولى. إنها عاملة في حانوت لبيع الملابس، يصفها هو في قصته بأنها تتحرك حركات محسوبة كانها تدربت عليها طويلا، أو كأنها ممثلة مدربة على عدم لفت انظار الزبائن لكي تتيح لهم الفرصة كاملة للتركيز في السلع المعروضة في الحانوت. وهي تبدو كأنها إحدى قطع الديكور الموجودة في لامكان. لكنها تصبح في نظر بطلنا هذا، العنصر الوحيد الذي يجذب انتباهه حتى من قبل أن تطأ قدماه الحانوت، بل عندما يلمحها من الخارج عبر فتحة الباب في الصباح الباكر والضباب لايزال يلف الأفق وكاننا بين الحلم واليقظة.
ابتسامة وكلمتان أو ثلاث كلمات ثم لقاء، والرجل لا يعرف ما الذي يجذبه إليها بالضبط. تريد هي أن تفضي إليه بأمر خطير الشأن في الغالب، ويعرف هو أن في داخلها سر تحتفظ به لكن نظراتها تشي بذلك. لقد قتلت أباها قبل فترة. وهي تشير إليه بينما هو يسيران على شاطيء البحر، إلى حيث ارتكبت جريمتها التي لم تكتشف أبدا. لكنها تعيش مع الجريمة، إنها إذن ليست على ما تبدو عليه من الخارج، من حلاوة ووداعة وسحر وجاذبية، فهي قادرة أيضا على ارتكاب فعل القتل. لكنه لا يستطيع رغم ذلك أن يقاوم رغبته فيها، بل لعل هذه الرغبة تشتد وتلح عليه إلحاحا. ويتحقق التواصل الجسدي في مشهد يحيطه أنطونيوني بكل برودته التي تدعونا دوما، إلى التأمل، وليس إلى الاندماج أو التأثر العاطفي أو الإثارة الجنسية. وبعد أن ينتهي الاثنان من تبادلا الحب عى هذا النحو البارد الذي قد لا يبدو لنا مفهوما.
يجلس بطلنا على أرجوحة للاطفال، ويترك نفسه يتأرجح وهو يفكر فيما جرى، وفيما كان. من هذه المرأة، وماذا تريد، وماذا وراءها، وماذا يريد هو منها؟ لقد قضى الليلة معها، لكنه خرج أكثر جهلا بها عما كان قبل أن يلتقيها، أن أن هذا هو ما نشعر به ونحن نشاهد هذه القطعة السينمائية الرائعة من الفنان الكبير.
ودائما هناك البحر ومياه البحر، في القصص الأربع من الفيلم، لكنه لا يكثف هنا معادلا للحرية كما في أفلام العبقري الآخر فيلليني، بل يوحي بالغموض الكبير الذي يلف النفس البشرية، مما لا قبل للمرء بفهمه أو الإحاطة به.
في القصة الثالثة التي تدور في باريس زوجان يعانيان من عدم القدرة على التكيف مع بعضهما البعض. المرأة توهم نفسها بالحب، أو لعلها تحب زوجها فعلا على طريقتها الخاصة. لكنه مشغول عنها، يحادثها من مخدع امرأة أخرى، ثم يصارحها برغبته في الانفصال عنها. وتدرك هي الأمر وتستوعبه، وتبدا في البحث عن سلوى لها، وتلتقي برجل انهارت علاقته بحبيبته حديثا. وفوق انهاير العلاقيتين تنشا علاقة جديدة بين هذا الرجل وهذه المرأة، لكننا لا نعرف ما اذا كانت هذه العلاقة الجديدة ستستمر أم لا، ولا نعرف هل هي علاقة حب أم علاقة احتياج في ظرف ما، أم تراها وهما بالحب، فأنطونيوني هنا يتأمل ويطرح التساؤلات، لكنه لا يجيب.
وفي القصة الرابعة نحن في بلدة ايطالية صغيرة مليئة بالكنائس والأبراج القديمة والشوارع والأرقة الحجرية الضيقة، وكأننا في إحدى قرى العصور الوسطى. الريفيون يستيقظون مبكرا يوم الأحد للذهاب إلى الكنائس، ومن بين هؤلاء فتاة جميلة كالزهرة المتألقة، تمتليء بالرونق وقد تفتحت ملامحها الحسية. وبينما هي في طريقها إلى الكنيسة، يلتقي بها شاب ينجذب إليها، ويصاحبها دون أن يدري السبب، وعندما يكتشف أنها ذاهبة إلى الكنيسة التي لا يتردد عليها أبدا، يدخل معها، ويراها تشارك في الأناشيد والتراتيل الدينية الكنسية الطويلة ضمن قداس الأحد الذي يستمر ساعات وساعات حتى يحل المساء. وصاحبنا يشعر بالإرهاق فيرقد ويستسلم للنعاس على إحدى الأرائك الخشبية داخل الكنيسة. ولا يدري إلا والفتاة توقظه كي يصحبها إذا كان يرغب، في طريق عودتها إلىالمنزل. وهي مشدودة إليه، ترغب فيه وتريد صحبته، ولكنها في نصف عقلها وروحها مشدودة إلى عالم الكنيسة، إلى حب من نوع آخر ينتهي قبل أن يبدأ. ويأتي السؤال الطبيعي من جانب الشاب: هل يمكن أن أراك غدا؟ تبتسم هي لعدة ثوان قبل أن تمنحه الجواب اللغز الذي لا يمكنه استيعابه أبدا: غدا سألتحق بالديرن ثم تدلف من باب المنزل وتختفي.
ما هذا اللغز المحير، كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم رغباته العاطفية والحسية وأن يقمعها هكذا في حسم وهو لايزال بعد في عمر الزهور، وكيف يكون ذلك الانفصال بين العقل والعاطفة، وبين الروح والجسد، وهل يمكن أن يكون ذلك الحب "الإلهي" بديلا عن الحب الإنساني؟
وكالعادة، هي تساؤلات تدعونا إلى التأمل لكنها لا تنتهي بإجابات تشفي غليلنا إلى معرفة الحقيقة، فالطريق غلى الحقيقة شاق ومعذب.
إنه لغز الوجود ذاته ما يتناوله أنطونيوني في آخر أفلامه، محيطا إياه بكل ما يميز هذا الوجود من جمال في الصورة، وعذوبة ورقة في حركة الكاميرا، التي تتسلل في رصانة بين الشخصيات، تصنع بينها وبين الأماكن علاقة تبدو وكأنها الدهر.
ربما يكون هذا هو العالم المتخيل لأنطونيوني نفسه: قرى ذات شوارع ضيقة مبلطة، كنائس قديمة تمارس الطقوس نفسها منذ مئات السنين، شوارع مهجورة، شاطيء البحر السرمدي الممتد بلا نهاية، أنا قليلون، ينتمون إلى طبقة واحدة، لكنهم يبدون كما لو كانوا يقفون على خشبة مسرح، أو داخل فضاء يمثل عالم أنطونيوني نفسه الذي لا يكشف أبدا سوى عن سحطه الخارجي، فالداخل يظل لغزا.. ربما لأن أنطونيوني نفسه لا يعرف حتى بعد تقدمه في العمر، كيف يصف لنا الداخل.. بل هو ينهي مسيرته الفنية كطفل مندهش أمام العالم.. كما يراه بالطبع.
يقطع أنطونيوني سياق القصة الثانية بمشهد غريب خارج عن الحكاية، حينما نرى فنانا يرسم منظرا طبيعيا في البلدة، تقترب منه امرأة وتطرح عليه في استفزاز واستنكار تساؤلات عن مغزى ما يرسمه وقيمته مقارنة مع الطبيعة نفسها التي يصورها في رسومه، وتسأله في حدة: ما هذا؟ هل تسمى ما ترسمه هذا فنا، وهل يمكنك حقا أن تحاكي الطبيعة وأن تحيط بها في لوحتك؟ وما فائدة إضاعة الوقت في شيء لا يمكن أن يصل أبدا إلى مستوى الأصل؟
وتأتي إجابات الرجل، دفاعا بسيطا وتلقائيا عن قيمة الرسم، وعن معنى الفن والتعبير الفني. هذا هو المشهد الذي يشترك في تمثيله مارشيللو ماستروياني وجين مورو، وهو المشهد الذي اخرجه فيم فيندرز لكي يكثف خلاصة رؤيته، ومعنى تساؤلات أنطونيوني، وقيمة عمله الفني أيضا.
إلى جانب ماستروياني ومورو، شارك بالتمثيل في "خلف السحب" عدد من ألمع نجوم السينما الأوروبية منهم صوفي مارسو وأيرين جاكوب وكيارا كسيللي وبيتر ويللر وفاني أردان، والممثل الأمريكي جون مالكوفيتش.
ولم يكن ممكنا أن يتحقق هذا الفيلم إلا بفضل قوة إرادته، ورغبته المدهشة في قول كلمته التي ربما تكون الأخيرة قبل ان يغادر دنيانا، وبفضل المساعدة الهائلة التي قدمتها له زوجته إنريكا، التي وقفت بجواره طوال فترة مرضه الطويل الذي افقده القدرة على الحركة والكلام، دون أن تسلبه قدرته على التفكير والتأمل. وكان وراء تحقيق مشروع أنطونيوني أيضا المخرج الألماني فيم فيندرز، الذي كان دائما يكن لأنطونيوني إعجابا كبيرا خاصا جعله يتأثر بأسلوبه في عدد من أفلامه، ولم يبادر فيندرز فقط إلى تمويل مشروع فيلم أنطونيوني، بل ساعده في تنفيذ بعض المشاهد منها المقاطع النهائية في الفيلم التي يظهر فيها مارشيللو ماستروياني وجين مورو.
يلخص أنطونيوني في فيلمه هذا حكمته وفلسفته الخاصة التي كان يعبر عنها بأسلوبه البصري المتميز في كل أفلامه، عاكسا تجربته الثرية في الحياة، طارحا، كعادته، أفكاره الخاصة المثيرة للتساؤل حول لغز السعادة الإنسانية، كيف ينظر الرجل للمرأة، وما الذي يجذبه فيها، وكيف أصبحت هي تتعامل معه بعد أن فقدت الكثير من عذوبة روحها في عالم جديد أصبحت تسيطر عليه أفكار تتعلق بالترويج والسلعية والمظاهر السطحية البراقة التي تغفل الجوهر، وكيف يمكن أن يوجد الحب الجسدي بمعزل عن الروح، وهل يتحقق التواصل من خلال الحب، وما طبيعة هذا الحب ومكنونه وجوهره، وهل يكبر الإنسان حقا، أم يظل يخفي في داخله طفلا يتشبث في عناد بأفكاره الملحة، وهل تستطيع الفكرة أن تهزم الواقع، أم أن ما يجري على سطح الواقع أكبر من الأفكار واسبق.
كل هذه الأفكار والتساؤلات، يجسدها أنطونيوني من خلال تناوله السينمائي لأربع من قصصه القصيرة التي كتبها قبل أكثر منذ ثلاثين عاما، ونشرت ضمن مجموعته القصصية التي صدرت عام 1983.
أنطونيوني في فيلمه هذا، يتحدث بضمير المتكلم. إنه يصف مشاعره كفنان من خلال المعادل السينمائي له في الفيلم، أي شخصية البطل الذي يظهر في القصص الأربع، يخوض التجربة تلو الأخرى، يلقي بنفسه في أتون النفس البشرية، ويطرح الكثير من التساؤلات التي لا يملك في معظم الأحيان، أن يقدم إجابات شافية عنها.
هذا فيلم "مثالي" من عالم أفلام أنطونيوني، عن تلك العلاقة الغامضة التي تشد الرجل إلى المرأة، وتجعل المرأة تستسلم إلى الرجل، دون أن تدرك ما يدور من عجائب داخل نفس الرجل، عن استحالة التواصل، ليس على مستوى الخلفية الاجتماعية في مجتمعات الغرب الصناعية الاستهلاكية وهي الخلفية الرئيسية في أفلام أنطونيوني خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بل على المستوى الروحي. إنها علاقات داخلية تتكثف في تصرفات وسلوكيات خارجية، يطبعها المكان بسحره الأخاذ في قصص الفيلم الأربع التي ينتقل خلالها أنطونيوني عبر عدد من البلدات الأوروبية الصغيرة الشديدة الجمال، في الريف الفرنسي والإيطالي، من كوماتشينو وفيرارا (موطن انطونيوني)، إلى بورتوفينو، ومن ايس أون بروفيس، وصولا إلى المرآة الكبيرة لمعرض النفوس البشرية في باريس.
الرجل، البطل، مخرج سينمائي ، وهو بمثابة مرآة ترى فيها المرأة- محور القصص الأربع- نفسها.
في القصة الأولى وهي بعنوان "يوميات حب لم يولد" علاقة حب غريبة بين شاب وفتاة يلتقيان مصادفة ثم يفترقان، وبعد مرور زمن، يلتقيان مجددا ويتذكران بعضهما البعض، يتشبث الشاب باللقاء، ويريد أن يمده على استقامته، يذهب مع الفتاة إلى مسكنها في البلدة، يتأمل فيها كما لو كان يرغب في النفاذ إلى أعماق أعماقها ويسبر أغوارها، لكنها تعرض عليه "السطح".. الخارج، أي جسدها، فتكون هذه هي لحظة النهاية والفراق. يغادر الشاب ولا يعود أبدا. فقد أراد أن يبقي على اللحظة نقية صافية، أبدية كزهرة يتأملها دون أن يستطيع أن يقطفها. يقول أنطونيوني من خلال بطله إن علاقة الحب الغريبة هذه استمرت اثنتي عشرة سنة دون أن تتحول إلى علاقة حب حقيقية، فما هذا اللغز الإنساني، وكيف يمكن أن ينتظر رجل اثنتي عشرة سنة ثم عندما يحين اللحظة، يفقدها!
تتركنا القصة الأولى في الفيلم ونحن نعيش مع لوحاتها التي تنتمي إلى عصر النهضة، وكأنها لوحات من ريميني تلك المنطقة التي استمد منها الكثير من الرسامين لوحاتهم المليئة بالأفكار التي تدور فيما وراء الطبيعة.
في القصة الثانية، التي تدور في بورتفينو، نرى فتاة فرنسية (صوفي مارسو) تشد بطلنا إليها من النظرة الأولى. إنها عاملة في حانوت لبيع الملابس، يصفها هو في قصته بأنها تتحرك حركات محسوبة كانها تدربت عليها طويلا، أو كأنها ممثلة مدربة على عدم لفت انظار الزبائن لكي تتيح لهم الفرصة كاملة للتركيز في السلع المعروضة في الحانوت. وهي تبدو كأنها إحدى قطع الديكور الموجودة في لامكان. لكنها تصبح في نظر بطلنا هذا، العنصر الوحيد الذي يجذب انتباهه حتى من قبل أن تطأ قدماه الحانوت، بل عندما يلمحها من الخارج عبر فتحة الباب في الصباح الباكر والضباب لايزال يلف الأفق وكاننا بين الحلم واليقظة.
ابتسامة وكلمتان أو ثلاث كلمات ثم لقاء، والرجل لا يعرف ما الذي يجذبه إليها بالضبط. تريد هي أن تفضي إليه بأمر خطير الشأن في الغالب، ويعرف هو أن في داخلها سر تحتفظ به لكن نظراتها تشي بذلك. لقد قتلت أباها قبل فترة. وهي تشير إليه بينما هو يسيران على شاطيء البحر، إلى حيث ارتكبت جريمتها التي لم تكتشف أبدا. لكنها تعيش مع الجريمة، إنها إذن ليست على ما تبدو عليه من الخارج، من حلاوة ووداعة وسحر وجاذبية، فهي قادرة أيضا على ارتكاب فعل القتل. لكنه لا يستطيع رغم ذلك أن يقاوم رغبته فيها، بل لعل هذه الرغبة تشتد وتلح عليه إلحاحا. ويتحقق التواصل الجسدي في مشهد يحيطه أنطونيوني بكل برودته التي تدعونا دوما، إلى التأمل، وليس إلى الاندماج أو التأثر العاطفي أو الإثارة الجنسية. وبعد أن ينتهي الاثنان من تبادلا الحب عى هذا النحو البارد الذي قد لا يبدو لنا مفهوما.
يجلس بطلنا على أرجوحة للاطفال، ويترك نفسه يتأرجح وهو يفكر فيما جرى، وفيما كان. من هذه المرأة، وماذا تريد، وماذا وراءها، وماذا يريد هو منها؟ لقد قضى الليلة معها، لكنه خرج أكثر جهلا بها عما كان قبل أن يلتقيها، أن أن هذا هو ما نشعر به ونحن نشاهد هذه القطعة السينمائية الرائعة من الفنان الكبير.
ودائما هناك البحر ومياه البحر، في القصص الأربع من الفيلم، لكنه لا يكثف هنا معادلا للحرية كما في أفلام العبقري الآخر فيلليني، بل يوحي بالغموض الكبير الذي يلف النفس البشرية، مما لا قبل للمرء بفهمه أو الإحاطة به.
في القصة الثالثة التي تدور في باريس زوجان يعانيان من عدم القدرة على التكيف مع بعضهما البعض. المرأة توهم نفسها بالحب، أو لعلها تحب زوجها فعلا على طريقتها الخاصة. لكنه مشغول عنها، يحادثها من مخدع امرأة أخرى، ثم يصارحها برغبته في الانفصال عنها. وتدرك هي الأمر وتستوعبه، وتبدا في البحث عن سلوى لها، وتلتقي برجل انهارت علاقته بحبيبته حديثا. وفوق انهاير العلاقيتين تنشا علاقة جديدة بين هذا الرجل وهذه المرأة، لكننا لا نعرف ما اذا كانت هذه العلاقة الجديدة ستستمر أم لا، ولا نعرف هل هي علاقة حب أم علاقة احتياج في ظرف ما، أم تراها وهما بالحب، فأنطونيوني هنا يتأمل ويطرح التساؤلات، لكنه لا يجيب.
وفي القصة الرابعة نحن في بلدة ايطالية صغيرة مليئة بالكنائس والأبراج القديمة والشوارع والأرقة الحجرية الضيقة، وكأننا في إحدى قرى العصور الوسطى. الريفيون يستيقظون مبكرا يوم الأحد للذهاب إلى الكنائس، ومن بين هؤلاء فتاة جميلة كالزهرة المتألقة، تمتليء بالرونق وقد تفتحت ملامحها الحسية. وبينما هي في طريقها إلى الكنيسة، يلتقي بها شاب ينجذب إليها، ويصاحبها دون أن يدري السبب، وعندما يكتشف أنها ذاهبة إلى الكنيسة التي لا يتردد عليها أبدا، يدخل معها، ويراها تشارك في الأناشيد والتراتيل الدينية الكنسية الطويلة ضمن قداس الأحد الذي يستمر ساعات وساعات حتى يحل المساء. وصاحبنا يشعر بالإرهاق فيرقد ويستسلم للنعاس على إحدى الأرائك الخشبية داخل الكنيسة. ولا يدري إلا والفتاة توقظه كي يصحبها إذا كان يرغب، في طريق عودتها إلىالمنزل. وهي مشدودة إليه، ترغب فيه وتريد صحبته، ولكنها في نصف عقلها وروحها مشدودة إلى عالم الكنيسة، إلى حب من نوع آخر ينتهي قبل أن يبدأ. ويأتي السؤال الطبيعي من جانب الشاب: هل يمكن أن أراك غدا؟ تبتسم هي لعدة ثوان قبل أن تمنحه الجواب اللغز الذي لا يمكنه استيعابه أبدا: غدا سألتحق بالديرن ثم تدلف من باب المنزل وتختفي.
ما هذا اللغز المحير، كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم رغباته العاطفية والحسية وأن يقمعها هكذا في حسم وهو لايزال بعد في عمر الزهور، وكيف يكون ذلك الانفصال بين العقل والعاطفة، وبين الروح والجسد، وهل يمكن أن يكون ذلك الحب "الإلهي" بديلا عن الحب الإنساني؟
وكالعادة، هي تساؤلات تدعونا إلى التأمل لكنها لا تنتهي بإجابات تشفي غليلنا إلى معرفة الحقيقة، فالطريق غلى الحقيقة شاق ومعذب.
إنه لغز الوجود ذاته ما يتناوله أنطونيوني في آخر أفلامه، محيطا إياه بكل ما يميز هذا الوجود من جمال في الصورة، وعذوبة ورقة في حركة الكاميرا، التي تتسلل في رصانة بين الشخصيات، تصنع بينها وبين الأماكن علاقة تبدو وكأنها الدهر.
ربما يكون هذا هو العالم المتخيل لأنطونيوني نفسه: قرى ذات شوارع ضيقة مبلطة، كنائس قديمة تمارس الطقوس نفسها منذ مئات السنين، شوارع مهجورة، شاطيء البحر السرمدي الممتد بلا نهاية، أنا قليلون، ينتمون إلى طبقة واحدة، لكنهم يبدون كما لو كانوا يقفون على خشبة مسرح، أو داخل فضاء يمثل عالم أنطونيوني نفسه الذي لا يكشف أبدا سوى عن سحطه الخارجي، فالداخل يظل لغزا.. ربما لأن أنطونيوني نفسه لا يعرف حتى بعد تقدمه في العمر، كيف يصف لنا الداخل.. بل هو ينهي مسيرته الفنية كطفل مندهش أمام العالم.. كما يراه بالطبع.
يقطع أنطونيوني سياق القصة الثانية بمشهد غريب خارج عن الحكاية، حينما نرى فنانا يرسم منظرا طبيعيا في البلدة، تقترب منه امرأة وتطرح عليه في استفزاز واستنكار تساؤلات عن مغزى ما يرسمه وقيمته مقارنة مع الطبيعة نفسها التي يصورها في رسومه، وتسأله في حدة: ما هذا؟ هل تسمى ما ترسمه هذا فنا، وهل يمكنك حقا أن تحاكي الطبيعة وأن تحيط بها في لوحتك؟ وما فائدة إضاعة الوقت في شيء لا يمكن أن يصل أبدا إلى مستوى الأصل؟
وتأتي إجابات الرجل، دفاعا بسيطا وتلقائيا عن قيمة الرسم، وعن معنى الفن والتعبير الفني. هذا هو المشهد الذي يشترك في تمثيله مارشيللو ماستروياني وجين مورو، وهو المشهد الذي اخرجه فيم فيندرز لكي يكثف خلاصة رؤيته، ومعنى تساؤلات أنطونيوني، وقيمة عمله الفني أيضا.
إلى جانب ماستروياني ومورو، شارك بالتمثيل في "خلف السحب" عدد من ألمع نجوم السينما الأوروبية منهم صوفي مارسو وأيرين جاكوب وكيارا كسيللي وبيتر ويللر وفاني أردان، والممثل الأمريكي جون مالكوفيتش.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة للناشر ويحظر النقل والاقتباس بدون إذن مكتوب))
3 comments:
عزيزي إسلام
كلماتك هي أعظم مكافاة يمكن أن يحصل عليها أي كاتب.. ولهذا فقط، يستمر المرء في الكتابة بصدق وإخلاص دون اي حسابات، من أجل التواصل وتوصيل ولو نقطة ضوء صغيرة.. ونقطة أمل أيضا.. اشكرك على كلماتك المليئة بالجمال والحب.
مساء الخير
شكرا لك سيدى
لقد وجدت فى مدونتك متعة وفائدة عضيمة بحثت عنهما دائما
كعاشق للفن والسينما
اتشرف بان اكون قارئا لمبدع بقامتك، ويشرفنى ان اضع مدونتك ضمن قائمة اهم المدونات والمنافذ التى اطل عليها
كل الود والتقدير
عزيزي عمرو (صاحب الرسالة الثالثة): أهلا بك صديق للمدونة بل وصديقا شخصيا لي ايضا.. شرف كبير.. وكل الشكر لك على كلماتك الجميلة.. وتقبل محبتي
إرسال تعليق