

الجدل الدائر بين أنصار وأعداء خالد يوسف اشتد بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلم "حين ميسرة"، ثم "الريس عمر حرب". وقد اتهم الفيلم الأول بتشويه سكان الأحياء العشوائية، والتحامل عليهم، انطلاقا من فكرة "شعباوية" ترى أن الفقراء أو المحرومين أو المهمشين هم بالضرورة، من الملائكة (ولعل المخرج الراحل الكبير صلاح أبو سيف كان مسؤولا على نحو ما عن شيوع تلك الفكرة)، أما الأثرياء فهم من الأشرار بالضرورة، خاصة إذا كانوا من طبقة رجال الأعمال، وهو تبسيط ساذج للأمور، وإن كانت الدراما التليفزيونية تحديدا، قامت ولا تزال على هذا النوع من المعادلات الساذجة.
لم يكن هناك أي استغلال في "حين ميسرة" ولا إساءة، بل "رؤية" تعبر عما يراه صاحبها، تماما كما كانت رؤية مجدي أحمد علي من خلال سيناريو هناء عطية الذي تبناه في "خلطة فوزية" تميل إلى إبراز الجوانب الإيجابية لدى سكان تلك المناطق، دون أن يعني هذا أن هذا على صواب وذاك على خطأ، أو أن هذا يلغي ذاك.
والحقيقة أن خالد يوسف ليس مخرجا "استغلاليا"، على الأقل ليس أكثر استغلالا- إذا كانت هذه هي الكلمة الصحيحة أصلا- من غيره من المخرجين، كما انه ليس مصلحا اجتماعيا أو سياسيا، حتى لو كانت أحاديثه تمتليء بالآراء والأفكار السياسية، فهو أساسا، سينمائي، أداته الكاميرا وشريط الفيلم وليس العمل السياسي الحزبي المنظم أو غير المنظم.
وهو ليس من يتسبب في تدهور السينما المصرية، ولا أنه يقصد أن يستخدم الجنس من أجل دغدغة مشاعر الجماهير، بل لأنه يرى أن الجنس مكون أساسي في الإنسان، بل وعند البعض أيضا "هاجس" لا حيلة لهم فيه .
أستطيع القول إن خالد يوسف واحد من أهم المخرجين العاملين اليوم في السينما المصرية، رغم أن ما يقدمه من أفلام يقع في معظمه في دائرة "الميلودراما". وقد كانت معظم أفلام يوسف شاهين من نوع الميلودراما أيضا بل وأفلام صلاح أبو سيف أيضا. وقد أصبح صب اللعنات على خالد يوسف شبيها بما تعرض له في الماضي، المخرج الراحل حسن الإمام، صاحب البصمة المميزة في السينما المصرية بأفلامه الميلودامية الشهيرة، وقد أصبح في فترة ما "المشجب" الذي يعلق عليه السينمائيون خطاياهم.

ولعل هذا المدخل تحديدا ينطبق أفضل ما يكون، على فيلم خالد يوسف الأحدث "دكان شحاتة" الذي يعتمد على سيناريو لناصر عبد الرحمن.
الصراع على الملكية
يروي هذا الفيلم قصة صراع على الملكية: ملكية الدكان وملكية المرأة. هذا الصراع يدور بين ثلاثة أشقاء أصغرهم "شحاتة" الذي كان الأقرب إلى نفس والده "حجاج" البواب الذي يرحل بعد أن يخص ابنه الأثير إلى قلبه بالدكان، فيتآمر الشقيقان سالم وطالب على شقيقهما شحاتة ويلفقان له تهمة يسجن بسببها ثم يخرج بعد سنوات لكي يبحث عنهما، ليس بغرض الانتقام كما يمكن أن نتصور، بل للعودة بشكل ما، إلى كنف الأسرة، لرأب الصدع القائم بينه وبينهما، وتحقيق المصالحة، لكن الدماء تسيل لأن النصالحة بين الخير والشر مستحيلة، وتنتهي حياة شحاتة، كونه لا يدرك عمق ما وقع من تغيير المجتمع والأسرة والدنيا بأسرها.
تدور أحداث الفيلم في الفترة من 1981، أي منذ اعتيال الرئيس أنور السادات، إلى عام 2013 ، أي بعد سنوات قليلة من الزمن الحالي، وعندها يقدم الفيلم رؤيته أو تصوره المستقبلي لمسار الأزمة الاجتماعية في مصر، فنرى الرجال في نهاية الفيلم يتقاتلون في الشوارع بالسكاكين على شحنات القمح ويتصارعون من أجل الحصول على مياه الشرب.
وخلال تلك السنوات الثلاثة والثلاثين أو نحو ذلك، ينتقل السرد السينمائي بين الأزمنة مرات عدة، ويرصد الفيلم ويشير ويتوقف أمام عدد من التطورات أو المتغيرات ذات الطابع السياسي والاجتماعي في مصر، أو يحيلنا إليها: اعتقالات 1981، الانفتاح الاقتصادي وتأثيره على فئة الحرفيين وكيف يتحول شقيقا شحاتة (طالب وسالم) من طبقة بائعي الفاكهة إلى طبقة السمسارة والمقاولين، كيف يتزوج "البلطجي" الجاهل "كرم" من طالبة في الثانوي "إنجي" دلالة على الخلل الاجتماعي الذي حدث، وكيف تصبح هناك سفارة إسرائيلية في القاهرة، وكيف يصبح ابن اليساري المثالي السابق (الدكتور ونيس) وحشا من وحوش الانفتاح بعد وفاة والده، غرق العبارة المصرية في البحر الأحمر ومصرع أكثر من ألف شخص، حريق قصر ثقافة مدينة بني سويف، تزوير الانتخابات في 2005، وصولا إلى جنازة المخرج يوسف شاهين، وغير ذلك.

الإحالات السياسية
كان من الممكن أن تنجح هذه "التركيبة" الميلودرامية التي تمتليء بالكثير من مشاهد العنف والمبالغات التي لا يمكن لأحد أن يصدق إمكانية حدوثها في الواقع، لو أن خالد يوسف ابتعد عن "تسييس" وقلص أو ألغى تماما إحالاته السياسية الآلية التي جعلت فيلمه يبدو كسلسلة من "الاسكتشات" المفككة التي لا تضيف جديدا على مستوى الوعي بالموضوع لأنها لا تقدم سوى شذرات عابرة سريعة ربما حتى تتوه من عين المتفرج في خضم المشاهد الكثيرة التي يزدحم بها الفيلم.
إن مشكلة خالد يوسف الحقيقية ليست في قدرته كسينمائي، فهو مخرج يملك بلاشك، القدرة على التعامل الجيد مع الممثلين بسيطرة مدهشة، وكذلك مع الكاميرا ويجيد استغلال امكانيات المكان، كما تتميز اختياراته لزوايا التصوير التي تمنح اللقطة أكبر شحنة عاطفية، ولديه أيضا قدرة على تنفيذ مشاهد العراك والمشاجرات والمشاهد التي يستخدم فيها أعدادا من الممثلين الثانويين (الكومبارس) وتقطيع لقطاتها ببراعة، ومنحها قوة تأثير على الجمهور. وهو أيضا يجيد التعبير عن المشاعر الداخلية كما يتبدى مثلا في مشهد مناجاة الأب "حجاج" (محمود حميدة) لولده شحاتة، حين يدور الحديث بينهما عن الموت، وفيه تتضح براعة الحوار وتلقائيته وجمال الأداء التمثلي بين محمود حميدة الذي يصل في هذا الفيلم إلى قمة النضج الفني، وعمرو سعد الموهية الجديدة الصاعدة بقوة في عالم التمثيل السينمائي.

أما "بيسة" الحلوة الجذابة، فهي رمز البراءة المعتدى عليها في مصر، وإن كانت لا ترقى إلى أن تصبح رمزا لمصر نفسها على شاكلة بهية مثلا في "العصفور".

لكن الفرق أن شاهين كان يعرف كيف ينتقل بين الرمز والواقع، بين المعنى المباشر إلى الدلالة الرمزية، من الاجتماعي إلى السياسي، بعيدا عن المبالغات وعن الإحالات المباشرة، كما كان يعرف أيضا كيف يصوغ أفكارع في بناء سينمائي متماسك يملك، رغم إطاره الميلودرامي العام، لحظات تألق شعري أيضا خاصة في "عودة الإبن الضال" الذي اعتبره من أفضل أفلامه.
البطل والملحمة
أما خالد يوسف في "دكان شحاتة" فهو يلجأ إلى الإحالات السياسية المباشرة لكي يجعل فيلمه هذا أسهل في الوصول للجمهور، لكنه من الناحية الفنية يفقد تماسكه ويصبح أشبه بالتعليق الدرامي الثقيل على التطورات السياسية والاجتماعية، وعملا يفتقد رونق السينما وجمالها، الذي يكمن في الإيحاء، والهمس، والتوقف للتنفس والتأمل، كما أن حشد عشرات الشخصيات دون أي داع، فقط من أجل تأكيد الفكرة نفسها مجددا، يخرج الفيلم عن محوره الدرامي. هناك مثلا شخصيات لا أرى لها أي ضرورة في سياق الفيلم مثل الشقيقة نجاح (غادة عبد الرازق)، وشخصية "البرص" ومحاولته الاعتداء على شحاتة أولا ثم مصادقته له ودوره في المذبحة النهائية.
وهناك أيضا الكثير الاستطرادات والثرثرة البصرية تتمثل في عدد من المشاهد الزائدة عن الحاجة خصوصا مشهد العودة إلى الماضي أو المشاهد المتخيلة بين حجاج وشحاتة (في القبر بعد دفن الأب) كمثال. وهناك أيضا الكثير جدا من الصراخ والعويل والهستيريا والمبالغات في الأداء، وتكرار الرغبة في الاضحاك عن طريق تكرار التأكيد على غباء "كرم" وهو ما ينقلب إلى عكس المقصود فتصبح الشخصية محببة للجمهور، وبعض المشاهد الساذجة التي كان يتعين استبعادها في المونتاج مثل تهديد بيسة بالانتحار بصب الكيروسين على جسدها أكثر من مرة، والمبارزة بالتحطيب بين كرم وشحاتة قبل أن يوافق على زواجهما، بينما التعامل بلعبة التحطيب بهذا الشكل اختبار للرجولة في الأصل، في حين أنه ليس من الممكن اعتبار كرم "البلطجي" رمزا لأي رجولة بل للخسة والنذالة.

وإذا كان خالد يوسف قد اتبع هذا الأسلوب من أجل صنع عمل ملحمي أقرب إلى السيرة الشعبية مثلا فهو لم يوفق في هذا. ومرجع ذلك أن السيرة الشعبية أو الملحمة، لا تصنع في سياق سردي narrative من هذا النوع أو على هذا النسق، بل يجب أن تروى في سياق له طابع واحد، وباستخدام الموسيقى والغناء بطل مختلف تماما، دون انتقالات وقفزات بين الأزمنة، ودون افراط في استخدام مشاهد الماضي، بل من الأفضل أن تسير الدراما دائما إلى الأمام، ومن المهم أن يتضح البعد الرمزي في الشخصية من البداية، وأن يتماثل المتفرج معه ويتوحد: فهل يمكن اعتبار "شحاتة" في إطار هذا الفيلم "بطلا شعبيا" يتوحد معه المتفرج بينما وعيه بالمحيط الاجتماعي مجرد صفر كبير، حتى بعد مروره بتجربة السجن؟
إنه لا يقاتل ضد أعداء طبقيين، ولا يتحدى سلطة ظالمة، ولا يرغب في الحصول على الحق لأصحابه، بل هو متنازل سلفا عن حقه حتى في الحب، فكل ما يريده هو الانتماء لأسرة تفككت بالفعل بعد موت الأب، بل إن كراهية أخويه له كانت واضحة من البداية. فعن أي شيء يدافع بطل خالد يوسف هذه المرة؟
إنه ليس "المخلص" الذي نعرفه في السيرة أو الملحمة الشعبية، فمن هو؟ إنه لا يخرج عن إطار "الضحية".. ضحية الظلم والتحولات.. فهل يصنع البطل- الضعيف- – الضحية- الذي لا يتطور وعيه بالدنيا من حوله، بطلا شعبيا في عمل ملحمي.
إنني مازلت بعد هذا كله، على قناعة بأن خالد يوسف مخرج جيد، يثير من خلال أفلامه الكثير من النقاش والفكر، ويجتريء على الكثير من المحرمات في السينما السائدة، وإن كان يعمل من داخل هذه السينما نفسها. ولو كان قد اكتفى فقط بالجانب الاجتماعي الذي يتعلق بالصراع داخل العائلة في فيلمه لربما جاء الفيلم أكثر قوة في دلالاته السياسية مما حدث بعد أن مزجه بالتعليقات والإحالات السياسية المباشرة، التي لم تأت من داخل العمل، ولا من بفعل الحتمية الدرامية للفيلم نفسه، بل من ذهنية خالد يوسف السينمائي "المثقف".
وأنا أخيرا، على قناعة بأن خالد يوسف سوف يصل إلى السيطرة على الأسلوب ويصبح مخرجا متفردا عندما يعثر على لغته الخاصة التي تعبر عنه بصدق، بعيدا عن أي إحالات قسرية.
إقرأ أيضا في هذه المدونة: عن خالد يوسف وافلامه الجنسية
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))
5 comments:
رغم إني لا أتفق معك إلا إني أعجبت بالمقالة و لو إني أرى أن مشاهد المعارك في أفلام خالد يوسف عادتاً تكون ساذجة جداً فلا أراه متمكن من التكنيك كما قلت...و لكنك لم تتطرق إلى موضوع تعامله مع المرأة دائماً كشىء جنسي فهو يستعين بالMadonna / Whore complex أي أن المرأة في أفلامه إما مخلوق طاهر لأنه غير جنسي أو قذر و دنيء لأنه جنسي؛ فبالرغم من أن أفلامه بها مشاهد جنسية إلا أن الجنس دائماً مقدم على أنه شىء قذر
عزيزي مجنون سينما:
منحقك ألا تتفق معي.. لكن هذا رأيي نتيجة تأمل وتفكير وليس مجرد انطباعات عابرة أو احساس مزاجي ما، مع او ضد، ليس من الضروري ان اتطرق إلى كل النواحي في أفلام خالد يوسف لأن انشغالي الاساسي كان نقطة معينة أو محور محدد تصورت أنه يثري النقاش حول أفلامه، وهو علاقته بالاسقاطات السياسية. وعموما إذا كان تعامله مع المرأة يخضع كما قلت أنت لهذه الفكرة عنها فهذه رؤيته ولك أن ترفضها أو تقبلها.. المهم الصدق في التعبير.. بالمناسبة لم يكن رأي المخرج العظيم سيرجيو ليوني في المرأة يختلف عما ذكرته أنت.. تقبل تحياتي.
هذا مع الفارق أن أفلام سيرجيو ليوني بها خاصية فانتازي أو أسطوري ولا تحاول أن تكون واقعية فالمبالات أو التبسيط تكون "مقبولة أكثر"...أما بالنسبة لأفلام يوسف شاهين فبالرغم من أنه كان أيضاً يعمل هذه الإسقاطات في فيلم "عودة الأبن الضال" أو "العصفور" فإنه لم يضحي بالدراما كي يخلق رمز قوي؛ فحتى إذا لم يفهم مشاهد ما تمثله الشخصيات المختلفة في فيلم "عودة الإبن الضال" إلا أن الشخصيات ستشده لأنها شخصيات قوية في دراما متقنة و ليست مجرد هيكل أجوف مهنته الدرامية الوحيدة هو أن يرمر لذلك أو ذاك..
تحياتى أستاذ أمير,
يبدو أنك فى النهاية تتفق مع رأيى -تقريبا- وان كنت تتوقع أن يطور خالد يوسف لنفسه لغة تميزه فى المستقبل.
المشكلة التى أراها فى خالد يوسف هى اعتماده على تبسيط للأحداث مبالغ فيه الى حد كبير مما يفقد الدراما تأثيرها. كما أن معالجته البصرية تصل الى تباين عجيب فى المستوى. مثلا مشهد الموال عندما يركبون المراجيح فى حين ميسرة أعتقد أنه من أفضل مشاهد الفيلم كما استعراض صلاة العيد أيضا تم بطريقة مميزة. لكن حين ننتقل الى مشاهد الصراع مثل مشهد حلقة النار التى يقيمها عادل حول أعدائه أو حتى مشهد النهاية فى القطار , أراها جميعا منفذة بسذاجة وافتعال واضح . ثم هناك المزج الغريب بين موسيقى كمال الطويل وياسر عبد الرحمن. فى الريس عمر حرب تجددت المشاهد (غريبة التنفيذ) بكثره سواء مشاهد الفلاش باك أو مشهد النهاية أيضا أو مشهد السينما التى تعرض فيلم ألام المسيح فهو يحيل الى الرمز بأكثر الطرق سطحية وان هناك تطور ملحوظ من (العاصفة - خيانة مشروعة) , الى (حين ميسرة , عمر حرب , دكان شحاته) لكن التطور يحدث بطريقة بطيئة عند خالد يوسف فربما يحتاج الى ضعف عدد الأفلام السابقة حتى يكون لنفسه اسلوبا يميزه.
خالص التحية
عمر منجونة
أحييك يااستاذ أمير على هذا المقال الجميل كالعادة.. وأرى أن المقال ممكن يكون نناقش منه اشياء كثيرة اكبر من فيلم خالد يوسف في السينما المصرية مثل افلام وطريقة صلاح ابو سيف ومفاهيمه وايضا سينما يوسف شاهين وجوانبها الفنية.. المقال طرح اشياء مهمة لكن ربما تحتاج إلى التفصيل.. اعرف انه مخصص لفيلم دكان شحاتة طبعا.. لكننا في حاجة للمزيد.
شكرا لك على هذه الكتابة الجميلة السلسة.
إرسال تعليق