السبت، 31 يناير 2009

ذاكرة السينما والتاريخ في روتردام



عودة رائد السينما التشيكية الجديدة - القديمة


من أهم "الأحداث" السينمائية هنا في مهرجان روتردام السينمائي هذا العام عرض الفيلم التشيكي "فتاة دينو فيراري" The Ferrari Dino Girl (لا أدري لماذا أصبح المخرجون الكبار يفضلون إطلاق أسماء طرز سيارات شهيرة قديمة على أفلامهم فقد أطلق كلينت إيستوود على أحدث أفلامه كمخرج اسم "جران تورينو" Gran Torino).
أما "فتاة الفيراري" فهو فيلم غير خيالي non- fiction للمخرج الأسطور التشيكي يان نيمتش Jan Nemec الذي اعتبر رائدا حقيقيا للسينما التشيكية الجديدة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي متأثرة بالموجة الجديدة الفرنسية، وكانت تقدم أفكارا شديدة الجرأة، شكلا ومضمونا- وتسبح ضد التيار السائد في السينما الذي عرف باسم "الواقعية الاشتراكية".
الحفل الضيوف
كان نيمتش صاحب فيلم "تقرير عن الحفل والضيوف" O slavnosti a hostech الذي اعتبر من أكثر الأفلام التشيكية نقدا للستالينية، بل وكانت الشخصية الرئيسية فيه ترمز إلى لينين نفسه.
وقد ظهر الفيلم عام 1966 أي قبل عامين من "ربيع براغ" أي تلك الحركة التي تزعمها الأمين العام للحزب الشيوعي نفسه الكسندر دوبتشك لتجديد الاشتراكية وجعلها ديمقراطية شعبية عن حق، والاستجابة لمطالب النخبة في ضرورة إتاحة حرية الفكر والنقد والانتقال.
وكانت أساسا حركة مثقفين لاقت تأييدا كبيرا وانتهت كما هو معروف تاريخيا، بدخول قوات حلف وارسو العاصمة التشيكية براغ، وإخماد الحركة واعتقال زعمائها وإعادة النظام القديم، فقد كانت نظرة الكرملين أنها "ثورة مضادة" يجب قمعها كما فعلوا في المجر عام 1956.
يان نيمتش من مواليد 1936 أي أنه كان في الثلاثين من عمره وهو يتألق ويقدم تحفته السينمائية "تقرير عن الحفل والضيوف" لكنه حاضر في روتردام بفيلمه الأحدث (يقول هو إنه قد يكون الأخير فالرجل يعاني من تدهور في حالته الصحة وقد أجرى جراحتين في الفترة الأخيرة، وبالتالي غاب بشخصه عن المهرجان وحضر بتاريخه وفيلمه).
الغزو السوفيتي
والفيلم يقدم ويروي ويستعرض تفصيلا .. كيف كان نيمتش السينمائي التشيكي الوحيد الذي تجرأ وصور فيلما وثائقيا عن الغزو السوفيتي (أو اقتحام قوات حلف وارسو) عاصمة بلاده.
وكان من أوائل الذين عرفوا بوصول القوات في الرابعة صباحا، وسار مع رفاقه في الشوارع وهم يصيحون بأعلى أصواتهم، ينبهون السكان إلى الخطر القادم، والسكان، كما يروي في الفيلم، ينهروهم باعتبارهم مجموعة من الشباب العابث فلم يكن أحد يتخيل أن موسكو ستجنح إلى على اختيار التدخل العسكري.
يعود نيمتش اليوم في هذا الفيلم، من خلال شخصية مخرج يلعبها ممثل، إلى الأماكن الحقيقية التي صور فيها ومنها الدبابات السوفيتية والناس يتجمهرون حولها، حرق الحافلات، واطلاق الرصاص، محاصرة جسور براغ الشهيرة ومنها أشهر وأعرق جسر في العالم وهو جسر تشارلز أو فاكلاف الذي يعود إلى القرن الرابع عشر (قمت بزيارة براغ مرتين واعتبرها من أجمل مدن أوروبا).
رحلة فيلم
ويروي الفيلم أيضا كيف تم تهريب نيجاتيف الفيلم وتسليمه للتليفزيون النمساوي قبل أن تصبح اللقطات التي صورها نيمتش أشهر اللقطات التي عرضت في العالم كله لدخول القوات إلى براغ. وقد تمكن نيمتش من اخراجها من تشيكوسلوفاكيا مع صديقة له، مشروع ممثلة شقراء برفقة صديق لها، بينما منعته السلطات من الخروج لكنه عاد وتحايل حتى يمر عبر الحدود وقام بنفسه بتسليم الفيلم إلى المسؤول النمساوي ولم يعد نيمتش إلى بلاده إلا عام 1989 بعد سقوط النظام السابق، وعمل وعاش أولا في ألمانيا ثم في الولايات المتحدة.
شخصية الممثلة والصديق يعاد تجسيدهما في الفيلم بممثلة وممثل، ويعود نيمتش إلى المنطقة الحدودية التي شهدت خروجهما، ويروي عن طريق صوت المعلق الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالفترة، ويشرح كيف أنه فشل أولا في إقناع حراس الحدود بأنه إيطالي بعد أن ظل يردد كلمات إيطالية لا معنى لها واضح أنه حفظها من الأفلام، ثم كيف عاد واعترف بأنه تشيكي وقدم لهم جواز سفره.
ويروي أن الجنود السوفيت لم يفهموا شيئا مما حدث وكانوا يتطلعون إلى زملائهم التشيك الذين كان واضحا أنهم متعاطفين مع نيمتش بل إن أحدهم اقل له في النهاية: إن الجمهورية التشيكية ستبقى، وهو ما يدل على اشتعال الروح الوطنية بسبب صدمة الغزو السوفيتي.
مؤخرا فقط تمكن نيمتش من العثور على النسخة السلبية من فيلمه الوثائقي عن اقتحام براغ أو "اغتصاب تشيكوسلوفاكيا" كما يصفه هو. وهو يستخدم ذلك الفيلم القديم داخل الفيلم الجديد ويعرض كامل اللقطات التي اقتنصها بصحبة مصور بارع كان يصور أحيانا من داخل سيارة، وأحيانا في عرض الطريق، وتعرض الاثنان للموت عدة مرات، وكانا يلجآن إلى التصوير من داخل مساكن لا يعرفون أصحابها بل كان نيمتش يدق الباب وتفتح له سيدة مثلا، فيطلب الدخول للتصوير من شرفة مسكنها.. وهكذا.
خفة غير محتملة
لم تكن كاميرا الفيديو قد ظهرت وانتشرت على نحو ما نعرف اليوم، وكان نيمتش قد اتصل بمدير شاب للاستديو السينمائي الذي كان يعمل له وكان بالطبع من القطاع العام أي خاضع للدولة، وطلب منه ارسال مصور مع بعض عُلب الفيلم الخام على الفور، واستقل الاثنان سيارة نيمتش وشرعا في تصوير تلك الأحداث التاريخية الدرامية التي أعاد المخرج الأمريكي فيليب كوفمان تجسيدها في فيلمه الشهير "خفة الكائن غير المحتملة" The Unbearable Lightness of Being المقتبس من راوية للكاتب التشيكي الاصل ميلان كونديرا.
أما الفتاة الشقراء التي حملت نسخة الفيلم في حقيبة وتمكنت من خداع السلطات زاعمة أنها ايطالية الجنسية فقد كانت تقود سيارة فيراري، في حين أن نيمتش، كما يقول في فيلمه الجديد، كان يقود الطبعة الشعبية أي سيارة من نوع فيات.. لعله لايزال يحتفظ بها حتى اليوم!
لقاء مع شابرول
ولعل من أكثر الجوانب طرافة في الفيلم ما يرويه نيمتش عن أنه عندما كان في نيويورك، طلب المخرج الفرنسي الشهير كلود شابرول، وهو أحد رواد الموجة الجديدة مقابلته، وعندما التقيا بادره شابرول بالتساؤل عن الفيلم الوثائقي الذي سمع أنه صوره.. فأخذ نيمتش يروي له تجربته في تصوير الفيلم، فلم يبد أي حماس على شابرول الذي علق قائلا بنوع من الدهشة: ولكن السوفيت على حق فتشيكوسلوفاكيا تابعة لهم.. لقد كسبوها.
وكان رد نيمتش: كلا.. نحن لسنا تابعين لهم. فقال شابرول: لقد جاءت الدبابات عام 1945 لكي تحرر تشيكوسلوفاكيا من النازية.. فرد نيمتش قائلا: لكنهم انسحبوا وتركونا. فعلق شابرول دون يأس: لكنها أصبحت تابعة لهم هم حرروها بالدبابات وبالتالي أصبح هناك قانون الدبابات التي يمكنها أن تحضر في أي وقت.. فما هي المشكلة، تماما كما أصبحت بلدان أخرى تابعة للأمريكيين الذين اكتسبوها بالحرب. هذا قانون المنتصر في الحرب.
بعد برهة قال له شابرول: أنت مخرج موهوب قدمت "تقرير عن الحفل" الذي أعرف أنه كان فيلما جيدا، وأنت تستطيع أن تقدم أفلاما فيها الكثير من الجرأة من خلال خيالك الفني الخصب، فلماذا تشغل نفسك بأفلام وثائقية حول قضايا تحسمها الدبابات سيختلف حولها التاريخ، فضلا عن أن أحدا لا يريد أن يراها!
يعلق نيمتش في الفيلم على عبارة شابرول الأخيرة قائلا: ربما كان شابرول على حق!

الجمعة، 30 يناير 2009

روتردام: إغلاق مجلة سينمائية عظيمة


* مسلسل توقف وإغلاق مجلات السينما المتخصصة في الثقافة السينمائية الرفيعة مستمر مع الإعلان خلال مهرجان روتردام المنعقد حاليا عن توقف إحدى أهم مجلات السينما الأوروبية وهي مجلة "سكرين" Skrien أو الشاشة الهولندية بعد أربعين عاما من الصدور المنتظم شهريا.
وأعلن رئيس تحرير المجلة، أندريه واردين، أن "مجلس الثقافة" الحكومي الذي كان يدعم المجلة ماليا قد أبلغ هيئة التحرير قبل ستة أشهر من احتفالها بعيد ميلادها الأربعين في نوفمبر الماضي، أن الدعم سيتوقف.
هل هذا نتاج للأزمة الاقتصادية العالمية؟ رئيس تحرير "سكرين" يستبعد أن تكون الأزمة هي السبب، ويضيف أن المجلس الحكومي لدعم الثقافة لا يرغب في دعم مشاريع ثقافية بل يفضل الاستثمار في مشاريع تحقق ربحا من الناحية التجارية.
بعد أن أبلغت ادارة المجلة من طرف وزارة الثقافة الهولندية بوقف الدعم اعتبارا من أول يناير الجاري بحثت هيئة التحرير عن جهة أخرى تدعمها لكي تستمر في الوجود لكنهم فشلوا في ذلك.
هذا هو الجانب السيء من الخبر.
أما الجانب الجيد فيتلخص في أن المديرة السابقة لمهرجان روتردام (أجريت معها مقابلة منشورة قبل 3 سنوات) ساندرا دن هامر التي تركت المهرجان لكي تتولى إدارة متحف السينما في أمستردام، تعتزم إصدار مجلة جديدة بعنوان جديد وقد عرضت أن يتعاون طاقم تحرير مجلة "سكرين" مع المجلة الجديدة التي ستصدر على غرار "سايت آند ساوند" التي يصدرها مركز الفيلم البريطاني الذي يحصل على دعم مالي من وزارة الثقافة البريطانية ومهمته الحفاظ على السينما كثقافة وتاريخ، ورعاية دار المحفوظات السينمائية (الأرشيف)، وعرض مختارات من الأعمال السينمائية الفنية على مدار العام من خلال نافذة عروضه في "مسرح الفيلم الوطني".
يقول أندريه واردين إن المجلة السينمائية الجديدة ستصدر اعتبارا من الخريف القادم، وسيتركز اهتمامها أيضا على قضايا السينما الفنية، سينما المؤلف، وتاريخ السينما، وقضايا الثقافة السينمائية والتذوق.
لكنه يعلق بحزن قائلا إن النقاد في هولندا يفقدون وظائفهم، والصحف لم تعد ترحب بالنقد بل تفضل الكتابة عن نجوم السينما.. أليس الحال من بعضه كما يقولون!
* سوق الأفلام في روتردام اختتمت أمس، ولوحظ احجام الموزعين البريطانيين الباحثين عن الأفلام الفنية المتميزة عن الدخول في صفقات هنا ، والسبب الأساسي اقتصادي بحت أيضا، أي تدهور قيمة الجنيه الاسترليني أمام العملية الأوروبية (اليورو) وامام الدولار الأمريكي. وهو ما يجعل الأسعار أكثر ارتفاعا عما كانت عليه بكثير في الصيف الماضي قبل أن تلقي الأزمة العالمية بثقلها.

الخميس، 29 يناير 2009

عن الوجود العربي والإيراني في روتردام

من الفيلم الإيراني "كن هادئا وعد إلى سبعة"
انتشال التميمي مع هاني قرط منتج فيلم "المر والرمان" الفلسطيني

الأفلام "العربية" أو الناطقة بالعربية أو التي أخرجها مخرجون من العالم العربي (قل ما تشاء فأنا لم أعد قادرا على استخدام التعبير الصحيح فالأشياء تتغير يوميا) ليست بوفرة ما كان متاحا هنا العام الماضي والأعوام السابقة.
ما السبب؟ هل هي سياسة المدير الجديد للمهرجان روتجر ولفسون؟
الصديق انتشال التميمي المسؤول عن اقتراح واختيار الأفلام العربية ينفي ذلك ويقول إن المدير الجديد لا يتمتع بالخبرة وبالتالي فالأمر في معظمه، في أيدي مجموعة المبرمجين الذين يمكنهم فرض ما يريدونه عليه لأنه مازال يتلمس خطاه.
الاهتمام السياسي كالعادة ينعكس على الاختيارات، فإيران التي اختفت من خريطة معظم المهرجانات أو لم تعد تتمتع بنفس ما كانت تتمتع به من وجود بارز قبل سنوات، عادت بعدد من الأفلام إلى روتردام وإن كانت تعاني من المواهب الحقيقي المتألقة، فقد قضى صاحب التعليقات النارية الرئيس المتشدد محمود أحمدي نجاد، على الانتعاش ومناخ الحرية النسبية الذي كان سائدا خلال سنوات التسعينيات في السينما الإيرانية.
هناك بعض المخرجين ممنوعون من العمل عقابا لهم على ما اقترفت أيديهم.. مثل المخرج الإيراني الكردي الموهوب بهمن قبادي بسبب اخراج فيلمه البديع "نصف القمر" Half Moon
وهناك سينمائيون آخرون فضلوا الرحيل عن إيران كلها والاستقرار في الخارج وعمل أفلامهم هناك، كما فعل أهم السينمائيين الإيرانيين المخرج محسن مخملباف منذ سنوات، الذي صار "مؤسسة" في حد ذاتها مع بناته وأولاده.
والملاحظ أيضا أن مساهمة المخرجات (النساء) في السينما الايرانية قلت كثيرا جدا أو خفتت، والسبب أن أحمدي نجاد يكرس صورة المجتمع الذكوري، الجاد المتجهم، الذي يهدد بأنه سيرد الصاع صاعين، وبالتالي يخفت التعبير النسائي الرقيق بطبعه ويصبح صوته أضعف كثيرا.
وقد كان رأيي ولايزال، أن المرأة في أي مجتمع، أكثر تقدما في أفكارها بكثير، عن الرجل، بل وأكثر استعدادا لتقبل الأفكار الجديدة التي تعيد النظر في الأفكار والمفاهيم السائدة، وهو أمر طبيعي في اعتقادي، بحكم التاريخ الطويل من قهر المجتمع الذكوي للمرأة، تارة باسم القيم والتقاليد، وتارة أخرى باسم المعتقدات الدينية.
لم يشارك فيلم "خلطة فوزية" للمخرج المصري مجدي أحمد علي في المهرجان. وكنت قد سمعت في القاهرة أنه ذاهب بالتأكيد إلى روتردام فقلت لنفسي (إذن ستتاح الفرصة لمشاهدته هناك بعيدا عن المناخ العبثي السائد في القاهرة، وكأنها تشهد المرحلة الأخيرة من عهد كامل بكل ما يعنيه هذا من فوضى حتى في العلاقات الشخصية).
لكن الفيلم لا أثر له هنا. وقد سألت انتشال التميمي الذي أكد لي أنه كان قد اقترح عرض الفيلم وقدم للمهرجان نسخة رقمية (دي في دي) واختير بالفعل في التصفية الأولى، إلا أنهم استبعدوه في التصفية النهائية.
انتشال رأيه أن الفيلم جيد، وأنه لا يقل مستوى عن كثير من الأفلام المعروضة هنا من الشرق والغرب، بل يفوق الكثير منها، ويبدي تعجبه من استبعاده. لكن الرجل ليس أحد المسؤولين عن البرنامج، بل هو فقط يختار ويقترح ويرشد، ولهم القرار، وقراراتهم محسوبة في ضوء الاهتمامات السياسية للجمهور هنا.
وبالتالي كان هناك فيلم يمثل فلسطين، وفيلمان يمثلان لبنان (سياسيان بامتياز حسب التعبير اللبناني السائد في الصحافة والإعلام الذي يذكرني بأيام الدراسة الجامعية.. والحصول على شهادات التخرج بتقدير امتياز!) وفيلم رابع يمثل المغرب، وطبعا الفيلم "التجريبي" المشغول بنوع من المراهقة البصرية "داخل البلاد" الذي يمثل الجزائر رغم ابتعاده الكامل بصريا عن لغة الجزائر، وجماليات الحياة والواقع وايقاع البشر في الجزائر التي قضيت فيها نحو أربع سنوات من حياتي وأعرفها جيدا.
أخيرا.. يبدو أن الأزمة الاقتصادية الضاربة بأطنابها في حياتنا وحياة الأوروبيين، ستنعكس على مهرجان الفيلم العربي الذي يقام سنويا في روتردام، فقد سمعت أن الدعم الذي كان يحصل عليه المهرجان من السلطات المحلية (وقدره 75 ألف يورو) سوف يتوقف هذا العام. وسمعت أيضا أن مدير المهرجان والمؤسسة التي تتبناه يسعيان حاليا إلى القيام بنشاط آخر للإنفاق من دخله على المهرجان.."نشاط ثقافي"، وإن كان أمر هذا النشاط الثقافي الذي يمكن أن يحقق دخلا يظل لغزا بالنسبة لي!

نقاد الرقص مع بشير


كوني موجودا في روتردام لا يعني أنني لا أتابع ما يجري هنا وهناك، فقد ضحكت كثيرا على الفتوى التي أصدرها أخيرا أحد شيوخ النقد السينمائي عندما قال إن فيلم "الرقص مع بشير" الإسرائيلي رشح لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي ليس لأنه إسرائيلي بل لأنه القائمين على جوائز الأوسكار في هوليوود من دعاة السلام.
وياله من اكتشاف يجب أن تهتز له الأرض بالفعل. صناع السينما في هوليوود من دعاة السلام؟
لابد أن نكون نحن من دعاة الحرب إذن!
هوليوود في أعلى مستوياتها معروفة باعتبارها جيبا رجعيا شديد التخلف والجمود فيما يتعلق بموضوع الصراع العربي الاسرائيلي تحديدا، وهم يدعمون اسرائيل في كل العصور والأزمنة بشتى الطرق، وأي فيلم اسرائيلي يلقى دعمهم وتأييدهم خصوصا لو كان من النوع الذي يساهم في تحسين صورة اسرائيل (الديمقراطية القادرة على انتاج أفلام وكتب واغاني، تنتقد السياسة الرسمية للدولة) فليس المهم حفنة أفلام بل أن يستولي جيش الدفاع الاسرائيلي المعروف بالجيش النازي الصهيوني، على الأرض، ويخضع سكانها، ويمارس ضدهم الإبادة الجماعية بانتظام.
ولم يسبق أن قدمت هوليوود في تاريخها كله فيلما واحدا يناصر الفلسطينيين.ربما يختلف عدد محدود جدا من الممثلين مع سياسة اسرائيل في الشرق الأوسط ويتحفظون عليها أو حتى يوجهون لها الإدانة مثل روبرت دي نيرو وودي أللين (وإن كنا لم نسمع له صوتا خلال غزو غزة)، لكن السائد والمستقر هو التأييد الأعمى لاسرائيل ليس فقط بحكم الأصول اليهودية الصهيونية لمعظم العاملين في الاستديوهات الكبرى، بل بحكم المصالح أيضا. وربما يكون دي نيرو قد أصبح أكثر توازنا بعد أن أصبحت له مصالح مع العرب (مع قطر تحديدا) التي سيحصل منها على 15 مليون دولار مقابل الاشراف على الطبعة القطرية من مهرجان ترابييكا الذي يرأسه الممثل الشهير!وطبعا لو كان عربي محترف من أصل أمريكي مثلا قد طلب نصف مليون دولار فقط من القطريين مقابل تنظيم مهرجان حقيقي كبير من الألف إلى الياء، ما كانوا دفعوا له فلسا واحدا (كيف يطلب هذا نص مليون.. هذا ما يسوا.. نبي أمريكاني أصلي مستورد ما يحشي عربي بالمرة)!
المثل المصري القديم جميل جدا لأنه يلخص الموقف في أن هذا ليس سوى (رزق الهبل على المجانين)!
وشوفوا حضراتكم كم تريليون سنحتاج لشراء ولاء العاملين في صناعة السينما الأمريكية بل والأغلبية المصوتة في الشعب الأمريكي قياسا على الـ 15 مليون التي استولى عليها دي نيرو رغم أنني من المعجبين به كممثل. وهو بالمناسبة غير مسؤول عن تصرفات السفهاء .. وأي شخص في مكانه كان سيقبل المبلغ ويضحك في كمه على هؤلاء البلهاء.. فلماذا تحتاج دولة "الجزيرة" لمهرجان سينمائي دولي، وهل هناك أصلا جمهور يمكنه أن يملأ قاعات العرض على مدى اسبوعين، ولماذا لا تكتفي قطر بمهرجانها الميت للأفلام التسجيلية المعروف بمهرجان أرناؤوط الدولي الطائفي.. وشعاره "ممنوع الدخول إلا لشركاء الأرناؤوط في البزنسة" وأشياء أخرى!
لكن هل لأرناؤوط هذا أي تاريخ سينمائي أم أنه مجرد ماكينة تنفيذ مسلسلات استهلاكية لا يراها أحد!
بالمناسبة أعضاء رابطة الأوسكار هم أساس صناعة السينما في هوليوود، وهم أكثر من ستة آلاف شخص من كل الفروع السينمائية وهم مجموع أعضاء هذه الرابطة التي يضفون عليها نوعا من القداسة العلمية بأن يسمونها أكاديمية بينما هي مجرد تجمع مهني، وسأطلق عليها منذ هذه اللحظة "رابطة" السينما الأمريكية أو رابطة الأوسكار استبدالا للإسم الضخم الذي يحمل من المعاني ما يتناقض مع طبيعته .. وتأملوا الإسم السائد (الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية (مجرد احتيال أمريكي للإيهام بالعظمة)!

أحاديث وأفلام في روتردام

مع خليل جورجي
جوانا حاجي توماس

* استمتعت بفيلم "المر والرمان" أول أفلام المخرجة الفلسطينية نجوى نجار. موهبة جديدة مختلفة ومتمبزة بلا أدنى شك. واستمتعت أيضا بالحوار مع نجوى، وهي إنسانة وفنانة تتمتع بالدفء والرقة والحساسية والثقافة، ولهذا فأنا على ثقة من أنها ستتطور كثيرا في المستقبل على الصعيد السينمائي وتفاجئنا.
سيكون لنا وقفة تفصيلية عن الفيلم في وقت لاحق، لكن الحوار مع نجوى (الذي سينشر أيضا قريبا) كان ممتدا وعفويا واكتشفت أنها تستطيع التعبير عن نفسها جيدا جدا، وتعرف تماما حدود ما يقال وما لا يقال، كما تعرف حدود ما ينشر وما لا يجب نشره. لكن الحوار بيننا الذي بث في إذاعة بي بي سي ذكرني بالأيام الخوالي، أيام الاكتشافات، لا أقول إنني اكتشفت الفيلم فقد عرض في مهرجانات أخرى قبل روتردام، لكني اكتشفت صاحبة الفيلم.
* على العشاء جلست مع الصديق انتشال التميمي الناشط السينمائي الذي لا يهدأ، والمدير الفني لمهرجان الفيلم العربي الذي يقام في روترام أيضا ولكن في الصيف، وهو في الوقت نفسه مستشار لمهرجان روتردام السينمائي الدولي للأفلام العربية ويقوم بتقديمها للجمهور مه مخرجيها. وكان انتشال قد تعاون معي عندما أدرت دورة مهرجان الاسماعيلية 2001 وكانت تلك بداية علاقته بالمهرجانات السينمائية، ومنها انطلق فيما بعد لكي يطور هذه العلاقة ويعمقها ويمنحها أبعادا أكبر، بهدوء شديد وعمل دءوب.
انضم لنا بعد قليل المخرجان اللبنانيان أو الثنائي جوانا حاجي توماس وخليل جريج على غرار الثنائي السينمائي جان شمعون ومي مصري. وللثنائي الأول الحاضر هنا فيلمان في المهرجان هما وثائقي هو "خيام 2000- 2007"، وروائي هو "أريد أن أرى" أو "بدي شوف".
تبادلنا حديثا طويلا حقيقيا من القلب حول السينما العربية.. هل لايزال هناك حقا ما يمكن أن نطلق عليه سينما عربية بعد أن أصبح كل ما نراه معروضا هنا هناك أفلام من الإنتاج أو التمويل الفرنسي وغيره؟
كان هذا التساؤل الذي طرحته بصراحة دون أن يعنى أكثر من مجرد تساؤل بالفعل، وليس سؤالا وجوابا معا.
خليل رأيه أن الإنتاج لا يحدد هوية الفيلم بالضرورة، وأنا أوافقه فربما يكون موضوع الفيلم ورؤية مخرجه وهويته الثقافية هي الأهم. ولكن ماذا سنقول عن أفلام تصور في فرنسا بالكامل وفي وسط العرب المهاجرين وتنطق بالفرنسية وبعض العربية مثل فيلم "كسكسي بالسمك" لعبد اللطيف قشيش؟ وماذا سنقول عن فيلم "فرنسية" للمخرجة المغربية سعاد البوحاطي (معروض في روتردام ولنا وقفة معه قادمة أيضا) وهو مصور بين فرنسا والمغرب وكل العناصر الفنية فيه فرنسية، باستثناء المخرجة!
انتشال التميمي

ليست هناك بالتأكيد إجابة سهلة واضحة. وخصوصا إذا كان الهم الأساسي في الفيلم هم عربي يرتبط بقضايا الواقع اليومي. ولكن مرة أخرى ماذا سنفعل في مشكلة ثنائية اللغة؟
خليل يقول إن الفرنسيين يشترطون بالنسبة لأي فيلم يمولونه أو ينتجونه أن يكون فيه جزء مهم من أحداثه ناطق بالفرنسية، ويصر على أن هذا هو شرطهم الوحيد.
وترى جوانا أن العمل مع منتج فرنسي أفضل كثيرا لأنه يمنح المخرج الحرية ولا يتدخل في عمله ولا يفرض عليه شروطا فنية معينة أو يغير في السيناريو. الموافقة الأولية على الموضوع أو السيناريو ينتهي الأمر. ويضيف خليل إن المخرج يمكنه حتى أن يغير في السيناريو بعد ذلك كما يشاء دون أن تحدث أي مشكلة بعد ذلك.
قلت لهما إن هناك من يرون أن السينما العربية تفقد استقلاليتها تماما إذا جاء تمويلها من الغرب، وأن المنتج الأجنبي لابد أن يكون له "أجندة خاصة".
جوانا قالت إن الحالة المثالية أن تتفق الأجندتان معا: العربية مع الأجنبية. واستبعدت تقديم تنازلات مسبقة قبل التصوير، ربما في أفلام تصور في المغرب العربي- كما أشارت- يحدث هذا خاصة بالنسبة لتصوير المرأة مثلا.
خليل انتقل إلى مشكلة أخطر عندما قال إن لديهم، في لبنان، مشكلة تتعلق بالهوية، وتنعكس هذه المشكلة على السينما بصورة قوية عندما يتطرق الأمر إلى "صورة البطل" في السينما: فمن يكون البطل اللبناني في أي فيلم؟ هل يمكن أن يوجد بطل يتفق عليه بين جميع أبناء الطوائف المختلفة؟ أم سيظل ينظر إليه باستمرار بنوع من التشكك والحذر. لذلك هو يرى أن السينما اللبنانية تتحاشى تقديم البطل بشكل واضح.
خليل يرى أيضا أن الواقع اللبناني الحالي المتغير مع تغير الحالة السياسية وخصوصا منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، أصبح يعرف نوعا من التشنج أو المراهقة السياسية، فمن لا يدخل ادانة اسرائيل في أي عمل مهما كان، لا يكون مقبولا!
ناقشنا أيضا أهمية الصورة كوثيقة، وحدثنا انتشال بخبرته العميقة كدارس للتصوير الفوتوغرافي في موسكو، عن مشاريعه التي يحلم بها في مجال التصوير، وقال إنه يملك مجموعة من الصور النادرة لعشرات الشخصيات العراقية يريد أن يضيف إليها ويصدرها بالحكايات امرتبطة بها في كتاب.
وكان سبب الحديث في أهمية الصورة ما أشرت إليه عندما التقطت صورا للمجموعة أثناء العشاء بغرض إدخالها إلى "مخزن الذاكرة".. فمن يدري!

الثلاثاء، 27 يناير 2009

تداعيات في روتردام: أفلام وكراسي


بعد أن شاهدت الفيلم البريطاني العظيم "عن الزمن والمدينة" Of Time and the City للمخرج العبقري تيرنس دافيز أخذت أتساءل عن تعريف الفيلم السينمائي، وما إذا لم يكن هذا الفيلم فيلما سينمائيا كاملا بكل معنى الكلمة رغم أن البعض يصنفه في بند الأفلام التسجيلية (و الوثائقية) وهو ما أرفضه تماما، فهذه هي السينما بحق في كل تفاصيلها وسماتها المميزة.
غير أن المشكلة الأخرى التي تداعت عقب الانتهاء من مشاهدة هذا العمل الكبير، نتجت عن التفكير فيما فعلته كاميرا الديجيتال: فقد أنتجت خيرا وشرا في وقت واحد.
فإذا كانت كاميرا الفيديو الرقمية قد حررت السينمائي من ضغط الميزانية، وأتاحت أمامه فرصة لابتكار ما لم يكن ممكنا ابتكاره بسبب صعوبة حمل ونقل الكاميرا السينمائية واقتحام الكثير من المواقع بها، فقد أدى انتشار هذا النوع من الكاميرات أيضا إلى أن سقط الشرط الأساسي الذي يجب توفره في السينمائي، أي سينمائي، قبل أن يصبح سينمائيا معترفا به، هذا الشرط يتلخص في كلمة واحدة هي "الموهبة" التي ترتبط بالتأكيد بمساحة الخيال، والقدرة على استخدام لغة السينما، وطبعا لكي يعرف أي إمرء استخدام أي لغة عليه أولا أن يتعلم كيف يقرأها.
لكن المشكلة أنه بعد توفر كاميرا الديجيتال الرخيصة أصبح كل من هب ودب يعتبر نفسه مخرجا سينمائيا، وانتشرت بشدة ما يمكن أن نطلق عليه "أفلام الكراسي".
ما المقصود بأفلام الكراسي؟ الحقيقة أنني أقصد تحديدا كل ما يصور على شرائط من مقابلات مع شخصيات من هنا ومن هناك، أجراها مصور أو حتى مخرج (افتراضا) بالطريقة السهلة البسيطة أي أتى بكرسي وأجلس فوقه الضيف وأخذ يمطره بالأسئلة والضيف يجيب والمصور يصور.
وفي عملية المونتاج التي تعتمد تماما على "الفهلوة" يمكن ادخال بعض الصور واللقطات، من الحقول والشوارع والطبيعة الصامتة أو الناطقة، ثم يطلق صاحب هذا العمل عليه فيلما سينمائيا، ويقدم نفسه باعتباره مخرجا، ويظل يلف ويدور لمدة سنة كاملة على الأقل، على كل  المهرجانات السينمائية الدولية التي أصبحت تقبل كل هذا العبث متغاضية عن تهافته الفني وجرعة الملل التي تصيب المشاهد وهو يجلس أمام الكرسي، عفوا أقصد أمام الشريط الذي يحوي صورا متحركة، ويستمع إلى المحاضرة السخيفة عن أي شيء، من مشاكل البيئة إلى معنى الوجود، وسبب تريب المهرجانات يعود إلى ارتباط معظم هذه الأفلام بالحدث السياسي الساخن وهو لا يكفي بالضرورة لصنع فيلم جيد.
ولعل التليفزيون الذي يرحب بهذا النوع من المقابلات المصورة هو المسؤول عن انتشار ظاهرة أفلام ومخرجي الكراسي خصوصا في العالم العربي الذي انكسر فيه القيد عن الفن، فساح الفن وأصبح كل من هب ودب فنانا، وإذا تزوج شعبان البقال أيضا من "فنانة" يتم تعيينه على الفور "فنانا".. مع الاعتذار لعمنا الكبير الشاعر الصعلوك الأعظم أحمد فؤاد نجم صاحب قصيدة "شعبان البقال"!
مشكلة أفلام الكراسي أنها ليست أفلاما بل مقابلات مصورة، وأن مصوريها هم صناعها الحقيقيون كوثيقة للأرشيف أساسا، أي كمادة خام يمكن استخدام أجزاء منها في أعمال أخرى تماما مثل محفوظات دار الكتب، لكنها ليست أعمالا فنية، ولا تستحق أن تعرض في مسابقات بالمهرجانات السينمائية، فعلى أي شيء ستتنافس وكلها متشابهة. وكل من يزعمون أنهم مخرجون لهذا النوع من القطع المصورة يحتالون ويتحايلون على جوهر الفن السينمائي، أي ذلك السحر الخاص الذي يمنحه صاحب الرؤية للصور واللقطات التي يقوم بتركيبها معا وكأنه يولف مقطوعة موسيقية لها أول، ولها آخر، أما أفلام الكراسي فقد يكون لها أرجل تماما مثل الكراسي، لكن ليس لها أي دماغ.. فارحمونا من فضلكم أو خصصوا لهذا النوع من التحف الفريدة مهرجاناتها الخاصة واجعلوا شعارها الكرسي، الذي يجب أن يصطف صناع هذا النوع من الشرائط أمامه يوميا ليقدموا له الشكر الجزيل على استمرار وجودهم على قيد الحياة!

الاثنين، 26 يناير 2009

"المسبحة الخطأ" في المهرجان الخطأ



خواطر من روتردام


أحيانا بل في كثير من الأحيان، أتساءل: ما الذي يجعل منتجا سينمائيا يغامر بأمواله أو بأموال الممولين لإنتاج فيلم ليس له أول ولا آخر، بل ومختل تماما في بنائه وشكله وشخصياته، حتى أنك تجلس لتشاهد فتجد عجبا.
أبواب تفتح وأناس يخرجون وأناس آخرون يدخلون، وحوارات عن أشياء لا يعلمها إلا الله وحده، وتنتظر بعد أكثر من 45 دقيقة أي نصف الفيلم بالضبط، أن تتضح الحكاية أو الموضوع أو أي شئ على وجه الأرض له علاقة بما نحياه أو بما يعيشه أي إنس أو جن في هذا الكوكب، إذا كان للجن مكان فيه طبعا، ولكنك لا تصل أبدا إلى السؤال الذي يشغلك.
هذا تحديدا ما حدث اليوم مع الفيلم التركي "المسبحة الخطأ" The Wrong Rosary المعروض داخل مسابقة المهرجان. وقد شاهدت الفيلم في عرضه الصحفي بين نخبة من النقاد، أخذت تتضاءل في عددها بين لحظة وأخرى حتى بقى 7 اشخاص فقط أكملوا العرض على أمل أن يتضح لنا "اللغز"، إلا أن صانع الفيلم آثر الاحتفاظ به لنفسه!
كان الصحفيون والنقاد يغادرون أحيانا فرادى وأحيانا في جماعات، وكلهم يضربون كفا على كف وينفخون في غضب: ماذا يريد هذا؟
لكني أخذت أوجه لنفسي سؤالا آخر: كيف وصل فيلم كهذا إلى هنا أصلا؟ وكيف أصبح بقدرة قادر، في المسابقة أي اعتبر من نخبة الأفلام الأولى لمخرجيها، وكيف- ثالثا- أنفق عليه منتجه من الأساس وهو عمل لا يمكن فهم أي شئ فيه، ليس لأنه شديد العمق، بل لأنه شديد التفاهة والسطحية والادعاء.
ربما كل ما يريده صُناعه أن يثبتوا لسكان الغرب أنهم ليسوا في تركيا، أقل منهم أناقة وشياكة وعصرية، وأن لديهم من يترددون على الحانات، ومن يحتسون الشراب بافراط خصوصا الشمبانيا، رغم أن الفيلم يبدأ أيضا في كنيسة، وأبطاله واضح أنهم من مسيحيي تركيا وهناط طبعا بعض المسلمين حولهم تأكيدا على فكرة التسامح الديني في تركيا(!) أو هكذا فهمت أنا الذي لم أذهب طيلة حياتي إلى تركيا ولا مرة واحدة، وعندما أردت وخططت للذهاب قبل ثلاث سنوات، اضطررت لاجراء عملية جراحية انتهت بمشاكل أقعدتني فترة طريح الفراش، وبالتالي ضاعت علي الرحلة وضاع ما دفعته فيها من مال. وعندما خططت وانتويت قبلها الذهب إلى مهرجان اسطنبول السينمائي حدث أيضا ما أعاقني عن الذهاب، وهكذا أقلعت عن فكرة تركيا حتى إشعار آخر.
عودة إلى فيلم المسبحة، الذي لم أر فيه اي مسبحة بالمناسبة، أو ربما مرت المسبحة بينما كنت أغالب النعاس على مقعدي من شدة الارهاق (المرء يعمل 18 ساعة يوميا ويشاهد الأفلام من التاسعة صباحا) يرينا أيضا أن أصدقاءنا الأتراك لديهم حسناوات يرتدين الملابس العصرية التي تكشف أكثر مما تخفي، ومنهن من تعمل عارضة أزياء نحيفة، طويلة، ذات عينين فتاكتين، فلماذا إذن يحجم ذلك الغرب الملعون عن قبول تركي في عضوية الاتحاد الأوروبي!
مخرج الفيلم الأخ محمود فاضل، يحاول أن يروي لنا قصة حب ولكن عن طريق رأس الرجاء الصالح، أي أنه يلف كثيرا حول عشرات الشخصيات، قبل أن يجعلنا نكتشف السر الرهيب لكل هذه الهواجس والتحركات المجهولة وكأننا سنشهد جريمة قتل بشعة بعد قليل.
فيلم يريد أن يكون رومانسيا ولكن باستخدام أسلوب الغموض البوليسي غير المشوق بسبب بطء الايقاع على نحو يدعو للنوم، وتفكك في البناء، وترهل في الشخصيات.
نصيحتي المخلصة جدا للأخ فاضل (أو فازل كما يكتبها الأتراك) أن يترك مهنة الإخراج لمن لديه شئ يقدمه، ويتجه إلى بيع السجاد مثلا، فسيكون هذا أفضل للسينما وله، فهو سيكسب أكثر، خصوصا أنه سيبتعد عن أذى النقاد وشرهم، وهي نصيحة أوجهها أيضا إلى أكثر من مخرج في العالم العربي.. يعرفون هم أنفسهم جيدا!

الأحد، 25 يناير 2009

فنون وجنون في روتردام

راؤول رويز
في انتظار العرض

افتتحت اليوم (الأحد) السوق الدولية للأفلام في مهرجان روتردام، وهذا حدث شديد الأهمية لكل أصحاب الأفلام التي يرونها جديرة بالتسويق. والسوق هنا ليست على غرار كان بل أقل استعراضا وأكثر عملية.
والأفلام المتنافسة في مسابقة جوائز النمر بدأت تتبين ملامحها.. منها أعمال أقرب إلى التجريبية مثل الفيلم البريطاني الجرئ جدا "دوجي.. قصة حب" وهو عن الهاجس الجنسي عندما يستبد بصاحبه الشاب فيدفعه إلى القيام ببحث خاص في طريقة المضاجعة من الخلف وهو ما يطلق عليه الإنجليز Doggy نسبة إلى الكلاب التي تمارس الجنس من هذا الوضع فقط (هل يقتصر الأمر على الكلاب أم أن أنواعا كثيرة من الحيوانات لا تعرف غير هذا الوضع!).. ويتوصل خلال بحثه إلى اكتشافات صادمة ثم يقع في الحب.
وهناك أفلام أكثر رصانة بالطبع منها الفيلم الإيراني الذي شاهدته اليوم "كن هادئا وعد إلى سبعة" وهو حزين حزن المجتمع الإيراني نفسه الذي لايزال ينتظر.. الخلاص.. والمخلص، وأظن أن انتظاره سيطول!

مجنون السينما
لاشك أن أهم شخصية سينمائية في روتردام هو المخرج التشيلي الأصل راؤول رويز Ruiz الذي أعتبره ممسوسا بجنون العبقرية، وهو موجود مع فيلمه الأحدث ذي العنوان الغريب Nucingen Haus الذي صوره هذه المرة في بلده تشيلي وليس في فرنسا التي يخرج معظم أفلامه بها.
رويز (63 عاما) مهووس باخراج الأفلام، وقد أخرج خمسة أفلام في العام الماضي فقط ويستعد لاخراج ثلاثة أفلام في العام الجاري.
ورويز يرى أن السبب ربما يعود أولا إلى أنه لا يعير الأمر اهتماما شديدا، ويشبه الأفلام بالنساء، فهو يرى، وهذا رأي ورثه عن أبيه، أن الفيلم مثل المرأة لا يجب أن تجري وراءها كثيرا فإذا شعرت أنك مهتم بها كثيرا فسوف تهرب منك، وكذلك مشروع الفيلم، لا يجب أن يهتم به المخرج كثيرا بل يجب أن يتركه ويهمله وسوف يأتي وحده!
هذا ليس رأيي بالطبع بل رأيه الذي عبر عنه في روتردام.
والسبب الثاني كما يقول، يعود إلى تحجيم طموحه ومواءمته بحيث لا يتطلع إلى ميزانيات ضخمة بل يضع في اعتباره أن الفيلم يجب أن يستعيد ما أنفق على انتاجه بسهولة وبدون مجازفة حتى يتشجع المنتجون.

وجبة الأفلام
في روتردام يمكنك مشاهدة 6 أفلام يوميا إذا لم يكن لديك عمل يتعين عليك أن تقوم به مثل الكتابة اليومية لأكثر من جهة .. فماذا لو كان مطلوبا منك عمل للراديو أيضا أو للتليفزيون.. سيصبح الاستغراق حتى ما بعد منتصف الليل في مشاهدة الأفلام نوعا من الجنون المطلق وإن كنت أفعل ذلك أحيانا بشرط ألا أعمل أي شئ آخر طوال اليوم، أي من التاسعة صباحا إلى الثانية عشرة مساء.. ربما وجدت ما يمكنني تناوله من طعام سريع بين الأفلام.
عموما عروض النقاد تبدو هذا العام أكثر ازدحاما، فقد شاهدت أربعة أفلام اليوم في العروض الصحفية وكل القاعات كانت ممتلئة عن آخرها.. فما هو السبب؟
هل يعود إلى تدفق مزيد من الصحفيين والنقاد على روتردام في عز الأزمة المالية التي تمسك بخناق العالم؟
أم يعود إلى أن الأفلام المعروضة أكثر جاذبية، أو ربما يكون النشاط قد دب فجأة في نقاد تجاوز معظمهم سن الشباب على أي حال.

ناقد من اسرائيل
ومن هؤلاء على سبيل المثال الناقد الإسرائيلي دان فينارو وزوجته إدنا (وهي من أصل يمني وتجيد اللغة العربية).
هذا الناقد (يكتب لصحيفة جيروزاليم بوست) منتشر كالوباء في كل مكان، وطبعا هو يلقى معاملة خاصة من المهرجانات الأوروبية، ويهتمون به أيما اهتمام ليس بسبب أنه يكتب بالإنجليزية (في حين أنه في الواقع يتكلم انجليزية خشنة منفرة كما سمعته بنفسي أكثر من مرة) بل لأنه ينتمي إلى "العالم الحر جدا" أي إلى إسرائيل التي يعتبرونها جزءا من الثقافة الاوروبية رغم لغة سكانها المهجورة التي تنتمي للقرون الوسطى. ولعل أسهم اسرائيل قد انخفضت كثيرا خلال الفترة الأخيرة دون أن تنخفض أسهم دان فينارو وزوجته، فمن مهرجان إلى آخر طوال العام.. ولا أعرف ماذا يفعل عندما لا يكون في المهرجانات؟!
فينارو الذي لم أتبادل معه ولا كلمة واحدة حتى الآن، رغم أنني أشاهده في المهرجانات منذ عام 1986 أي منذ أكثر من عشرين عاما، يبدو وقد أصبح كهلا، ولكنه لا يهدأ، ويظل يلف ويدور على كل النقاد القادمين من أمريكا وبريطانيا واستراليا بوجه خاص، وأصدقائه "الطبيعيين" طبعا من مجلة "فاريتي" المتخصصة في الصناعة والتي يصدرها أقرانه المخلصون جدا لإسرائيل.
وكان من أوائل الذين حضروا العرض الصحفي اليوم للفيلم الفلسطيني "المر والرمان" لنجوى نجار، (ولا أدري ما سيقوله فينارو لأصدقائه الأوروبيين عما ارتكبه ويرتكبه يوميا اخوانه من جنود جيش الدفاع النازي الصهيوني) الذين تمتلئ قلوبهم بكل أحقاد الدنيا ضد البشر، بل ضد الحياة نفسها. ومتى يستيقظ الضمير الغربي ضد مذابح أبناء صهيون!
ولا أريد أن أثقل عليكم أكثر بسيرة تلك الدولة الفاشية التي غالبا ستنتهي ذات يوم، إلى الصدام مع العالم بأسره، ثم ربما تنفجر من داخلها!

السبت، 24 يناير 2009

في مهرجان روتردام السينمائي

الجمهور داخل مجمع باثيه
شعار المهرجان (النمر) في كل مكان من المدينة

الطقس في روتردام ليس باردا كما اعتدنا في السنوات السابقة.. أي أنه بارد ولكن ليس إلى حد التجمد بل محتمل إلى حد ما.
جمهور المدنية في حالة احتفال كبير بالسينما والأفلام كعادته. زحام شديد على قاعات العرض وهي أساسا مجمع شاشات باتيه Pathe (8 قاعات)، وسينيراما (6 قاعات) وفنستر (4 قاعات) بالاضافة بالطبع إلى دار سينما الأقصر وهي دار فخمة كلاسيكية من الزمن الماضي الجميل.. زمن الأصالة وتقدير السينما باعتبارها فنا له قيمة المسرح وليس مجرد سلعة يمكن تعليبها في قاعات صغيرة (تيك أواي) على الطريقة الأمريكية التي حولت دور العرض إلى علب لتلقي الأفلام شبيهة بالعرض التليفزيوني وأفقدتها أهم ميزة فيها وهي التوحد مع المجموع خلال "طقس" المشاهدة الجماعية.
وليس معنى كلامي هذا أن قاعات مجمع باثيه مثلا ضيقة كلها، هناك اثنتان أو ثلاثة ضيقة نسبيا أما القاعات الأخرى فهي معقولة المساحة جدا مقارنة بما نراه اليوم في أماكن أخرى.
المهم أن ملامح المهرجان بدأت تتضح مع وفود الكثير من السينمائيين والباحثين عن شراء الأفلام وعقد صفقات التوزيع والإنتاج المشترك إلى المدينة التي تموج بالحياة رغم برد الشتاء.
دورة هذا العام التي يتولاها بالكامل وبحرية كاملة المدير الجديد للمهرجان روتجر ولفسون (كان قد تولى الادارة العام الماضي متأخرا وورث بالتالي حصيلة المديرة السابقة وكانت حصيلة جيدة ولكن تعبر عن فكرها وليس عن ابتكاراته الشخصية ومنها عرض 3 الأفلام على واجهات أكبر ثلاث بنايات في المدينة في تجربة تعد الأولى من نوعها وبتركيز خاص على "الحجم"!).
ولعل من ملامح التغيير أيضا تقليل عدد الأقسام الرئيسية للمهرجان إلى ثلاثة فقط تنحصر في الأقسام التالي: "المستقبل المشرق" للمواهب السينمائية الجديدة وتشمل أيضا أفلام المسابقة، و"سبكتروم" أو المجال أو الفضاء ويشمل عرض
مجموعة كبيرة من الافلام لسينمائيين اتضحت ملامحهم وأصبحت بصماتهم واضحة في السينما العالمية. وثالثا قسم "اشارات" الذي يشمل "ثيمات" معينة سواء حول المواضيع أو الأشكال.
ومن الملامح الجديدة أيضا أن النشرة اليومية "يومية النمر" كما يطلق عليها، التي كانت تصدر باللغة الهولندية باستثناء صفحتين بالإنجليزية أصبحت أكبر في حجمها (32 صفحة) منها 10 صفحات بالانجليزية.
عروض فيلم "مليونير فقير الأصل" أو Slumdog Millionaire بيعت كل تذاكرها مسبقا في اقبال مرعب يجسد حجم الدعاية الهائلة التي اكتسبها فجأة المخرج البريطاني داني بويل الذي ظل في الظل منذ فيلمه الطليعي الجرئ "رصد القطارات" Trainspotting الذي شاهدناه في دورة مهرجان كان 1996.. وكان اكتشافا جيدا لمخرج شاب يتطلع إلى المجد، غير أنه سرعان من ذهب طي النسيان، إلى أن عاد بفيلم يبدو "هنديا" أكثر منه بريطانيا، وإن كنت أحتفظ بتقييمي الحقيقي له بعد أن أشاهده.. ولن يكون هذا في روتردام بالتأكيد بل بعد عودتي إلى لندن!
لاشك أن الذين ينظمون المهرجانات في بلادنا في موسم الطقس الجميل ويتاجرون بكل ما هو سياحي لجذب "الزبون"، سيشعرون بالغيرة والحسد من تألق مهرجان روتردام رغم ابتعاده عن كل هذه النواحي وتركيزه الأساسي على الفن السينمائي والصناعة السينمائية سواء بسواء، وسبب الحسد سيعود بلا شك إلى ما يتمتع به المهرجان من جمهور محب بحق للسينما ولاكتشاف الجديد فيها عاما وراء عام. هذا الجمهور الذي أصبح مفقودا أو غائبا عن معظم ما يقام من مهرجانات في العالم العربي (قرطاح بالتأكيد استثناء خاص حسب ما أعلم).

الأربعاء، 21 يناير 2009

"المصارع": فيلم يحمل الكثير من المشاعر الإنسانية



بعيدا عن زحام المهرجانات والمسابقات وبعد حصول ميكي رورك على جائزة أحسن ممثل في مسابقة جولدن جلوب، وهو ممثل ُظلم بكل المقاييس واستبعدته هوليوود من صفوفها الأولى منذ سنوات، ذهبت لمشاهدة فيلم "المصارع" The Wrestler في إحدى قاعات السينما اللندنية. جلست في هدوء، أتأمل في البناء، وأستمتع بالأداء، وأتابع اللغة التي يستخدمها المخرج في الفيلم.. وخرجت ببعض القناعات والآراء في هذا الفيلم الذي أتخيل أنه سيكون له حضور بارز في حفل جوائز الأوسكار هذا العام.
قيمة السيناريو
إن أساس هذا الفيلم، وأساس كل فيلم كما كانت قناعتي دائما ومازالت، السيناريو ، وهو هنا ممتاز من كل النواحي: شخصيات رئيسية محدودة ومحددة وواضحة المعالم، ثلاث شخصيات تحديدا لا أكثر.. أولها الشخصية الرئيسية الأولى لبطلنا، وهو نموذج لما يعرف دراميا بـ" نقيض البطل" anti-hero وهو مصارع قارب على نهاية مسيرته ولم يعد يمكنه تقديم المزيد بعد أن أصيب بنوبة قلبية أولى قد تعقبها وفاته إذا لم يغير طريقة حياته ويعتزل المصارعة الحرة. وهو نموذج أيضا للشخص الوحيد الذي يعاني من جفاف في حياته الخاصة، افترق منذ سنوات طويلة عن ابنته الوحيدة بعد ان هجر الحياة الزوجية، يسعى لإقامة علاقة حميمية مع امرأة تعمل راقصة ستربتيز في ملهى ليلي لكنها أيضا تتجه نحو نهاية الطريق، وابنة ترفض التسامح مع والدها الذي تنكر لها وأهملها عندما يعود إليها اليوم يطلب استئناف علاقة الدم ولكن بعد أن تجمد أو كاد في عروق الإبنة التي تبدو وقد استغنت أيضا عن كل الرجال، وفضلت العيش مع فتاة. السيناريو صحيح أنه تقليدي في بنائه وشخصياته بل وربما أيضا في حبكته، إلا أنه يمتلئ بالكثير من التأملات والأفكار التي تردنا إلى أنفسنا، لنطرح من التساؤلات ما يتعلق بمسار الحياة نفسها.. إلى أين تسير بنا، وهل يصلح لها أن نتطلع إلى الوراء، إلى ما مضى، ومتى يمكننا حقا تعويض ما فات وتحقيق ما شغلتنا الحياة عن تحقيقه لأنفسنا ولأحبابنا من حولنا، قبل أن يتأخر الوقت.

عمل المخرج
السيناريو الجيد وحده في السينما لا يصنع فيلما جيدا بالضرورة إلا إذا كان هناك إخراج جيد، وهنا لاشك أن إخراج دارين أرونوفسكي واثق ومتمكن، فهو يدرس جيدا مشاهده ولقطاته.. حركة الكاميرا الرصينة وانتقالاتها المتناسبة تماما مع سيكولوجية التعبير في المشهد، والتي أحيانا ما تكون محمولة على الكتف، مهتزة يهتز معها منظور الصورة في لحظات التأرجح النفسي الشديدة التي يمر بها بطلنا المصارع راندي روبنسون (ميكي رورك)، كما يعرف كيف ينتزع من الممثلين أقصى ما لديهم، وهو الذي نجح أساسا في إسناد الأدوار إلى الممثلين الذين يعرف أنه سيتمكن من الحصول على ما يريد منهم. ويجيد أونوفسكي التحكم في الإيقاع الخاص داخل كل مشهد، فلا توجد أي لقطة زائدة أو شئ ناقص في هذا العمل البديع المثير للكثير من التأملات.
أرونوفسكي يعرف جيدا متى يقطع اللقطة، ومتى ينتقل من لقطة إلى أخرى، ومتى يستخدم الموسيقى، ومتى ينتقل إلى الصمت. إنه ينتقل أحيانا من لقطات المصارعة العنيفة إلى لقطات لبطلنا والمساعد يضمد جروحه بعد انتهاء مبارة الملاكمة بالفعل، ويمهد تمهيدا جيدا للسقوط البدني الذي يكتشف بعده بطلنا أنه أصيب بنوبة قلبية.
ويجيد أرونوفسكي إجادة أقرب إلى تجسيد الحياة الحقيقية، في إخراج مشاهد المصارعة الحرة العنيفة، لكنه ينجح أيضا في إخراج الكثير من المشاهد المليئة بالشاعرية والرقة مثل المشهد الذي يدور بين راندي وابنته عندما يحضر لها هدية ثم يصطحبها في نزهة سيرا على الأقدم ثم يدخل الاثنان إلى قاعة دائرية فسيحة لكنيسة مهجورة مزينة بالنقوش البديعة حيث يرقصان معا رقصة تعبر عن رغبة خجولة مترددة من جانب أب يرغب في استعادة ابنته لكنه لا يعرف تماما كيف، وفتاة أصبح الأب عندها أثرا من آثار الماضي لكنه موجود أمامها الآن من لحم ودم.
دور الأداء
ولاشك أيضا في براعة الأداء التمثيلي الممتاز من كل الممثلين، وعلى رأسهم ميكي رورك، الذي يستخدم كل ما لديه من خبرة تمثيلية وشخصية، في هذا الفيلم ويجسدها في تعبيره بالعينين وباليدين وبالجسد عموما، كما يتحكم تماما في نبرة صوته، وفي نظراته الزائغة الحائرة بعد أن بات مشرفا على أعتاب النهاية، وبعد أن وجد نفسه عاجزا عن تغيير حياته، مدركا انه عاش بالمصارعة ويجب أن يموت أيضا بالمصارعة.. العمل الوحيد الذي يجيده والذي يمنحه متعة الإحساس بالعالم.. من خلال جمهوره الذي ينتظره ويهتف باسمه ويطالبه بالفوز بأي طريقة وبكل طريقة.
ميكي رورك، العائد بقوة في هذا الفيلم لاستعادة مجده المفقود، يستحق دون شك جائزة جولدن جلوب التي فاز بها، ولم يحصل عليها في فينيسيا بعد أن فاز الفيلم بالأسد الذهبي لأن قانون المهرجان يحرم منح اي جائزة أخرى إلى الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى.

تعليق حزين
فيلم "المصارع" تعليق حزين على ما يحدث للفرد في مجتمع لا مكان فيه إلا للقوي الذي يمكنه أن يبيع جسده من أجل إسعاد الآخرين.. تماما مثل تلك الراقصة.. راقصة التعري التي يقلقها كثيرا أنها أوشكت أيضا على فقدان قيمتها في السوق كسلعة، لكنه أيضا فيلم عن الحياة عندما تستبد بنا وتدفعنا إلى الاختيار الصعب: إما أن نحياها محرومين من السعادة التي ننشدها ونتطلع إليها ونحن قرب نهاية الطريق، أو نعجل بالنهاية ونحن مازلنا نتمتع بصورة البطولة والنصر.. حتى لو كانت هذه الصورة زائفة!
فيلم "المصارع" عمل كبير، لا يعيبه أبدا أنه من الأفلام التقليدية في الشكل، فالعبرة دائما وأبدا، كما سأظل أردد دائما، بمقدار الصدق في العمل الفني، بل وفي كل عمل. وفي هذا الفيلم الكثير من الصدق: في الصورة، وفي الأداء، وفي الإخراج.. لذلك فإنه سيبقى في الذاكرة.

الثلاثاء، 20 يناير 2009

فرانس برس وغزة وعادل إمام



نشرت وكالة الأنباء الفرنسية (فرانس برس) تقريرا بتاريخ 19 يناير 2009 حول الجدل الدائر بشأن تصريحات عادل إمام عما يجري في غزة، وما تردد حول اهدار دمه، وتعليق أمير العمري على تصريحاته في جريدة "البديل" وفي هذه المدونة.
وهذا نص التقرير الذي نشره عدد من الصحف.

القاهرة (ا ف ب) - يؤكد الفنان المصري عادل امام انه مقتنع تماما بحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي رغم عدم تاييده لمواقف حركة حماس التي حملها مسؤولية شق الصف الوطني الفلسطيني ما جعله يتعرض للتهديد من جانب اسلاميين.
واكد عادل امام الاثنين في اتصال هاتفي اجرته معه فرانس برس في باريس ما تردد بشأن قيام جماعة سلفية جزائرية على علاقة بتنظيم القاعدة باهدار دمه.
وقال عادل امام الموجود في باريس للعلاج " لم اتلق اية رسالة او اتصال تهديد من هذه الجهة باستثناء ما جاء في صحيفة اشارت الى ان زعيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية ابو مصعب عبد الودود قد اطلق فتوى تهدر دمي وهذه ليست المرة الاولى التي تهدر جماعة سلفية دمي".
وتابع "لقد تعرضت لمثل هذه المواقف اكثر من مرة من قبل السلفيين المصريين خصوصا اثر قيامي بعرض مسرحية في الصعيد وبعد الافلام التي قدمتها على الشاشة اعلن فيها رفضي لممارساتهم وطريقة تفكيرهم التي تتعارض مع الحياة والمستقبل".
وتداولت مواقع اسلامية في الجزائر بيانا اكدت انه صدر عن زعيم الجماعة السلفية ويتضمن فتوى بهدر دم عادل امام لانتقاده حركة حماس والمظاهرات التي اجتاحت الشارع المصري. ولم يتسن التاكد من صحة البيان.
وردا على هذه الانتقادات قال عادل امام ان "من حق الانسان ان ينتقد ما لا يراه صوابا وانا شاهدت كيف قامت حماس بشق الصف الوطني الفلسطيني وما ارتكبته في غزة ضد ابناء الحركة الوطنية الفلسطينية" في اشارة الى المواجهات الدامية مع حركة فتح واجهزة الامن الموالية للرئيس محمود عباس والتي انتهت بسيطرة حماس على قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007.
وتابع "واعتقد انهم الان ايضا اختاروا لحظة غير مناسبة لفتح المعركة في ظل الاختلال الكبير في موازين القوى امام عدو ينتظر الفرصة السانحة ليرتكب الكثير من المجازر ضد ابناء الشعب الفلسطيني وفي ظل حالة الانقسام التي يعيشها الشارع الفلسطيني. كان عليها ان تتعظ مما جرى في لبنان في حرب 2006".
ولكن عادل امام اكد ان "من يخوض المعركة الان في غزة ليست حماس وحدها بل كل المقاومة الفلسطينية وهي تواجه عدوها موحدة".
وكان موقف عادل امام لاقى هجوما من عدد من كبار نقاد السينما المصريين خصوصا الناقد المصري المقيم في لندن امير العمري والناقد طارق الشناوي.
وقال العمري في مقال انه " كان من المفروض ان يكون عادل امام اذا كان يعتبر نفسه حقا من فناني الشعب واصحاب التأثير في الجماهير ويريد ان يلعب دورا في قيادة تيار الوعي في مجتمعه ان يقود مظاهرات الغضب على ضرب غزة وقصف المدنيين والعزل الابرياء هناك".
وتابع "غير ان عادل امام الذي لم تعرف عنه اي اهتمامات سياسية تتجاوز السائد والمكرر في الاعلام الرسمي لم يخرج في مظاهرات الغضب وآثر في الوقت نفسه الا يكتفي بدوره المناسب تماما وهو +الواد سيد الشغال+ (نسبة لاحدى مسرحيات عادل امام) بل اعلن موقفا يتطابق مع الموقف المتخاذل للاعلام الرسمي في مصر في التبرير لاسرائيل هجمتها الاخيرة ويلتمس لها الاعذار دون ان يبدي اي نوع من التعاطف الانساني حتي مع الضحايا الذين تسيل دماؤهم انهارا في غزة اليوم".
واعتبر ان "سقوط عادل امام جاء ايضا بادانته لمظاهرات الغضب التي اندلعت في بلده احتجاجا على ما يجري من مذابح جماعية في غزة وهو موقف يرد عليه موقف الفنانين والمثقفين البريطانيين الذين يتظاهرون يوميا واسبوعيا في العاصمة البريطانية ضد البربرية الاسرائيلية".
وانتقد طارق الشناوي في مقالة بعنوان "فيفي عبده تصرخ وعادل امام يصمت" في اسبوعية "صوت الامة" الصادرة اليوم الاثنين عادل امام ولكن بلهجة اقل حدة حيث وصفه بانه "حريص دائما على ان يضبط مؤشر موجته الانفعالية بالضبط طبقا لما تريده الدولة".
غير ان عادل امام يرفض هذا المنطق مؤكدا "انا حريص على مصلحة بلادي ومصر قدمت ما عليها لفلسطين وهي حريصة على ان تقدم لفلسطين لان فلسطين جزء من امنها القومي وانا من حقي ان انتقد ما لا اراه صحيحا".

الأحد، 18 يناير 2009

القضية نائمة في سيارة كاديلاك!

الصحفي صلاح عيسى


بعض الصحف في مصر تخجلني بل وتجعلني أشعر بالقرف والاستياء مما تنشره من ترهات يوما بعد يوم، وكأنها تصدر في بلاد الواق واق، أي بعيدا عن العيون التي تقرأ وتتابع يوميا ما ينشر في شتى أرجاء العالم بفضل التكنولوجيا الحديثة، التي لم يكن لنا أي دور فيها بكل أسف سوى الاستهلاك طبعا.
والبعض الآخر من تلك الصحف تجعلني أستلقي على ظهري من الضحك ليس فقط لرداءة المادة التي تنشرها، بل أساسا بسبب سياسة التحرير التي ترتبط بما عفا عليه الدهر.
على رأس هذه الصحف جريدة "القاهرة" الأسبوعية، لسان حال (تعبير مهذب لكلمة "بوق") السيد وزير الثقافة المصري فاروق حسني المعروف بـ"الفنان".
هذه الصحيفة التي تخسر سنويا ما يعادل مرتبات جميع موظفي وزارة الثقافة، إذا ما استثنينا بالطبع حفنة الكبراء أو المستكبرين، أي كبار كهنة الوزارة، المهيمنين على شؤون تضليل الوعي الثقافي بانتظام في مصر منذ عشرات السنين، انتبهت في الفترة الأخيرة إلى أن هناك حدثا كبيرا يقع قطاع في غزة المتاخم للحدود المصرية.. فماذا فعلت؟
لجأت إلى الطريقة المتبعة منذ مئات السنين في صحف التخلف الحكومية، أي التكليف والتوجيه الرسمي العلوي.. فقد بادر الجنرال صلاح عيسى وهو صحفي يسارجي سابق شاء الانتحار في أحضان السلطة التي كان يعارضها عندما كان "مغررا به" في تنظيمات اليسار السياسي في الستينيات، إلى عقد اجتماع تحريري صاخب أصدر خلاله الأوامر والتعليمات العليا تحت قيادة الجنرال (في الحقيقة والواقع) فاروق عبد السلام الذي تحول إلى "أفندي" منذ سنوات، يعمل مديرا لمكتب الفنان. وطالب صلاح عيسى جمع "الصحفجية" العاملين المغلوبين على أمرهم بشحذ العزائم والهمم، والبحث عن كل ما يتعلق بغزة "ثقافيا" وما يمكن أن يساهم في "تسخين الجبهة الداخلية" بعيدا عن المظاهرات طبعا، على طريقة التوجيه المعنوي لجنرالات وزارة الارشاد القومي في الأزمنة الغابرة الذين قال وزيرهم للرئيس السادات قبيل حرب 1973 إن بوسعه "تسخين" تلك الجبهة في ظرف ساعتين.
والنتيجة- فيما يتعلق بالسينما والفنون على الأقل- فضيحة كاملة بكل معنى الكلمة. فالجريدة، التي تنفق عليها ميزانية طائلة تذهب في معظمها إلى جيوب بعض أصحاب الحظوة، لم تهتم الحصول على وثيقة جديدة مثلا أو شهادة سينمائية مباشرة تستطيع الكتابة عنها وإبرازها، ولم تبادر إلى اكتشاف الجديد فيما يقع ويحدث وتبحث تأثيره على السينما، كما فشلت في رصد ردود فعل السينمائيين والمسرحيين الفلسطنيين أنفسهم وما اذا كان منهم من يصور شيئا هناك في الوقت الحالي (وأنا أعرف أن هناك من يفعل)، وتجاهلت المؤتمرات والمسيرات التي نظمت بين جموع السينمائيين والمسرحيين في مصر رفضا واحتجاجا على الغزو الاسرائيلي، بل وتجاهلت أيضا أي تصريحات متخاذلة في هذا المجال.
لكن "الجنرال" لجأ إلى أسهل الطرق وأكثرها تخلفا: أي تكليف عدد من كتاب ونقاد السينما والمسرح بالبحث في دفاترهم القديمة وإعادة إنتاج ما أكل الدهر عليه وشرب.
والنتيجة أننا أمام سياق مضحك عن "الأفلام التي تناولت قضية فلسطين" من سنة 1948 حتى اليوم. وهل نجح كمال الشيخ في فيلم "فتاة من فلسطين" أم لم ينجح في تصوير القضية، وكيف تناول الفلسطينيون القضية في أفلامهم النضالية، ومن الذي اقترب من الأجانب من التعبير عن القضية في السينما.. و"مأساة فلسطين في قلب المسرح المصري" .. وغير ذلك من ملفات قديمة بالية.
وعندما أرادت الجريدة أن تتفلسف وتقدم كشفا جديدا، بدا وكأنها تهين القضية بأسرها عندما أبرزت ما أطلقت عليه موسيقى "الهيب هوب والراب بين أحضان الدلعونة والميجانة" وكأن ما يشغل بال الفلسطينيين حاليا هو التشبه في موسيقاهم بالأمريكيين من سكان حواري هارلم لأن باحثة فلسطينية متأمركة تسعى لإدخال هذا النوع من الموسيقى إلى أرض فلسطين!
والموضوع بأكمله في النهاية من نوع "تخليص الذمة"..
ورحم الله إحسان عبد القدوس صاحب القصة الشهيرة "القضية نائمة في سيارة كاديلاك"!

الجمعة، 16 يناير 2009

عادل إمام وغزة وتعليقات القراء والميرازي



شخصيا كنت مترددا في نشر ما كتبته حول الممثل عادل إمام أو "الواد سيد الشغال"، كما أطلقت عليه، وموضوع تصريحاته الاستفزازية بخصوص غزة وما يحدث والمظاهرات التي اندلعت في مصر وغير ذلك.
فقد كنت أتصور أن عادل إمام أصبح بالفعل "أيقونة" لدى الجمهور، وأصبح له أيضا حراس ومريدون وقارعو طبول وعدد لا بأس به في الصحافة والاعلام الرسمي المصري أيضا، من حارقي البخور!
وعندما أرسلت مقالي "الواد سيد الشغال يتدخل في غزة" إلى جريدة "البديل" اليومية المستقلة، كان ظني أن الجريدة التي أكتب لها بانتظام، لن تجرؤ على نشر هذا المقال تحديدا بسبب اجترائه على فضح ظاهرة من الظواهر "المسكوت عنها" أي التي يوجد نوع من التواطؤ العام في السكوت عنها وعن أي تجاوزات قد يقترفها هذا النجم- الظاهرة، أو الذي صنعوا منه ظاهرة.
وكانت المفاجأة الأولى أن المقال نشر كما كتب، بشكل يثير اهتمام القارئ، وأثار صدى جيدا جدا كما بلغني من المسؤولين في الجريدة.
أما المفاجأة الثانية والمدهشة فهي أن رد فعل القراء، كما تبدي في التعليقات التي بعثوا بها عبر الانترنت (في الطبعة الالكترونية من الجريدة) كانت كلها على الاطلاق ضد "الزعيم".. بعد أن تحول إلى رمز لكل زعيم آخر متقاعس يخدر الناس بالكلمات الجوفاء ولا يفعل شيئا سوى النفاق والغش والمداهنة، ولم يكن هناك ولو تعليق واحد يدافع عنه أو ينتقد ما جاء في المقال، وهو استفتاء مدهش حقيقية على إسقاط الزعيم!
لقد كشفت لي هذه التعليقات، ومنها أيضا تعليقات على المقال في طبعته ضمن هذه المدونة، أن ظاهرة عادل إمام انتهت بالفعل وأن أسطورته الكاذبة سقطت.
وكشفت لي ثانيا حجم ما يشعر به الناس من إحباط ومرارة إزاء مؤامرة الصمت المخجل أو التبرير الذي يصل حد التواطؤ، فيما يتعلق بموضوع غزة وما يجري فيها من عمليات إبادة جماعية منظمة لا شك فيها.
وقد تجاوزت تعليقات القراء كثيرا ما كتبته أنا، سواء في حدتها أو في العودة حتى لتذكيري بأفلام أخرى للممثل نفسه كانت تسئ تماما وتشوه تاريخ حقبة وطنية هي كما في أفلام مثل "إحنا بتوع الاتوبيس" وغير ذلك، في حين أنني بالطبع لم أكتب دراسة عن أفلام عادل إمام السياسية بل كتبت تعليقا على موقف.
وأخيرا أرسل إلي الصديق والزميل أحمد مصطفى يلفت نظري إلى مقال كان قد كتبه الإعلامي المتميز حافظ الميرازي ونشره في جريدة "المصري اليوم" عن عادل إمام، ووجه فيه انتقادات قاسية للزعيم المزيف!
وقد قرأت المقال ووجدت بالفعل أنه ربما يكون الأول من نوعه في الصحافة المصرية الذي يتصدى لهذا الممثل بقوة منطق لاشك فيها.. وقد أثار أيضا موجة هائلة من ردود الفعل عند القراء يمكن تبينها من خلال تعليقاتهم المنشورة عليه.
غير أنني بعد أن فرغت من قراءة المقال أخذت أتساءل بدهشة: ولماذا إذن، بل وكيف سمح حافظ الميرازي وهو حاليا مدير لقناة "الحياة" التليفزيونية، باستضافة عادل إمام في مقابلة خاصة مقابل مبلغ فلكي أصبح حديث المدينة ولايزال، هو مليون و200 ألف جنيه مصري بالتمام والكمال، بعدها استضاف برنامج "البيت بيتك" في التليفزيون المصري الرسمي عادل إمام حيث أدلى بتصريحاته حول ما يجري في غزة وموقف الشارع المصري منها.. بالمجان، أي بدون أن يتقاضى أجرا!
لقراءة مقال حافظ الميرازي اضغط على هذه الوصلة.

الثلاثاء، 13 يناير 2009

ناقد سينمائي ظلمه التاريخ

من فيلم "شيء من الخوف"



سعد الدين توفيق


سعد الدين توفيق اسم كبير لناقد سينمائي تعلم جيل كامل من السينمائيين والنقاد على يديه معنى السينما واهميتها وعرفوا الكثير عن تاريخها من خلال مقالاته التي كانت تنشر في الستينيات اسبوعيا في مجلة "الكواكب" الأسبوعية، في عصرها الذهبي عندما كانت المجلة الفنية والسينمائية الأولى في العالم العربي، وشهريا في مجلة "الهلال" التي كان يكتب فيها كبار الكتاب والنقاد والمفكرين والفلاسفة من أبناء عصره.
وكان يتميز بأسلوبه الجذاب، ولغته المتألقة، وكان يحلل الأفلام بعمق وبساطة ولم يكن يتردد أو يتراجع أمام انتقاد أفلام لكبار السينمائيين إذا ما وجد أنها لا ترقى إلى مستوى سمعة هؤلاء السينمائيين.
وقد أصدر سعد الدين توفيق عدة كتاب من أهمها "قصة السينما في مصر" الذي يعد أول محاولة جادة لكتابة تاريخ السينما المصرية، كما ضمنه فيلموجرافيا أولية استعان بها فيما بعد الكثير من النقاد وقاموا بتطويرها.
إلا أن دور وتاريخ سعد الدين توفيق تم تجاهله تماما، بل ويتجنب "نقاد المؤسسة" الذين تحتفل بهم المؤسسات الرسمية في مصر وغيرها، خلال تصريحاتهم حول تاريخ النقد أي ذكر لسعد الدين توفيق، بل إن البعض تجرأ على الحديث عن حركة النقد فقال كلاما يعني أنه وأبناء جيله هم المؤسسون الحقيقيون للنقد الحديث وإنه قبلهم لم يكن هناك من يمكن أخذ ما يكتبه على محمل الجد، وهو ما يعكس مستوى ما وصلت إليه الأمور من مهازل!
ترجم سعد الدين توفيق كتاب "قصة السينما في العالم: من الفيلم الصامت إلى السينيراما" لآرثر نايت وهو مرجع هام في تاريخ السينما العالمية.
وكان أول ناقد يصدر كتابا كاملا عن مخرج سينمائي مصري هو كتاب "فنان الشعب صلاح ابو سيف" تناول فيه كل أفلام أبو سيف حتى وقت صدور الكتاب كما استعرض تفصيلا حياة المخرج الراحل الكبير.
إلا أن سعد الدين توفيق لم يكن من الجيل الذي انضم للجمعيات السينمائية مثل جمعية السينما الجديدة، كما لم يعرف عنه تبعيته لاتجاه سياسي معين من الاتجاهات التي كانت سائدة في عصره والتي ساهم أصحابها في "تلميع" صورة بعض النقاد الذين ظهروا بعده وأتاحوا لهم الفرصة للسفر إلى المهرجانات السينمائية الدولية بينما لم يسافر سعد الدين توفيق خارج مصر كثيرا ربما باستثناء ذهابه إلى مهرجان موسكو.
وقد توفي سعد الدين توفيق مبكرا عن 57 عاما بنوبة قلبية في السبعينيات.
ولم يحصل سعد الدين توفيق رغم تميزه ورغم دوره الريادي في النقد السينمائي، على أي تكريم، ولم تطبع أي جهة بما في ذلك دار الهلال التي عاش ومات وهو يعمل لحساب مطبوعاتها، كتاباته ولم تصدرها في كتب أسوة بنقاد آخرين، كما لم يتذكره القائمون على المهرجان القومي للسينما المصرية في أي دورة من الدورات الماضية ولو حتى بإصدار كتيب عنه. وهكذا يكون سعد الدين توفيق قد ظلم حيا وميتا.
ملحوظة: بكل أسف فشلت في العثور على أي صورة للناقد سعد الدين توفيق وهو ما يؤكد أنه عاش ومات والتجاهل يلاحقه!

صلاح أبو سيف

الجمعة، 9 يناير 2009

الواد سيد الشغال يتدخل في غزة!



إذا كان عادل إمام قد اكتفى بالقيام بأدوار كوميديا التهريج الرخيص في السينما المصرية، كان من الممكن قبوله والاقتناع به، تماما كما تعايشنا وقبلنا مهرجين آخرين تطول قائمة أسمائهم في تاريخ السينما المصرين، وإن كان بعض أصحاب الأذواق المتدنية يجدونهم مضحكين ومسلياتية.. لكنه – بكل أسف- صدق نفسه، وصدق ما يخلعه عليه بعض أصحاب الأقلام المتهافتة من أوصاف ومبالغات، وتصور أنه يستطيع القيام بدور سياسي في الواقع أيضا تحت راية "الزعيم" والبطل و"الواد الجامد" أمام الكاميرات بالطبع.. وما إلى ذلك.
غير أن المشكلة الحقيقية التي تغيب عن بال عادل إمام، بثقافته المحدودة جدا ووعيه البدائي البسيط الذي ينحصر في الحصول على أكبر قدر من المنفعة الشخصية في كل الأحوال والعهود، أن الدور السياسي الحقيقي الذي يمكن أن يلعبه فنان أو ممثل أو سينمائي أو رجل مسرح، ليس هو دور الممالئ للسلطة أيا كانت، ولا دور المهرج الذي يقلد المسؤولين في جلساتهم ويضحكهم على أنفسهم، كما فعل ويفعل عادل إمام منذ "مدرسة المشاغبين" أي منذ أن تحول إلى القيام بدور واحد طوال الوقت هو "مسلياتي أصحاب السعادة"، بل دور المعبر بحق عن ضمير الشعب وعن آمال وآلام هذا الشعب وكل شعوب الأرض.
لكن لا مانع من أن يتظاهر عادل إمام بالنقد السياسي، بل وبالرفض السياسي أيضا فربما سهل له بذلك إرضاء نرجسيته التي تصور له- أمام الناس- أنه بالفعل أصبحت له كلمة فوق كلمة السلطان، ولكنه يعلم الحقيقة ويعلم محدودية دوره وشأنه لدى أصحاب السلطان، وانهم يستخدمونه فقط للتنفيس والتمرير الزائف بل وأحيانا، للسخرية من الناس أيضا والإساءة إليهم كما في "الإرهاب والكباب" مثلا. وربما يكون فيلمه الشهير "السفارة في العمارة" أكثر أفلامه شعبوية وضحكا على ذقون السذج والجهلاء من أصحاب الذوق السقيم الذين أمكنهم ابتلاع أكذوبة أن عادل إمام يعارض التطبيع مع إسرائيل، بينما الفيلم في الحقيقة يسخر من القوى الوطنية المصرية ويعرض بها تعريضا سمجا ثقيل الظل، ويخدم كل أغراض وسياسات الحكومة بل ويخلع على ضباط الأمن صفة شديدة الرونق والإنسانية.
اعتاد عادل إمام على التعامل مع كتاب سيناريو "خصوصيين" منهم وحيد حامد الذي ظل كاتبه الملاكي لسنوات، ثم تضاءلت قيمة الذين يكتبون له الآن وهبطت إلى مرتبة الكاتب الإذاعي "الفوري" غير الموهوب يوسف معاطي، الذي لا يجد لديه متسعا من الوقت لكتابة ما تتطلبه ماكينة أفلام عادل إمام فيلجأ أيضا إلى "الشطارة" و"الفهلوة" وأشياء أخرى تُنظر فصولها حاليا أمام القضاء.
إن ممثلين في حجم شارلي شابلن وفانيسا ريدجريف ومارلون براندو وجليندا جاكسون، اكتسبوا قيمتهم الحقيقية من الوقوف مع الناس، مع جمهورهم الحقيقي من الطبقات الفقيرة والمتوسطة واتخذوا من المواقف ما يشعل هذه الجماهير بنور المعرفة والتنوير وتصدوا للمؤسسة القمعية وكان يتعين على البعض منهم ايضا أن يدفع الثمن، ولم يقفوا إلى جانب المؤسسة الحاكمة.
لقد آثر عادل إمام الذي لم تعرف عنه أي اهتمامات سياسية تتجاوز السائد المبتذل في الإعلام الرسمي، ألا يكتفي بدوره المناسب تماما وهو "الواد سيد الشغال" بل خرج علينا أخيرا لكي يعلق ويحلل ويعلن موقفا يتطابق مع الموقف الرسمي المتخاذل للمؤسسة وللإعلام الرسمي في مصر، وهو الموقف الذي يبرر لإسرائيل هجمتها الأخيرة، ويلتمس لها الأعذار، دون أن يبدي أي نوع من التعاطف الإنساني حتى مع الضحايا الذين تسيل دماؤهم أنهارا في غزة اليوم.
وقد بلغ سقوط عاد إمام أنه أخذ أيضا يدين مظاهرات الغضب التي اندلعت في بلده احتجاجا على ما يجري من مذابح جماعية في غزة. وهو موقف يرد عليه موقف الفنانين والمثقفين البريطانيين الذين يتظاهرون يوميا وأسبوعيا في العاصمة البريطانية ضد البربرية الإسرائيلية التي لا يمكن لأي إنسان يعمل في مجال الفنون والثقافة، ولا لأي امرء مهموم بقضايا الإنسان في كل مكان، أن يتجاهلها أو يقف إزاءها ساكنا صامتا.. وكان يجب أن يعرف عادل إمام أن التظاهر السلمي شكل أصيل من أشكال التعبير الديمقراطي عن الرفض والغضب والاحتجاج. لكن عادل إمام لم يكتف حتى ولو بالصمت بل نطق كفرا، وكان عليه بالتالي أن يواجه غضب جمهوره وإزدراء التاريخ.
ولابد في النهاية أن الجمهور الذي سبق أن رفعه إلى ذروة النجاح وأتاح له تحقيق الثروة والجاه، سيتخلى عنه الآن، بل وقد آن الأوان لأن يضعه أيضا في المكان الذي يستحقه أمثاله.. وليبق عادل إمام "الواد سيد الشغال في خدمة الحكومة.. فهذه حقيقته، وهذا هو حجمه الحقيقي!

الخميس، 8 يناير 2009

مخرجون ونقاد

من أسوأ ما يمكن أن يتعرض له ناقد أن يلح عليه مخرج صديق أو غير صديق، على مشاهدة فيلمه، بل وربما يرسله أيضا إليه، ويظل يطارده بإلحاح، لكي يعرف رأيه فيما شاهده. وهو أمر مشروع تماما.. غير أن الناقد عندما يقول رأيه الحقيقي في العمل الذي شاهده، وبذل جهدا لكي يكون رأيا علميا موضوعيا تفصيليا لا يتوقف عند باب الانطباع الشخصي السريع والعابر فيه، سيفاجأ في أغلب الأحيان بأن المخرج لا يرضى عن رأيه، بل إن هذا الرأي إذا كان سلبيا في الفيلم المقصود، سيغضبه أيضا، بل وربما يرد عليك قائلا ببساطة مثيرة للدهشة والعجب: هذا الفيلم الذي لم يعجبك أعجب آخرين!
والحقيقة أن المرء يحتار كيف يرد على قول مثل هذا، هل يقول مثلا: ولكني لا أعبر عن رأي الآخرين بالطبع بل أعبر عن رأيي الشخصي الذي يعكس فهمي ورؤيتي وتحليلي بل وثقافتي الخاصة ايضا.. سواء أعجبك هذا الرأي او لم يعجبك!
والحقيقة الثابتة أن الناقد الجاد لا يمكنه أن يخرج مباشرة من أي فيلم برأي تفصيلي عميق ونهائي، بل يقتضي الأمر منه العودة إلى تأمل الفيلم واستدعائه مرة أخرى في عقله وذهنه، وربما أيضا مراجعة الملاحظات التي دونها عنه أثناء مشاهدته قبل أن يبدأ في الكتابة عنه. غير أن الأمر المخزي حقا أن المخرجين في بلادنا العزيزة، تربوا على أن يخرج النقاد اياهم من عروض الأفلام لكي يشدوا على أيديهم ويقبلونهم ويقولوا لهم "مبروك" وهو تقليد "بلدي متخلف" مستمد من الأفراح والموالد وحلقات الاحتفال بالمواليد والأعياد وما إلى ذلك!
وربما يضطر المرء أحيانا.. عندما يجد مخرج الفيلم واقفا على باب الخروج في نهاية العرض.. لأن يقول له كلمة مشجعة على سبيل المجاملة، وربما ايضا يقول له "سأكتب عنه" أو "ستقرأ مقالي عنه" كما أفعل أنا شخصيا أحيانا، ولكن ليس معنى هذا أن الناقد عندما يذهب للكتابة عن الفيلم بشكل تحليلي تفصيلي لابد أن يشيد به..
ماذا يتوقع أن يقول الناقد وهو يجد امامه مخرجا يسد منفذ الخروج أمامه مثلا؟ هل يقول له مثلا: فيلمك فشل في إقناعي لأن الإخراج فيه ينقصه كذا وكذا والتمثيل غير متجانس مع الموضوع والصورة ينقصها الوضوح والإضاءة لا تتناسب مع طبيعة الفيلم والتناقض المفتعل بين شريطي الصوت والصورة يشتت الذهن. وغير ذلك.. أم يقول له: سأفكر في فيلمك.. ثم أكون رأيا خاصا تفصيليا بعد ذلك.
رأيي الشخصي أن من الأفضل في هذه الحالة عدم حضور العروض الخاصة على الإطلاق.
وشخصيا أفضل كثيرا مشاهدة الفيلم بعيدا عن مخرجه، خاصة إذا كان يعتبر من "الأصدقاء".. بعد أن خسرت الكثير جدا من هؤلاء الأصدقاء بسبب رأيي في أفلامهم، فهو يتوقعون أن تشد على أيديهم وتشيد بأفلامهم، في كل الأحوال سواء أعجبتك أم لم تعجبك. وأن يمتد اعجابك إلى كل ما يصنعونه حتى ما لا يعجبك منه، وهو منطق عصابات في الحقيقة وليس منطق أصدقاء. ولكنه، أساسا، مأزق ثقافة تعاني من انعدام الثقة في النفس، واهتزاز الرؤية، وانعدام القدرة على التفرقة بين الاشياء وتحديد الوظائف والأدوار!

الثلاثاء، 6 يناير 2009

كلاسيكيات حديثة: لغز كاسبار هاوزر.. لغز الوجود

يعد الفيلم الألماني "لغز كاسبار هاوزر" The Enigma of Kaspar Hauser للمخرج الشهير فيرنر هيرتزوج – أحد أهم أفلام بحركة السينما الألمانية الجديدة في السبعينيات، تلك الحركة التي قدمت أسماء لمخرجين موهوبين أصبحوا فيما بعد من كبار السينمائيين في العالم، مثل فيم فيندرز وفولكر شولوندورف ومرجريتا فون تروتا وراينر فيرنر فاسبندر.
أخرج هيرتزوج فيلمه "لغز كاسبار هاوزر" عام 1975 استنادا إلى حادثة حقيقية، ففي عام 1828، عثر في الساحة الرئيسية بمدينة نورمبرج على شاب في السادسة عشرة من عمره، لا يقوي على الكلام، يقف بصعوبة وفي يده خطاب.
حاول المارة التحدث معه، لكنهم فشلوا تماما في فهم الغمغمة التي صدرت عنه، اعتقد البعض أنه قد يكون مخبولا أو ثملا، فاقتادوه إلى ضابط الشرطة، فأخذ الفتى يردد أمامه عبارة واحدة هي"أريد أن أصبح فارسا مثل أبي".
مستوى معرفة الصبي وطريقته في الحديث توحي بأن تكوينه العقلي متوقف عند عمر ثلاث أو أربع سنوات فقط.الخطاب الذي يحمله موجه لصانع أحذية في المدينة من عامل قال إنه ظل يحتفظ بالولد منذ أن كان عمره 3 سنوات داخل غرفة لم يغادرها قط.
يقول العامل إنه نظرا لفقره الشديد ولأنه يعول عشرة أطفال فلم يد قادرا على تحمل كفالة الصبي لذا فقد أرسله إلى صاحبنا. وينصح الرجل بالإبقاء عليه أو ضربه حتى الموت أو شنقه في المدخنة!
دروس في التحضر
ينتقل كاسبار هاوزر إلى كفالة رجل دين، يؤويه ويقدم له ثيابا نظيفة مهندمة، ويقدم له الطعام، ويبدأ في تعليمه اللغة، والأهم- تلقينه مبادئ "الحضارة" حسب المفهوم الشائع.
بعد عامين يتمكن كاسبار من الحديث، معبرا عن أحاسيسه واستجاباته لأسئلة الآخرين: إنجاز كبير دون شك لراعيه الذي يشعر بالفخر بإنجازه!يقوم بتقديمه إلى المجتمع الراقي، فيبدي أرستقراطي انجليزي الرغبة في استضافته ورعايته. يقوم بتعليمه الموسيقى، وخاصة العزف على البيانو، والتصرف بطريقة "متحضرة".
يبدي الفتى اهتماما لا بأس به بتعلم الموسيقى والعلوم والمنطق ومعانى الأشياء، إلا أنه يفهم الأمور والمعاني بطريقته الخاصة، بقدر كبير من البراءة في مواجهة محاولات صارمة من الطرف الآخر لفرض مفاهيم خاصة متزمتة تنتمي للثقافة السائدة في ذلك الوقت، في عصر التقسيم الفكري: ما بين متفوق وأدنى.
كاسبار هاوزر يبدو وحيدا كأنه خرج لتوه من رحم أمه وألقي به في العالم الرحب، لكي يصطد بقوانينه وقوالبه الخاصة.
يسأله معلمه وراعيه عن الفرق بين ثمار الطماطم التي كانت حمراء ناضجة في العام الماضي، والثمار الجديدة الخضراء الصغيرة الحالية، فيقول إن الثمار تعبت وتحتاج للراحة، فيقول له معلمه إن الثمار لا تتعب وليست لها استقلالية خاصة عن الإنسان بل هي رهن مشيئته، فيرفض كاسبار تصديق ذلك ويصر على أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء بعيدا عن سيطرة الإنسان.

لغز الوجود
جوهر الفكرة التي تتجسد في مشهد شديد الحيوية والقوة، يدور حول ماهية الوجود نفسه: هل الكينونة منفصلة عن الخالق أو مرتبطة بمصير يتحدد سلفا.
لذلك فإن كاسبار هاوزر يقبل على تعلم معظم المعارف إلا أنه يجد التلقين الديني داخل الكنيسة صعبا على أفهامه، ويشكو من أن الغناء الجماعي داخل الكنيسة يعوي في أذنيه، فيفر خارج المكان.
هناك تعارضات مقصودة في هذا الفيلم البديع بين البراءة والكهولة الفكرية، بين التعلم الحر المفتوح، والقوالب الجاهزة التي يريد البعض أن يفرضها علينا فرضا باسم العلم والمعرفة الإنسانية بل والحضارة، بين الطفولة البشرية التي تتعرض للاعتداء الفظ عليها من جانب المجتمع، وبين مجتمع لا يجد غضاضة حتى في استخدام تلك "الطفولة"- أو ذلك "الرجل/ الطفل" كسلعة في جذب المتفرجين داخل خيمة الاستعراض الذي يقترب من عالم السيرك.

إن هذا المشهد الذي يدور داخل الخيمة، حيث يستعرض المشرف على العرض كل عجائب القرن التاسع عشر بما فيها "كاسبار هاوزر" نفسه، يذكرنا على نحو ما بمشهد آخر شديد الدلالة في فيلم ألماني آخر ينتمي لنفس المدرسة، هو فيلم "الخوف يأكل الروح: أو كل الآخرين اسمهم علي" للمخرج الكبير الراحل فاسبندر.
هذا الفيلم الذي كان أساسه العلاقة بين الشرق والغرب، بين الأوروبي (المتحضر) والآخر (العربي) من خلال العلاقة العاطفية بين المهاجر العربي "علي" وامرأة ألمانية تجاوزها الشباب، تشعر بالاحتياج إليه، إلا أنها تريد أن تحوله إلى نموذج متحضر.

وهي تستعرض في مشهد طريف أمام صديقاتها عضلات علي وتطلب منه أن يفتح فمه لكي تريهن كيف يعتني بنظافة أسنانه!

نحن والآخر
عودة إلى "لغز كاسبار هاوزر"، نرى أن الفيلم رغم ما فيه من سحر خاص يرتبط بالغموض المحيط بالشخصية، هو في حقيقة الأمر ليس فيلما عن كاسبار هاوزر بقدر ما هو عن أنفسنا، عن نظرتنا للآخر "المختلف"، عن شئ ما داخل النفس البشرية المقولبة يرفض ويتعالى ويحتج ويتعصب ويريد أن يفرض مفهومه هو، وعندما يفشل يلجأ إلى العنف.

النبيل الإنجليزي الذي يتبنى كاسبار هاوزر يكتشف ذات يوم- بعد أن تصور أنه قطع شوطا طويلا في "تحضير" كاسبار- أي منحه دفعة حضارية إلى الأمام خاصة بعد أن يقدمه وهو يعزف على البيانو لضيوفه إحدى مقطوعات موتسارت، قد ارتد إلى تخلفه مجددا.
إنه يراه وقد تخلى عن سترته الأنيقة وعاد سيرته الأولى أي غير قادر على ترديد الكلمات المنمقة التي علموه اياها، وأصبح يفضل العزلة عن المجتمع.
ربما يكون كاسبار قد أدرك وحشية المجتمع وفضل الابتعاد عنه باتخاذ مثل هذا الموقف الرافض للتواصل معه.جزاء كاسبار على أي حال، يكون الضرب والاستبعاد والنبذ، أما مصيره فينتهي قتلا داخل زنزانته في جريمة تظل مجهولة حتى اليوم.
من الذي قتل كاسبار هاوزر ولماذا وما هو الخطر الذي كان يمثله هذا الشخص المسكين على المجتمع حتى يتم التخلص منه؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة على شتى الاحتمالات. ولكن دون حقيقة "يقينية" بعد أن أضحت كل الحقائق نسبية على أي حال!

السبت، 3 يناير 2009

السينما المستقلة في مصر.. قضية العام

من فيلم "بصرة" لأحمد رشوان
من فيلم "عين شمس" لابراهيم البطوط

((الزميل محمد الروبي، محرر صفحة الفنون في جريدة "البديل" كتب مقالا في عدد 31 ديسمبر من "البديل" أكد فيه أن 2008 كان بدون شك، عام السينما المستقلة في مصر. ومدونة "حياة في السينما" تنشر المقال هنا للتاريخ، كشاهد على أننا خضنا معا، وعلى مستويات متعددة وعبر منابر مختلفة، معركة ضارية دفاعا عن السينما المستقلة، وتناولنا ومازلنا نفعل، كل جوانبها بالتحليل والمناقشة وفتحنا باب الحوار حولها، ومعنا غيرنا بالطبع كثيرون في أوساط النقاد والسينمائيين، ممن وقفوا ولايزالون يقفون موقفا صلبا في تبني هذه القضية الممتدة- أمير العمري)).

السينما المستقلة في مصر.. قضية العام الفنية

بقلم: محمد الروبي

حينما فكرنا - الزملاء وأنا - في قضية فنية نختارها قضية عام 2008، لنعيد طرحها في العدد الأخير من العام، قفزت أمامنا جميعاً وبلا استثناء قضية «السينما المستقلة» في مصر.. وتذكرنا علي الفور تلك المعركة الكبري التي خاضها فيلم «عين شمس» ومخرجه إبراهيم البطوط مع الرقابة التي فاجأته بعدم التصريح بعرض الفيلم إلا تحت مسمي «فيلم أجنبي»، بحجة أن الفيلم الذي صوره بطريقة خاصة أهم ما يميزها أنها لم ترتكن إلي سيناريو متكامل يعرض قبل التصوير علي الرقابة، ومن ثم تعطيه تصريحاً مبدئياً تعتمده وزارة الداخلية «!» للتصوير في الشارع، وزادت المشكلة تعنتاً من قبل الرقابة حين حصل المخرج علي منحة من المغرب ورئيس جهاز السينما بها تتيح له تحويل الفيلم من «الديجيتال» إلي «سينما 35 مللي».. وحينما حاول المخرج إدخال الفيلم إلي مصر مرة أخري لعرضه فوجئ بأنهم يصرون علي وصمه بعبارة «فيلم أجنبي»!
كان من الطبيعي أن يرفض البطوط هذه الصفة، وكان من الطبيعي أن يناضل ومعه كثيرون من عشاق السينما الحقيقية، وزاد من فرصة نجاحه ونجاحهم أن الفيلم الذي عرض في أكثر من مهرجان عالمي، وبإصرار صاحبه علي أنه فليماً مصرياً، قد حصل علي العديد من الجوائز هنا وهناك.. ومع كل جائزة يحصل عليها الفيلم كانت فرصة نجاح كسب المعركة تزداد اتساعاً، بل إنني أذكر أنني كتبت عن الفيلم أكثر من مرة، لكن المرة التي أعتز بها كانت تلك التي امتزجت بفرح مضاعف حين راسلني الصديق إبراهيم البطوط عبر الهاتف يبشرني بحصول فيلمه «فيلمنا» علي جائزة أفضل فيلم في المسابقة الرسمية لأفلام دول البحر المتوسط بمهرجان «تاورمينا» الإيطالي في دورته الرابعة والخمسين.
وكانت حيثيات فوز الفيلم مصاغة بكلمات واضحة، ترد دون أن تقصد، علي تعنت البيروقراطية المصرية ووقوفها أمام عرض الفيلم في مصر، حيث جاءت تقول وبالنص: «.. نجح الفيلم في خلق مزيج بين التوثيقي والخيالي.. كما تعرض الفيلم بشكل مؤثر وفعال إلي الظروف والقيم الإنسانية التي لا تعرف حدوداً ولا وطناً».. وسريعاً ما اتسعت مساحة الفرحة بداخلي حينما علمت أن الفيلم فاز أيضاً بجائزة العمل الأول في مهرجان «روتردام»، وكانت فرحتي بفوز الفيلم بجائزتين عالميتين، هي الدافع للعودة مرة أخري إليه والكتابة عنه مجدداً، فهو فيلم - كما سبق أن أشرت حينها - يستحق المشاهدة مرة ومرات ومرات.
في الكتابة الأولي عن الفيلم، ذكرت أن الطريقة التي صنع بها إبراهيم البطوط فيلمه، ليست جديدة، بقدر ما هي مختلفة عن السائد المعتاد في سياق تاريخ السينما المصرية والعربية بشكل عام، ويمكن لها أن تكون ويقيني أنها ستكون - بداية لطريق جديدة في صنع أفلام سينمائية، تتجاوز ما هو سائد، وتهيل التراب علي جثة سينما باتت رائحتها تزكم الأنوف!
قلت حينها، إن من سيشاهده الفيلم ومن سيشهده في المستقبل، سيؤكد صدق إبراهيم البطوط الذي صرح في مواجهة الرقابة بأنه لم يكن لديه سيناريو متكامل للفيلم بالمعني التقليدي لكلمة سيناريو.. وإنما هي فكرة تبني علي موقف من الحياة، تثمر في البداية شخصية ما، ثم شخصيات، تتجادل فيما بينها للتعبير عن هذه الفكرة، فتتطور الشخصيات ومن ثم الفكرة كلما تقدمت الخطوات العملية في تنفيذ الفيلم.
وأذكر أنني أشرت إلي أن هذا الأسلوب وتلك الطريقة، ليست بالجديدة علي مشوار السينما العالمية، وهي الطريقة أو الأسلوب الذي يمكن تلخيصهما في جملة «هدم الجدار الوهمي بين النوعين التسجيلي والروائي»، ولنا في التاريخ السينمائي العالمي أمثلة كثيرة، منها ما عرف بـ«الواقعية الإيطالية الجديدة»، وكذلك ما حققه الألماني العظيم «فاسيندر» في سبعينيات القرن الماضي، الذي كان يعمل بطريقة «الورشة» أو «المختبر»، الذي اعتمد في معظم أعماله علي الهواة من الممثلين، واستخدام الأماكن الحقيقية لتصوير أحداثه السينمائية، بل كان هو من أوائل الذين استخدموا التصوير التليفزيوني قبل أن نعرف هذا الجديد المسمي «ديجيتال».
إذن كل أقوله عن فيلم «عين شمس» وما سبق أن قلته عنه، يؤكد أن العجلة قد دارت بالفعل، ولن تجدي معها محاولات الحمقي في إيقافها، وهو الأمر الذي تأكد بعد أن حصل الفيلم علي التصريح بالعرض تحت عنوان يليق به وهو «مصري»! سواء كان ذلك بحصوله علي الجوائز في مهرجانات عالمية تحت هذا العنوان، أو كان عبر الوعد الذي حصل عليه مخرجه ومنتجه بعرض الفيلم في مصر باعتباره مصرياً خالصاً... وفيلم «بصرة»«بصرة» لمخرجه أحمد رشوان، الذي كان عنوانه «مية في المية حي» والذي صوره بتقنية «الديجيتال»، يعد نجاحاً آخر علي طريق السينما المستقلة في مصر، فالفيلم كـ«عين شمس» حصل علي منحة من قناة أوربيت لتحويله إلي 35 مللي.. وعرض الفيلم في مهرجان فالينسيا وحصل به مدير التصوير فيكتور كريدي علي جائزة أفضل تصوير، كما حصل أحمد رشوان علي جائزة أفضل سيناريو بالمناصفة مع الفلسطيني رشيد مشهراوي من مسابقة الفيلم العربي بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير.
نجاح آخر يؤكد ما نعتقده من أن المستقلين قادمون، وأن الموهومين بإمكانية وقف الطوفان لن ينالوا سوي الغرق.
لكن قضية السينما المستقلة في مصر، لا تقف عند حدود فيلم «عين شمس»، فمساحة معركتها أوسع بكثير، ولعل في الموقف الذي اتخذته السلطات الرسمية مؤخراً بإلغاء مهرجان السينما المستقلة الأخير، بحجة أنه يقام في الفترة نفسها التي يقام فيها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، خير دليل علي أن الرسميين لا يريدون لهذا النوع من السينما أن يزدهر، وهو طبعاً ما يقابل بالرضا الكامل من قبل المحتكرين للإنتاج والتوزيع والعرض في مصر.
وكنا طوال عام مضي - ندافع وباستماتة عن هذا النوع «المستقل» من السينما، وكنا ولا نزال، نري أنه الأحق بالتواجد وبالدفاع عنه، بل إننا لم نترك فرصة إلا وعقدنا مقارنة بين ما يحدث عندنا وما يحدث هناك علي الجانب الآخر من العالم.. وهنا لابد من التذكير بذلك التقرير الذي كتبه الزميل نبيل سمير في السابع من ديسمبر تحت عنوان يشير به إلي مفارقة جديرة بالتأمل: «بعد تضييق الخناق علي المصري.. نجوم هوليوود يتفقون علي إنجاح مهرجان السينما المستقلة في أمريكا».. وذكر التقارير تفاصيل مؤلمة عما حدث في مصرمن إلغاء، وتعطيل للمهرجان، وحجج مسئولين تثير الضحك، وكذلك تفاصيل عن المهرجان الأمريكي الذي أسسه ويدعمه الممثل «روبرت ريدفورد».
أيضاً شاركنا الناقد السينمائي المتميز «أمير العمري» بمقال مطول كناقد نشرناه في الثاني من ديسمبر تحت عنوان: «بانتصار «عين شمس» لم يعد الأمر مجدياً..
مغزي الحرب القائمة ضد السينما المستقلة في مصر» وفيه أكد العمري أن «في كل بلاد الأرض تدرك النخبة معني ومغزي وأهمية وجود جيل آخر جديد من السينمائيين، وأهمية إتاحة كل الفرص أمامهم للتجريب والسباحة في مناطق غير تقليدية..».. ورداً علي حجة أن مهرجان السينما المستقلة يقام في الوقت نفسه لمهرجان القاهرة الدولي، كتب أمير العمري يقول: «.. مهرجانات السينما الدولية الكبيرة حقاً، تاريخاً ومقاماً، التي تريد أن يحسب لها أنها لا تستبعد الجديد مهما كان جامحاً في تجربته وأفكاره، عادة ما تسمح بمساحة علي الهامش لتلك «السينما الأخري».
وذكر أمير العمري أكثر من مثال لأكثر من مهرجان دولي يتبني شباب السينما وتفخر بهم.. وأخيراً يصف العمري قرار إلغاء مهرجان السينما المستقلة بـ: «.. أن هذه الواقعة الشائنة تعكس حالة الهلع التي أصابت بعض الأجهزة أخيراً من زحف السينما المستقلة بهدوء وإصرار، لكنها تؤكد، علي نحو ما أيضاً، أن السينما المستقلة قادمة، يؤكد وجودها انتصار فيلم «عين شمس» لإبراهيم البطوط في معركته الدامية مع الرقابة بعد أن رضخت أخيراً للأمر الواقع وقررت السماح بعرضه كفيلم مصري، وليس مغربياً، وهو ما يؤرخ لبداية نهاية الرقابة بشكلها القائم المتخلف».
لهذا كله.. وغيره الكثير.. من إنجازات سينمائية شابة. لم نختلف «الزملاء وأنا» حول اختيار «السينما المستقلة» باعتبارها قضية العام 2008.. ونعتقد أنها ستستمر تواصل نجاحاتها في القادم من الأعوام.

الخميس، 1 يناير 2009

نحن والنقد الثقافي والاجتماعي في الغرب


الاتجاه الجديد - القديم في نقد الفنون والآداب في الغرب القائم علي ما يعرف بـ"النقد الثقافي" cultural criticism، وهو اتجاه أصبح يطغي كثيرا علي معظم مدارس النقد بل امتد إلي النقد الذي ينشر في الصحافة العامة، يمكن القول إنه أصبح هناك ولع خاص بتطبيقه علي الأعمال الإبداعية القادمة من ثقافة "الآخر" أي من العالم غير الناطق بالإنجليزية أو "العالم غير الأوروبي".
يمزج النقد الثقافي بوضوح بين النظرة التي تسعي للتعامل مع الإبداع ليس كنتاج "نخبوي" بل كنتاج يصلح للناس جميعا، ويجب أن ينظر إليه في إطار الثقافة الكلية السائدة في المجتمع، وبين اعتباره تطويرا، علي نحو ما، للنقد الاجتماعي الذي يهتم كثيرا بتأثير البعد الاجتماعي أو المجتمعي علي المبدع (الكاتب، الشاعر، المؤلف، الموسيقار، الرسام.. إلخ) أكثر من اهتمامه بذات المبدع نفسه، وبتجربته الذاتية وعلاقته بالوسيلة التي يبدع من خلالها واهتماماته الجمالية التي قد تصل إلي قدر من التجريد يصعب الإحاطة بأسسه الاجتماعية عادة.
ويميل النقد الثقافي الذي يجنح في اتجاه التعامل من الزاوية السوسيولوجية مع المنتج الفني والأدبي إلي الاهتمام بـ"الوصف" أكثر من "التقييم"، وفحص العلاقة بين العمل الإبداعي والعالم، من الحكم عليه أو تقدير قيمته في تاريخ تطور النوع الإبداعي.
الاهتمام إذن ينصب بشكل أساسي علي علاقة المنتج الإبداعي بغيره من الأعمال، وعلاقته بالأنماط الاقتصادية ، والظروف الاجتماعية السائدة (وضع المرأة في المجتمع، العلاقة بين الجنسين، الإشارات ذات الدلالة السياسية، الوجود المستقل للأقليات وتبعيتها للمحيط الاجتماعي في الوقت نفسه أو خضوعها القهري أحيانا.. وغير ذلك).
هذه النظرة تحكم معظم الكتابات التي تتناول الأعمال الإبداعية القادمة من ثقافتنا. رواية "عمارة يعقوبيان" مثلا، ثم الفيلم كشكل فني آخر يقوم علي الصور والعلاقات داخل النص الأصلي الأدبي، تم تناولها نقديا في الدوريات والصحف البريطانية ليس كعمل فني مستقل، قائم بذاته يمكن الحكم علي قيمته الفنية في إطار ما ينتج في عصره من أعمال مشابهة، بل كـ"دليل" أدبي علي ما يحدث في "المجتمع" المصري اليوم، أي كبيان للعلاقات التالية: العلاقة بين الجنسين، الصراعات الطبقية، تضاؤل دور الطبقة الوسطي، الكبت الجنسي والكبت السياسي والاجتماعي، دور الضباط في مجتمع ما بعد 52 مقارنة بعالم الباشاوات فيما قبل 52، القهر الاجتماعي والفقر كمنبع للتطرف الديني، تدهور أخلاقيات الطبقة الحاكمة (الفساد) وبروز الدور الأمني، الرفض الأخلاقي - الديني للمثلية الجنسية، وتضاؤل دور المثقف وهامشيته.
أما من ناحية البناء الروائي، والشكل الفني، والاستخدامات المختلفة للغة العربية كوسيلة تعبير أساسية في حالة الرواية، واللغة السينمائية والشكل السردي والعلاقة بين اللقطات والمشاهد وطريقة تركيبها معا في حالة الفيلم، فهذه كلها جوانب لا ينشغل بها عادة النقد الثقافي- الاجتماعي في الغرب.


وقد تمتلئ الكتابات عن أعمالنا الأدبية والفنية بالكثير جدا من المقاربات والمقارنات وتحليل الإشارات ودلالاتها الاجتماعية والسياسية، لكنها لا تخلص عادة إلي تحديد "القيمة" الفنية للعمل ككل في إطار مثيله مما ينتج في العالم، وذلك في إطار رفض اعتبار "القيمة الفنية" قيمة عليا ترتبط بنظم وأنساق فنية مستقرة، فلاشيء مستقر علي حاله، وهذا صحيح، لكن الأمر الذي يشغل بال هذا النوع من النقد أكثر من غيره في تناول أعمالنا هو الاعتبار الكبير للدلالات السياسية والاجتماعية، أما فنيا أو إبداعيا فلا تؤخذ هذه الأعمال كثيرا عادة علي محمل الجد، ولا تقارن بغيرها من الإبداعات الكبيرة في الأدب "الغربي" مثلا، أو الإنساني عموما.وهذه مشكلة حقيقية، فالمستوي الفني والأدبي يظل "غامضا" أو مجهولا في نظرة هؤلاء النقاد، وهو ما يؤدي إلي اعتبار كل الأعمال التي يمكن استخراج بعض الدلالات الاجتماعية والسياسية الآنية منها أعمالا مهمة، تلقي الكثير من الاهتمام والحفاوة، في حين أن مستواها الفني نفسه قد يكون محدودا للغاية.
ولعل أكبر دليل علي ذلك مثلا ما ينشر أحيانا من كتب تحوي ما أصبح يعرف باسم "أدب التشات" chat أي تلك الكتابات الوصفية المليئة بالاستطرادات والثرثرة بلغة أنظمة التخاطب المتوفرة علي شبكة الانترنت حاليا، وما تلقاه من ترحيب حماسي في الكثير من الأحيان، لا لشيء إلا بسبب دلالاتها الخاصة التي تتجاوز أسقف الحرمان والقهر والجفاف القائمة وتخترقها، دون أن يعني هذا أنها تتمتع في الواقع بأي قيمة أدبية أو مستوي فني.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger