لاشك أنه مما يحسب لمهرجان أبو ظبي وهيئة التراث والثقافة، الجهة المنظمة للمهرجان، إحضار نسخة جديدة من فيلم "اليازرلي" أحد الكلاسيكيات الكبير في السينما العربية للعرض في المهرجان، وبالتالي إحياء هذا العمل الكبير الذي لم يشاهد منذ سنوات بعيدة، خصوصا وأنه ضرورة فنية بالنسبة للأجيال الجديدة من هواة السينما الفنية الرفيعة.
إن "اليازرلي" الذي أخرجه قيس الزبيدي قبل نحو 34 عاما، من إنتاج مؤسسة السينما السورية في عصرها الذهبي، دليل بارز على قدرة السينمائي العربي الموهوب على أن يصبح جزءا من عصره، عصر بونويل وخودوروفسكي، ولكن قدرته أيضا على الاستفادة من تراث السينما السوفيتية الصامتة في أهم نماذجها أي أيزنشتاين وفيرتوف بودوفكين.
ينسج قيس الزبيدي هنا قصيدة سينمائية تشع بالجمال، وتعيد اكتشاف الإنسان من خلال الصورة والإيقاع والعلاقة الحيوية بين الصورة والموسيقى، وبين التكوين والمونتاج، وإعادة خلق الزمن بحيث لا يصبح هو نفسه الزمن الحقيقي أو الذي يريد السينمائي الإيهام بواقعيته، بل زمنه الخاص الذي يختاره لكل لقطاته ومشاهده المنسوجة ببراعة بكاميرا ترصد وتتابع وتعبر عن القلق الذي تشعر به الشخصيات، تقترب وتبتعد، تخترق وتكاد تتسلل أحيانا إلى ما تحت جلد الشخصيات البسيطة ولكن المعبرة عن قسوة الحياة، وعن الاضطهاد الطبقي، عن المشاعر الإنسانية: الرغبة الجنسية، الحب الصامت، الألم، الغيرة، الجشع، عبودية الخاضع لسيده وتبعيته التي يرغب في التخلص منها لكنه لا يستطيع.
ليس من الممكن تلخيص هذا العمل البديع الذي يفيض بالمشاعر ويدعو إلى التأملات. إن مشاهدته بعد كل هذه السنوات تؤكد أنه لايزال يتمتع بروح الحداثة أكثر من كل أفلامنا الحديثة. إنه درس في البلاغة السينمائية. ولاشك أن خروج قيس الزبيدي من حلبة السينما الروائية مبكرا يعد من أكبر ما منيت به السينما في العالم العربي من نكسات وخيبات جاءت بفعل التراجع المستمر في الطموح الثقافي، وزحف القيم الاستهلاكية المريضة على الحياة العربية عموما. لكني آمل أن تكون لي عودة للتوقف أمام هذا الفيلم بالتحليل.
الفكرة جريئة ومثيرة، وتعكس قلقا فلسفيا ربما كان من الصعب التعبير عنه بسبب طغيان الصور المباشرة القاسية والشخصية البسيطة- المركبة لبطل الفيلم، وهو جلاد حقق رقما قياسيا في شنق نحو ألف شخص من الذين حكم عليهم بالإعدام شنقا.
أرادت دينا حمزة التوقف أمام نموذج إنساني غير عادي، لا نقابله بالطبع في كل يوم، وصورته وهو بين أسرته، وبين أصدقائه، على المقهى يتسامر ويلعب الطاولة، في الشارع وسط أهل المنطقة، يروي لها أمام الكاميرا، كيف كنت تجربته في عالم الإعدام، وكيف أمكن أن يواصل حياته العادية رغم عمله الصارم والقاسي.
لاشك في أن "البورتريه" الذي تقدمه لنا المخرجة الشابة موحيا، يدفع إلى الكثير من التساؤلات عن معنى الحياة والموت. لكن بطل القصة، لا يترك أمامنا مجالا كبيرا عندما يختم قصته بالاستتناد إلى "الدين" أي إرجاع كل ما يقوم به إلى إرادة الله، وإلى أنه إنما ينفذ هذه الإرادة الإلهية، أي أنه أصبح كما يقول حفيا في الفيلم "يد الله" التي تنزل العقاب بالمذنب.
أحد أبناء الجلاد يعبر عن تعاطفه الشديد مع ما يقوم به والده فيقول إنه أحيانا يرغب في أن يشنق المجرمين بيديه بسبب ما ارتكبوه من بشاعات، أما الولد الأصغر، فيعبر عن رفضه القيام بما يقوم به والده، معربا بوضوح عن رفضه قتل الآخري بموجب أي مبرر.
إنها "حالة" إنسانية خاصة كانت دائما تثير اهتمام الناس في بلادنا، حالة ذلك الجلاد الذي يقول بوضوح إنه يجد الشنق أسهل ألف مرة من جلد إنسان. فيلم معبر، مصنوع باتقان، وجرأة، وقدرة على التعامل البصري مع اللقطات القريبة للشخصيات الكثيرة التي تظهر في الفيلم.
أما فيلم "بحبك ياوحش" للمخرج اللبناني محمد سويد، فمن الممكن القول إنه يدور في اتجاه البحث المرهق لسويد عن الشخصية اللبنانية من خلال المكان: بيروت، صيدا، لبنان الكبير.
أما فيلم "بحبك ياوحش" للمخرج اللبناني محمد سويد، فمن الممكن القول إنه يدور في اتجاه البحث المرهق لسويد عن الشخصية اللبنانية من خلال المكان: بيروت، صيدا، لبنان الكبير.
إنه يتوقف أمام عدد من الشخصيات العادية، التي يسجل شهاداتها عن الواقع، عن الحياة، عن معنى الحياة، عن الحب، عن الحرب، وعن الماضي والحاضر وكيف يرون المستبقل، ولكن في بناء مفتوح، يمزج بين الشخصيات اللبنانية، والفلسطينية، وبين أهل البلد، والمهاجرين الباحثين عن عمل. لكن يعيب الفيلم أنه يفتقد إلى حد كبير إلى وحدة الموضوع، فالمنهج الذي يستخدمه سويد في بناء الفيلم يجعلك تتساءل كثيرا عما يشير إليه، فهو أيضا ينحرف كثيرا عن الموضوع عندما يتوقف طويلا مثلا، أمام شخصية مهاجر سوداني يعمل في بيروت، يتحدث عن حياته السابقة في سورية ويعقد مقارنات بين الحالتين. والواضح أن محمد سويد يريد ن يقدم لبنان بسكانه المختلطين من اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم، لكن الفكرة لا تتجسد بوضوح، والفصول التي تتعاقب تحت أسماء محددة مثل "الحرب، الحب، طق طق، بحبك ياوحش (في اشارة بالطبع إلى وحش الشاشة الراحل فريد شوقي).. إلخ تبدو أحيانا مضللة أكثر مما هي مضيئة، فمن الممكن أن يستمر الفيلم هكذا، أي في هذه الاستطرادات إلى ما لانهاية، ومن الممكن أيضا أن ينتهي في أي لحظة، وهو ما يعكس غياب البناء القصصي المحدد حتى في فيلم تسجيلي، وخلل الايقاع.
أخيرا جاء الفيلم الدنماركي "دموع غزة" وهو وثائقي طويل (90 دقيقة) للمخرجة الدنماركية فبيكة لوكزبرج عملا تقليديا عن الأوضاع الفلسطينية المأساوية في غزة قبل وأثناء وبعد التوغل الاسرائيلي في القطاع في أواخر 2008 وأوائل 2009، من خلال التركيز على مصائر ثلاثة شخصيات لأطفال فلسطينيين.
هناك الكثير من المشاهد الدامية التي تدمي القلب وتقتحم العين، والكثير من اللقطات المقتنصة من قلب الحدث رغم ما فرضته السلطات الإسرائيلية العسكرية من تعتيم على حملتها الدموية. لكن رغم ذلك يبدو أن لا جديد يقدمه لنا هذا الفيلم، فأنت تخرج بانطباع أنك سبق أن شاهدت كل هذه اللقطات في سياق مشابه من قبل. لكنه بلاشك، مفيد بالنسبة للمشاهد الأوروبي الذي يتوجه إليه بالدرجة الأولى.
0 comments:
إرسال تعليق