من الأفلام المغربية التي أتيح لي مشاهدتها في مهرجان تطوان السينمائي الأخير فيلم "خربوشة" عن سيناريو الزميل والصديق الناقد السينمائي خالد الخضري مع شقيقه عبد الباسط الخضري، وأول أفلام المخرج حميد الزوغي.
هذا الفيلم يدور أساسا حول شخصية المغنية الشعبية والشاعرة "حادة الزيدية" التي تحدت القائد أو الحاكم المستبد الطاغية في التاريخ المغربي الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وجعلت سلاحها الوحيد في مواجهة بطشه هو الكلمة والغناء. وقد عرفت أشعار حادة، أو "خربوشة"، بالعيطة، وهو نوع من الغناء التحريضي المشوب بنغمة حزينة، فقد قتل الطاغية المستبد كل أفراد أسرتها ونجت هي لكي تحقق انتقامها وتصبح سلاح الضعفاء في مواجهة الاستبداد، وذلك كله في اطار الصراع القبلي الذي كان سائدا في تلك الفترة قبل تأسيس المغرب كدولة حديثة.
هناك جانب "أسطوري" لاشك فيه، في حكاية "خربوشة"، رغم أنها رواية حقيقية. وقد تطورت الأسطورة واستقرت في ضمائر المنشدين والمغنين من الأدب الشعبي أو الشفوي المغربي، عبر العصور، لأن الشخصية المتمردة هنا التي تمكنت من قهر القائد الظالم وتحطيمه نفسيا وأصبحت رمزا للبطولة هي شخصية امرأة.
وهو يحاول إسكاتها بشتى الطرق: بالتهديد والوعيد والإيذاء والاعتقال، ثم لا يجد سوى سلاح القهر الذي يستخدمه الرجل ضد المرأة في مجتمعات القبيلة، أي بالزواج كوسيلة للإخضاع. فيعرض عليها القائد عيسى بن عمر أن تتزوجه، لكي يضمن بالتالي سكوتها بعد أن تصبح حريصة على مصالح القبيلة التي تندمج فيها. لكنها توافق، بينما تخفي بالطبع "أجندتها" الخاصة، وهي تحطيمه وفضحه على الملأ من منابر السلطة.
لا تكف خربوشة عن الغناء، وتبتكر كلمات جديدة تتسق مع التطور الذي وقع لها، وتصر على المضي قدما في فضح "الزوج" الديكتاتور أمام الأعيان والكبراء، وتهينه بل وتحرض على الثورة ضده.
وفي النهاية لا يجد "القائد" سوى أن يأمر بدفنها حية، فيقوم رجاله بوضعها داخل فجوة في جدار ثم يشيدون جدارا عازلا آخر حولها لكي تلقى مصيرها، اختناقا على الأغلب كما حدث في الرواية الحقيقية. لكن الثورة تكون قد قامت ضد الحاكم المستبد، وجاء وقت سقوطه في نفس اللحظة التي تدفع هي حياتها ثمنا لشجاعتها وجرأتها لكنها تفقد حياتها وتكون قد تحولت بالفعل إلى أسطورة حية ملهمة في أوساط الناس، وتظل الأجيال تتناقلها.
هذا الموضوع الشائك ذو الدلالات المعاصرة الجريئة كان يقتضي معالجة تستنهض الطاقة الشعرية الكامنة في الكلمات والأشعار، في المعاني والأفكار، وتحركها وتجسدها في صور ولقطات، يختلط فيها الحلم بالواقع ربما، والحقيقة بالأسطورة، ويضفي عليها السيناريو وأسلوب ولغة الإخراج نوعا من الشاعرية والرونق الداخلي.
أما ما شاهدناه، سواء من خلال المعالجة الدرامية أم الإخراج، فهو شيء أقرب إلى أسلوب المسلسلات التليفزيونية التقليدية: الأداء المسرحي الساكن، اللقطات الطويلة، الاعتماد على الحوارات الطويلة في شرح الأحداث، الدوران حول الفكرة، التركيز على ما يحدث على مستوى البنية العليا وإهمال ما يقع هناك، على الجانب الآخر، على مستوى البنية السفلى، أي على مستوى الناس، أصحاب المصلحة الحقيقية، والشركاء الطبيعيين لخربوشة في تمردها.
هناك دون أدنى شك، جهد كبير واضح في إدارة التصوير في المواقع الطبيعية، ومطابقة جيدة للكثير من الأجواء التي كانت سائدة في تلك الفترة، وتحكم كبير في أداء الممثلين وعلى الأخص الممثل الذي قام بدور القائد عيسى (عباس كمال) رغم أنني لن أنبهر بأداء الممثلة هدى صدقي الذي وجدته نمطيا وعلى وتيرة واحدة ووجدتها تميل أيضا إلى المبالغة المسرحية رغم حصولها على جائزة التمثيل في مهرجان الفيلم المغربي في طنجة.
وهناك أيضا اهتمام بتوزيع الإضاءة وبتصميم الملابس وخلق التكوينات الموحية. لكن الفيلم، الذي يسير في قالب تقليدي، لا يتجاوز كثيرا، رغم مما بذل فيه من جهد، الطابع المسرحي في الحركة والأداء والاعتماد الأساسي في توصيل الفكرة على الحوار. وبدا الفيلم أيضا خطابيا زاعقا يخلو من اللحظات الشعرية المكثفة التي توحي أكثر مما تشرح أو تفسر.
لهذا كله جاء فيلم "خربوشة" رغم شجاعته، فيلما فاقدا لروح الأسطورة، بينما هو يعتمد اعتمادا أساسيا على شخصية أسطورية رغم واقعيتها، وعلى الرغم من حقيقة أنها كانت موجودة في الماضي الذي كان.
ربما تكون كلمات الأغاني والأشعار القريبة من روح أشعار "العيطة" قد نجحت في تكثيف المعاني العديدة التي يارد إيصالها إلينا من وراء تجسيد تلك الشخصية بما ترمز إليه. ولكن الفيلم أقل موسيقية بشكل عام مما كان ينتظر من فيلم أساسه اللحن والكلمة الملحونة.
مؤلف الموسيقى أراد تضخيم الشخصية فلجأ إلى الطابع الكلاسيكي الموسيقي الصارخ أحيانا، وأفرط المخرج في استخدامه للموسيقى التصويرية أي المصاحبة للمشاهد عبر أجزاء فيلمه، وأصيب الفيلم أيضا بحالة من الترهل بسبب الإطالة في المشاهد التي تعتمد على الحوارات الطويلة كما أسلفت.
يقول خالد الحضري في كتاب "خربوشة" الذي أصدره عن تجربته في الفيلم وعن الشخصية التي قام بتحقيقها إن "حادة" كانت "امرأة حادة اللسان زائدة الذكاء، لم تكن جميلة بقدر ما كانت جريئة صريحة تواجه الظلم والظالم وجها لوجه" كما كانت "شاعرة جعلها دمامة وجهها وقبحه تنزح إلى هذا اللون لتخلق لنفسها فضاء شعريا من خلاله".
وفي رأيي أن الفيلم هنا لم يكن في حاجة إلى الالتزام الحرفي بحقيقة أنها كانت "دميمة" أو غير جميلة، بل كان من الأفضل كثيرا للمشاهد أن تكون خربوشة شخصية محببة رقيقة تتمتع بالجمال والسحر العامض الذي يليق حقا بصورة "الأسطورة".. فالصوت الجميل والكلمات المعبرة الموحية التي لاشك أن خالد الخضري اجتهد في صياغتها، لا تكفي وحدها في السينما.
هذا الفيلم يدور أساسا حول شخصية المغنية الشعبية والشاعرة "حادة الزيدية" التي تحدت القائد أو الحاكم المستبد الطاغية في التاريخ المغربي الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وجعلت سلاحها الوحيد في مواجهة بطشه هو الكلمة والغناء. وقد عرفت أشعار حادة، أو "خربوشة"، بالعيطة، وهو نوع من الغناء التحريضي المشوب بنغمة حزينة، فقد قتل الطاغية المستبد كل أفراد أسرتها ونجت هي لكي تحقق انتقامها وتصبح سلاح الضعفاء في مواجهة الاستبداد، وذلك كله في اطار الصراع القبلي الذي كان سائدا في تلك الفترة قبل تأسيس المغرب كدولة حديثة.
هناك جانب "أسطوري" لاشك فيه، في حكاية "خربوشة"، رغم أنها رواية حقيقية. وقد تطورت الأسطورة واستقرت في ضمائر المنشدين والمغنين من الأدب الشعبي أو الشفوي المغربي، عبر العصور، لأن الشخصية المتمردة هنا التي تمكنت من قهر القائد الظالم وتحطيمه نفسيا وأصبحت رمزا للبطولة هي شخصية امرأة.
وهو يحاول إسكاتها بشتى الطرق: بالتهديد والوعيد والإيذاء والاعتقال، ثم لا يجد سوى سلاح القهر الذي يستخدمه الرجل ضد المرأة في مجتمعات القبيلة، أي بالزواج كوسيلة للإخضاع. فيعرض عليها القائد عيسى بن عمر أن تتزوجه، لكي يضمن بالتالي سكوتها بعد أن تصبح حريصة على مصالح القبيلة التي تندمج فيها. لكنها توافق، بينما تخفي بالطبع "أجندتها" الخاصة، وهي تحطيمه وفضحه على الملأ من منابر السلطة.
لا تكف خربوشة عن الغناء، وتبتكر كلمات جديدة تتسق مع التطور الذي وقع لها، وتصر على المضي قدما في فضح "الزوج" الديكتاتور أمام الأعيان والكبراء، وتهينه بل وتحرض على الثورة ضده.
وفي النهاية لا يجد "القائد" سوى أن يأمر بدفنها حية، فيقوم رجاله بوضعها داخل فجوة في جدار ثم يشيدون جدارا عازلا آخر حولها لكي تلقى مصيرها، اختناقا على الأغلب كما حدث في الرواية الحقيقية. لكن الثورة تكون قد قامت ضد الحاكم المستبد، وجاء وقت سقوطه في نفس اللحظة التي تدفع هي حياتها ثمنا لشجاعتها وجرأتها لكنها تفقد حياتها وتكون قد تحولت بالفعل إلى أسطورة حية ملهمة في أوساط الناس، وتظل الأجيال تتناقلها.
هذا الموضوع الشائك ذو الدلالات المعاصرة الجريئة كان يقتضي معالجة تستنهض الطاقة الشعرية الكامنة في الكلمات والأشعار، في المعاني والأفكار، وتحركها وتجسدها في صور ولقطات، يختلط فيها الحلم بالواقع ربما، والحقيقة بالأسطورة، ويضفي عليها السيناريو وأسلوب ولغة الإخراج نوعا من الشاعرية والرونق الداخلي.
أما ما شاهدناه، سواء من خلال المعالجة الدرامية أم الإخراج، فهو شيء أقرب إلى أسلوب المسلسلات التليفزيونية التقليدية: الأداء المسرحي الساكن، اللقطات الطويلة، الاعتماد على الحوارات الطويلة في شرح الأحداث، الدوران حول الفكرة، التركيز على ما يحدث على مستوى البنية العليا وإهمال ما يقع هناك، على الجانب الآخر، على مستوى البنية السفلى، أي على مستوى الناس، أصحاب المصلحة الحقيقية، والشركاء الطبيعيين لخربوشة في تمردها.
هناك دون أدنى شك، جهد كبير واضح في إدارة التصوير في المواقع الطبيعية، ومطابقة جيدة للكثير من الأجواء التي كانت سائدة في تلك الفترة، وتحكم كبير في أداء الممثلين وعلى الأخص الممثل الذي قام بدور القائد عيسى (عباس كمال) رغم أنني لن أنبهر بأداء الممثلة هدى صدقي الذي وجدته نمطيا وعلى وتيرة واحدة ووجدتها تميل أيضا إلى المبالغة المسرحية رغم حصولها على جائزة التمثيل في مهرجان الفيلم المغربي في طنجة.
وهناك أيضا اهتمام بتوزيع الإضاءة وبتصميم الملابس وخلق التكوينات الموحية. لكن الفيلم، الذي يسير في قالب تقليدي، لا يتجاوز كثيرا، رغم مما بذل فيه من جهد، الطابع المسرحي في الحركة والأداء والاعتماد الأساسي في توصيل الفكرة على الحوار. وبدا الفيلم أيضا خطابيا زاعقا يخلو من اللحظات الشعرية المكثفة التي توحي أكثر مما تشرح أو تفسر.
لهذا كله جاء فيلم "خربوشة" رغم شجاعته، فيلما فاقدا لروح الأسطورة، بينما هو يعتمد اعتمادا أساسيا على شخصية أسطورية رغم واقعيتها، وعلى الرغم من حقيقة أنها كانت موجودة في الماضي الذي كان.
ربما تكون كلمات الأغاني والأشعار القريبة من روح أشعار "العيطة" قد نجحت في تكثيف المعاني العديدة التي يارد إيصالها إلينا من وراء تجسيد تلك الشخصية بما ترمز إليه. ولكن الفيلم أقل موسيقية بشكل عام مما كان ينتظر من فيلم أساسه اللحن والكلمة الملحونة.
مؤلف الموسيقى أراد تضخيم الشخصية فلجأ إلى الطابع الكلاسيكي الموسيقي الصارخ أحيانا، وأفرط المخرج في استخدامه للموسيقى التصويرية أي المصاحبة للمشاهد عبر أجزاء فيلمه، وأصيب الفيلم أيضا بحالة من الترهل بسبب الإطالة في المشاهد التي تعتمد على الحوارات الطويلة كما أسلفت.
يقول خالد الحضري في كتاب "خربوشة" الذي أصدره عن تجربته في الفيلم وعن الشخصية التي قام بتحقيقها إن "حادة" كانت "امرأة حادة اللسان زائدة الذكاء، لم تكن جميلة بقدر ما كانت جريئة صريحة تواجه الظلم والظالم وجها لوجه" كما كانت "شاعرة جعلها دمامة وجهها وقبحه تنزح إلى هذا اللون لتخلق لنفسها فضاء شعريا من خلاله".
وفي رأيي أن الفيلم هنا لم يكن في حاجة إلى الالتزام الحرفي بحقيقة أنها كانت "دميمة" أو غير جميلة، بل كان من الأفضل كثيرا للمشاهد أن تكون خربوشة شخصية محببة رقيقة تتمتع بالجمال والسحر العامض الذي يليق حقا بصورة "الأسطورة".. فالصوت الجميل والكلمات المعبرة الموحية التي لاشك أن خالد الخضري اجتهد في صياغتها، لا تكفي وحدها في السينما.
((بهذا المقال عن فيلم "خربوشة" أتوقف مؤقتا عن تناول مجموعة الأفلام المصرية والمغربية التي وعدت بتقديمها لقراء هذه المدونة، وأنتقل للتركيز على الحدث الأهم الذي سيفرض نفسه علينا خلال الفترة القادمة أي مهرجان كان السينمائي الذي أنتقل إليه يوم 12 مايو الجاري والذي سيفتتح رسميا في اليوم التالي 13 مايو.. أي الأربعاء القادم فإلى اللقاء، وفي انتظار تعليقاتكم ورسائلكم - أمير العمري)).
4 comments:
السلام عليكم
لا أتذكر جيدا لكن أظن أنني شاهدت الفيلم سابقا ، وكما أتذكر فإن جودة الفيلم الفنية لم تكن في المستوى بعكس الجانب الموضوعي .
أتمنى لك أستاذي من كل قلبي أن توفق في مشاركتك في مهرجان كان العالمي ، ونحن كما كنا ولازلنا نفتخر بك أينما حللت وارتحلت .
رحلة سعيدة ولا تنسانى بمواضيعك الشيقة عندما تصل هناك ، و Bon voyage
شكرا يااحمد على التواصل الجميل مع ما أكتبه.. سأحاول كتابة يوميات كالمعتاد من كان في هذه المدونة رغم ضيق الوقت..
لمتابعة فلم خربوشة عرض مباشر على الرابط التالي و فرجة ممتعة
http://azeroual.jeeran.com/23/archive/2010/9/1271506.html
film zwin bezaf
إرسال تعليق