عندما صدرت الطبعة الأولى من كتابي "سينما الهلاك: اتجاهات وأشكال السينما الصهوينة" كان الاهتمام الذي قوبلت به من جانب نقاد الأدب والمسرح والإعلام أكبر كثيرا في حجمه وعمقه، من اهتمام نقاد السينما به. وقد أدهشني هذا الأمر في البداية، ثم سرعان ما استوعبت حقيقة ربما كنت قد تغافلت عنها عمدا، آملا في أن "الكتابة الجادة" في قضية من هذا النوع يمكن أن تجد لها صدى لدى المشتغلين الجادين بالنقد السينمائي، خاصة وانهم شغلوا الساحة ردحا من الزمن بالتقاتل على صفحات الصحف والمطبوعات الثقافية حول قضية السينما الصهيونية، مفهومها ومداها ومغزاها والاعتبارات النقدية التي يجب أن نتعامل بها معها.
لكن الحقيقة أن نقاد السينما كانوا في جدلهم هذا مشغولين بالعامل الأيديولوجي أكثر من الاهتمام التاريخي، وبتسجيل موقف سياسي آني أكثر من اهتمامهم بتأصيل الظاهرة نفسها من خلال البحث النظري النقدي في المادة السينمائية نفسها.وكانت الأجواء التي دار فيها ذلك الجدل الساخن في الثمانينيات الماضي أجواء تسودها روح التنافس بين موقفين مختلفين يتمحوران بين الأبيض والأسود، وكان الجدل يتخذ عادة طابعا أيديولوجيا محموما بل ومتشنجا، لكونه كان يدور على خلفية قضايا مشتعلة مثل "التطبيع" و"المقاومة" و"البحث عن السلام" في أبعادها التي تتعامل مع الظاهرة في عمقها وشموليتها وتأثيراتها بعيدة المدى، بغض النظر عن تلاحق الأحداث السياسية.
والغريب أيضا، أو لعله لم يعد كذلك، أن عددا من نقاد السينما الذيت شغلوا الدنيا صياحا في الثمانينيات، محذرين من السينما الصهيونية واخطارها، وقفوا صامتين عند صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وكأنهم ألقموا حجرا، في حين أنه كان من المتصور أن يتيح الأساس النظري الذي يستند إليه هذا الكتاب الفرصة لمزيد من التفكير والجدل الحقيقي، إلا أن هذا لم يحدث، فقد آثر ذلك النفر من المشتغلين بالكتابة عن "قضايا" السينما التواري عن الأنظار، البعض منهم على سبيل التعالي والادعاء بأنهم كانوا "السباقين" و"الرواد" في اقتحام المجال. والبعض الآخر لم يشأ أن تفضحه سطحيته وتفاهة طرحه الغوغائي، فآثر الطرفان الصمت، وحسنا فعلا.
وكان من أكثر ما لفت نظري وأثار دهشتي أنه عند صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب في أواخر عام 1992، كتب كاتب فأثنى على الكتاب وعلى الجهد الذي بذل في إعداد مادته، إلا أنه استدرك بنوع من التحسر قائلا: "إن هذا الكتاب ربما يكون قد جاء متأخرا بعض الشئ، فقد سبقته الأحداث". وكان مغزى هذا الكلام بالطبع إغلاق الكتاب على "البعد السياسي" وحده، والمقصود أن الموقف السياسي كان قد تغير بعد انعقاد ما عرف بـ"مؤتمر مدريد للسلام" وما لحق من تغير على الخطاب السياسي الفلسطيني والعربي، وانصراف اعرب جميعا عن الإشارة في خطابهم إلى الصهيونية كعقيدة سياسية بل و"ديانة جديدة" بديلة، لحساب الحديث الذي لا يتوقف، عن "صنع السلام"، أو "دفع عملية السلام قدما".
وسرعان ما أثبتت الأحداث أن الكتاب كان ولايزال، صالحا، لأن مادته الأساسية لا علاقة لها بأي تسوية، فلم يكن الهدف من إصداره المساهمة في دعم موقف سياسي بعينه، في ظرف "تكتيكي" آني، بقدر ما كان يهدف إلى الدراسة المتأنية لظاهرة قائمة ومترسخة ستظل تلقي بتبعاتها على مستقبل شعوب المنطقة ربما لعشرات السنين، ويجب أن يكون التعامل معها بالتالي على صعيد "استراتيجي" أي أبعد في مداه بالقطع عن اللحظة الآنية. بل واضيف، أنه حتى مع افتراض التوصل قريبا إلى تسوية سياسية من نوع ما فليس معنى هذا التخلي عن دراسة ما يحيط من ظواهر بأيديولوجية عنصرية معادية للإنسان وللتاريخ وللعصر كما هو الحال مع الأيديولوجية الصهيونية، تماما كما لم ينته التوصل إلى حل سياسي في جنوب افريقيا إلى التوقف عن رصد ودراسة العنصرية كظاهرة سياسية واجتماعية وتاريخية لاتزال قائمة.وقد خذل التراجع المستمر على المسار السياسي، ولايزال يخذل، أولئك الذين راهنوا على "كيان صهيوني" مستأنس يمكن التعايش معه، بعد أن تغاضوا كواعية عن دراسة الصهيونية سياسيا وفكريا وتاريخيا وإعلاميا، لحساب التحلي- كما يزعمون- بالواقعية، أي القبول بالأمر الواقع في التعامل مع "إسرائيل" الدولة التي يصنع البعض، أو يتوهم أنه يصنع معها السلام، وكأن إسرائيل انسخلت عن صهيونيتها، وكأن الصهيونية ذابت من إسرائيل مع "إعلان أوسلو"، أو لمجرد أن وافق زعيم إسرائيلي على مضض، على أن يمد يده أمام عدسات التليفزيون في حفل صاخب بالبيت الأبيض، لمصافحة زعيم فلسطيني، تلك المصافحة التي وصفت بـ"التاريخية"، وكأن التاريخ تصنعه مصافحات أو انحناءات أمام الكاميرات أو كلمات مصاغة للتأثير العاطفي في السامعين.
ولكن سرعان ما عاد الوجه الصهيوني القبيح في إسرائيل مجددا فأخذ يتبدى بقسوة ووحشية، سواء في مجزرة المسجد الأقصى أو في إطلاق الرصاصات الخيونية "المخلصة جدا" على إسحق رابين نفسه، ثم في مواجهة "الانتفاضة الثانية" ومحاولة الالتفاف عليها وإجهاضها، ثم إجهاض حتى المشروع الأمريكي المتواضع المسمى بـ"خريطة الطريق" وشن حرب تصفية شاملة ضد كل منظمات المقاومة الفلسطينية بعد أحداث 11 سبتمبر تحت غطاء "محاربة الإرهاب".
وبغض النظر عن مسار التطورات السياسية خلال العقد الماضي، فإن الظواهر السياسية والإعلامية والفكرية المرتبطة بالصهيونية لاتزال قائمة بل وراسخة، تلتف وتغير جلدها وأساليبها وأشكالها، لكن مضمونها الفكري يظل واحدا على الدوام. ولذا كانت ضرورة صدور هذه الطبعة الثانية من "سينما الهلاك" خصوصا وأن الطبعة الأولى نفذت من الأسواق في فترة زمنية قصيرة أي منذ سنوات.وجدير بالذكر أن الطبعة الأولى من الكتاب لاقت اهتماما كبيرا من جانب نقاد السينما وغير السينما في العالم العربي، أي خارج مصر بلد الصدور، بل وخصصت أمسيات وندوات في أكثر من منتدى عربي ثقافي، وفي أكثر من عاصمة عربية ودولية، لمناقشة الكتاب، واهتمت به مطبوعات ودوريات لم تكن تلقي بالا من قبل لكتب تبحث في السينما.
وقد خضعت مادة الكتاب في طبعته الثانية، للكثير من المراجعة والتنقيح والتحرير، فقد قمنا على سبيل المثال، بنحديث الكثير من المعلومات خاصة بعد توفر مصادر ومراجع جديدة، وظهور بعض الأعمال التي تحولت إلى "ظواهر" روجت لها ولاتزال، أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة في الغرب، مثل ظاهرة فيلم "قائمة شندلر" وهو عمل أصبح شبه مقرر على كل تلاميذ المدارس في عدد كبير من الولايات الأمريكية.
وسيلاحظ قارئ الطبعة الجديدة اكثير من التحديث الذي أدخل على الفصل الثاني "هوليوود وإسرائيل"، والفصل الثالث "سينما الهلاك"، والفصل الثامن "سقوط الحلم الصهيوني"، والفصل التاسع "التقاط الأشلاء" بوجه خاص، كما حرصنا على تلافي بعض ما ورد من أخطاء طفيفة في الطبعة السابقة، واستجبنا لما أبداه بعض الأصدقاء من ملاحظات على طريقة كتابة بعض الشخصيات والأسماء اليهودية والإسرائيلية، إلى جانب إدخال بعض التحديث وتطوير المعلومات على الفصول الأخرى من الكتاب.وأخيرا أرجو أن يكون الكتاب مادة مفيدة للدارسين والباحثين في السينما كما في غيرها من أشكال ال تعبير، في ارتباطها بالقضايا التاريخية والسياسية والاجتماعية عموما، وفي الشأن الصهيوني بوجه خاص.
0 comments:
إرسال تعليق