فيلم "الزمن الباقي" للمخرج إيليا سليمان هو الإسم المطبوع باللغة العربية على شريط الفيلم الذي عرض في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ62 ، ورغم ذلك مازلنا نقرأ لمن يطلقون عليه "الزمن المتبقي"، تماما كما تطلق صحيفة معينة على فيلمه السابق "يد إلهية إسم "يد قدرية"!
كثيرون يعتبرون أن أسلوب التعبير السينمائي عند إيليا سليمان في فيلمه البديع هو أسلوب ينتمي إلى ما بعد الحداثة postmodernism في حين أن الصحيح أنه ينتمي إلى الحداثة modernism أساسا، وفي المقام الأول.
الأسلوب الحداثي يتضح أولا في كون الفيلم قائما على التأمل العقلي، رغم البناء الذي لا يمكن اعتباره بناءًَ تقليديا على أي مستوى. إنه بناء ينتقل بين الأزمنة انتقالات واضحة ومحسوبة عبر فترات زمنية محددة، دون أن يقفز فيما بينها أو يجعلها تتداخل بحيث لا يستطيع المشاهد التفرقة بين الماضي أو الحاضر: في الأزياء وطريقة التعبير أو الملامح، بل إن وجود "البطل- المؤلف- المخرج" في الكثير من لقطات ومشاهد الفيلم صامتا متأملا، يؤكد طيلة الوقت على وجود "صاحب الرؤية" أو "صاحب النص" وعلى أهميته، وهذه كلها من الملامح الأصيلة للحداثة modernism في حين أن ما بعد الحداثة تميل إلى استبعاد المؤلف أو التقليل من أهميته ومن أهمية ذاكرته أو حياته الشخصية، كما تميل إلى تداخل الأزمنة والخلط فيما بينها في نسيج مركب أقرب إلى "الاسكتشات".
ليس هذا فقط بل إن وجود المؤلف، صاحب النص والرؤية، يرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة استدعاء الذاكرة، وتصفية الحساب مع الماضي، في محاولة لفهم ما حدث في الماضي، وكيف كان ممكنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه: على الصعيد الشخصي السينمائي يعيش واقعه داخل فلسطين المحتلة بكل ما يحيطه من مظاهر "اغتراب" يعبر عنها ويعكسها في فيلمه ببراعة، أو على الصعيد العام: الانتقال من تراجع إلى آخر، ومن اشتداد في القسوة يؤدي إلى مزيد من التهميش والاغتراب دون القدرة على الفعل لأنه محكوم عليه بالهزيمة أمام قوة بطش ليس لها مثيل في التاريخ بل إنها تبدو كما لو كانت قوة "من خارج التاريخ" لا يصلح معها بالتالي التعامل بالمنطق القائم بل بخلق واقع آخر هو أقرب إلى الحلم.
يتبع إيليا سليمان في فيلمه أسلوبا "حداثيا" modernist في تصوير ما يمكن وقوعه في الواقع ولكن مع بعض المبالغة أو التضخيم مثل مشهد الدبابة التي تتابع شابا فلسطينيا يخرج من بيته لالقاء كيس القمامة. صحيح أن التناقض بين الدبابة الضخمة ومدفعها الطويل، والشاب الضئيل الحجم وكيس القمامة التافه الشأن قد يثير السخرية والضحك، ولكن هذا أيضا ليس فقط قابلا للحدوث، بل إن مشاهد من هذا النوع حدثت أمام كاميرات التليفزيون وعلى الهواء مباشرة دون أن تثير أي ضحكات بالطبع لأنها تبدأ ثم تنتهي عادة نهاية دموية.
إذن هناك استبعاد لفكرة تصوير ما لا يمكن تصور وقوعه (وهو عنصر أساسي في سينما ما بعد الحداثة).
كثيرون يعتبرون أن أسلوب التعبير السينمائي عند إيليا سليمان في فيلمه البديع هو أسلوب ينتمي إلى ما بعد الحداثة postmodernism في حين أن الصحيح أنه ينتمي إلى الحداثة modernism أساسا، وفي المقام الأول.
الأسلوب الحداثي يتضح أولا في كون الفيلم قائما على التأمل العقلي، رغم البناء الذي لا يمكن اعتباره بناءًَ تقليديا على أي مستوى. إنه بناء ينتقل بين الأزمنة انتقالات واضحة ومحسوبة عبر فترات زمنية محددة، دون أن يقفز فيما بينها أو يجعلها تتداخل بحيث لا يستطيع المشاهد التفرقة بين الماضي أو الحاضر: في الأزياء وطريقة التعبير أو الملامح، بل إن وجود "البطل- المؤلف- المخرج" في الكثير من لقطات ومشاهد الفيلم صامتا متأملا، يؤكد طيلة الوقت على وجود "صاحب الرؤية" أو "صاحب النص" وعلى أهميته، وهذه كلها من الملامح الأصيلة للحداثة modernism في حين أن ما بعد الحداثة تميل إلى استبعاد المؤلف أو التقليل من أهميته ومن أهمية ذاكرته أو حياته الشخصية، كما تميل إلى تداخل الأزمنة والخلط فيما بينها في نسيج مركب أقرب إلى "الاسكتشات".
ليس هذا فقط بل إن وجود المؤلف، صاحب النص والرؤية، يرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة استدعاء الذاكرة، وتصفية الحساب مع الماضي، في محاولة لفهم ما حدث في الماضي، وكيف كان ممكنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه: على الصعيد الشخصي السينمائي يعيش واقعه داخل فلسطين المحتلة بكل ما يحيطه من مظاهر "اغتراب" يعبر عنها ويعكسها في فيلمه ببراعة، أو على الصعيد العام: الانتقال من تراجع إلى آخر، ومن اشتداد في القسوة يؤدي إلى مزيد من التهميش والاغتراب دون القدرة على الفعل لأنه محكوم عليه بالهزيمة أمام قوة بطش ليس لها مثيل في التاريخ بل إنها تبدو كما لو كانت قوة "من خارج التاريخ" لا يصلح معها بالتالي التعامل بالمنطق القائم بل بخلق واقع آخر هو أقرب إلى الحلم.
يتبع إيليا سليمان في فيلمه أسلوبا "حداثيا" modernist في تصوير ما يمكن وقوعه في الواقع ولكن مع بعض المبالغة أو التضخيم مثل مشهد الدبابة التي تتابع شابا فلسطينيا يخرج من بيته لالقاء كيس القمامة. صحيح أن التناقض بين الدبابة الضخمة ومدفعها الطويل، والشاب الضئيل الحجم وكيس القمامة التافه الشأن قد يثير السخرية والضحك، ولكن هذا أيضا ليس فقط قابلا للحدوث، بل إن مشاهد من هذا النوع حدثت أمام كاميرات التليفزيون وعلى الهواء مباشرة دون أن تثير أي ضحكات بالطبع لأنها تبدأ ثم تنتهي عادة نهاية دموية.
إذن هناك استبعاد لفكرة تصوير ما لا يمكن تصور وقوعه (وهو عنصر أساسي في سينما ما بعد الحداثة).
الزمن والماضي
ثالثا: إن سياق الصور والمشاهد وطريقة تركيبها معا ينتقل في الزمن تدريجيا، هو سياق ينشد مخاطبة العقل، ودعوة المشاهد إلى التأمل والتفكير، فهو لا يعتمد على العبث من أجل العبث بل يعتمد منهج التغريب من أجل التقريب كما عند بريخت، ولم يكن مسرح بريخت بأي معيار مسرحا ما بعد حداثي بل حداثي تماما لأنه لم يكن انقلابا على العقل بل محاولة لفهم التاريخ (أي الماضي والحاضر معا) من مقياس العقل والتأمل والإحساس بالمتعة الفنية الكامنة في البنية الداخلية للعمل الفني في الوقت نفسه.
رابعا: يمكن القول إن فيلم "الزمن الباقي" لا يقدم الماضي من خلال أي نظرة "نوستالجية" أي تعكس الحنين إلى ذلك الماضي، كما تميل أعمال ما بعد الحداثة عموما، بل الهدف من تقديم الماضي هنا هو فهم الوضع الذي وصلنا إليه في الحاضر، وليس التطلع بحنين إلى ما كنا عليه، بل التأكيد على استمرارية الدوران الجهنمي لعجلة التاريخ في اتجاه تكريس الظلم وتوسيع نطاقه، وفقدان القدرة على مواجهته بالقرارات والشعارات الفارغة طول الوقت، بحيث نصل إلى تلك الحالة "العبثية" التي يصورها إيليا سليمان حسب رؤيته الشخصية للحالة الفلسطينية التي تتلخص في: العجز، الدوران في نفس الحلقة، الصمت والانتظار، شيخوخة الذاكرة، ممارسة لعبة الكر والفر مع الطرف الآخر، الحلم بالقفز فوق الحاجز "المادي تماما" بطريقة سحرية، مثل الحلم بعبور نقطة التفتيش الإسرائيلية بل وتفجيرها تماما بقوة المرأة وفتنتها، أو تدمير دبابة إسرائيلية بقذفها ببذرة المشمش، أو التصدي لآلة الحرب الإسرائيلية الهائلة بقوة العدالة الإلهية التي تنزل فارسة جبارة من السماء في فيلم "يد إلهية".
وعلى الرغم من وجود المخرج- البطل- المؤلف حاضرا في الكثير من مشاهد الفيلم، يتطلع، ويراقب، ويتأمل، فليس المقصود هنا تجسيد فكرة "التلصص" التي تعد أساسا جوهريا أيضا في سينما ما بعد الحداثة، بالمعنى الحسي المباشر أي التلصص على ممارسة الجنس مثلا أي اقتحام المحرم وتصويره والفرجة عليه بعد تصويره سرا، أو تصوير الجنس بشكل جريء مقتحم صريح.
إن "تطلع"- وليس "تلصص" إيليا سليمان هنا، يجسد كما أشرت، الوجود المادي لصاحب الرؤية السينمائية (كمرادف لصاحب النص في الأدب) ويؤكد عليه كشاهد على مسار التاريخ طوال ستين عاما أي منذ مولده في عام "النكبة" نفسها 1948.
ثالثا: إن سياق الصور والمشاهد وطريقة تركيبها معا ينتقل في الزمن تدريجيا، هو سياق ينشد مخاطبة العقل، ودعوة المشاهد إلى التأمل والتفكير، فهو لا يعتمد على العبث من أجل العبث بل يعتمد منهج التغريب من أجل التقريب كما عند بريخت، ولم يكن مسرح بريخت بأي معيار مسرحا ما بعد حداثي بل حداثي تماما لأنه لم يكن انقلابا على العقل بل محاولة لفهم التاريخ (أي الماضي والحاضر معا) من مقياس العقل والتأمل والإحساس بالمتعة الفنية الكامنة في البنية الداخلية للعمل الفني في الوقت نفسه.
رابعا: يمكن القول إن فيلم "الزمن الباقي" لا يقدم الماضي من خلال أي نظرة "نوستالجية" أي تعكس الحنين إلى ذلك الماضي، كما تميل أعمال ما بعد الحداثة عموما، بل الهدف من تقديم الماضي هنا هو فهم الوضع الذي وصلنا إليه في الحاضر، وليس التطلع بحنين إلى ما كنا عليه، بل التأكيد على استمرارية الدوران الجهنمي لعجلة التاريخ في اتجاه تكريس الظلم وتوسيع نطاقه، وفقدان القدرة على مواجهته بالقرارات والشعارات الفارغة طول الوقت، بحيث نصل إلى تلك الحالة "العبثية" التي يصورها إيليا سليمان حسب رؤيته الشخصية للحالة الفلسطينية التي تتلخص في: العجز، الدوران في نفس الحلقة، الصمت والانتظار، شيخوخة الذاكرة، ممارسة لعبة الكر والفر مع الطرف الآخر، الحلم بالقفز فوق الحاجز "المادي تماما" بطريقة سحرية، مثل الحلم بعبور نقطة التفتيش الإسرائيلية بل وتفجيرها تماما بقوة المرأة وفتنتها، أو تدمير دبابة إسرائيلية بقذفها ببذرة المشمش، أو التصدي لآلة الحرب الإسرائيلية الهائلة بقوة العدالة الإلهية التي تنزل فارسة جبارة من السماء في فيلم "يد إلهية".
وعلى الرغم من وجود المخرج- البطل- المؤلف حاضرا في الكثير من مشاهد الفيلم، يتطلع، ويراقب، ويتأمل، فليس المقصود هنا تجسيد فكرة "التلصص" التي تعد أساسا جوهريا أيضا في سينما ما بعد الحداثة، بالمعنى الحسي المباشر أي التلصص على ممارسة الجنس مثلا أي اقتحام المحرم وتصويره والفرجة عليه بعد تصويره سرا، أو تصوير الجنس بشكل جريء مقتحم صريح.
إن "تطلع"- وليس "تلصص" إيليا سليمان هنا، يجسد كما أشرت، الوجود المادي لصاحب الرؤية السينمائية (كمرادف لصاحب النص في الأدب) ويؤكد عليه كشاهد على مسار التاريخ طوال ستين عاما أي منذ مولده في عام "النكبة" نفسها 1948.
اختلاط الأساليب
ويغيب عن الفيلم أيضا ما يعرف في سينما ما بعد الحداثة باختلاط الأساليب والرؤي الفنية، وهو ما يطلق عليه منظرو ما بعد الحداثة pastiche أي المزج بين الأساليب مثل الكوميديا والدراما النفسية وأسلوب الفيلم الرومانسي والفيلم الموسيقي.. إلخ
هذا الانتقال الحر بين الأساليب الفنية في سينما ما بعد الحداثة يميل إلى تحرير السينمائي من التقيد بأسلوب أو منهج ما محدد في التعامل مع مادته، اتساقا مع التحرر من المفهوم "الأيديولوجي" الواحد في سينما الحداثة عموما، ومن فكرة الخضوع للشكل. ويظل هذا الطرح عموما طرحا نظريا، يتطور باستمرار ولا يمكن تصور أنه أصبح مغلقا غير قابل للمراجعة بل إن أساس فكر ما بعد الحداثة هو التطور المستمر والتعديل والتبديل والتداخل بل والانتقال ما بين مفردات الحداثة وما بعدها في نسيج فني واحد.
في فيلم "الزمن الباقي" هناك حقا نزعة إلى المبالغة الكاريكاتورية في تقديم الشخصيات والأحداث، هذه النزعة تتصاعد مع المضي في الزمن، أي أن الفيلم يبدأ بشكل واقعي ثم يميل في صعوده زمنيا إلى أسلوب أقرب إلى مسرح العبث، ولكن دون أن يكون هناك خلط وانتقالات متعددة بين أساليب سينمائية مختلفة بدون أي حواجز كما في أفلام أخرى تنتمي مذهبيا لسينما ما بعد الحداثة ربما كان أشهرها مثلا فيلم "برازيل" لتيري جيليام.
إن "الزمن الباقي" ينتقل من أسلوب إلى آخر في النصف الثاني منه، ليس كوسيلة لتحرير الخطاب من تقليديته، والتعبير عن موقف من الحياة يتمثل في رفض وحدة الأسلوب واللغة، بل يعد امتدادا لنفس الرؤية أو الخيال السينمائي داخل الإطار نفسه وهو السخرية من التاريخ ولكن من داخل المنطق التاريخي نفسه، وتصوير "الوجود الإنساني" نفسه باعتباره مأزقا مشتركا، فمأزق الفلسطيني ليس منعزلا هنا عن مأزق الإسرائيلي.
هذا الانتقال الحر بين الأساليب الفنية في سينما ما بعد الحداثة يميل إلى تحرير السينمائي من التقيد بأسلوب أو منهج ما محدد في التعامل مع مادته، اتساقا مع التحرر من المفهوم "الأيديولوجي" الواحد في سينما الحداثة عموما، ومن فكرة الخضوع للشكل. ويظل هذا الطرح عموما طرحا نظريا، يتطور باستمرار ولا يمكن تصور أنه أصبح مغلقا غير قابل للمراجعة بل إن أساس فكر ما بعد الحداثة هو التطور المستمر والتعديل والتبديل والتداخل بل والانتقال ما بين مفردات الحداثة وما بعدها في نسيج فني واحد.
في فيلم "الزمن الباقي" هناك حقا نزعة إلى المبالغة الكاريكاتورية في تقديم الشخصيات والأحداث، هذه النزعة تتصاعد مع المضي في الزمن، أي أن الفيلم يبدأ بشكل واقعي ثم يميل في صعوده زمنيا إلى أسلوب أقرب إلى مسرح العبث، ولكن دون أن يكون هناك خلط وانتقالات متعددة بين أساليب سينمائية مختلفة بدون أي حواجز كما في أفلام أخرى تنتمي مذهبيا لسينما ما بعد الحداثة ربما كان أشهرها مثلا فيلم "برازيل" لتيري جيليام.
إن "الزمن الباقي" ينتقل من أسلوب إلى آخر في النصف الثاني منه، ليس كوسيلة لتحرير الخطاب من تقليديته، والتعبير عن موقف من الحياة يتمثل في رفض وحدة الأسلوب واللغة، بل يعد امتدادا لنفس الرؤية أو الخيال السينمائي داخل الإطار نفسه وهو السخرية من التاريخ ولكن من داخل المنطق التاريخي نفسه، وتصوير "الوجود الإنساني" نفسه باعتباره مأزقا مشتركا، فمأزق الفلسطيني ليس منعزلا هنا عن مأزق الإسرائيلي.
سخرية من التاريخ
إن مشهد توقيع وثيقة الاستسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في بلدية الناصرة، يكثف سخرية المخرج من التاريخ: هنا على الطرف الأول رجل دين مسيحي ورجل دين إسلامي، ورئيس البلدية الذي يهرع إلى مكان الاجتماع كل ما يقلقه هو تأمين حياته لذا يرفع له مرافقه علما أبيض من خارج نافذة السيارة. وعلى الطرف الإسرائيلي عسكريون ببزاتهم العسكرية الخشنة يعيشون وهما يصنعونه ويريدون تسجيله في وثيقة تاريخية هو وهم "الانتصار" كما لو كانوا قد خاضوا حربا ضد جيش حقيقي يضارعهم في قوتهم وبأسهم وانتصروا عليه بالقتال في أرض المعركة. إنهم أيضا يصرون على التقاط صورة تذكارية للجميع معا بهذه "المناسبة التاريخية" حسبما يقول الضابط الإسرائيلي. هذه سخرية واضحة من التاريخ من داخله.
ومع امتداد الزمن يتحول الفلسطيني إلى معتقل في بيته: إيليا سليمان يجلس مع والدته في شرفة المسكن، يكتفيان بالتطلع إلى الألعاب النارية بمناسبة حلول العام الجديد.
وعلى الأرض يبدو كلا الطرفين منغمسين في لعبة هزلية تبدو كما لو كانت ممتدة إلى الأبد. لاحظ مثلا المشهد الذي يتناوب فيه الطرفان، الفلسطينيون والإسرائيليون، جذب نقالة يرقد فوقها مصاب فلسطيني داخل مستشفى. هؤلاء يريدون إسعافه بسرعة، وأولئك يريدون اعتقاله. السلاح يحسم الأمر في النهاية ولكن هل يعتبر هذا الحسم خروجا من المأزق أم تعميقا له!
إن مشهد توقيع وثيقة الاستسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في بلدية الناصرة، يكثف سخرية المخرج من التاريخ: هنا على الطرف الأول رجل دين مسيحي ورجل دين إسلامي، ورئيس البلدية الذي يهرع إلى مكان الاجتماع كل ما يقلقه هو تأمين حياته لذا يرفع له مرافقه علما أبيض من خارج نافذة السيارة. وعلى الطرف الإسرائيلي عسكريون ببزاتهم العسكرية الخشنة يعيشون وهما يصنعونه ويريدون تسجيله في وثيقة تاريخية هو وهم "الانتصار" كما لو كانوا قد خاضوا حربا ضد جيش حقيقي يضارعهم في قوتهم وبأسهم وانتصروا عليه بالقتال في أرض المعركة. إنهم أيضا يصرون على التقاط صورة تذكارية للجميع معا بهذه "المناسبة التاريخية" حسبما يقول الضابط الإسرائيلي. هذه سخرية واضحة من التاريخ من داخله.
ومع امتداد الزمن يتحول الفلسطيني إلى معتقل في بيته: إيليا سليمان يجلس مع والدته في شرفة المسكن، يكتفيان بالتطلع إلى الألعاب النارية بمناسبة حلول العام الجديد.
وعلى الأرض يبدو كلا الطرفين منغمسين في لعبة هزلية تبدو كما لو كانت ممتدة إلى الأبد. لاحظ مثلا المشهد الذي يتناوب فيه الطرفان، الفلسطينيون والإسرائيليون، جذب نقالة يرقد فوقها مصاب فلسطيني داخل مستشفى. هؤلاء يريدون إسعافه بسرعة، وأولئك يريدون اعتقاله. السلاح يحسم الأمر في النهاية ولكن هل يعتبر هذا الحسم خروجا من المأزق أم تعميقا له!
التأويل هنا واضح، والموقف أيضا واضح، وهو تأويل عقلاني تماما يحمل رؤية وموقفا سياسيا حتى لو لم يكن المخرج- المؤلف يقصد توصيل معنى مباشرا من خلاله. إنه ذلك "اللهو" الذي يبدو تلقائيا، أو يأتي في إطار "فوضى" بصرية، إلا أنها تلك "الفوضى المنظمة" التي تميز الفن الحداثي.
ولاشك أن رؤية إيليا سليمان الحداثية جدا، هي التي تسبب ما يطلق عليه "قلق التأثر" أو "المدلول المكمل" (حسب دريدا) الذي يرجئ المدلول باستمرار إلى ما لا نهاية. إنه يقترب من عالم ما بعد الحداثة دون أن يلجه بالكامل، بل يكتفي بالتوقف على عتباته، مفضلا الاحتفاظ بقدرته على التأثير والإقلاق حتى من خلال السخرية من التاريخ، ومن الذات، ومن الوعي المدرك.
إن لقطاته الثابتة (التي لا تتحرك فيها الكاميرا) التي يغلب عليها الحجم المتوسط medium shots تبدو الأكثر مناسبة للتأمل، للتفكير، لمراجعة المدرك المتلقى أو الوعي المتراكم وإعادة النظر، ليس فقط في التاريخ المروي، بل في الموقف الإنساني الذاتي أيضا. ولعل في هذا كله تكمن عظمة هذا العمل السينمائي الكبير وأهميته.
ولاشك أن رؤية إيليا سليمان الحداثية جدا، هي التي تسبب ما يطلق عليه "قلق التأثر" أو "المدلول المكمل" (حسب دريدا) الذي يرجئ المدلول باستمرار إلى ما لا نهاية. إنه يقترب من عالم ما بعد الحداثة دون أن يلجه بالكامل، بل يكتفي بالتوقف على عتباته، مفضلا الاحتفاظ بقدرته على التأثير والإقلاق حتى من خلال السخرية من التاريخ، ومن الذات، ومن الوعي المدرك.
إن لقطاته الثابتة (التي لا تتحرك فيها الكاميرا) التي يغلب عليها الحجم المتوسط medium shots تبدو الأكثر مناسبة للتأمل، للتفكير، لمراجعة المدرك المتلقى أو الوعي المتراكم وإعادة النظر، ليس فقط في التاريخ المروي، بل في الموقف الإنساني الذاتي أيضا. ولعل في هذا كله تكمن عظمة هذا العمل السينمائي الكبير وأهميته.
3 comments:
مقال جميل، لدي تعليق قد يكون خروجا عن الموضوع قليلا:
ذكرت فيلم برازيل مثالا لفيلم ما بعد حداثي يه خلط وانتقالات متعددة بين مختلف الأساليب السينمائية... ورغم أنني أوافقك في مسألة الخلط بين الأساليب السينمائية إلا أنني لا أراه فيلما ما بعد حداثيا لأن له رسالة حداثية واضحة - الفيلم يشكل نقد للبيروقراطية، والمجتمع الاستهلاكي وهو متأثر جدا بأجواء رواية أورويل 1984 (وفي نهاية الأمر كلاهما يتحدثان عن موظف يقع في الحب متحديا أعراف النظام لكن يفشل) لكنه لا ينتقد النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي فحسب مثل رواية أورويل (الذي كان شيوعيا خاب أمله بالشيوعية بعد زيارته للاتحاد السوفييتي) بل ينتقد أيضا المجتمع الاستهلاكي وما يسمى بـ corporate america (رغم كونه بريطانيا) والبيروقراطية الخ.... النهاية أيضا مختلفة إذ أن بطل 1984 يدرك خسارته ويقوم النظام بالقضاء على رغبته بالمقاومة بالتعذيب وغسيل الدماغ أما في فيلم برازيل فلا يعلم البطل بأنه خسر بل يعيش في عالم من الأوهام - بحسب إحدى نهايات الفيلم فهنالك نهاية بديلة للسوق الأمريكي.
باختصار فيلم برازيل له نقد واضح لظواهر اجتماعية موجودة وإن كان يعتمد أسلوبا مختلفا... لا أدري ما هي بعد الحداثة تماما لكنني لا أظنها تقدم على مثل هذا النقد للمجتمع.
عزيزي: موضوع ما بعد الحداثة طويل ومتشعب وأحسن ما قرأت فيه لباحث أمريكي (من أصل مصري) مشهور جدا في الولايات المتحدة وأوروبا هو الرائد الحقيقي لتيار ما بعد الحداثة اسمه إيهاب حسن Ihab Hassan يمكنك الرجوع إلى كتاباته وكتبه وهي عديدة. حاولت تبسيط الموضوع وتبيانه من خلال مقال تطبيقي وليس كلاما نظريا متقعرا، لكن تلخيص الأمر في حالة "برازيل" ينحصر في النقاط التالية:
العودة إلى أساليب سينمائية قديمة (مثل الفيلم نوار مثلا)، ويختفي فيه الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل. ترى الباحثة ليندا هتشيون أن "برازيل" ما بعد حداثي لأنه يعيد النظر إلى التاريخ بشكل ساخر، ولأنه يعد محاكاة ساخرة parody لفيلمين شهيرين هما "المدمرة بوتيمكين" لأيزنشتاين، و"حروب النجم" لجورج لوكاش. وكلها كما تلاحظ، تتعلق بالشكل واللغة والأسلوب، وهو ما تطرقت إليه في مقالي المشار إليه مقارنة مع فيلم :الزمن الباقي"، وليس لكونه يحمل رسالة ما أو موقفا فكريا.
بالنسبة لما بعد الحداثة فانا لست مطلعا على الكتابات النقدية في الموضوع وأظن أنه أصلا مصطلح مختلف عليه (فوكو الذي يرى البعض نظريته البنيوية ما بعد حداثية كان قد انتقد الما بعد حداثة) فهو مصطلح ملتبس برأيي. لقد ظننت دوما أن الاهتمام في الشكل/البناء في أدب/سينما ما بعد الحداثة هو محاولة للتعبير عن مضمون ما بعد حداثي بشكل يلائمه... أما المضمون فهو فشل الحداثة وشعور الفرد بالوحدة الخ... سقوط الأيديولوجيات والايمان بعدم قدرة الإنسان معرفة الحقيقة بل كل ما نعرفه هو وجهة نظر ليس إلا الخ... لذا فأي فيلم له رسالة لم أكن أراه ما بعد حداثيا... ربما علي أن أقرأ أكثر عن الموضوع.
إرسال تعليق