لوأردت رأياً مختصراً فى الفيلم الأمريكى "جولى وجوليا" الذى كتبته "نورا إيفرون" سأقول لك أنه عمل متواضع من الناحية الفنية ، مملّ ويبعث على التثاؤب ، ويشبه الطبخة الرديئة التى تثير الإزعاج من حيث المذاق والنتائج ، ومع ذلك فإن الفيلم يقدم نقاطاً هامة يمكن أن يستفيد منها صنّاع السينما المصرية والعربية لو أرادوا: الدرس الأول هو توظيف موهبة كبارالنجوم لصالح العمل وخاصة الرائعة "ميريل ستريب" التى فاززت عن دورها بالفيلم بجائزة الكرة الذهبية ، كما رُشحت عن دورها (وهو أهم وأفضل ما فى الفيلم) للفوز بجائزتى الأوسكار والبافتا لأفضل ممثلة .
إنها ممثلة استثنائية تستطيع أن تصنع كل شئ ،ويمكنها أن تقدم أىّ شخصية. الدرس الثانى هو فى الجدية الشديدة الت تُصنع بها الأفلام مهما كان مستوى السيناريو . فيلمنا المتواضع مثلاً يدور فى عالم الطهى والوجبات الفرنسية ، وتشاهد فيه أكبر كمية متنوعة من أصناف الطعام ، وأظن أن الفيلم له "مستشارغذائى" مثلما يوجد خبير للمعارك فى الأفلام الحربية! أما الدرس الثالث فهو فى استلهام الأفلام من مصادر متنوعة وتعددة مما يوسع من دائرة الخيال والمعالجات في حين نقتصر نحن على السناريوهات المكتوبة مباشرة للسينما ، أو القليل جداً المأخوذ عن أعمال أدبية ،دون الإلتفات الى كتب التجارب الشخصية ،أو حتى التجارب الخاصة المكتوبة فى شكل مذكرات شخصية.
فيلم "جولى وجوليا" مأخوذ عن كتابين هما :"حياتى فى فرنسا" لمؤلفته "جوليا تشايلد" بالإشتراك مع أحد الكتّاب ، ويتناول هذا الكتاب حياة أشهر مقدمى برامج الطهى فى التليفزيون الأمريكى ، وهى أيضاً مؤلفة أشهر مرجع لإعداد الأكلات الفرنسية لستّ البيت الأمريكية بعنوان "إتقان فن الطهى الفرنسى" ، أى أننا أمام " أبلة نظيرة نقولا" المصرية الرائدة فى مجال فن الطهى ولكن على الطريقة الأمريكية ، أما الكتاب الثانى المأخوذ عنه الفيلم فهو بعنوان "جولى وجوليا" ، ومؤلفته شابة أمريكية لها مدونة شهيرة جداً اسمها "جولى بويل" حاولت من خلالها تنفيذ 524 وجبة طعام فرنسية سجلتها "جوليا" الرائدة فى كتابها القديم بشرط أن يتم تنفيذ هذه الوجبات المتتالية خلال 365 يوماً فقط.
لم تكن المشكلة فى الفكرة ،ولكنها فى المعالجة السينمائية وفى طبيعة الكتابة التى تاه منها الخط الفاصل بين متابعى برامج الطهى ومشاهدى أفلام السينما ..
كانت هناك محاولة طموحة للربط بين الشخصيتين :"جولى" الشابة التى تبدأ مدونتها عام2002 لتنفيذ ما جاء فى الكتاب الشهير للمأكولات الفرنسية ،و"جوليا" التى بدأت عام 1949 فى تعلم الطبخ على الطريقة الفرنسية بتشجيع من زوجها الدبوماسى "بول تشايلد" . من الناحية النظرية الفكرة برّاقة بل ومُلهمة ، ولكن من الناحية العملية بدا الأمر وكأننا أمام فيلمين متقاطعين : أولهما عن حياة سيدة المطبخ العجوز "جوليا تشايلد" (ميريل ستريب) أقوى وأفضل بكثير من كل الوجوه من حكاية الفيلم الثانى عن "جولى بويل" (آمى آدامز) التى تعيش فى "نيويورك" فى عام 2002 . فى كل لحظة نعود فيها الى "جولى" كنا نشعر بالملل الشديد رغم اجتهاد "آمى آدامز" ، ولكن لا مقارنة تقريباً مع حضور "ميريل " الخارق ولمساتها الكاريكاتورية فى أداء شخصية "جوليا"، ولم يكن كافياً على الإطلاق لهذا الربط القول بأن المرأتين متشابهتين فى أمور كثيرة : كلتاهما كانتا سكرتيرتين فى وكالة حكومية ، وكلتاهما عانت من الفراغ ، وكلتاهما تحققتا من خلال المطبخ ، وكلتاهما نجحتا من خلال زوجيهما حيث يلعب "ستانلى توتشى" دور الدبلوماسى "بول تشايلد" زوج "جوليا" ، ويلعب "كريس ماسينا" دور "إيريك" زوج "جولى" التى تعمل فى وكالة لمساعدة أهالى ضحايا 11 سبتمبر.ظلت حياة "جوليا" هى الأكثر ثراء طوال الوقت ، وكان مثيراً للملل أن نشاهد "جولى بويل" لا تفعل شيئاً تقريباً غير تنفيذ عشرات الأصناف الفرنسية اوالمنقولة من كتاب "جوليا" ، والحقيقة أن كلا الحكايتين لا تخلوان من مشكلات إضافية داخل كل واحدة منهما : الفيلم الذى تلعبه "جوليا" ومعظم أحاثه فى "باريس" سرعان ما امتلأ أيضاً بالحشو والإستطراد والتكرار بتقديم تفصيلات عن رغبة "جوليا" شغل وقت فراغها فى "باريس" ، وفى علاقتها بأختها "دوروثى" التى تزورها فى فرنسا ، ويجون لها عريساً فرنسياً لا علاقة له بموضوعنا ،ثم تتكرر خطابات "جوليا" لصديقتها بالمراسلة "أفيس" ، وندخل فى مشاكل زوجها الدبلوماسى الذى ينتقل الى عدة أماكن من ألمانيا الى فنلندا ، ثم استجوابه أمام لجان الماكارثية الرهيبة فى الخمسينات ، ثم محاولة "جوليا" البحث عن ناشر لكتابها الضخم (أكثر من 700صفحة ووزنه أكثر من كيلو جرام) ، وهناك تفصيلات أخرى عن كفاحها لتعلم فن الطهى وسط الرجال المحترفين ، ومشاكلها مع اثنتين من زميلاتها اللاتى قمن بمشاركتها فى تأليف الكتاب.
على الجانب الآخر الصورة أكثر سوءا ، "جولى" تتابع الطبخ المتكرر من كتاب "جوليا" ، ثم تنشر على مدونتها حكايتها مع كل طبخة سواء نجحت أو فشلت ، وتحكى عن زوجها المحرر فى مجلة للآثار وتصفه بالقديس ، وفى منتصف هذه الثرثرة لجأت كاتبة السيناريو ( وهى أيضا مخرجة الفيلم "نورا إيفرون") الى اختراع مشكلة بين "جولى" وزوجها "إيريك" لمجرد أن يترك المنزل كنوع من تسخين المواقف المكررة والباردة ، والحقيقة أننى لا أعرف لماذا تشاجر "إيريك" مع زوجته الطبّاخة الشابة خاصة أنه صاحب فكرة مدونتها التى حققت لها شهرة واسعة ، كما أننى لم أعرف لماذ عاد الزوج فجأة الى زوجته ، على الأرجح قد يكون اكتشف أنه سيضيع على نفسه فرصة تناول الوجبات اليومية التى تطبخها "جولى" من كتاب "جوليا" .
كان متوقعاً أن تلتقى "جولى" فى النهاية مع "جوليا" فنظفر أخيراً بحوار الأجيال وخلاصة الحكايتين ، ولكن ما حدث فعلاً أن "جوليا" التى كانت فى سن التسعين عام 2002 أثناء نشر مدونة "جولى" عن أصنافها لم ترغب أبداً فى مقابلة الطبّاخة الشابة، بل إنها أدلت بحوار استنكرت فيه مدونة "جولى" ، واعتبرتها استغلالاً تجارياً لكتابها الضخم الصادر فى العام 1961، وهكذا ضاعت الفرصة الأخيرة لكسر الشعور بالملل والتكرار والإحساس التزايد بأننا نشاهد تجميعاً لفقرات فى فن الطهى وليس فيلماً روائياً طويلاً عن أشهر نجمات هذا الفن .
فى التحليل الأخير ، أصبح لدينا فكرة طموحة جداً تصلح لصناعة فيلم جيد عن الرغبة فى التحقق واكتشاف الذات حتى داخل حجرة المطبخ ، ولكن لدينا سيناريو مُفرط فى الطول يشيبه الوجبة الباردة الخالية من المشهيات ومن الملح والطعم ، وقد تساءلت بعد مشاهدة الفيلم لماذا لم يتم صنع فيلم وثائقى عن "جولى" و"جوليا" بدلاً من هذا الحشو والإستطراد . طبعاً لا يجب التقليل من فرصة مشاهدة أداء "ميريل ستريب" ولمساتها فى التعامل مع الشخصية ، ولا التقليل من متعة مشاهدة الوجبات الفرنسية رغم أنها متاحة فى برامج التليفزيون ، ولكن لا يجب أيضاً التقليل من صعوبة احتمال ساعتين من الطبخ المتواصل لأكلات لم نتذوق منها شيئاً ، لنُصبح فى النهاية أمام فيلم عجيب :"ستّات بتُطبُخ ..ورجّالة بتاكل .. واحنا قاعدين نتفرّج"!
0 comments:
إرسال تعليق