اليوم كان يوم العراق في مهرجان كان السينمائي. فيلمان يتناولان موضوع العراق بشكل مباشر وغير مباشر عرضا داخل مسابقة المهرجان.
الأول الفيلم الأمريكي الوحيد في المسابقة "لعبة عادلة" Fair Game للمخرج دوج ليمان Doug Liman بطولة نعومي واطس (فيلمها الثاني في مسابقة كان) وشون بن.
والفيلم الثاني هو الفيلم البريطاني المنتظر "الطريق الأيرلندي" Route Irish لكن لوتش (حائز السعف الذهبية عن "الريح التي تهز الشعير" (2006).
الفيلم الأول "لعبة عادلة" هو فيلم تقليدي ينحو إلى الإثارة بدون نجاح، بسبب تقليديته واحتوائه على الكثير جدا من التفاصيل (المعروفة سلفا لكل من يتابع الأخبار).
إنه فيلم آخر من تلك الأفلام ذات النظرة "الليبرالية" التي تخرج من هوليوود، وكأنها تسعى إلى غسل عار ما يطهى داخل مطبخ السياسة الأمريكية في واشنطن، أو وكأن الجرح العراقي الذي ينزف يوميا بسبب سياسات واشنطن، يمكن تطهيره في هوليوود!
الموضوع يدور حول عميلة المخابرات الأمريكية فاليري بلام (نعومي واطس) التي كشفت السلطات الأمريكية أمرها وحقيقة كونها جاسوسة تعمل في المناطق الخطرة في حين أنها كانت لاتزال تعمل تحت غطاء يخفي شخصيتها الحقيقية. والسبب: أن زوجها، جوزيف ويلسون، الذي ذهب بطلب من السي اي إيه، إلى النيجر للتحري عن حقيقة بيع شحنات من اليورانيوم إلى العراق، وعاد لكي يكشف زيف ادعاءات الرئيس بوش (الإبن) وإدارته خصوصا بعد أن قدم وزير خارجية بوش وقتها كولن باول، صورا لشاحنات زرقاء قال إنها استخدمت في نقل اليورانيوم أثناء خطابه أمام مجلس الأمن واتخذت تلك الذريعة (مع غيرها) مبررا لضرب العراق في 2003، بدعوى أنه يمتلك بالفعل "أسلحة دمار شامل"، وهو الادعاء الذي ثبت زيفه.
ولاشك أن أداء شون بن يبدو واثقا ويعكس حنكة وخبرة، خصوصا وأن الشخصية التي يقوم بها تروق له وتتسق مع قناعاته السياسية الشخصية. لكن طابع الفيلم المثير يبدو مفقودا بسبب غلبة الحوار، والرغبة في تقديم صورة لما يقع على الجانب الآخر نتيجة حماقة السياسة الأمريكية في العراق بعد الغزو عندما يتعرض الفيلم بشكل مباشر إلى اختفاء علماء الذرة الامريكيين رغم تعهد أمريكي سري بحمايتهم ونقلهم إلى الولايات المتحدة، بل وهناك أيضا ذكر لدور "الموساد" في هذا المجال، وهي شجاعة لاشك فيها من فيلم هوليوودي.
ويعبر شون بن في الكثير من مشاهد الفيلم عن احتجاجه على السياسة الرسمية عن طريق الخطب الرنانة، والكلمات التي تتضمن الكثير من البلاغة اللفظية، والتي تنتهي في النهاية باالتعبير النمطي المألوف "بارك الله في أمريكا"!
جدير بالذكر أن الممثل المصري خالد النبوي يلعب بكفاءة، دور عالم عراقي يعمل في وكالة الأبحاث النووية، تحاول فاليري الحصول منه على معلومات عن البرنامج النووي العراقي، بأن ترسل إليه في بغداد، شقيقته، وهي طبيبة مقيمة في الولايات المتحدة، فيقول لها مرارا وتكرارا، إن الأمريكيين لاشك أنهم يعلموا أن هذا البرنامج قد دمر بالكامل في 1991، لأنهم هم الذين قاموا بتدميره بأنفسهم.
الطريق الأيرلندي
أما الفيلم الثاني "الطريق الأيرلندي" فقد جاء مخيبا للآمال بل كصدمة لي شخصيا، بسبب قناعتي بقدرة مخرجه كن لوتش، على تقديم سينما رفيعة متميزة، لا تعتمد فقط على الخطاب السياسي النقدي العنيف، بل أساسا، على صياغة الموضوع صياغة تعكس الرغبة في طرق أبواب جديدة في التعبير السينمائي، وترتفع بمستوى لغة السرد وأسلوب الإخراج.
أما الفيلم الذي شاهدناه، فلا يتجاوز مستواه، بكل أسف، مستوى الحلقات التليفزيونية المثيرة التي تعرض على شاشة تليفزيون بي بي سي أو آي تي في، خلال أمسيات الجمعة!
نعم هناك جرأة، وانتقادات شديدة توجه إلى شركات الحماية الأمنية الخاصة ودورها في العراق، وتجاوزاتها التي تصل إلى حد ارتكاب جرائم بشعة ضد السكان المدنيين، بدعوى الدفاع عن النفس، في حين أن عمليات إطلاق النار تتم بشكل عشوائي وبدون مبرر. وهذا تحديدا ما حدث، وما شاهده بطل الفيلم الحاضر/ الغائب "فرانكي".
من هو فرانكي؟ هو شاب من شباب مدينة ليفربول، سبق أن خدم مع زملائه في القوات الخاص البريطانية (إس أيه إس) وذهب إلى العراق للعمل لحساب إحدى الشركات الأمنية البريطانية، أو شركة "مقاولات أمنية" كما يطلقون عليها، وهناك في الطريق من المنطقة الخضراء المحصنة في بغداد إلى المطار، الذي يعرف بالطريق الأيرلندي ويعد كما يقال "الأخطر في العالم"، يشاهد فرانكي كيف ينقض حراس من زملائه على سيارة تاكسي فيقتلون ويحرقون كل ما فيها من مدنيين عرقيين دون داع أمني حقيقي. ويصور فرانكي الحادث البشع بكاميرا "الموبيل" الخاص به. ويرسل الموبيل إلى صديقة له إسبانية في ليفربول.
لكن الفيلم الآن يبدأ بعد مقتل فرانكي ووصول جثته إلى ليفربول، ووجود زميله السابق "فيرجس" الذي يكاد عقله يطير بفعل الصدمة، ولا يصدق أبدا أن فرانكي لقى مصرعه في هجوم للمتمردين ويشك في أنه تمت تصفيته عمدا بسبب ما شاهده بل والوثيقة المصورة التي أرسلها إلى ليفربول، خاصة عندما تبعث شركة الأمن الخاص أحد عملائها (وهو نيلسون) إلى ليفربول لاسترداد التليفون المحمول وتدميره، لكن فيرجس يحتجزه ويمارس عليه التعذيب الشديد بالإغراق بالماء كما تعلم في العراق، ويبلغ ذروة جنونه وفقدانه السيطرة على نفسه، في تصوير مرعب لتأثير الحرب على الذين يشاركون فيها. هذا المشهد يستمر ما لا يقل عن 7 دقائق على الشاشة، وتتكرر خلاله عملية التعذيب باسقاط الماء على الفم والأنف، مالا يقل عن عشر مرات، وفضلا عما في ذلك من تعذيب للمشاهدين، فإنه ليس من السينما في شيء، بل الفكرة أدبية فقط يمكن قراؤتها في كتاب. وقد انتهى صاحبنا الذي فقد عقله على أي حال، بقتل الرجل بعد أن جن جنونه تماما. ولكن أصبح السؤال البديهي: وماذا عن عقل كن لوتش؟ كيف سمح لنفسه بتصميم واخراج مشهد من هذا النوع، فاقد الإيقاع والخيال ويفتقر إلى أي درجة من درجات التعبير الفني بسبب مباشرته وسخفه، وما يصيبنا من صداع جراء الصراخ المتكرر باستخدام نفس الألفاظ طيلة الوقت!
مشكلة هذا الفيلم الرئيسية في رأيي، تكمن في ضعف السيناريو، وافتقاده إلى منهج أو أسلوب في السرد يتمتع بالتسلسل والجاذبية، ويبقي عقل المتفرج مستيقظا، وهو ما انعكس أيضا على طريقة الإخراج، فبدا أن لوتش، تعجل العمل، ولم يمنح نفسه وقتا كافيا لاختيار المداخل الملائمة إلى الفيلم وإعادة بناء مشاهده فوق طالة المونتاج (إذا كانت لاتزال هناك طاولات من هذا النوع في عصر المونتاج الرقمي!).
على الشاشة، رأينا انتقالات غير محسوبة بدقة، من الزمن المضارع (في 2007) إلى الماضي القريب في العراق، ثم التركيز كثيرا، على مشاهد تدور داخل ديكورات مغلقة، ومن خلال هستيريا الصراخ والشتائم بين فيرجس من ناحية، وممثلي الشركة الأمنية من ناحية أخرى، ثم بينه وبين زملائه، وبينه وبين أرملة صديقه المتوفي، وأخيرا، بينه وبين كل من بالفيلم من شخصيات، ثم بينه وبين نفسه أيضا. والعبرة عادة في تصوير مثل هذا النوع من الشخصيات، بالاقتصاد والإشارة والإيجاز، وليس بالاستطرادات والثرثرة، والإطالة في المشاهد، والافتعال الذي يصل إلى درجة "كوميدية" في تبادل الشتائم باستخدام كلمة واحدة تتكرر بين كل كلمة وأخرى عبر الفيلم كله هي كلمة fucking التي لا يسهل ترجمتها. والمضحك مثلا أن فيرجس يقول صارخا: إن نيلسون- فاكنج fucking- قال لي هذا وذاك. ثم يستدرك ويعيد العبارة على النحو التالي: إن فاكنج fucking نيلسون قال لي كذا وكذا!
فيلم سطحي، يخلو من التأمل والعمق، كما يفتقد إلى المنطق الدرامي السليم، فما الدافع الذي يجعل فيرجس (الذي يبدو الأشد تأثرا بموت فرانكي) ينتهر أول فرصة لكي يضاجع أرملته الشابة الحسناء، حتى لو كان يحبها منذ زمن وسجل اسمها بالوشم على كتفه؟
الذوق السليم لا يجعل مثل هذا المشهد يحدث في مثل هذه اللحظة المشحونة بالتوتر، إلا إذا كان الجنس هنا مجرد وسيلة للتخلص من التوتر عند الإثنين، وإذن نصبح هنا أمام شخصيتين حيوانيتين تفتقدان الحس الإنساني الحقيقي!
أما على الصعيد الأهم، فربما يكمن الضعف في تلك الحبكة التي تقوم على جعل فيلم الفيديو المسجل على تليفون محمول، وجعلها المدخل إلى الدراما والعنف والعنف المضاد، فقد شعرت بأنه مدخل ضعيف لا يحمل فيلما، حتى لو كان مجرد مبرر لتصوير انعكاسات الحرب على الأفراد.
فيلم "الطريق الأيرلندي" هو أضعف أفلام مخرجه منذ سنوات طويلة، وسيكون أيضا أقلها حظا في اختباره الجماهيري عندما يعرض في بلاده، رغم ما حصل عليه من تصفيق من جانب الجمهور الفرنسي في عرضه العام في كان، فهذا الجمهور، معروف عنه تاريخيا، ولعه بالأفلام البريطانية، وبأفلام لوتش، المتمرد منذ ظهوره، على المؤسسة البريطانية الرسمية، ولذلك فهو أقرب إلى عقلية مثقف فرنسي، منه إلى مثقف "إنجليزي" على نحو أو آخر.. ربما!
4 comments:
نسبة قليلة جدا -تكاد تكون منعدمة- من أفلام هوليوود تختلف عن النمط السائد ، من حيث الاتجاه السياسي أو شكل العرب في الأفلام بشكل عام..
فحتى لو كان المبدع مختلفا مع السياسة الأمريكية فلن يُسمح له بانتاج فيلم جيد عن قناعاته المخالفة للرأي العام الأمريكي ..
ربما كان الأمر مختلفا قليلا في السينما الأوروبية ولكن تبقى ماكينة الاعلام الصهيوني هي المسيطرة على شركات الانتاج..
ولكن حتى الآن لم أرَ فيلما يظهر العرب والمسلمين بصورة جيدة في السينما الغربية اللهم إلا أفلام مصطفى العقاد !
وفي النهاية آسف على الاطالة ، وشكرا على العرض المتميز أستاذ أمير
تحياتي
عزيزى الأستاذ امير
من الواضح عدم الرضا عن المستوى العام لأفلام المسابقة التى اعتبرتها الأضعف منذ عشرين عاما . ألا يحتمل أن تكون المشكلة فى سقف التوقعات المسبق ؟ وما هى أقوى الدورات السابقة من وجهة نظرك حتى نتمثل المقارنة ؟
مع خاص التحية لجهدكم المعتبر فى التغطية والتعليق
اشكرك جدا يا أستاذ أمير على اليوميات الرائعة
متابع بشغف
ردا على الصديق محمود الذي يسأل عن الدورات القوية أحيله إلى دورة العام الماضي نموذجا على واحدة من أقوى وأجمل دورا كان منذ أن بدأت أتردد عليه.. منافسة حقيقية بين عدد من المواهب، وبروز أكثر من تحفة. راجع في هذا الموقع نفسه تغطية كان العام الماضي.
إرسال تعليق