الأربعاء، 10 سبتمبر 2008

صحف المعارضة بين الفن والسياسة

صحف المعارضة المصرية ومعظم ما يسمى بالصحف المستقلة في مصر، تضحكني كثيرا جدا. فهذه الصحف معارضة فقط فيما يتعلق بالشأن السياسي الداخلي، فهي تنشر الكثير جدا في نقد الرئيس وابن الرئيس وزوجة الرئيس. أما في الشأن الثقافي والفني فهي صحف "موالاة" كاملة باستخدام التعبير اللبناني!

تستطيع صحف المعارضة المصرية التفتيش في دفاتر حسني مبارك وجمال مبارك حتى أدق التفاصيل وبجرأة مفتعلة أصبحت مسار تندر البعض، لدرجة أنني أصبحت احيانا أشعر بتعاطف مع حسني مبارك، بعد أن أصبح مسؤولا وحده - حسب ما تقوله لنا هذه الصحف - عن كل ما يحدث من فساد على أرض الكنانة- بينما لا تتجرأ نفس الصحف على انتقاد شخصيات أخرى أقل كثيرا في مجال الثقافة والفن.

كانت جريدة "العربي الناصري" مثلا قد دشنت صدورها قبل سنوات طويلة بحملة ضد وزير الثقافة فاروق حسني، انتقدت خلالها أشياء مثل نظام منح جوائز الدولة والمنح وأشياء من هذا القبيل، ثم فجأة، توجه المحرر نفسه (رحمه الله) الذي كتب كل هذه القنابل الشديدة الانفجار إلى مكتب الوزير لكي "يحاوره". ونشر الحوار على صفحتين في عددين متتاليين من الجريدة المذكورة (ملحوظة: عندما قامت العربي الناصري أخيرا بتحديث طبعتها الاليكترونية قامت بمسح كل أرشيفها في السنوات السابقة بحيث يتعذر على أي باحث العودة حتى إلى ما كان قد نشره قبل أشهر في الصحيفة نفسها.. هل هناك شئ من هذا يحدث في أي صحيفة على سطح الكرة الأرضية!!).

المهم أن الوزير تكفل وقتها بكل لباقته وذكائه بتفنيد كل ما ورد في سلسلة مقالات المحرر الثقافي للجريدة. ومنذ ذلك الحين والجريدة لا تكتب إلا كل إشادة بالوزير وما يفعله الوزير، بل إن الصحفية مديحة عمارة التي تتمتع بعمود ثابت في الجريدة المشار إليها، كتبت ذات مرة تشكر الوزير بعد أن استنجدت به لكي يمنع لها فيلما، وتقول إنه تدخل على الفور واستجاب لطلبها أي منع الفيلم. (بالمناسبة الفيلم هو فيلم شارك فيه 11 مخرجا منهم الراحل يوسف شاهين عن 11 سبتمبر وكان يتضمن فيلما قصيرا جدا للمخرج الاسرائيلي آموس جيتاي، ولم يكن في الفيلم شئ يستدعي المنع سوى أن جيتاي اسرائيلي الجنيسية وإن كان قد أخرج عددا من الأفلام التي تنتقد بشدة السياسات الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين وتدعو للسلام على أساس الدولتين وهو ما يعترف به الحزب الناصري المناضل جدا على صفحات الصحف فقط!)- راجع مقال مديحة عمارة في العدد 1027 بتاريخ 24/ 9/ 2006).

الوزير إذن تحول بقدرة قادر، من وزير في حكومة حسني مبارك الذي لا يكفون عن توجيه أقسى الانتقادات له، إلى وزير في حكومة المعارضة "الوطنية التي تقمع الأصوات الأخرى التي تختلف معها في الرأي والتي لن تأتي أبدا إلى الحكم - لحسن الحظ! وهناك عشرات الشخصيات الأخرى التي لا تستطيع صحف المعارضة أن تمسها أو تقترب منها إلا بالنفاق والمديح ونشر الأخبار التي تزينها وتجعلها من "أكبر كبراء المثقفين والفنانين بل وفناني الشعب!!) منهم مثلا الأخ وحيد حامد كاتب السيناريو، والأخ الحاكم بأمره في كل العصور ممدوح الليثي، والممثل عادل إمام (الذي أصبح يفرض ولديه على السينما المصرية حاليا: الأول كمخرج، والثاني كممثل).

ولم تكن تلك الصحف تجرؤ على التصدي للأخ علي أبو شادي كرقيب طبعا يمثل سلطة الرقابة وليس كشخص، فليست لدينا قضية مع الأشخاص إّذا ما رحلوا عن المنصب بل مع المنصب نفسه والوظيفة والهدف والأداء، ومن الطبيعي ان تكون المشكلة أفدح إذا ما ظل الرقيب يعتبر نفسه ناقدا سينمائيا أيضا رغم أنه متوقف عن ممارسة النقد بحكم منصبه، فكيف يمكن الجمع بين "الفكر" و"الرقابة".

وقد رفض سارتر أن يكون رقيبا في حكومة ديجول، وهل كان أندريه بازان مثلا، يقبل بأن يكون رقيبا. والكلام هنا عن "أهل الحرفة" أو المهنة كلام مبتذل لأن النقد ثقافة أي موقف وليس مجرد حرفة أو مهنة يرتزق منها الكاتب أو الناقد. المهم وحتى لا ننجرف في الرد على ما ينشر من تفاهات من دفاع مفاجئ ومثير للشبهات عن "الزميل الرقيب" لأغراض لا يعلمها إلا الله، نقول إن نقد شخصيات لها علاقة بالثقافة أو الفنون في صحف المعارضة أمر ليس واردا في معظم الأحيان، لأن هؤلاء أصبحوا يمثلون "مراكز قوى" تستخدم الرشاوى والبلطجة أو الثواب والعقاب، أي سلاح العصا والجزرة تماما كما يفعل فاروق حسني نفسه منذ مجيئه للوزارة، وهذه الرشاوى تشمل الدعوات إلى المهرجانات والعروض الخاصة وإنتاج أفلام تسجيلة وقصيرة على نفقة الدولة وتوزيع منح التفرغ من المجلس الأعلى للثقافة وإرسال بعض المثقفين إلى الخارج لتمثيل الدولة في المحافل الثقافية (وأشهرها مثلا معرض فرانكفورت للكتاب).. وغير ذلك الكثير من الفتات الذي يجد فيه بعض المثقفين أيضا للأسف الشديد، منافع ومزايا كبرى بسبب حالة الجفاف والحرمان بل والانغلاق الثقافي التام الذي تعيشه البلاد في عصر الانفتاح الاقتصادي السعيد الممتد منذ السبعينيات!

وقد صار من المضحكات المبكيات أن يصدق البعض أو يروج- لفكرة أن هذا الوزير مثلا، أو ذلك الرقيب، أو الممثل أو كاتب السيناريو هم من "الناصريين" و"الوطنيين"، أو يروج أحد هؤلاء لذلك في الأوساط اياها، وهو ما يكفي لأن يجعله يصبح من "العجول المقدسة" عند اخواننا الناصريين مثلا أو المعارضين "اليسارجيين" عموما.

صحف المعارضة (وبعض المستقلة أيضا) تستطيع أن تفتح أحشاء شخصية سياسية مثل أحمد عز إلى آخر وتر في عضلات جسده وعقله وحياته الشخصية وغير الشخصية، إلا أنها عندما تنشر في الفن والسينما فإنها تزين صفحاتها الفنية بآخر أخباء النجوم، أو بأخبار قديمة مترجمة ترجمة رديئة عن الانترنت، أو بمقابلات استهلاكية سريعة مع ممثلات ومطربات من الدرجة الثانية بهدف التلميع والدعاية.. والأمثلة حاضرة أمامنا بالمئات. وعندما تنشر تلك الصحف في النقد السينمائي فإنها تنشر كلاما لا يمكن أن تبتلعه وإلا أصابتك حالة من التلبك المعوي الحاد. والأمثلة أمامنا أيضا بالآلاف.

والكتابة عن السينما في تلك الصحف أقرب إلى أجواء النميمة والقيل والقال، على طريقة: سمعنا أنك تغيرين 50 فستانا في الفيلم الواحد وأنك اشتريتها من باريس.. فهل هذا صحيح؟!

هذا المفهوم الأعرج للصحافة يعود في حقيقة الأمر إلى كون معظم الصحفيين العاملين في صحف المعارضة هم أولا وأساسا، موظفون في صحف الحكومة. وبعضهم يذهب في الصباح لكي "يثبت حضوره" في صحف الحكومة، ثم يمضي إلى حال سبيله لكي يخون الحكومة مع المعارضة بعد الظهر. والأغلبية العظمى منهم لا تذهب أصلا إلى صحف الحكومة إلا مرة أول كل شهر لقبض المعلوم. والحكومة نفسها طبعا تعلم وتتستر على ذلك، فهي من ناحية ترغب في ربط الصحفيين بها، ربط مستقبلهم المهني بها بحيث لا يندفعون إلى ساحة المعارضة وتصديق أنهم مستقلون بالكامل عن الحكومة.

والطريف أيضا أن مطابع الحكومة هي التي تطبع صحف المعارضة، بل إن هذه الصحف التي يتبع معظمها أحزابا سياسية قائمة ولو شكليا، يحصل على دعم مباشر من الدولة شأنها في ذلك شأن الأحزاب التي تمثلها والتي تحصل أيضا على مبالغ مالية سنوية من الدولة لممارسة معارضتها لها.. فهل هناك "مسخرة" أكثر من ذلك. الأحزاب السياسية القائمة، وصحفها بالتالي لا تنتمي لمدارس سياسية مذهبية في الفكر وتتبع منهجا محددا في المعارضة، لأنها لا تمثل مصالح شعبية حقيقية (أي لا تمثل طبقة أو شريحة ما في المجتمع)، وهنا يكمن تحديدا سبب غجزها عن رؤية الأشياء في كليتها، فالسياسة الثقافية جزء من السياسة العامة، ولا يمكن أن يكون هناك رئيس فاسد، ووزير ثقافة جيد لأن الثاني يمثل السياسة التي يضعها الأول، والمزايدة على موضوع التطبيع يدخلنا في الطفولة السياسية لأن الموضوع ملئ بالألغام والترهات أيضا ولا علاقة له بمواقف سياسية أصيلة، ولكن هذا موضوع آخر.

من ناحية أخرى، ولأن الحكومة تدفع أقل من الحد الأدنى من الأجور للصحفيين، فهي لا تمانع في أن يحصلوا من "أبواب أخرى" على ما يكفي احيتاجاتهم الأساسية، وهي السياسة التي تتبعها الحكومة مع كل شرائح المجتمع، والمسؤولة عن تفشي الرشوة والفساد واستغلال النفوذ على كافة المستويات: من سائقي التاكسيات إلى الوزراء. المعارضة إذن تكون عند هذه الصحف "سياسية" فقط، أساسها الهجوم على الرئاسة، وكلما بالغت في الهجوم على الرئاسة وشخص الرئيس أصبحت أكثر شجاعة من غيرها.. بينما هي لا تقدر على الهجوم المبرر تماما على الرقيب مثلا ورقابته مثلا، أو على وزارة الوزير الفنان جدا الذي يهيمون به حبا ويهيم هو بهم غراما وولعا!

المحصلة أننا نلف وندور في نفس الحلقة: حلقة الحكومة ومعارضتها المضمونة والموجودة في جيبها.. ولم يعد من الغريب بعد ذلك أن تُكسر يد كل من يتجرأ وينتقد أداء أو مواقف "فنان الشعب" عادل إمام الذي تطبل له صحف الحكومة والمعارضة ظالما كان أو مظلوما حتى بعد أن تدهور وأصبح يدور في حلقة مفرغة، فيما يواصل هو ادعاءاته السياسية الجريئة جدا بينما يعرف القاصي والداني مثلا أنه من مساندي الحكومة بل ومن مهرجي الخليفة وحلقته. أما من حيث التمثيل فعادل إمام ممثل نمطي لم يتطور منذ "مدرسة المشاغبين".. وليختلف معي كل من يريد، ولكن هذا موضوع نفحصه في مقال تفصيلي قادم.

ومن يتجرأ وينتقد شخصيات أخرى أقل من الرئيس وأقل حتى من الزعيم "عادل إمام" لا يجلب لنفسه سوى المشاكل ولا يفوز في النهاية إلا بالمقاطعة من جانب صحف كل من الحكومة والمعارضة. والحديث في هذا المجال طويل وملئ بالقصص القصيرة والطويلة التي لم تنته فصولها بعد.

0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger