((كتبت عن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية" من قبل مقالا عند عرض الفيلم في مهرجان لندن السينمائي (2006) لكني أعدت الكتابة عنه بطريقة أكثر تعمقا وتفصيلا ضمن فصل من كتاب جاهز للنشر حاليا لدي باسم "سينما الخوف والقلق". ورأيت بعد نشر مقالي التحليلي لفيلم إيليا سليمان "الزمن الباقي" أن أنشر هذا المقال الذي يسبح في الاتجاه المعاكس للمقال السابق ويوضح للقارئ الفرق بين فيلم حداثي وآخر تنطبق عليه بشكل مدهش أهم مفردات ما بعد الحداثة وهو مدخل نقدي ربما لم يتطرق إليه النقاد الغربيون الذين تناولوا هذا الفيلم، فقد انصب اهتمامهم أساسا على الجانب السياسي الذي بدا معتدلا- أمير العمري)).
(1)
أثار الفيلم الإسرائيلي "زيارة الفرقة الموسيقية" The Band's Visit اهتماما نقديا كبيرا منذ عرضه في الدورة الستين لمهرجان كان السينمائي (مايو 2007).
وقد حصل الفيلم على جائزة فرعية في كان، هي الجائزة الثالثة التي تمنح للأفلام التي تعرض خارج المسابقة الرسمية في قسم "نظرة خاصة" أي خارج المسابقة، تسمى جائزة أكثر الأفلام المؤثرة عاطفيا Coup de Coeur .
أما في إسرائيل فقد حصد الفيلم 8 جوائز من بين 14 جائزة في المسابقة السنوية الرسمية للسينما الإسرائيلية التي تقام على غرار الأوسكار، منها جائزة أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن تمثيل وموسيقى، كما حصل على جائزة أحسن فيلم في مهرجان القدس السينمائي.
ولعل ما أثير من ضجة واهتمام كبير في الصحافة العربية، وما أثاره الفيلم من جدل في الأوساط السينمائية في مصر وغيرها، يعود أساسا إلى التصريحات التي أطلقها مخرجه عيران كويليرين، حينما أكد مرارا أنه يرغب في عرض فيلمه في العالم العربي، وأنه يعتبره "فيلما عربيا" على نحو ما، وأنه صنعه من أجل التقارب مع الآخر وتحقيق التفاهم، بل وإنه على استعداد لنزع كل عناوين الفيلم وأسماء العاملين فيه باللغة العبرية ووضعها بالعربية من أجل أن يعرض "كفيلم عربي" على حد قوله.
الزاوية "السياسية" في التعامل مع فيلم "زيارة الفرقة" ليس من السهل تجاهلها، فهذا أساسا فيلم إسرائيلي تظهر فيه شخصيات مصرية وإسرائيلية داخل إسرائيل، في إطار من الموسيقى والشعر والبوح، والتعبير المتبادل عن مكنونات الذات، وكلمات الحب، والانتصار في النهاية للتواصل وضرورة الفهم المشترك وعبور الماضي.
ولكن ما الذي يستند إليه الفيلم في طرحه لهذا الموضوع الواضح تماما منذ أول لقطة من لقطاته؟
يصور الفيلم كيف تصل فرقة موسيقية مصرية إلى إسرائيل ولا تجد أحدا في انتظارها في المطار، ثم تضل طريقها في أحد ايام السبت، العطلة الأسبوعية اليهودية، وبدلا من أن تبلغ مقصدها وهو بلدة بتاح تيكفاه، حيث تقصد مركزا ثقافيا عربيا بدعوة لإقامة حفل موسيقي هناك، تجد نفسها في قرية إسرائيلية تدعى بيتا تيكفا تقع في منطقة صحراوية معزولة.
الفرقة مكونة من 8 أفراد يرتدون ملابس عسكرية زرقاء لا نظير لها في الواقع في مصر، ويطلق عليها في الفيلم "فرقة شرطة الإسكندرية للموسيقى الكلاسيكية" وهي أيضا فرقة متخيلة تماما حيث لا نظير لها في الواقع المصري.
وبعد أن يدرك الجميع المأزق، يحاول رئيس الفرقة اللواء توفيق زكريا (ساسون جاباي) تدبر الأمر، فيتجه إلى مقهى تملكه امرأة إسرائيلية تدعى دينا لكي ترشده إلى الطريق فتقول له إنهم لا يستطيعون التوجه إلى البلدة الأخرى اليوم لأن المواصلات انقطعت، ولا توجد فنادق في هذه القرية، ثم سرعان ما تبدي كرما وأريحية مدهشة عندما تستضيف أولا أفراد الفرقة على الغذاء، ثم تدبر لهم أماكن للإقامة في بيتها وبيت أحد معارفها.
وخلال اليوم تقترب الشخصيات العربية والإسرائيلية من بعضها البعض، يتعرف توفيق على حقيقة "دينا" الإسرائيلية التي تعاني من الوحدة والملل في تلك القرية المعزولة في الصحراء، وتتعرف هي إلى ما يكمن وراء شخصيته من حزن نبيل.
من جهة أخرى يقيم العازف الشاب في الفرقة ويدعى خالد، علاقة صداقة مع شابين إسرائيليين أحدهما عاجز عن التعامل مع الفتيات، يعلمه خالد كيف يتعامل مع فتاة تحاول الاقتراب منه، ويعطيه درسا في الحب من خلال الشعر الصوفي العربي القديم.
اللواء توفيق قائد الفرقة يقضي المساء مع دينا التي تصحبه إلى الخارج، وتتجول معه في البلدة الصغيرة، وتحدثه عن اعجابها بالأفلام المصرية القديمة التي اعتادت مشاهدتها، وتروي له كيف كانت الشوارع تخلو من الناس في اسرائيل وقت عرض الأفلام المصرية بعد ظهر يوم الجمعة من كل اسبوع، وكيف أصبحت تعشق كلمات الغزل والحب في تلك الأفلام، وكيف تأثرت بأداء فاتن حمامة وعمر الشريف، حتى أصبحت حياتها - كما تقول- فيلما عربيا.
إنها دعوة إلى ليلة من الحب لا يستطيع اللواء بتكوينه المحافظ الذي ينتمي إلى الماضي قبولها، بينما يقبلها خالد الشاب المتحرر من قيود الماضي.
بعد أحداث ذلك اليوم وتلك الليلة، لا تعود الشخصيات إلى ما كانت عليه، بل تصبح أكثر فهما لبعضها البعض، وأكثر قدرة على الاستمتاع بطعم الحياة، ولو من خلال الموسيقى والشعر والغناء. وفي النهاية يرحل أفراد الفرقة نحو هدفهم، وتبقى كلمات الحب التي نستمع إليها من خلال الغناء الجميل.
وقد حصل الفيلم على جائزة فرعية في كان، هي الجائزة الثالثة التي تمنح للأفلام التي تعرض خارج المسابقة الرسمية في قسم "نظرة خاصة" أي خارج المسابقة، تسمى جائزة أكثر الأفلام المؤثرة عاطفيا Coup de Coeur .
أما في إسرائيل فقد حصد الفيلم 8 جوائز من بين 14 جائزة في المسابقة السنوية الرسمية للسينما الإسرائيلية التي تقام على غرار الأوسكار، منها جائزة أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن تمثيل وموسيقى، كما حصل على جائزة أحسن فيلم في مهرجان القدس السينمائي.
ولعل ما أثير من ضجة واهتمام كبير في الصحافة العربية، وما أثاره الفيلم من جدل في الأوساط السينمائية في مصر وغيرها، يعود أساسا إلى التصريحات التي أطلقها مخرجه عيران كويليرين، حينما أكد مرارا أنه يرغب في عرض فيلمه في العالم العربي، وأنه يعتبره "فيلما عربيا" على نحو ما، وأنه صنعه من أجل التقارب مع الآخر وتحقيق التفاهم، بل وإنه على استعداد لنزع كل عناوين الفيلم وأسماء العاملين فيه باللغة العبرية ووضعها بالعربية من أجل أن يعرض "كفيلم عربي" على حد قوله.
الزاوية "السياسية" في التعامل مع فيلم "زيارة الفرقة" ليس من السهل تجاهلها، فهذا أساسا فيلم إسرائيلي تظهر فيه شخصيات مصرية وإسرائيلية داخل إسرائيل، في إطار من الموسيقى والشعر والبوح، والتعبير المتبادل عن مكنونات الذات، وكلمات الحب، والانتصار في النهاية للتواصل وضرورة الفهم المشترك وعبور الماضي.
ولكن ما الذي يستند إليه الفيلم في طرحه لهذا الموضوع الواضح تماما منذ أول لقطة من لقطاته؟
يصور الفيلم كيف تصل فرقة موسيقية مصرية إلى إسرائيل ولا تجد أحدا في انتظارها في المطار، ثم تضل طريقها في أحد ايام السبت، العطلة الأسبوعية اليهودية، وبدلا من أن تبلغ مقصدها وهو بلدة بتاح تيكفاه، حيث تقصد مركزا ثقافيا عربيا بدعوة لإقامة حفل موسيقي هناك، تجد نفسها في قرية إسرائيلية تدعى بيتا تيكفا تقع في منطقة صحراوية معزولة.
الفرقة مكونة من 8 أفراد يرتدون ملابس عسكرية زرقاء لا نظير لها في الواقع في مصر، ويطلق عليها في الفيلم "فرقة شرطة الإسكندرية للموسيقى الكلاسيكية" وهي أيضا فرقة متخيلة تماما حيث لا نظير لها في الواقع المصري.
وبعد أن يدرك الجميع المأزق، يحاول رئيس الفرقة اللواء توفيق زكريا (ساسون جاباي) تدبر الأمر، فيتجه إلى مقهى تملكه امرأة إسرائيلية تدعى دينا لكي ترشده إلى الطريق فتقول له إنهم لا يستطيعون التوجه إلى البلدة الأخرى اليوم لأن المواصلات انقطعت، ولا توجد فنادق في هذه القرية، ثم سرعان ما تبدي كرما وأريحية مدهشة عندما تستضيف أولا أفراد الفرقة على الغذاء، ثم تدبر لهم أماكن للإقامة في بيتها وبيت أحد معارفها.
وخلال اليوم تقترب الشخصيات العربية والإسرائيلية من بعضها البعض، يتعرف توفيق على حقيقة "دينا" الإسرائيلية التي تعاني من الوحدة والملل في تلك القرية المعزولة في الصحراء، وتتعرف هي إلى ما يكمن وراء شخصيته من حزن نبيل.
من جهة أخرى يقيم العازف الشاب في الفرقة ويدعى خالد، علاقة صداقة مع شابين إسرائيليين أحدهما عاجز عن التعامل مع الفتيات، يعلمه خالد كيف يتعامل مع فتاة تحاول الاقتراب منه، ويعطيه درسا في الحب من خلال الشعر الصوفي العربي القديم.
اللواء توفيق قائد الفرقة يقضي المساء مع دينا التي تصحبه إلى الخارج، وتتجول معه في البلدة الصغيرة، وتحدثه عن اعجابها بالأفلام المصرية القديمة التي اعتادت مشاهدتها، وتروي له كيف كانت الشوارع تخلو من الناس في اسرائيل وقت عرض الأفلام المصرية بعد ظهر يوم الجمعة من كل اسبوع، وكيف أصبحت تعشق كلمات الغزل والحب في تلك الأفلام، وكيف تأثرت بأداء فاتن حمامة وعمر الشريف، حتى أصبحت حياتها - كما تقول- فيلما عربيا.
إنها دعوة إلى ليلة من الحب لا يستطيع اللواء بتكوينه المحافظ الذي ينتمي إلى الماضي قبولها، بينما يقبلها خالد الشاب المتحرر من قيود الماضي.
بعد أحداث ذلك اليوم وتلك الليلة، لا تعود الشخصيات إلى ما كانت عليه، بل تصبح أكثر فهما لبعضها البعض، وأكثر قدرة على الاستمتاع بطعم الحياة، ولو من خلال الموسيقى والشعر والغناء. وفي النهاية يرحل أفراد الفرقة نحو هدفهم، وتبقى كلمات الحب التي نستمع إليها من خلال الغناء الجميل.
(2)
المغزى الأساسي للفيلم هو الدعوة إلى ضرورة التقارب والفهم المشترك، ونبذ الماضي القائم على الحروب والصراع والكراهية والأحقاد. لهذا السبب، ولأن هذه "الرسالة" تأتي من الطرف الأقوى، الذي يفرض إرادته يوميا في الواقع على الأطراف الأخرى، فإنها تجد كل هذا الاستقبال الحماسي من جانب الجمهور في المهرجانات الغربية، فياله من "تسامح جميل"، بل و"تنازل" من جانب الطرف الأقوى للطرف الأضعف.
إلا أن الاستقبال النقدي المبالغ فيه للفيلم يستند أساسا، إلى رسالته "الإنسانية"، وإلى محاولته الموازنة بين الطرفين: من طرف هناك التعاطف الإنساني والرغبة في التقارب (لدى الطرف الإسرائيلي)، وهناك، لدى الطرف الآخر، العربي، التاريخ والفن والحس الفني الصوفي والغناء.
إن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية" من نوع الأفلام التي توصف في أدبيات النقد السينمائي بالـ miniature أي الأفلام الصغيرة البسيطة المحدودة التي لا تقوم على بناء مركب من الشخصيات والتفاصيل الفنية المعقدة فشخصياته محدودة، فالبناء فيه أقرب إلى "الاسكتشات" المسرحية، التي تعتمد على الأداء، وتغيب عنه "الحبكة" تماما، فهو يعرض للشخصيات دون أن يهتم بخلق أي صراع درامي بينها، لكنه مع ذلك، يصدر الكثير من الإشارات التي تتولد من خلال العلاقات الخفية بين الشخصيات التي تسري تحت جلد السطح الساكن للفيلم، المجرد من الأحداث الكبيرة.
يقص الفيلم حكاية بسيطة مفترضة، لا علاقة لها بالواقع بل تعكس ما يتمناه صانعه وما يحلم به، في شكل سردي تقليدي، تلتقي فيه الشخصيات وتفترق خلال يوم وليلة.
ويتعمد المخرج تجريد الموضوع من الجوانب الأساسية في العلاقة بين العرب والإسرائيليين عموما، أي السياسة والتاريخ، تاريخ الحروب والنزاعات المسلحة، فالشخصيات لا تقترب من السياسة أو الحديث عن الماضي وآثار الماضي، لا من قريب ولا من بعيد.
والمجتمع الإسرائيلي، من خلال تلك البلدة الصغيرة أو المستوطنة، لا تتبدى فيه أي آثار للعسكرة أو لوجود الدولة من خلال الشرطة مثلا، حتى مع وجود فرقة من الغرباء تسير في شوارع البلدة يرتدي أفرادها الملابس العسكرية، ويحملون حقائب ضخمة منتفخة.
كذلك ليس هناك أي مظهر من مظاهر الرفض أو العنصرية تجاه الغرباء أو حتى مجرد حب الاستطلاع الذي قد يدفع البعض من سكان البلدة إلى التعرض لهؤلاء العرب الغرباء بأي شكل من الأشكال، والشخصيات الإسرائيلية التي تتكلم في الفيلم لا تعبر عن القلق أو عن الخوف من تجدد الحروب أو من صواريخ تنطلق من قطاع غزة على قريتهم الجنوبية.. لا شئ سوى السكون والحياة العائلية التي تعاني من الملل والرتابة وقد تسبب بعض المشاحنات بين الأزواج.
إلا أن الاستقبال النقدي المبالغ فيه للفيلم يستند أساسا، إلى رسالته "الإنسانية"، وإلى محاولته الموازنة بين الطرفين: من طرف هناك التعاطف الإنساني والرغبة في التقارب (لدى الطرف الإسرائيلي)، وهناك، لدى الطرف الآخر، العربي، التاريخ والفن والحس الفني الصوفي والغناء.
إن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية" من نوع الأفلام التي توصف في أدبيات النقد السينمائي بالـ miniature أي الأفلام الصغيرة البسيطة المحدودة التي لا تقوم على بناء مركب من الشخصيات والتفاصيل الفنية المعقدة فشخصياته محدودة، فالبناء فيه أقرب إلى "الاسكتشات" المسرحية، التي تعتمد على الأداء، وتغيب عنه "الحبكة" تماما، فهو يعرض للشخصيات دون أن يهتم بخلق أي صراع درامي بينها، لكنه مع ذلك، يصدر الكثير من الإشارات التي تتولد من خلال العلاقات الخفية بين الشخصيات التي تسري تحت جلد السطح الساكن للفيلم، المجرد من الأحداث الكبيرة.
يقص الفيلم حكاية بسيطة مفترضة، لا علاقة لها بالواقع بل تعكس ما يتمناه صانعه وما يحلم به، في شكل سردي تقليدي، تلتقي فيه الشخصيات وتفترق خلال يوم وليلة.
ويتعمد المخرج تجريد الموضوع من الجوانب الأساسية في العلاقة بين العرب والإسرائيليين عموما، أي السياسة والتاريخ، تاريخ الحروب والنزاعات المسلحة، فالشخصيات لا تقترب من السياسة أو الحديث عن الماضي وآثار الماضي، لا من قريب ولا من بعيد.
والمجتمع الإسرائيلي، من خلال تلك البلدة الصغيرة أو المستوطنة، لا تتبدى فيه أي آثار للعسكرة أو لوجود الدولة من خلال الشرطة مثلا، حتى مع وجود فرقة من الغرباء تسير في شوارع البلدة يرتدي أفرادها الملابس العسكرية، ويحملون حقائب ضخمة منتفخة.
كذلك ليس هناك أي مظهر من مظاهر الرفض أو العنصرية تجاه الغرباء أو حتى مجرد حب الاستطلاع الذي قد يدفع البعض من سكان البلدة إلى التعرض لهؤلاء العرب الغرباء بأي شكل من الأشكال، والشخصيات الإسرائيلية التي تتكلم في الفيلم لا تعبر عن القلق أو عن الخوف من تجدد الحروب أو من صواريخ تنطلق من قطاع غزة على قريتهم الجنوبية.. لا شئ سوى السكون والحياة العائلية التي تعاني من الملل والرتابة وقد تسبب بعض المشاحنات بين الأزواج.
(3)
هذه "اليوتوبيا" مقصودة تماما لتبيان التناقض: أولا هناك التناقض بين المظهر الخشن لأفراد الفرقة الموسيقية بملابسهم العسكرية، والاسترخاء الناعم في الطرف الاسرائيلي من خلال شخصية المرأة (دينا).
فرقة "الذكور" المصرية يحمل أفرادها آلاتهم الموسيقية الطويلة المنتصبة، فهم "الذكر" القادم من الخارج، المقتحم فجأة ودون سابق إنذار، لم يكن مقصده إسرائيل بل ما يسمى بأراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
أما إسرائيل فهي ليست مجتمع الكيبوتز الخشن الذي تشارك نساؤه بالسلاح في حراسته مع الرجال، بل واحة سلام ودفء، يعادلها المطعم والمقهى، ترعاها إمراة ناعمة متفتحة للحب والحياة، تفور بالرغبة، في الذوبان داخل ذلك الآخر.
هناك من ناحية إذن مصر، العرب، الآخر، العدو السابق الذي لا يزال مترددا في مد يد الصداقة، وهو هنا "مذكر" متجهم، الجيل القديم فيه عاجز عن الفعل (العجز الجنسي عند توفيق)، في مقابل الجيل الجديد الذي يبدو أنه ولد بعد اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل، وهو يتمثل في "خالد"، المتطلع إلى الحياة بقوة، المتحرر من قيود الماضي وعداءاته، الراغب من طرفه أيضا في الاقتراب من الآخر الإسرائيلي والامتزاج معه وكأنه يلتقي بأصدقاء جدد يحملون ملامح إنسانية خالصة.
وهناك من ناحية أخرى الاسرائيليون الذين يتجسدون إما في شباب يتطلع إلى اللهو والعبث والسهر واللعب مثل اي شباب في العالم (لا أحد يبدو أنه يخدم إجباريا في الجيش أو يتدرب على مواجهة اي عدو بل يرحب ببساطة بالغرباء ويسعى لاقامة علاقات معهم)، أو مثل ذلك الشاب العاجز بدوره عن فهم الجنس الآخر أو التعامل معه على الصعيد العاطفي، أو يتجسدون في أزواج يعيشون حياة "عادية" طبيعية، يتشاجرون ويختلفون معا، لكنهم على استعداد للاستماع والانصات إلى صوت الآخر ورسالته.
وتتمثل الرسالة القادمة من ذلك الآخر في الموسيقى والغناء الرومانسي الشاعري. لكن النغمة الجديدة التي يسعى للوصول إليها ذلك العازف المصري الذي تستضيفه أسرة إسرائيلية في منزلها لقضاء الليلة، ظلت – كما يقول- تخذله طيلة سنوات. إلا أنه يدرك، بمساعدة اصدقائه الجدد، أن ما أبدعه منها قد يكون كافيا، قد يكون هو النغمة الكاملة التي يتعين عليه التوقف عندها وعدم تعذيب نفسه بفكرة أنها ناقصة.
إنها إيحاءات غير مباشرة وتنويعات على فكرة قبول الأمر الواقع، القناعة بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، التصالح مع النفس كبداية للتصالح مع الآخر.
هنا يتدخل ذلك العربي الغريب (خالد) بثقافته الرومانسية، لكي يعطيه درسا في الحب. وخالد هو نفسه الذي يقيم علاقة جنسية واضحة وصريحة مع دينا الإسرائيلية، التي تختصر وتلخص هنا إسرائيل نفسها.
فعلى العكس من "ذكورة" المصريين، هنا إسرائيل هي الأنثى المسالمة الوديعة المعطاءة، التي ترحب بالغريب وتمنحه كل وسائل الأمان: الطعام والشراب والفراش بل والحب أيضا.
لكن الجنرال توفيق عاجز عن الحب، بسبب مشاكل الماضي المؤلمة: انتحار ابنه واحساسه بالذنب نتيجة لذلك. وهو جزء من ذلك الماضي، ماضي الصراع والتوتر والقلق، لكنه لا يستطيع التخلص منه بسهولة، وما حوار "دينا" معه طيلة الأمسية التي تقضيها معه، في المقهى ثم في مكان شاعري على مقعد تحت الأشجار على إضاءة رومانسية، إلا دعوة لنسيان الماضي، ودرس في الأمل والتفاؤل والقدرة على الحب، ولذلك يقول لها توفيق في نهاية الأمسية وهما في الطريق إلى بيتها: "أنت امرأة عظيمة حقا".
إنه فقط يصل إلى حالة تصالح مع نفسه بعد تلك الأمسية التي يقضيها في الخارج مع المرأة الإسرائيلية "دينا" التي تعطيه بدورها، درسا في الإقبال على الحياة، في التخلص من الماضي، في التطلع إلى مستقبل يمتلئ بالحب والأمل.
وعندما يتطلع توفيق في وقت لاحق من تلك الليلة فيرى دينا تمارس الجنس مع خالد، ينفجر في الغناء العاطفي بسعادة غامرة "أنا أحببت" دلالة على استعادته توازنه العاطفي والنفسي.
إنها صورة مجردة لمجتمع إسرائيلي خيالي بالطبع، يتعامل معه المخرج كلوحة يرص فوقها شخصيات تحمل الكثير من الإشارات التي تحمل في النهاية "رسالة" الفيلم السياسية.
فرقة "الذكور" المصرية يحمل أفرادها آلاتهم الموسيقية الطويلة المنتصبة، فهم "الذكر" القادم من الخارج، المقتحم فجأة ودون سابق إنذار، لم يكن مقصده إسرائيل بل ما يسمى بأراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
أما إسرائيل فهي ليست مجتمع الكيبوتز الخشن الذي تشارك نساؤه بالسلاح في حراسته مع الرجال، بل واحة سلام ودفء، يعادلها المطعم والمقهى، ترعاها إمراة ناعمة متفتحة للحب والحياة، تفور بالرغبة، في الذوبان داخل ذلك الآخر.
هناك من ناحية إذن مصر، العرب، الآخر، العدو السابق الذي لا يزال مترددا في مد يد الصداقة، وهو هنا "مذكر" متجهم، الجيل القديم فيه عاجز عن الفعل (العجز الجنسي عند توفيق)، في مقابل الجيل الجديد الذي يبدو أنه ولد بعد اتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل، وهو يتمثل في "خالد"، المتطلع إلى الحياة بقوة، المتحرر من قيود الماضي وعداءاته، الراغب من طرفه أيضا في الاقتراب من الآخر الإسرائيلي والامتزاج معه وكأنه يلتقي بأصدقاء جدد يحملون ملامح إنسانية خالصة.
وهناك من ناحية أخرى الاسرائيليون الذين يتجسدون إما في شباب يتطلع إلى اللهو والعبث والسهر واللعب مثل اي شباب في العالم (لا أحد يبدو أنه يخدم إجباريا في الجيش أو يتدرب على مواجهة اي عدو بل يرحب ببساطة بالغرباء ويسعى لاقامة علاقات معهم)، أو مثل ذلك الشاب العاجز بدوره عن فهم الجنس الآخر أو التعامل معه على الصعيد العاطفي، أو يتجسدون في أزواج يعيشون حياة "عادية" طبيعية، يتشاجرون ويختلفون معا، لكنهم على استعداد للاستماع والانصات إلى صوت الآخر ورسالته.
وتتمثل الرسالة القادمة من ذلك الآخر في الموسيقى والغناء الرومانسي الشاعري. لكن النغمة الجديدة التي يسعى للوصول إليها ذلك العازف المصري الذي تستضيفه أسرة إسرائيلية في منزلها لقضاء الليلة، ظلت – كما يقول- تخذله طيلة سنوات. إلا أنه يدرك، بمساعدة اصدقائه الجدد، أن ما أبدعه منها قد يكون كافيا، قد يكون هو النغمة الكاملة التي يتعين عليه التوقف عندها وعدم تعذيب نفسه بفكرة أنها ناقصة.
إنها إيحاءات غير مباشرة وتنويعات على فكرة قبول الأمر الواقع، القناعة بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، التصالح مع النفس كبداية للتصالح مع الآخر.
هنا يتدخل ذلك العربي الغريب (خالد) بثقافته الرومانسية، لكي يعطيه درسا في الحب. وخالد هو نفسه الذي يقيم علاقة جنسية واضحة وصريحة مع دينا الإسرائيلية، التي تختصر وتلخص هنا إسرائيل نفسها.
فعلى العكس من "ذكورة" المصريين، هنا إسرائيل هي الأنثى المسالمة الوديعة المعطاءة، التي ترحب بالغريب وتمنحه كل وسائل الأمان: الطعام والشراب والفراش بل والحب أيضا.
لكن الجنرال توفيق عاجز عن الحب، بسبب مشاكل الماضي المؤلمة: انتحار ابنه واحساسه بالذنب نتيجة لذلك. وهو جزء من ذلك الماضي، ماضي الصراع والتوتر والقلق، لكنه لا يستطيع التخلص منه بسهولة، وما حوار "دينا" معه طيلة الأمسية التي تقضيها معه، في المقهى ثم في مكان شاعري على مقعد تحت الأشجار على إضاءة رومانسية، إلا دعوة لنسيان الماضي، ودرس في الأمل والتفاؤل والقدرة على الحب، ولذلك يقول لها توفيق في نهاية الأمسية وهما في الطريق إلى بيتها: "أنت امرأة عظيمة حقا".
إنه فقط يصل إلى حالة تصالح مع نفسه بعد تلك الأمسية التي يقضيها في الخارج مع المرأة الإسرائيلية "دينا" التي تعطيه بدورها، درسا في الإقبال على الحياة، في التخلص من الماضي، في التطلع إلى مستقبل يمتلئ بالحب والأمل.
وعندما يتطلع توفيق في وقت لاحق من تلك الليلة فيرى دينا تمارس الجنس مع خالد، ينفجر في الغناء العاطفي بسعادة غامرة "أنا أحببت" دلالة على استعادته توازنه العاطفي والنفسي.
إنها صورة مجردة لمجتمع إسرائيلي خيالي بالطبع، يتعامل معه المخرج كلوحة يرص فوقها شخصيات تحمل الكثير من الإشارات التي تحمل في النهاية "رسالة" الفيلم السياسية.
(4)
رغم أن فيلم "زيارة الفرقة الموسيقية" فيلم تقليدي في بنائه، إلا أنه يحمل الكثير من مفردات سينما ما بعد الحداثة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- تصوير ما لا يمكن تخيله في الواقع: أفراد فرقة موسيقية عسكرية من مصر يسيرون في طريق تحيط به الصحراء في بلدة إسرائيلية، بدون دعوة ولا شرطة ولا أمن ولا أي تدخل من أي طرف مؤسساتي، فالمؤسسة تبدو وقد انسحبت من ذلك العالم المصغر الذي يخلقه المخرج.
2- الحنين أو النوستالجيا: المرأة الإسرائيلية، "دينا"، تتفجر، في أحد أهم مشاهد الفيلم بل وذروته، في شبه "مونولوج" عاطفي، تستدعي خلاله الماضي، وتتذكر عندما كانت الشوارع تخلو عند عرض فيلم مصري من أفلام الماضي الرومانسي في التليفزيون الإسرائيلي، وكيف أنها وقعت في غرام الشخصيات المصرية من خلال تلك الأفلام.
3- خلط أساليب متعددة معا في وعاء واحد: هنا خلط بين الكوميديا الخفيفة التي تعتمد على الكاريكاتورية أي المبالغة في رسم الشخصيات، والدراما النفسية التي تكتشف عبرها الشخصيات بعض الأشياء عن نفسها، وأسلوب الفيلم الرومانسي، والفيلم الموسيقي الغنائي وخلط الأداء التمثيلي بالغناء المفاجئ والتعبير الموسيقي، مع لمحات من سينما التشويق والإثارة أيضا.
4- التلصص والتعبير المباشر عن الرغبة الجنسية وتجسيد الجنس: توفيق ينهض من فراشه، لكي يتلصص على ما يجري في الغرفة الأخرى بين خالد ودينا في حين نسمع أصوات الممارسة الجنسية بينهما. والجنس هنا شكل طبيعي للتواصل، وليس عملا منافيا للأخلاق، بل وحتى اللواء توفيق، يراه طبيعيا بعد أن كان يستنكره في البداية. ورموز الجنس واضحة منذ المشهد الأول لدخول توفيق وخالد إلى بيت "دينا" حيث يجلسان في المطبخ، ويكون أول ما تفعله هي أن تشق بطيخة حمراء شهية تبدو مثيرة للشهية في ذلك المناخ الصحراوي الحار.
5- الصورة المغايرة للمرأة: فشخصية "دينا" هنا هي شخصية مقتحمة، مبادرة، مغوية، أكثر قوة في شخصيتها من ذلك "الجنرال" الذي يفترض أن يكون هو القائد بحكم تكوينه العسكري، لكنه على النقيض: ضعيف، مهتز، وجل متردد، عاجز عن الفعل، متلعثم في التعبير عما يجيش في صدره.
من ناحية التمثيل فشل صانع الفيلم في العثور على ممثلين يجيدون الحديث باللهجة العامية المصرية، فاستعان بعدد من الممثلين الفلسطينيين وبالممثل اليهودي العراقي ساسون جاباي في دور اللواء، واستخدم هؤلاء اللهجة المصرية بدون إقناع، وبشكل مبالغ فيه، ولكن هذا الجانب لا يلحظه بالطبع الجمهور "الأجنبي" الذي يستقبل الفيلم عبر الترجمة.
ولكن لاشك أن المخرج يجيد التعامل مع الممثلين، ولا شك أيضا في تميز الأداء التمثيلي للممثل ساسون جاباي، وكذلك الممثلة الإسرائيلية رونيت الكابيتز في دور دينا التي ملأت الفيلم بالحيوية وبلمسة خاصة من الرقة والنعومة والبساطة.
"زيارة الفرقة"، بفكرته البسيطة الخيالية، ينتهي، رغم كل ما توفر لصانعه من نوايا طيبة، إلى أن يصبح فيلما من أفلام "الرسالة" الرومانسية، التي تتلخص في دعوته إلى ضرورة التعايش، بغض النظر عن الماضي، وبغض النظر عن الحاضر أيضا، وبعيدا عن التعقيدات السياسية القائمة، غير أنها دعوة يهزمها الواقع نفسه يوميا مرات ومرات.
1- تصوير ما لا يمكن تخيله في الواقع: أفراد فرقة موسيقية عسكرية من مصر يسيرون في طريق تحيط به الصحراء في بلدة إسرائيلية، بدون دعوة ولا شرطة ولا أمن ولا أي تدخل من أي طرف مؤسساتي، فالمؤسسة تبدو وقد انسحبت من ذلك العالم المصغر الذي يخلقه المخرج.
2- الحنين أو النوستالجيا: المرأة الإسرائيلية، "دينا"، تتفجر، في أحد أهم مشاهد الفيلم بل وذروته، في شبه "مونولوج" عاطفي، تستدعي خلاله الماضي، وتتذكر عندما كانت الشوارع تخلو عند عرض فيلم مصري من أفلام الماضي الرومانسي في التليفزيون الإسرائيلي، وكيف أنها وقعت في غرام الشخصيات المصرية من خلال تلك الأفلام.
3- خلط أساليب متعددة معا في وعاء واحد: هنا خلط بين الكوميديا الخفيفة التي تعتمد على الكاريكاتورية أي المبالغة في رسم الشخصيات، والدراما النفسية التي تكتشف عبرها الشخصيات بعض الأشياء عن نفسها، وأسلوب الفيلم الرومانسي، والفيلم الموسيقي الغنائي وخلط الأداء التمثيلي بالغناء المفاجئ والتعبير الموسيقي، مع لمحات من سينما التشويق والإثارة أيضا.
4- التلصص والتعبير المباشر عن الرغبة الجنسية وتجسيد الجنس: توفيق ينهض من فراشه، لكي يتلصص على ما يجري في الغرفة الأخرى بين خالد ودينا في حين نسمع أصوات الممارسة الجنسية بينهما. والجنس هنا شكل طبيعي للتواصل، وليس عملا منافيا للأخلاق، بل وحتى اللواء توفيق، يراه طبيعيا بعد أن كان يستنكره في البداية. ورموز الجنس واضحة منذ المشهد الأول لدخول توفيق وخالد إلى بيت "دينا" حيث يجلسان في المطبخ، ويكون أول ما تفعله هي أن تشق بطيخة حمراء شهية تبدو مثيرة للشهية في ذلك المناخ الصحراوي الحار.
5- الصورة المغايرة للمرأة: فشخصية "دينا" هنا هي شخصية مقتحمة، مبادرة، مغوية، أكثر قوة في شخصيتها من ذلك "الجنرال" الذي يفترض أن يكون هو القائد بحكم تكوينه العسكري، لكنه على النقيض: ضعيف، مهتز، وجل متردد، عاجز عن الفعل، متلعثم في التعبير عما يجيش في صدره.
من ناحية التمثيل فشل صانع الفيلم في العثور على ممثلين يجيدون الحديث باللهجة العامية المصرية، فاستعان بعدد من الممثلين الفلسطينيين وبالممثل اليهودي العراقي ساسون جاباي في دور اللواء، واستخدم هؤلاء اللهجة المصرية بدون إقناع، وبشكل مبالغ فيه، ولكن هذا الجانب لا يلحظه بالطبع الجمهور "الأجنبي" الذي يستقبل الفيلم عبر الترجمة.
ولكن لاشك أن المخرج يجيد التعامل مع الممثلين، ولا شك أيضا في تميز الأداء التمثيلي للممثل ساسون جاباي، وكذلك الممثلة الإسرائيلية رونيت الكابيتز في دور دينا التي ملأت الفيلم بالحيوية وبلمسة خاصة من الرقة والنعومة والبساطة.
"زيارة الفرقة"، بفكرته البسيطة الخيالية، ينتهي، رغم كل ما توفر لصانعه من نوايا طيبة، إلى أن يصبح فيلما من أفلام "الرسالة" الرومانسية، التي تتلخص في دعوته إلى ضرورة التعايش، بغض النظر عن الماضي، وبغض النظر عن الحاضر أيضا، وبعيدا عن التعقيدات السياسية القائمة، غير أنها دعوة يهزمها الواقع نفسه يوميا مرات ومرات.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة))
1 comments:
זקוק היחיד שאני יודע הוא שהיהודים לא איתם שלום
إرسال تعليق