من أهم وأفضل الأفلام التي عرضت في مسابقة مهرجان كان الأخير الفيلم الفرنسي "نبي" A Prophet للمخرج جاك أوديار.
كان هذا الفيلم، عن حق، من أكثر الأفلام ترشيحا للفوز بالسعفة الذهبية، إلا أن السعفة ذهبت إلى "الشريط الأبيض"، ليحصل "نبي" على الجائزة التالية في الأهمية، أي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم.
وقد بلغ الأمر حد أن كتب أحد النقاد في إحدى المطبوعات التي تصدر خلال المهرجان يقول إنه إذا لم يحصل هذا الفيلم على جائزة رئيسية في كان "فسيشهد شاطيء الكروازيت أعمال شغب"!
كنت من المعجبين بالفيلم لأسباب عديدة، تتلخص في أنه جاء متكاملا في بنائه ومستوى إخراجه وتمثيله، ورغم أنه أحد "أفلام السجن" التي يمكن عادة توقع ما سيحدث فيها إلا أن مدخله إلى موضوعه وطريقة معالجته له تحقق المتعة والترقب وإثارة الفكر أيضا، فهو، يتيح مساحات جيدة للتفكير والتأمل.
هذا فيلم عن شاب من عرب فرنسا (جزائري الأصل) يدعى "مالك" يدخل السجن بتهمة لا نعرفها، لكي يقضي ست سنوات، حيث يصبح عرضة لاضطهاد بشع من جانب عصبة إجرامية كورسيكية يتزعمها "قيصر" الذي يرغمه على القيام بكل الأعمال القذرة بل وحتى التجسس لحسابه على الفئات الأخرى من المجرمين، ويحظر عليه الاختلاط بأقرانه من العرب أو المسلمين الذين يقضون عقوبات داخل السجن.
"مالك" من الأصل، يبدو نموذجا للامنتمي، بل هو أقرب إلى طفل ولد وألقي به داخل العالم "الحقيقي" لكي يتعلم كيف ينجو ويستمر في الحياة.
الإنسان والهوية
وهو يبدو منفصلا عن جذوره الثقافية، لا يتشبث أصلا بالتقاليد والقيم الإسلامية. وعندما يسأله الحارس عند استكمال إجراءات إدخاله السجن، ضمن أسئلة أخرى بالطبع: هل تأكل لحم الخنزير؟ يتردد في البداية، ثم يوافق.
إنه الإنسان العربي فاقد هويته، الذي يريد أن يحيا وأن يتجاوز محنة السجن بأي ثمن، لكنه أيضا يتمتع بذكاء من نوع خاص، ويتعلم من خلال الإنصات والاحتكاك كيف يستغل الثغرات لحسابه، ثم يحقق انتقامه الشخصي من الذين أهانوه وأذلوه ويوجه لهم الضربة القاضية. وفي هذا السياق أيضا هو فيلم عن "البقاء" بالمعنى الوجودي.
يكلفه "قيصر" زعيم الكورسيكيون بقتل سجين عربي يدعى "رجب"، باستغلال شذوذه الجنسي وميله نحو "مالك". وتهدده عصبة الكورسيكيين بالقتل في حالة تخاذله. ويحاول مالك تنبيه إدارة السجن لكنهم يسلمونه لقيصر لكي ينال عقابا بدنيا كفيلا بإقناعه بالقيام بالمهمة البشعة. ويضطر بالتالي، في أحد أكثر مشاهد السينما عنفا، إلى قتل مالك رجب بشيفرة حادة صغيرة كان يخفيها داخل فمه كما دربه على استخدامها الكورسيكيون، فيقطع الشريان الأكبر في رقبة رجب ويتناثر الدم في أرجاء الزنزانة.
لا أريد أن أستطرد في سرد أحداث هذا الفيلم المثير، لكن "مالك" يصبح عين الكورسيكي "قيصر" على السجناء خاصة السجناء العرب، بل ويحصل له الكورسيكي الذي يسيطر بنفوذه على إدارة السجن، على تصاريح بالخروج من السجن من وقت لآخر، لقضاء يوم واحد في الخارج حيث يقوم بمهام لحسابه، لكنه ينجح في استغلال الفرصة المتاحة للقيام بأعمال لحسابه الخاص أيضا بالاشتراك مع صديقه "رياض" الذي كان زميلا له في السجن ثم خرج. ويتعرف مالك على أسرة رياض: زوجته وابنته، ويوصيه رياض بهما خيرا في حالة وفاته وهو المريض بسرطان البروستاتا.
وينتهي الفيلم بعد أن يتحول مالك من سجين مبتديء يرضخ كعبد ذليل لعصابة الكورسيكيين، إلى إمبراطور في عالم الإجرام، تخشاه العصابات المنافسة، بعد أن يقضي تماما على نفوذ "قيصر" ويذله.
ويكون مالك خلال رحلته في العالم السفلي، وتعرض حياته للخطر المميت أكثر من مرة، قد اكتشف تدريجيا أن ولاءه الحقيقي هو لثقافته ولرفاقه ولأبناء جلدته، فيترك في النهاية حقيبة تمتليء بعشرات الآلاف من الدولارات استولى عليها من إحدى عصابات تجارة المخدرات بعد معركة دموية، في المسجد الذي يؤمه رفاقه في الدين، فربما يكون في هذا سبيله إلى الخلاص.
فيلم "نبي" جاء اسمه بعد أن يتنبأ مالك بمهاجمة حيوان بري (غزال) السيارة التي كان يستقلها مع صديقه رياض وهو ما يتحقق بالفعل، وبذلك ينجو رياض من الموت، فيتساءل بدهشة: هل أنت نبي لكي تعرف ما سيحدث.
الفيلم والعنصرية
هذا فيلم عن البحث عن الهوية، عن العنصرية المقيتة التي تجعل السجن رمزا مصغرا للمجتمع في الخارج حيث يمارس الأقوياء القهر على الضعفاء، كما يمارس الآخرون (الكورسيكيون) عدوانهم العنصري الفظ بتعليقاتهم المهينة لمالك وأصله العربي والإسلامي طوال الوقت وهو أيضا فيلم عن فساد مؤسسة الشرطة والسجون الفرنسية وخضوعها المهين للمجرمين والأشقياء وتجار المخدرات، على نحو يذكرنا بفيلم آخر عظيم هو "انتهى التحقيق المبدئي.. إنس الموضوع" من عام 1972 L'istruttoria è chiusa dimentichi للمخرج الإيطالي داميانو دامياني. ولا أدري كيف يمكن قراءة فيلم كهذا على اعتبار أنه "يكرس" العنصرية في حين أن المتفرج يشاهد الفيلم من زاوية التعاطف التام مع مالك (ضحية العنصرية) من البداية إلى النهاية.
إنه ينجح وهو الأمي، في تعليم نفسه القراءة والكتابة داخل السجن، بل وينجح أيضا في تعلم لغة الكورسيكيين ويتمكن بذكائه الخاص، عن طريق الإنصات إلى أحاديثهم ومراقبة حركات شفاههم، من معرفة نقاط الضعف في علاقاتهم ويستغلها لحسابه الخاص، وهو يغير موقفه في النهاية، فينتقل من معسكر الكورسيكيين إلى معسكر العرب المسلمين داخل السجن الذين كان يرفض أي علاقة بهم في البداية وكانوا هم يعتبرونه "خائنا".
وعندما يغادر السجن في النهاية تكون في انتظاره أرملة صديقه رياض وابنته اللتان سيتولى هو رعايتهما بعد وفاة صديقه في لمسة وفاء جديرة بالإعجاب، بل ويشير الفيلم أيضا إلى أنه سيحقق وصية صديقه الراحل ويتزوج من أرملته ويكفل ابنته.
لهذه الأسباب أظن أن القراءة المحايدة الموضوعية للفيلم تقول إنه فيلم يناهض العنصرية ويستنكرها، ويجعل من شخصية "مالك" شخصية لها جاذبيتها، يتماثل المتفرج معها، ويتعاطف، كما يتمنى لو يتمكن من القضاء على حفنة الأشرار العنصريين الذين ظنوه لقمة سائغة يمكنهم أن يفعلوا به ما يشاءون.
الفيلم يدور في أوساط المجرمين داخل السجن، وإن كنا لا نعرف طبيعة الجريمة التي كانت سببا في دخول مالك السجن، ويشير الفيلم على نحو ما، إلى انه ربما يكون قد حكم عليه ظلما بسبب أصله العربي، ويجعله السيناريو شخصية لا تميل في البداية إلى العنف، بل ويرفض بإصرار ارتكاب جريمة قتل، غير أنه يجد نفسه مضطرا إليها اضطرارا بعد أن يتعرض لتهديدات الشيطان الكورسيكي العنصري "قيصر" الذي يدينه الفيلم ويقدمه في أبشع الصور وأكثرها قسوة.
نعم هناك أيضا كلام عن الدين الإسلامي يرد على لسان "رجب" الشاذ الذي قتله مالك، والذي يعود فيظهر له خلال الفيلم في مشاهد شبه سيريالية على هيئة رؤى وأحلام وهواجس وكوابيس، تعكس نوعا من تأنيب الضمير. لكن هذه الأحاديث التي تدور حول كيف كان النبي محمد أميا وكيف تمكن من القراءة بعد أن أمره جبريل (عليه السلام) بذلك مع نزول القرآن، لا يمكن تفسيرها على أنها أحاديث مسيئة للإسلام على أي مستوى، بل هي أحاديث تعكس تغلغل الثقافة الإسلامية في نفوس العرب حتى لو كانوا من السجناء بل وخاصة بعد أن يصبحوا سجناء فيعودون إلى الله وإلى الاحتماء بالدين من الشر المحيط لهم، وليست مشاهد أداء الصلاة جماعة داخل السجن سوى تأكيد على هذه الفكرة، وليس إهانة الإسلام بدوافع عنصرية.
دور المخرج
من الناحية الفنية، نجح المخرج جاك أوديار تماما في خلق الأجواء الخاصة داخل السجن، وتنفيذ المشاهد الصعبة خارجه: المطاردات والاشتباكات العنيفة بالأسلحة، والتصفيات المتبادلة بل إنه يجعل بطله يبدو مثل طفل يشعر بتوتر مشوب بالسعادة، أو الشاب الذي ينمو وعيه بنفسه، بذاته، بحقيقة جذوره وثقافته وانتمائه، ومعرفته بضراوة العالم المحيط به الذي لا يقبل سوى الأقوياء، وهو يركب الطائرة للمرة الأولى في حياته، أثناء إحدى المرات التي يحصل فيها على إفراج مؤقت، لكي يؤدي مهمة خاصة كلفه بها قيصر في مارسيليا، وكأنه يتخلص من أحمال تشده إلى الأرض في اللحظة التي ترتفع فيها الطائرة إلى السماء.
ويستخدم أوديار الإضاءة استخداما مبدعا، فيحيط وجه بطله بالظلال في المشاهد الأولى بعد دخوله السجن، ويركز على نظرات عينيه الطفولية المتطلعة الخائفة، كما يهتم بإبراز تلك الانفعالات من خلال اللقطات القريبة "كلوز اب"، كما ينجح في خلق إيقاع متماسك ومتدفق، وتحقيق توازن داخلي في بناء الفيلم، في انتقالاته بين المشاهد المختلفة: ساحة السجن، الزنازين، خارج السجن، الإدارة.. وغير ذلك، وبما يحافظ على الإيقاع العام للفيلم، فلا يشعر المتفرج بطوله رغم أنه يصل إلى أكثر من ساعتين ونصف الساعة.
ولعل سيطرة أوديار المدهشة على أداء مجموعة الممثلين وراء ذلك الرونق والقوة الكامنين في هذا العمل السينمائي الكبير الذي يعيد للسينما قوة تأثيرها وقدرتها على رواية قصة ذات دلالات شتى بطريقة فنية جذابة.
وقد نجح الممثل الجزائري الأصل طاهر رحيم الذي جاء إلى السينما من خارج عالم التمثيل، ووقف للمرة الأولى أمام الكاميرا في هذا الفيلم، في تقمص الدور الرئيسي، دور مالك، ببراعة جعلت الكثيرين يرشحونه للفوز بجائزة أحسن ممثل في مهرحان كان. وقد نجح رحيم في التعبير بعضلات وجهه ونظراته الطفولية المندهشة التي تزداد ذكاء وتكشف عن نضج شخصيته عبر الفيلم، خاصة في لقطات "الكلوز أب" القريبة التي يهتز أمامها الكثير من الممثلين خاصة المبتدئين والذين لا سابق خبرة لديهم.
وأخيرا، لعل أفضل رد على اتهام هذا الفيلم بالعنصرية أن كاتب السيناريو الأصلي للفيلم هو عبد الرحيم دفري (عربي)، واشترك في كتابة الحوار والتمثيل عدد من الممثلين العرب المحترفين وغير المحترفين مثل عادل بن شريف وهشام يعقوبي ورضا الكاتب وفريد الوردي وسالم كالي وفؤاد ناصح وعلاء أوموزان.
كان هذا الفيلم، عن حق، من أكثر الأفلام ترشيحا للفوز بالسعفة الذهبية، إلا أن السعفة ذهبت إلى "الشريط الأبيض"، ليحصل "نبي" على الجائزة التالية في الأهمية، أي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم.
وقد بلغ الأمر حد أن كتب أحد النقاد في إحدى المطبوعات التي تصدر خلال المهرجان يقول إنه إذا لم يحصل هذا الفيلم على جائزة رئيسية في كان "فسيشهد شاطيء الكروازيت أعمال شغب"!
كنت من المعجبين بالفيلم لأسباب عديدة، تتلخص في أنه جاء متكاملا في بنائه ومستوى إخراجه وتمثيله، ورغم أنه أحد "أفلام السجن" التي يمكن عادة توقع ما سيحدث فيها إلا أن مدخله إلى موضوعه وطريقة معالجته له تحقق المتعة والترقب وإثارة الفكر أيضا، فهو، يتيح مساحات جيدة للتفكير والتأمل.
هذا فيلم عن شاب من عرب فرنسا (جزائري الأصل) يدعى "مالك" يدخل السجن بتهمة لا نعرفها، لكي يقضي ست سنوات، حيث يصبح عرضة لاضطهاد بشع من جانب عصبة إجرامية كورسيكية يتزعمها "قيصر" الذي يرغمه على القيام بكل الأعمال القذرة بل وحتى التجسس لحسابه على الفئات الأخرى من المجرمين، ويحظر عليه الاختلاط بأقرانه من العرب أو المسلمين الذين يقضون عقوبات داخل السجن.
"مالك" من الأصل، يبدو نموذجا للامنتمي، بل هو أقرب إلى طفل ولد وألقي به داخل العالم "الحقيقي" لكي يتعلم كيف ينجو ويستمر في الحياة.
الإنسان والهوية
وهو يبدو منفصلا عن جذوره الثقافية، لا يتشبث أصلا بالتقاليد والقيم الإسلامية. وعندما يسأله الحارس عند استكمال إجراءات إدخاله السجن، ضمن أسئلة أخرى بالطبع: هل تأكل لحم الخنزير؟ يتردد في البداية، ثم يوافق.
إنه الإنسان العربي فاقد هويته، الذي يريد أن يحيا وأن يتجاوز محنة السجن بأي ثمن، لكنه أيضا يتمتع بذكاء من نوع خاص، ويتعلم من خلال الإنصات والاحتكاك كيف يستغل الثغرات لحسابه، ثم يحقق انتقامه الشخصي من الذين أهانوه وأذلوه ويوجه لهم الضربة القاضية. وفي هذا السياق أيضا هو فيلم عن "البقاء" بالمعنى الوجودي.
يكلفه "قيصر" زعيم الكورسيكيون بقتل سجين عربي يدعى "رجب"، باستغلال شذوذه الجنسي وميله نحو "مالك". وتهدده عصبة الكورسيكيين بالقتل في حالة تخاذله. ويحاول مالك تنبيه إدارة السجن لكنهم يسلمونه لقيصر لكي ينال عقابا بدنيا كفيلا بإقناعه بالقيام بالمهمة البشعة. ويضطر بالتالي، في أحد أكثر مشاهد السينما عنفا، إلى قتل مالك رجب بشيفرة حادة صغيرة كان يخفيها داخل فمه كما دربه على استخدامها الكورسيكيون، فيقطع الشريان الأكبر في رقبة رجب ويتناثر الدم في أرجاء الزنزانة.
لا أريد أن أستطرد في سرد أحداث هذا الفيلم المثير، لكن "مالك" يصبح عين الكورسيكي "قيصر" على السجناء خاصة السجناء العرب، بل ويحصل له الكورسيكي الذي يسيطر بنفوذه على إدارة السجن، على تصاريح بالخروج من السجن من وقت لآخر، لقضاء يوم واحد في الخارج حيث يقوم بمهام لحسابه، لكنه ينجح في استغلال الفرصة المتاحة للقيام بأعمال لحسابه الخاص أيضا بالاشتراك مع صديقه "رياض" الذي كان زميلا له في السجن ثم خرج. ويتعرف مالك على أسرة رياض: زوجته وابنته، ويوصيه رياض بهما خيرا في حالة وفاته وهو المريض بسرطان البروستاتا.
وينتهي الفيلم بعد أن يتحول مالك من سجين مبتديء يرضخ كعبد ذليل لعصابة الكورسيكيين، إلى إمبراطور في عالم الإجرام، تخشاه العصابات المنافسة، بعد أن يقضي تماما على نفوذ "قيصر" ويذله.
ويكون مالك خلال رحلته في العالم السفلي، وتعرض حياته للخطر المميت أكثر من مرة، قد اكتشف تدريجيا أن ولاءه الحقيقي هو لثقافته ولرفاقه ولأبناء جلدته، فيترك في النهاية حقيبة تمتليء بعشرات الآلاف من الدولارات استولى عليها من إحدى عصابات تجارة المخدرات بعد معركة دموية، في المسجد الذي يؤمه رفاقه في الدين، فربما يكون في هذا سبيله إلى الخلاص.
فيلم "نبي" جاء اسمه بعد أن يتنبأ مالك بمهاجمة حيوان بري (غزال) السيارة التي كان يستقلها مع صديقه رياض وهو ما يتحقق بالفعل، وبذلك ينجو رياض من الموت، فيتساءل بدهشة: هل أنت نبي لكي تعرف ما سيحدث.
الفيلم والعنصرية
هذا فيلم عن البحث عن الهوية، عن العنصرية المقيتة التي تجعل السجن رمزا مصغرا للمجتمع في الخارج حيث يمارس الأقوياء القهر على الضعفاء، كما يمارس الآخرون (الكورسيكيون) عدوانهم العنصري الفظ بتعليقاتهم المهينة لمالك وأصله العربي والإسلامي طوال الوقت وهو أيضا فيلم عن فساد مؤسسة الشرطة والسجون الفرنسية وخضوعها المهين للمجرمين والأشقياء وتجار المخدرات، على نحو يذكرنا بفيلم آخر عظيم هو "انتهى التحقيق المبدئي.. إنس الموضوع" من عام 1972 L'istruttoria è chiusa dimentichi للمخرج الإيطالي داميانو دامياني. ولا أدري كيف يمكن قراءة فيلم كهذا على اعتبار أنه "يكرس" العنصرية في حين أن المتفرج يشاهد الفيلم من زاوية التعاطف التام مع مالك (ضحية العنصرية) من البداية إلى النهاية.
إنه ينجح وهو الأمي، في تعليم نفسه القراءة والكتابة داخل السجن، بل وينجح أيضا في تعلم لغة الكورسيكيين ويتمكن بذكائه الخاص، عن طريق الإنصات إلى أحاديثهم ومراقبة حركات شفاههم، من معرفة نقاط الضعف في علاقاتهم ويستغلها لحسابه الخاص، وهو يغير موقفه في النهاية، فينتقل من معسكر الكورسيكيين إلى معسكر العرب المسلمين داخل السجن الذين كان يرفض أي علاقة بهم في البداية وكانوا هم يعتبرونه "خائنا".
وعندما يغادر السجن في النهاية تكون في انتظاره أرملة صديقه رياض وابنته اللتان سيتولى هو رعايتهما بعد وفاة صديقه في لمسة وفاء جديرة بالإعجاب، بل ويشير الفيلم أيضا إلى أنه سيحقق وصية صديقه الراحل ويتزوج من أرملته ويكفل ابنته.
لهذه الأسباب أظن أن القراءة المحايدة الموضوعية للفيلم تقول إنه فيلم يناهض العنصرية ويستنكرها، ويجعل من شخصية "مالك" شخصية لها جاذبيتها، يتماثل المتفرج معها، ويتعاطف، كما يتمنى لو يتمكن من القضاء على حفنة الأشرار العنصريين الذين ظنوه لقمة سائغة يمكنهم أن يفعلوا به ما يشاءون.
الفيلم يدور في أوساط المجرمين داخل السجن، وإن كنا لا نعرف طبيعة الجريمة التي كانت سببا في دخول مالك السجن، ويشير الفيلم على نحو ما، إلى انه ربما يكون قد حكم عليه ظلما بسبب أصله العربي، ويجعله السيناريو شخصية لا تميل في البداية إلى العنف، بل ويرفض بإصرار ارتكاب جريمة قتل، غير أنه يجد نفسه مضطرا إليها اضطرارا بعد أن يتعرض لتهديدات الشيطان الكورسيكي العنصري "قيصر" الذي يدينه الفيلم ويقدمه في أبشع الصور وأكثرها قسوة.
نعم هناك أيضا كلام عن الدين الإسلامي يرد على لسان "رجب" الشاذ الذي قتله مالك، والذي يعود فيظهر له خلال الفيلم في مشاهد شبه سيريالية على هيئة رؤى وأحلام وهواجس وكوابيس، تعكس نوعا من تأنيب الضمير. لكن هذه الأحاديث التي تدور حول كيف كان النبي محمد أميا وكيف تمكن من القراءة بعد أن أمره جبريل (عليه السلام) بذلك مع نزول القرآن، لا يمكن تفسيرها على أنها أحاديث مسيئة للإسلام على أي مستوى، بل هي أحاديث تعكس تغلغل الثقافة الإسلامية في نفوس العرب حتى لو كانوا من السجناء بل وخاصة بعد أن يصبحوا سجناء فيعودون إلى الله وإلى الاحتماء بالدين من الشر المحيط لهم، وليست مشاهد أداء الصلاة جماعة داخل السجن سوى تأكيد على هذه الفكرة، وليس إهانة الإسلام بدوافع عنصرية.
دور المخرج
من الناحية الفنية، نجح المخرج جاك أوديار تماما في خلق الأجواء الخاصة داخل السجن، وتنفيذ المشاهد الصعبة خارجه: المطاردات والاشتباكات العنيفة بالأسلحة، والتصفيات المتبادلة بل إنه يجعل بطله يبدو مثل طفل يشعر بتوتر مشوب بالسعادة، أو الشاب الذي ينمو وعيه بنفسه، بذاته، بحقيقة جذوره وثقافته وانتمائه، ومعرفته بضراوة العالم المحيط به الذي لا يقبل سوى الأقوياء، وهو يركب الطائرة للمرة الأولى في حياته، أثناء إحدى المرات التي يحصل فيها على إفراج مؤقت، لكي يؤدي مهمة خاصة كلفه بها قيصر في مارسيليا، وكأنه يتخلص من أحمال تشده إلى الأرض في اللحظة التي ترتفع فيها الطائرة إلى السماء.
ويستخدم أوديار الإضاءة استخداما مبدعا، فيحيط وجه بطله بالظلال في المشاهد الأولى بعد دخوله السجن، ويركز على نظرات عينيه الطفولية المتطلعة الخائفة، كما يهتم بإبراز تلك الانفعالات من خلال اللقطات القريبة "كلوز اب"، كما ينجح في خلق إيقاع متماسك ومتدفق، وتحقيق توازن داخلي في بناء الفيلم، في انتقالاته بين المشاهد المختلفة: ساحة السجن، الزنازين، خارج السجن، الإدارة.. وغير ذلك، وبما يحافظ على الإيقاع العام للفيلم، فلا يشعر المتفرج بطوله رغم أنه يصل إلى أكثر من ساعتين ونصف الساعة.
ولعل سيطرة أوديار المدهشة على أداء مجموعة الممثلين وراء ذلك الرونق والقوة الكامنين في هذا العمل السينمائي الكبير الذي يعيد للسينما قوة تأثيرها وقدرتها على رواية قصة ذات دلالات شتى بطريقة فنية جذابة.
وقد نجح الممثل الجزائري الأصل طاهر رحيم الذي جاء إلى السينما من خارج عالم التمثيل، ووقف للمرة الأولى أمام الكاميرا في هذا الفيلم، في تقمص الدور الرئيسي، دور مالك، ببراعة جعلت الكثيرين يرشحونه للفوز بجائزة أحسن ممثل في مهرحان كان. وقد نجح رحيم في التعبير بعضلات وجهه ونظراته الطفولية المندهشة التي تزداد ذكاء وتكشف عن نضج شخصيته عبر الفيلم، خاصة في لقطات "الكلوز أب" القريبة التي يهتز أمامها الكثير من الممثلين خاصة المبتدئين والذين لا سابق خبرة لديهم.
وأخيرا، لعل أفضل رد على اتهام هذا الفيلم بالعنصرية أن كاتب السيناريو الأصلي للفيلم هو عبد الرحيم دفري (عربي)، واشترك في كتابة الحوار والتمثيل عدد من الممثلين العرب المحترفين وغير المحترفين مثل عادل بن شريف وهشام يعقوبي ورضا الكاتب وفريد الوردي وسالم كالي وفؤاد ناصح وعلاء أوموزان.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))
1 comments:
قرأت مقالات كثيرة عن هذا الفيلم تقول إنه عنصري لأنه مثلا يصور المسلمين في السجن ساجدين في الصلاة ولم أفهم ما المقصود وهل المسلمين لا يسجدون.. وقرأت ان الفيلم يصور مسلمين من المجرمين وتجار المخدرات ولذلك الفيلم عنصري فهل لابد كان يصورهم ملائكة ابرار.. ولماذا غير المسلمين لا يغضبوا من تصويرهم مجرمين او عصابات..!!!
إرسال تعليق