كل عام وأنتم بألف خير.. والسينما في العالم، وليس فقط في العالم العربي، بخير. وأتمنى ألا تكون السينما في العام القادم قد "تحجبت"، أو احتجبت في بلادي التي تشهد تغيرات شديدة الوطأة، بفعل الرياح الصحراوية الجافة الغاشمة التي ظلت تهب عليها من الشرق طيلة عقود فأحالت خضرة الروح فيها إلى جفاف مر وواقع مرير.كثير من مسلسلات رمضان ستمتد غالبا خلال العيد وربما إلى ما بعده.
لكن هذا ليس هو الموضوع. فما أردت أن اكتب عنه بشكل مختصر اليوم يتعلق بجانب في المسلسلات التليفزيونية التاريخية التي تتناول حياة شخصيات بارزة مثل "ناصر"، ظل دائما يلفت نظري منذ سنوات طويلة.
ولاشك أن الملايين تابعت هذا المسلسل لكي يتعرفوا على شخصية الرئيس جمال عبد الناصر الذي لاشك أيضا في قيمته التاريخية وزعامته ودوره البارز في تاريخ بلاده والمنطقة.
وتحية خاصة للصديق القديم باسل الخطيب الذي أخرج المسلسل باجتهاد وجهد كبيرين، ونجح في جوانب كثيرة.إلا أن الموضوع له علاقة أكثر بطريقة كتابة السيناريو، فهو شأن كل المسلسلات من هذا النوع (مسلسل "أم كلثوم" مثالا)، ومن خلال ما أتيح لي أن أشاهده من حلقات، يتبع نفس الطريقة المتخلفة التي تتلخص في وضع أحداث التاريخ التي قرأ عنها كاتب السيناريو (في الصحف والكتب والشهادات) على لسان الشخصيات وهي تتحاور.
انت مثلا بدلا من أن ترى حوارا "حقيقيا" يدور بشكل طبيعي بين شخصين لكي يكشف لك عن تأثير ما أو مغزى لحدث أو لقرار أو لموقف، تجد الشخصيات تواجه بعضها بعضا، ولكن ليس لكي تتحاور في "ديالوج"، بل لكي تحاور نفسها في "مونولوج" يقصد من خلاله عادة، رواية جزء من الأحداث التاريخية التي قرأ عنها المؤلف وقام بتجميعها.
ويصبح الحوار بالتالي مضحكا جدا وغير مقنع بالمرة عندما ترى شخصية ما تقول لأخرى: هل تتذكر ما فعلناه سنة كذا وكذا.. عندما كان الانجليز يرفضون كذا وكذا.. وجاء الاخوان وفعلوا كذا وكذا..؟؟
فترد الشخصية الأخرى لكي تستكمل المحاضرة السخيفة المملة والحوار المونولوجي المفتعل على النحو التالي: نعم.. وأتذكر فعلا أنهم فعلوا كذا وكذا.. ثم عندما اتفقوا مع فلان ضد الثورة، وأرسلوا "الحلواني" (مثلا) في مهمة ثبت أنها كانت مؤامرة خطيرة!
مثل هذا الحوار بل وأكثر فداحة منه يسيطر بالكامل على شخصيات مسلسل "ناصر" وغيره من المسلسلات المشابهة.
وليس من الممكن مثلا تصور أن عبد الناصر يمكن أن يتحاور بهذا الشكل الذي رأيناه، مع حسن الهضيبي (المرشد العام للاخوان المسلمين) ورفاقه عندما استقبلهم في بيته.. أو يوجه حديثه بمثل هذه الحدة والخشونة لهم مذكرا إياهم بما فعلوه وما فعله هو في محاضرة طويلة مباشرة، ثم يهددهم بشكل مباشر ثم يتركهم ويدخل إلى داخل البيت.
لقد كان عبد الناصر اكثر قدرة بكثير على المناورة .. ولم يكن ليتحدث بكل ما يفكر فيه أمام الآخرين هكذا، وهو شئ معروف عنه تماما.. ولكن المشكلة الأكبر أن هناك نقصا في الخيال كما يبدو من السيناريو.. وآسف أن أقول هذا لصديق آخر أعتز به هو الكاتب المثقف يسري الجندي. لكن يسري يرتبط ايضا بتقاليد سوق ذي مواصفات محددة.وربما يتساءل البعض: وما المطلوب إذن لكي تكون الدراما حقيقية وليست مفتعلة ومصنوعة على هذا النحو؟
الإجابة ليست سهلة، فليست هناك وصفة محددة، لكن الافضل كثيرا هو أن يلجأ الكاتب إلى خياله الخاص، يستدعي منه ومن خبرته الإنسانية، لكي يتصور كيف يمكن مثلا أن يدور حوار بين عبد الناصر وزوجته على مائدة الطعام، أو كيف يمكن أن يتحاور ناصر وعامر دون أن يوجها حديثهما إلينا في "حكي" مستمد من الأحداث التاريخية التي وقعت وانتهت فعلا، يستدعيها كاتب الدراما استدعاء لكي يسمعها علينا!
إن تحرير الخيال، والابتكار في بناء المشاهد، و"أنسنة" الشخصية المحورية، أي ردها إلى صفاتها الإنسانية، بأخطائها ومشاكلها واشكالياتها والتباسات المواقف عليها أحيانا ايضا، هو ما يجعلها أكثر مصداقية وقربا من الناس ومن الحقيقة ومن التاريخ، بدلا من تبني رؤية أحادية مصمتة لا ترى من الشخصية التاريخية سوى انتصاراتها وقوتها وزعامتها و...
ليست هكذا تكتب الدراما التاريخية، بل وليست هكذا تبني الدراما من الأصل ومن الأساس.
0 comments:
إرسال تعليق