لا أعتقد أن وظيفة الناقد أن ينقد النقاد، وأن يقيم عملهم ويوجههم أو يعطي نصائح لمن يرى أنهم أصغر منه سنا، أي يعتقد أنهم اقل منه معرفة وخبرة بالسينما، ويوجههم إلى كيفية كتابة النقد، ويحدد لهم مواصفات خاصة أو إرشادات معينة يتصور أنها قد تساعدهم في الوصول إلى الصيغة المثلى في الكتابة عن السينما، فلعل أفضل وسيلة لتطوير الكتابة عن السينما، هي الاهتمام بمناقشة قضايا السينما نفسها، وتناول الأفلام بعمق، وتحليلها من زواياها المختلفة، ودراسة وتحليل تاريخ السينما وتطور الفيلم. وهذه الجوانب كلها تستدعي قيام الناقد بعمله، أي الانشغال بهذه القضايا والأفكار بدلا من الانشغال بكيف يكتب الآخرون، وتحديد من الذي يمكن اعتباره ناقدا ومن لا يمكن اعتباره كذلك، في حين أننا كلنا نجتهد ونحاول في ظروف بالغة الصعوبة.
لاشك أن هناك متطفلين ودخلاء وغير ذوي خبرة أو معرفة، ولاشك أيضا في وجود خلط كبير بين الناقد المتخصص الذي يتعمق في تحليل قضايا السينما، وبين الصحفي الفني الذي يهتم أكثر بالجوانب العامة في صناعة السينما، وبأخبار النجوم وبالجوانب المثيرة في العمل السينمائي، وغير ذلك مما تنشغل به الصحافة السائدة وتشغل بها قراءها. لكن هذه كلها من الأمور المعروفة منذ زمن طويل، تفرضها الحالة الثقافية العامة، والأمية السينمائية المنتشرة بشدة حتى بين قطاعات كبيرة من المثقفين أو من يعتبرون كذلك، الذين لاتزال نظرتهم للسينما أدنى كثيرا من نظرتهم للفنون الأخرى.
وهناك أيضا خلط آخر قائم بين كتابة العرض السينمائي أو ما يسمى film review وبين كتابة النقد السينمائي film criticism. النوع الأول تفرضه الصحافة اليومية والأسبوعية عادة على كل من الناقد والقراء، تحت تصور أن العصر الحالي لم يعد يسمح بقراءة مقال طويل قد تتجاوز عدد كلماته الألف كلمة مثلا، ويشمل تحليل العناصر الفنية والدرامية في الفيلم السينمائي، ويفضلون العرض الصحفي السريع للفيلم (في 300 كلمة) الذي يتناول القصة ومغزاها وطريقة تنفيذها والتعليق على أداء الممثلين.
وهذا العرض الصحفي للأفلام موجود أيضا وشائع في الصحف الغربية التي أصبحت تهتم حتى بالعرض المختصر الذي قد لا تزيد عدد كلماته عن 60 كلمة والذي يستخدم في إعداد الدليل الأسبوعي للأفلام الجديدة التي تنزل إلى دور العرض.
وقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة ظهور مجلات أسبوعية مصقولة لامعة تصدر عن بعض شركات الإنتاج والتوزيع العربية، تخلط بين الترويج والنقد الصحفي، وبين الإعلان المدفوع والإعلان المبطن. ولا مانع من وجود هذا النوع من المطبوعات أيضا لكي يواكب صناعة السينما ويروج لمنتجاتها، لكن اعتباره نوعا من النقد السينمائي أمر مضلل للغاية بل عبثي تماما، ففاقد الشئ لا يعطيه.
أما النقد العميق التفصيلي فمكانه الطبيعي مجلات السينما المتخصصة سواء الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية. وأي "اختراق" لصحيفة يومية أو مجلة أسبوعية غير متخصصة من جانب نقاد يكتبون النقد العميق التحليلي المطول هو أمر استثنائي يتم عادة بمجهود فردي خاص، وربما أيضا بالمصادفة، حينما يتواجد رئيس تحرير يحب السينما أو يؤمن بهذا النوع من الكتابة، وهو أمر نادر.
المطبوعات المتخصصة أصبحت شبه غائبة عن الساحة في العالم العربي، وما وجد منها، لايزال يمتلئ بكتابات مترجمة تتناول مواضيع أرشيفية قديمة تواصل الدوران في نفس الحلقة المفرغة منذ 40 عاما، أي تحدثك عن الواقعية الجديدة، ودور سيزار زفاتيني أو روبرتو روسيلليني في تطوير السينما، غافلة عما لحق من تطور كبير في تاريخ السينما وفي العلاقة بين المبدع والفيلم، والذي بلغ حدودا شديدة الجرأة حقا.
ويلاحظ أن فكرة "التثقيف الاولي" لاتزال هي الغالبة على كل ما يصدر من مجلات سينمائية تصدر بالصدفة، مع تجاهل وإهمال الجدل والاشتباك النقدي مع ما ينتج من أفلام ومع الظواهر والاتجاهات الجديدة، السلبية منها والإيجابية، التي تظهر في واقع السينما العربية، بل لقد أصبحت هناك خشية من تناول الشأن الثقافي العام وانعكاسه المؤثر والمباشر على السنيما وقضاياها. والسبب: شيوع ثقافة الخوف والرعب والتهديد ورفض نقد المؤسسات بل وارتباط بعض النقاد بهذه المؤسسات، التي تكرمهم فيما تقيمه من مهرجانات، وتمنحهم الجوائز، وتكلف البعض بتأليف الكتب عن عبقرياتهم وتاريخهم.
لاشك أن هناك متطفلين ودخلاء وغير ذوي خبرة أو معرفة، ولاشك أيضا في وجود خلط كبير بين الناقد المتخصص الذي يتعمق في تحليل قضايا السينما، وبين الصحفي الفني الذي يهتم أكثر بالجوانب العامة في صناعة السينما، وبأخبار النجوم وبالجوانب المثيرة في العمل السينمائي، وغير ذلك مما تنشغل به الصحافة السائدة وتشغل بها قراءها. لكن هذه كلها من الأمور المعروفة منذ زمن طويل، تفرضها الحالة الثقافية العامة، والأمية السينمائية المنتشرة بشدة حتى بين قطاعات كبيرة من المثقفين أو من يعتبرون كذلك، الذين لاتزال نظرتهم للسينما أدنى كثيرا من نظرتهم للفنون الأخرى.
وهناك أيضا خلط آخر قائم بين كتابة العرض السينمائي أو ما يسمى film review وبين كتابة النقد السينمائي film criticism. النوع الأول تفرضه الصحافة اليومية والأسبوعية عادة على كل من الناقد والقراء، تحت تصور أن العصر الحالي لم يعد يسمح بقراءة مقال طويل قد تتجاوز عدد كلماته الألف كلمة مثلا، ويشمل تحليل العناصر الفنية والدرامية في الفيلم السينمائي، ويفضلون العرض الصحفي السريع للفيلم (في 300 كلمة) الذي يتناول القصة ومغزاها وطريقة تنفيذها والتعليق على أداء الممثلين.
وهذا العرض الصحفي للأفلام موجود أيضا وشائع في الصحف الغربية التي أصبحت تهتم حتى بالعرض المختصر الذي قد لا تزيد عدد كلماته عن 60 كلمة والذي يستخدم في إعداد الدليل الأسبوعي للأفلام الجديدة التي تنزل إلى دور العرض.
وقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة ظهور مجلات أسبوعية مصقولة لامعة تصدر عن بعض شركات الإنتاج والتوزيع العربية، تخلط بين الترويج والنقد الصحفي، وبين الإعلان المدفوع والإعلان المبطن. ولا مانع من وجود هذا النوع من المطبوعات أيضا لكي يواكب صناعة السينما ويروج لمنتجاتها، لكن اعتباره نوعا من النقد السينمائي أمر مضلل للغاية بل عبثي تماما، ففاقد الشئ لا يعطيه.
أما النقد العميق التفصيلي فمكانه الطبيعي مجلات السينما المتخصصة سواء الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية. وأي "اختراق" لصحيفة يومية أو مجلة أسبوعية غير متخصصة من جانب نقاد يكتبون النقد العميق التحليلي المطول هو أمر استثنائي يتم عادة بمجهود فردي خاص، وربما أيضا بالمصادفة، حينما يتواجد رئيس تحرير يحب السينما أو يؤمن بهذا النوع من الكتابة، وهو أمر نادر.
المطبوعات المتخصصة أصبحت شبه غائبة عن الساحة في العالم العربي، وما وجد منها، لايزال يمتلئ بكتابات مترجمة تتناول مواضيع أرشيفية قديمة تواصل الدوران في نفس الحلقة المفرغة منذ 40 عاما، أي تحدثك عن الواقعية الجديدة، ودور سيزار زفاتيني أو روبرتو روسيلليني في تطوير السينما، غافلة عما لحق من تطور كبير في تاريخ السينما وفي العلاقة بين المبدع والفيلم، والذي بلغ حدودا شديدة الجرأة حقا.
ويلاحظ أن فكرة "التثقيف الاولي" لاتزال هي الغالبة على كل ما يصدر من مجلات سينمائية تصدر بالصدفة، مع تجاهل وإهمال الجدل والاشتباك النقدي مع ما ينتج من أفلام ومع الظواهر والاتجاهات الجديدة، السلبية منها والإيجابية، التي تظهر في واقع السينما العربية، بل لقد أصبحت هناك خشية من تناول الشأن الثقافي العام وانعكاسه المؤثر والمباشر على السنيما وقضاياها. والسبب: شيوع ثقافة الخوف والرعب والتهديد ورفض نقد المؤسسات بل وارتباط بعض النقاد بهذه المؤسسات، التي تكرمهم فيما تقيمه من مهرجانات، وتمنحهم الجوائز، وتكلف البعض بتأليف الكتب عن عبقرياتهم وتاريخهم.
أما المقصود بالتثقيف هنا فيعني النظر من أعلى إلى القارئ، وافتراض أنه لا يعرف شيئا عن مشاهير الإخراج في السينما الأمريكية مثلا، أو نجومها المشاهير. وحتى عندما يتم الالتفات بعيدا عن السينما الأمريكية يتوقف نقاد هذه المطبوعات عند تجربة مخرج ما مثل الروسي "العظيم طبعا" تاركوفسكي، في حين توقفت مسيرته الإبداعية بوفاته منذ أكثر من عشرين عاما، بينما تغيب أي دراسة حقيقية عن مخرج بأهمية وحجم ديفيد لينش أو راول رويز مثلا.
غير أن هذا هو الواقع الذي نعيشه، والذي لا يمكن تغييره بكتابة مقال، بل بالعمل على تأسيس ثقافة أخرى مختلفة، وهو أمر يستغرق سنوات طويلة للتغلب على ما حدث من هدم وتمييع.
وإذا كنت أقول إن هناك نوعا من الكسل الشخصي من جانب النقاد فيما يتعلق بالكتابة والتعريف بالنماذج السينمائية الجديدة في الداخل والخارج، بسبب انشغالهم بما تطلبه الصحف التي يكتبون لها (والتي تميل عادة إلى السائد والمشهور، والأمريكي، والحاصل على جوائز الأوسكار!) فهناك أيضا سلاح الرقابة: على السينما وعلى النشر، فكيف يمكن الكتابة بحرية عن أفلام لا يراها الجمهور بل.. حتى الشريحة المثقفة منه؟ وكيف يمكن البحث في قضايا ذهنية قد يعتبرها البعض "المتشنج جدا" نوعا من التجديف أو الدعوة إلى الباطل.. وغير ذلك من مفردات متخلفة أصبحت بكل أسف منتشرة كالوباء في المجتمعات العربية حاليا نتيجة عوامل كثيرة.
وأخيرا.. كيف يمكن الفصل بين مسؤولية الناقد ودوره، وبين ضلوعه في العمل في خدمة مهرجانات معينة معروفة بأنها بعيدة كل البعد عن "الثقافة" و"التنوير"، أو لحساب مؤسسات عربية تروج لقيم وأفكار مشبوهة متميعة بهدف ضرب وتشويه كل تجاربنا الإيجابية السابقة، والانتقام لماض كانت فيه مجرد قطيع أجرب في صحراء قاحلة، لم تنجح سوى في تصدير التصحر والتخلف الفكري والتطرف والإرهاب والدعوة إلى استقالة المرأة من التاريخ، وهروب الرجل إلى خارج العقل. هذا الحصاد المعادي للإنسان لايزال قائما يهدننا في وجودنا رغم كل حفلات الطبل والزمر التي تقام على قشرة خارجية من الحداثة الكاذبة المستوردة بإغراء البترودولار، ومن خلال قنوات فضائية أصبحت تتاجر بكل شئ حتى بجسد مذيعة تنتظر أن تضع مولودها.. وهو موضوع طويل.. طويل.
غير أن هذا هو الواقع الذي نعيشه، والذي لا يمكن تغييره بكتابة مقال، بل بالعمل على تأسيس ثقافة أخرى مختلفة، وهو أمر يستغرق سنوات طويلة للتغلب على ما حدث من هدم وتمييع.
وإذا كنت أقول إن هناك نوعا من الكسل الشخصي من جانب النقاد فيما يتعلق بالكتابة والتعريف بالنماذج السينمائية الجديدة في الداخل والخارج، بسبب انشغالهم بما تطلبه الصحف التي يكتبون لها (والتي تميل عادة إلى السائد والمشهور، والأمريكي، والحاصل على جوائز الأوسكار!) فهناك أيضا سلاح الرقابة: على السينما وعلى النشر، فكيف يمكن الكتابة بحرية عن أفلام لا يراها الجمهور بل.. حتى الشريحة المثقفة منه؟ وكيف يمكن البحث في قضايا ذهنية قد يعتبرها البعض "المتشنج جدا" نوعا من التجديف أو الدعوة إلى الباطل.. وغير ذلك من مفردات متخلفة أصبحت بكل أسف منتشرة كالوباء في المجتمعات العربية حاليا نتيجة عوامل كثيرة.
وأخيرا.. كيف يمكن الفصل بين مسؤولية الناقد ودوره، وبين ضلوعه في العمل في خدمة مهرجانات معينة معروفة بأنها بعيدة كل البعد عن "الثقافة" و"التنوير"، أو لحساب مؤسسات عربية تروج لقيم وأفكار مشبوهة متميعة بهدف ضرب وتشويه كل تجاربنا الإيجابية السابقة، والانتقام لماض كانت فيه مجرد قطيع أجرب في صحراء قاحلة، لم تنجح سوى في تصدير التصحر والتخلف الفكري والتطرف والإرهاب والدعوة إلى استقالة المرأة من التاريخ، وهروب الرجل إلى خارج العقل. هذا الحصاد المعادي للإنسان لايزال قائما يهدننا في وجودنا رغم كل حفلات الطبل والزمر التي تقام على قشرة خارجية من الحداثة الكاذبة المستوردة بإغراء البترودولار، ومن خلال قنوات فضائية أصبحت تتاجر بكل شئ حتى بجسد مذيعة تنتظر أن تضع مولودها.. وهو موضوع طويل.. طويل.
0 comments:
إرسال تعليق